24 ذو القعدة 10 هـ
24 شباط 632 م
حجة الوداع

ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الإسلام، لأنه صلى الله عليه وسلم ودّع الناس فيها ولم يحج بعدها، ولأنه ذكر لهم ما يحل وما يحرم. وقال لهم: …

هل بلغت، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج من المدينة غيرها، قيل لإخراج الكفار الحج عن وقته، لأن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون الحج في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» فإن هذه الحجة كانت في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته وكانت سنة عشر.
قال الجمهور: فرض الحج وكان سنة ست من الهجرة أي وصححه الرافعي في باب السير وتبعه النووي.
وقيل فرض سنة تسع. وقيل سنة عشر انتهى، وبه قال أبو حنيفة، ومن ثم قال إنه على الفور. وقيل فرض قبل الهجرة واستغرب.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج وأعلم الناس بذلك، ولم يحج منذ هاجر إلى المدينة غير هذه الحجة، قال: وأما بعد النبوة قبل الهجرة فحج ثلاث حجات، أي وقيل حجتين: أي وهما اللتان بايع فيهما الأنصار عند العقبة.
وفي كلام ابن الأثير: كان صلى الله عليه وسلم يحج كل سنة قبل أن يهاجر. وفي كلام ابن الجوزي: حج صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججا لا يعلم عددها، أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يقف بعرفات ويفيض منها إلى مزدلفة، مخالفا لقريش توفيقا له من الله، فإنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، فإنهم قالوا: نحن بنو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأهل الحرم، وولاة البيت وعاكفو مكة فليس لأحد من العرب منزلتنا فلا تعظموا شيئا من الحل أي كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فليس لنا أن نخرج من الحرم نحن الحمس، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منه إلى المزدلفة، ويرون ذلك لسائر العرب: قال بعض الصحابة: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه واقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا له من الله عز وجل.
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم للحج أصاب الناس بالمدينة جدري بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما أو حصبة، منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى، قيل كانوا أربعين ألفا، وقيل كانوا سبعين ألفا وقيل كانوا تسعين ألفا وقيل كانوا مائة ألف وأربعة عشر ألفا وقيل وعشرين ألفا، وقيل كانوا أكثر من ذلك. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أي عند ذهابه: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، أو قال «حجة معي»، أي قال ذلك تطبيبا لخواطر من تخلف. وصوب بعضهم أن هذا إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه أي إلى المدينة، قاله لأم سنان الأنصارية لما قال لها: «ما منعك أن تكوني حججت معنا»؟ وقالت: لنا ناضحان حج أبو فلان: تعني زوجها وولدها على أحدهما، وكان الآخر نسقي عليه أرضنا لنا. وقال ذلك أيضا لغيرها من النسوة، قاله لأم سليم ولأم طلق ولأم الهيثم. ولا مانع أن يكون قال ذلك مرتين: مرة عند ذهابه لما ذكر، ومرة عند رجوعه لمن ذكر.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة أي وقيل يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ورجحه بعضهم وأطال في الاستدلال له وذلك سنة عشر نهارا بعد أن ترجل وادهن، وبعد أن صلى الظهر بالمدينة، وصلى عصر ذلك اليوم بذي الحليفة ركعتين، وطاف تلك الليلة على نسائه، أي فإنهن كن معه صلى الله عليه وسلم في الهوداج وكن تسعة، ثم اغتسل، ثم صلى الصبح أي والظهر، ثم طيبته عائشة رضي الله تعالى عنها بذريرة: هي نوع من الطيب مجموع من أخلاط الطيب وبطيب فيه مسك، ثم أحرم صلى الله عليه وسلم أي وذلك بعد أن اغتسل لإحرامه غير غسله الأول، وتجرد في إزاره وردائه، أي فقد روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في رداءه وإزار، ولم يغسل الطيب بل كان يرى وبيص المسك في مفارقه ولحيته الشريفة، أي فإنه صلى الله عليه وسلم لبد شعر رأسه بما يلزق بعضه ببعض فلا يشعت.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: «طيبته صلى الله عليه وسلم لحرمه وحله» وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، رواه الشيخان. وعنها قالت: «كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح طيبا» وبه ردّ على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قوله: لأن أصبح مطيبا بقطران أحب إليّ من أن أصبح محرما أنضح طيبا.
ويؤيد ما قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما تقدم في الحديبية: من أمره صلى الله عليه وسلم من تطيب قبل إحرامه بغسل الطيب وتقدم ما فيه، أي وصلى كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ركعتين أي قبل أن يحرم، وبه يردّ قول ابن القيم رحمه الله تعالى: لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر وأهل حيث انبعثت به راحلته أي وهي القصواء أي وهو يردّ ما روي عن ابن سعد رحمه الله تعالى، حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم، ومن ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى: إنه حديث منكر ضعيف الإسناد، وإنما كان صلى الله عليه وسلم راكبا وبعض أصحابه مشاة: ولم يعتمر صلى الله عليه وسلم في عمره ماشيا، وأحواله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله وكان على راحلته صلى الله عليه وسلم رحل رث يساوي أربعة دراهم وفي رواية: حج صلى الله عليه وسلم على رحل وقطيفة تساوي أو لا تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة وذلك عند مسجد ذي الحليفة» وأحرم بالحج والعمرة معا فكان قارنا.
قال: وقيل أحرم بالحج فقط فكان مفردا، وقيل بالعمرة فقط، أي ثم أحرم بالحج بعد فراغه من أعمال العمرة فكان متمتعا، أخذا من قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعا، وقيل أطلق إحرامه.
وفي كلام السهيلي رحمه الله: واختلفت الروايات في إحرامه صلى الله عليه وسلم، هل كان مفردا، أو قارنا، أو متمتعا وكلها صحاح إلا من قال كان متمتعا وأراد أنه أهل بعمرة.
قال الإمام النووي: وطريق الجمع أي بين من يقول إنه أحرم قارنا، ومن يقول إنه أحرم مفردا، ومن يقول إنه أحرم متمتعا أنه أحرم أولا مفردا: أي بالحج ثم أدخل العمرة، أي وذلك: أي دخول الأضعف وهي العمرة على الأقوى الذي هو الحج من خصائصه صلى الله عليه وسلم فصار قارنا، ويدل لذلك حديث البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أهلّ بالحج، فلما كان بالعقيق أتاه آت من ربه فقال له: صل بهذا الوادي المبارك، وقل لبيك بحجة وعمرة معا فصار قارنا بعد أن كان مفردا.
فمن روى القرآن اعتمد آخر الأمر، أي ومنه سيدنا أنس رضي الله عنه:
«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا» .
ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق بالقرآن:
أي بالقرآن المذكور الذي هو إدخال العمرة على الحج، لأنه يكفي فيه الاقتصار على عمل واحد في النسكين، أي فلا يأتي بطوافين ولا بسعيين، أي وليس مراده التمتع الحقيقي، بأن أحرم بعمرة فقط، ثم بعد فراغه من أعمالها أحرم بالحج كما هو حقيقة التمتع. ومن ثم قال بعضهم: أكثر السلف يطلقون المتعة على القرآن.
ومن روى الإفراد اعتمد أول الأمر، ومنه قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد سئل عن ذلك «لبى بالحج وحده» أو أن ابن عمر سمعه يقول: لبيك بحج ولم يسمع قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع، وأنس رضي الله عنه سمع ذلك: أي سمع الحج والعمرة، أي فإن ابن عمر رضي الله عنه قيل له عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة فقال ابن عمر لبى بالحج وحده، فقيل لأنس عن ابن عمر ذلك، فقال أنس رضي الله عنه: ما يعدونا إلا صبيانا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك لبيك عمرة وحجا» أي يصرح بهما جميعا وقال: إني لرديف لأبي طلحة وإن ركبتي لتمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبي بالحج والعمرة، وذلك مثبت لما قاله ابن عمر وزائد عليه فليس مناقضا له. أي ودليل من قال إنه أحرم مطلقا ما رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم: «خرج هو وأصحابه رضي الله عنهم مهلّين: أي محرمين إحراما مطلقا ينتظرون القضاء» أي نزول الوحي لتعيين ما يصرفون إحرامهم المطلق إليه أي بإفراد أو تمتع أو قران» أي فجاءه صلى الله عليه وسلم الوحي أن يأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة فيكون متمتعا، ومن معه هدي أن يجعله حجا فيكون مفردا، لأن من معه هدي أفضل ممن لا هدي معه، والحج أفضل من العمرة.
ويدل لكون الصحابة أطلقوا إحرامهم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: «خرجنا نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة» لكن أجيب عن ذلك بأنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية وإن كانوا سموه حال الإحرام.
هذا وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أراد منكم أن يهلّ بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل» فلينظر الجمع بين هذا وما قبله.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «من لم يكن معه هدي وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه هدي فلا» أي فلا يجعلها عمرة بل يجعل إحرامه حجا، ولم يذكر القران. وجاء في بعض الطرق: «أنه أمر من كان معه هدي أن يحرم بالحج والعمرة معا» .
وفي بعض الروايات: «خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجا ولا عمرة ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة، فأمر أصحابه من كان منهم أهلّ بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعله عمرة» .
وفي الهدى: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام، فهو قارن، ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترات تواترا يعلمه أهل الحديث. وما ورد أنه صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين لم يصح.
قال: وغلط من قال لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة: أي الذي تقدم في الجمع بين الروايات عن النووي رحمه الله تعالى. ومن قال لبى بالعمرة ثم أدخل عليها الحج: أي وهذا لم يتقدم. ومن قال أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد إحرامه أي وهو ما تقدم عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه. ومن قال أفرد الحج، أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا، وهذا محمل ما في بعض الروايات، وأفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ولم يعتمر. على أن بعض الحفاظ قال: إنه حديث غريب جدا، وفيه نكارة شديدة.
ثم لبى صلى الله عليه وسلم أي بعد أن استقبل القبلة فقال: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
وروي أنه زاد على ذلك لبيك إله الخلق لبيك: أي وروي أنه زاد: لبيك حقا، تعبدا ورقا على تلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون لم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على عدم كراهة الزيادة على تلبيته المشهورة المتقدمة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها: لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.
وأتاه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية من شعائر الحج، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال: مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج» .
واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا دجانة رضي الله عنه، وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه وولدت أسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدها محمد بن أبي بكر رضي الله عنهم في ذي الحليفة، وأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل وتستثفر، أي بخرقة عريضة بعد أن تحشو بنحو قطن، وتربط طرفي تلك الخرقة في شيء تشده في وسطها لتمنع بذلك سيلان الدم كما تفعل الحائض وتحرم.
ثم حاضت سيدتنا عائشة رضي الله عنها في أثناء الطريق بمحل يقال له سرف بكسر الراء، وكانت قد أحرمت بعمرة، ففي البخاري: «أنها قالت: وكنت فيمن أهلّ بعمرة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة» .
أقول: وقد جاء: أنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك يا عائشة؟» وفي لفظ «ما يبكيك يا هنتاه؟ لعلك نفست: أي حضت»، قلت: نعم: والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر، قال: «لا تقولين ذلك، فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم» .
أي واستدل البخاري رحمه الله بهذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم، وأنكر به على من قال إن الحيض أول ما وقع في بني إسرائيل، وفي لفظ: «قال: ما شأنك؟ قلت: لا أصلي، قال: لا ضير عليك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، أهلي بالحج» وفي رواية: «ارفضي عمرتك» ، أي لا تشرعي في شيء من أعمالها، «وأحرمي بالحج فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج» أي تفعلين كل ما يفعل الحاج وأنت حائض «إلا أنك لا تطوفين بالبيت، ففعلت ذلك؟
أي أدخلت الحج على العمرة، ووقفت المواقف» فوقفت بعرفة وهي حائض حتى إذا طهرت: أي وذلك يوم النحر، وقيل عشية عرفة طافت بالبيت وبالصفا والمروة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» .
وذكر بعضهم أن في هذه الحجة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفة حمل عائشة، وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها، فصار يتأخر الركب بسبب ذلك فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة، وأن يجعل حمل عائشة على جمل صفية، فجاء صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها، فقال لها: يا أم عبد الله، حملك خفيف وجملك سريع المشي، وحمل صفية ثقيل وجملها بطيء، فأبطأ ذلك بالركب، فنقلنا حملك على جملها، وحملها على جملك ليسير الركب، فقالت له: إنك تزعم أنك رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أفي شك أني رسول الله أنت يا أم عبد الله؟ قالت فما لك لا تعدل؟ قالت: فكان أبو بكر رضي الله عنه فيه حدة، فلطمني على وجهي، فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما سمعت ما قالت؟ فقال: «دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله».
قالوا: ولما نزلوا بمحل يقال له العرج فقد البعير الذي عليه زاملته صلى الله عليه وسلم وزامله أبي بكر، أي زادهما، وكان ذلك البعير مع غلام لأبي بكر. فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه للغلام: أين بعيرك؟ قال: ضللته البارحة. فقال أبو بكر وقد اعترته حدة: بعير واحد تضله، وأخذ يضربه بالسوط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ويتبسم لا يزيد على ذلك، فلما بلغ بعض الصحابة أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت جاء بحيس ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو يغتاط على الغلام: «هون عليك يا أبا بكر، فإن الأمر ليس لك ولا إلينا».
وقد كان الغلام حريصا على أن لا يضل بعيره، وهذا غذاء طيب قد جاء الله به، وهو خلف عما كان معه، فأكل صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ومن كان يأكل معهما حتى شبعوا، فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله تعالى عنه وكان على ساقة القوم، أي لأن هذا كان شأنه كما تقدم في قصة الإفك والبعير معه وعليه الزاملة حتى أناخه على باب منزله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «انظر هل تفقد شيئا من متاعك؟» فقال: ما فقدت شيئا إلا قعبا كنا نشرب فيه، فقال الغلام: هذا القعب معي. ولما بلغ سعد بن عبادة وابنه قيسا رضي الله تعالى عنهما زاملته صلى الله عليه وسلم قد ضلت جاآ بزاملة وقالا: أي كل واحد منهما: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت الغداة، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله لكما» اه ثم نزل صلى الله عليه وسلم بذي طوى فبات بها تلك الليلة وصلى بها الصبح أي بعد أن اغتسل بها. أي ثم سار صلى الله عليه وسلم ونزل بالمسلمين ظاهر مكة ودخل مكة نهارا: أي وقت الضحى من الثنية العليا التي هي ثنية كداء بفتح الكاف والمد. قال أبو عبيدة: لا ينصرف، وهي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة مكة، وهي التي يقال لها الآن الحجون التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما تقدم، ودخل المسجد الحرام صبحا من باب عبد مناف، وهو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام. وكان صلى الله عليه وسلم إذا أبصر البيت. قال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا.
وفي مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: «اللهم زد هذا البيت» الخ.
وفي رواية: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فحينا ربنا بالسلام. اللهم زد هذا البيت» الخ.
وعند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد طاف بالبيت: أي سبعا ماشيا، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: «دخلنا مكة عند ارتفاع الشمس، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم قبل الحجر ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد جيد.
وقيل طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته الجدعاء، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي فطاف على راحلته، فلما أتى الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين» رواه أبو داود، ورد بأن هذا الحديث تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف.
على أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يذكر أن ذلك كان في حجة الوداع ولا في الطواف الأول من طوافاتها الثلاثة التي هي: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع، فينبغي أن يكون ذلك في غير الطواف الأول، بأن يكون في طواف الإفاضة أو طواف الوداع، فلا ينافي ما تقدم عن جابر ولا ما في مسلم عنه أنه قال: «طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ليراه الناس فيسألوه» وقوله: «ورمل في ثلاث» منها: أي يسرع المشي مع تقارب الخطأ، ومشى: أي على هينته في أربع يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة، وابتداء الرمل كان في عمره القضاء لما قال المشركون: غدا يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ليرى المشركون جلدهم» ومن ثم قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا كما تقدم، فلما كانت هذه الحجة فعلوا كذلك فصارت سنة.
قال: وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود وثبت أنه استلمه بيده ثم قبلها. وثبت أنه استلمه بمحجنه فقبل المحجن، ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الركن اليماني ولا قبل يده حين استلمه اه.
وعند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه يستحب أن يقبل ما استلمه به. روى إمامنا الشافعي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه، ثم وضع شفتيه عليه طويلا، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال: «بسم الله والله أكبر»، وقال بينهما: أي بين الركن اليماني والحجر {رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} [البقرة: 201] ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء من الأذكار في غير هذا المحل حول الكعبة، ولم يستلم الركنين المقابلين للحجر، أي لأنهما ليسا على قواعد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «إنك رجل قويّ لا تزاحم على الحجر» أي الأسود تؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» وأخذ منه بعض فقهائنا أن من شق عليه استلام الحجر الأسود يسن له أن يهلل ويكبر.
ثم بعد الطواف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين عند مقام سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، جعل المقام بينه وبين الكعبة: أي استقبل جهة باب المحل الذي به المقام الآن، وهو المراد بخلف المقام، قرأ فيهما مع أم القرآن {قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] : و {قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1] ودخل صلى الله عليه وسلم زمزم، فنزع له دلو فشرب منه، ثم مج فيه، ثم أفرغها في زمزم، ثم قال: لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت. أي وتقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لا نتزعت منها دلوا، وانتزع له العباس». ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، وقرأ: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} [البقرة: 158] ابدؤوا بما بدأ الله به، فسعى بين الصفا والمروة سبعا راكبا على بعيره .
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، أن سعيه الذي طاف لقدومه كان على قدميه لا على بعير، أي فذكر البعير في هذا السعي غلط من بعض الرواة.
ثم رأيت بعضهم قال: بعض الروايات عن جابر وغيره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيا بين الصفا والمروة. ولعل بين الصفا والمروة مدرجة، أو أنه صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة بعض المرات على قدميه، فلما ازدحم الناس عليه ركب في الباقي.
ويدل لذلك أنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن قومك يزعمون السعي بين الصفا والمروة راكبا سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، فقيل: كيف صدقوا وكذبوا؟ فقال: صدقوا في أن أن السعي سنة، وكذبوا في أن الركوب سنة، فإن السنة المشي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى في السعي، فلما كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب، وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم مشى بين الصفا والمروة، والأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم ركب فيه وصار صلى الله عليه وسلم في السعي يخب ثلاثا ويمشي أربعا، ويرقى الصفا، ويستقبل الكعبة، ويوحد الله ويكبره ويقول: لا إله إلا الله والله أكبر، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، أي من غير قتال «ثم يفعل على المروة مثل ذلك .
واعترض بأن كونه كان يخب ثلاثا ويمشي أربعا كان في الطوف بالبيت لا في السعي بين الصفا والمروة، وهذا السياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سعى بعد طواف القدوم.
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم حج، فأول شيء بدأ به حين قدم مكة أنه توضأ ثلاثا ثم طاف بالبيت ولم يذكر السعي أي وفي مسلم في سبب نزول قوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} [البقرة: 158] أن المهاجرين في الجاهلية كانوا يهلون بصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاءهم الإسلام كرهوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، يرون أن ذلك من أمر الجاهلية، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} [البقرة: 158] .
وقيل إن سبب نزولها أن الأنصار كانوا في الجاهلية يهلون لمناة، وكان من أحرم بمناة لا يطوف بين الصفا والمروة، وأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ} [البقرة: 158] الآية، ثم أمر صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحلال، أي وإن لم يكن أحرم بالعمرة بأن لم يكن سمع أمره صلى الله عليه وسلم بأن من لا هدي معه يحرم بالعمرة، فأحرم بالحج قارنا أو مفردا، قال السهيلي رحمه الله: ولم يكن ساق الهدي معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلا طلحة بن عبد الله، وكذا علي كرم الله وجهه جاء من اليمن وقد ساق الهدي معه، ويأتي ما فيه. أي وأمره صلى الله عليه وسلم من ذكر بالإحلال كان بعد الحلق والتقصير، لأنه أتى بعمل العمرة فحل له كل ما حرم على المحرم من وطء النساء والطيب والمخيط، وأن يبقى كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة فيهل: أي يحرم بالحج.
وقيل له يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء ويحملونه معهم في ذهابهم من مكة إلى عرفات لعدم وجدان الماء بها ذلك الزمن. وأمر صلى الله عليه وسلم من معه الهدي أن يبقى على إحرامه أي بالحج قارنا أو مفردا، حتى قال بعضهم: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي. قال: ويروى أن قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما تم سعيه قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة» قال ذلك جوابا لقول بلغه عن جمع من الصحابة، ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر. وفي لفظ: وفرجه يقطر منيا، أي قد جامع النساء. أي وفيه أنهم لا ينطلقون إلى منى إلا بعد الإحرام بالحج، لأنهم يحرمون من مكة إلا أن يقال مرادهم أنا كيف نجامع النساء بعد إحرامنا بالحج وكيف نجعلها عمرة بعد الإحرام بالحج كما سيأتي في بعض الروايات.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار، فقال: «أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون؟» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو استقبلت»  الخ، تأسف على فوات أمر من أمور الدين ومصالح الشرع، كذا قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، لأنه يرى أن التمتع أفضل. وردّ بأنه لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل، وإنما تأسف عليه لكونه أشق على أصحابه في بقائه محرما على إحرامه وأمره لهم بالإحلال. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:
«لو تفتح عمل الشيطان» محمول على التأسف على فوات حظ من حظوظ الدنيا فلا تخالف.
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تلك المقالة قام خطيبا فحمد الله تعالى، فقال: «أما بعد، فتعلمون أيها الناس لأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديا ولا حللت» وفي رواية: قالوا: كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا ما أمرتكم به، واجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به، ففعلوا وأهلوا، ففسحوا الحج إلى العمرة» وكان من جملة من ساق الهدي أبو بكر وعمر وطلحة والزبير وعلى رضي الله تعالى عنهم، فإن عليا كرم الله وجهه قدم إلى مكة من اليمن ومعه هدي. وعن جابر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن أحد معه هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة» وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه: «انطلق وطف بالبيت وحل كما أحل أصحابك»، فقال: يا رسول الله أهللت كما أهللت، فقال له: «ارجع فأحل كما أحل أصحابك»، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إن أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد، فقال: «هل معك من هدي؟» قال لا، فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه، وهذا صريح في أن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان بالحج.
ويمكن الجمع بين رواية أن عليا قدم من اليمن ومعه هدي، وبين رواية أنه لم يكن معه هدي بأن الهدي تأخر مجيئه بعده، لأنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على الجيش رجلا من أصحابه.
ويؤيد ذلك قول بعضهم: كان الهدي الذي قدم به علي كرم الله وجهه من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة، أي وإلا فالذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستين بدنة، والذي قدم به من اليمن لعلي كان سبعة وثلاثين بدنة، ولا يخالف ذلك إشراكه له في الهدي لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لاحتمال تلف ذلك الهدي وعدم مجيئه، والذي في البخاري لما قدم علي كرم الله وجهه من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «بم أهللت يا علي؟» قال: بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم. قال: «فأهدوا مكث حراما كما أنت»، أي فإنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان أرسل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى اليمن لهمدان يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء رضي الله تعالى عنه: فكنت ممن خرج مع خالد، فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأمره أن يقفل خالد بن الوليد ويكون مكانه، وقال: مر أصحاب خالد، من شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقفل، فكنت ممن أعقب مع علي كرم الله وجهه، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، وصلى بنا علي كرم الله وجهه، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا، وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب علي رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان السلام على همدان».
وكان من جملة من لم يسق الهدي أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: «فإنه لما قدم من اليمن قال له: بم أهللت؟ قال: أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: هل معك من هدي؟ قال: قلت لا، فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة» ورواية الشيخين عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم بم أهللت؟» فقلت:لبيت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فقد أحسنت، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل» أي بعد الحلق أو التقصير.
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مهلا بالحج فقط أو مع العمرة، إلا أن يقال جوز لأبي موسى الفسخ من الحج إلى العمرة كما فعل ذلك مع غيره من الصحابة الذين أحرموا بالحج ولا هدي معهم. ومن جملة من لم يسق الهدي أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فأحللن، أي لأنهن أحرمن إحراما مطلقا ثم صرفنه للعمرة، أو أحرمن متمتعات أي بالعمرة، إلا عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تحل أي لأنها أدخلت الحج على العمرة كما تقدم.
وممن أحلت سيدتنا فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، أي لأنها لم يكن معها هدي وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، وشكا عليّ كرم الله وجهه فاطمة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم إذ أحلت، أي فإنه وجدها لبست صبيغا واكتحلت، فأنكر عليها، فقالت رضي الله تعالى عنها: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محرشا له عليها رضي الله تعالى عنها، فصدقها عليه الصلاة والسلام في أنه أمرها بذلك، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له: «صدقت صدقت صدقت، أنا أمرتها بذلك يا علي».
وسأله سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد: فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه فقال: «بل الأبد دخلت العمرة في الحج هكذا إلى يوم القيامة» أي وفي رواية: «فشبك بين أصابعه واحدة في أخرى وقال: دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين بل لأبد الأبد» بالإضافة أي إلى آخر الدهر، وهذا الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج يدل على أن المراد السائل بالتمتع القران لا حقيقته الذي هو الإحرام بالحج بعد الفراغ من عمل العمرة، لكن قول بعضهم: لما كان آخر سعيه صلى الله عليه وسلم على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة»، فقام سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد الحديث، يدل على أن مراده بالتمتع حقيقته، لكن لا يحسن الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج، إلا أن يقال المراد حصلت العمرة مع الإحرام بالحج لقلب الإحرام بالحج إلى العمرة لأن هذا كله يدل على أنه أمر من أحرم بالحج ممن لا هدي معه أن يقلب إحرامه عمرة.
وأجاب عنه أئمتنا بأن ذلك: أي فسخ الحج إلى العمرة كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفوا ما كان عليه الجاهلية: من تحريم العمرة في أشهر الحج ويقولون إن من أفجر الفجور، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وإمامنا الشافعي وجماهير العلماء من السلف والخلف رضي الله عنهم.
وفي مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: «لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم» وخالف الإمام أحمد رضي الله عنه وطائفة من أهل الظاهر فقالوا: بل هذا ليس خاصا بالصحابة في تلك السنة، أي بل باق لكل أحد يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها.
وبعضهم قال: إن قول سراقة رضي الله تعالى عنه معناه أن جواز العمرة في أشهر الحج خاصة بهذه السنة أو جائزة إلى يوم القيامة، وفيه أنه لا يحسن الجواب عنه بما تقدم من قوله: «دخلت العمرة في الحج» .
ثم نهض صلى الله عليه وسلم ونهض معه الناس يوم التروية الذي هو اليوم الثامن إلى منى وأحرم بالحج كل من كان أحل، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى، والعصر والمغرب والعشاء، وبات بها تلك الليلة أي وكانت ليلة الجمعة وصلى بها الصبح ثم نهض بعد طلوع الشمس إلى عرفة. وأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب له قبة من شعر بنمرة، فأتى عليه الصلاة والسلام عرفة ونزل في تلك القبة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء بفتح القاف والمد، وقيل بضم القاف والقصر، وهو خطأ كما تقدم.
وفي كلام الأصل أن القصواء والعضباء والجدعاء اسم لناقة واحدة وفيه ما لا يخفى. فرحلت ثم أتى بطن الوادي فخطب على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض، ووضع ربا الجاهلية، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله تعالى عنه. ووضع الدماء في الجاهلية، وأوّل دم وضعه دم ابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتلته هذيل فقال: هو أوّل دم أبدأ به من دماء الجاهلية، موضوع فلا يطالب به في الإسلام وأوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا، وأباح ضربهنّ غير المبرح إن أتين بما لا يحل. وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على أزواجهن. وأمر صلى الله عليه وسلم بالاعتصام بكتاب الله عز وجل، أي وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأخبر إنه لا يضل من اعتصم به، وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم، فاعترف الناس بذلك. وأمر أن يبلغ ذلك الشاهد والغائب.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وربا الجاهلية موضوع، وأوّل ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب. فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنكم لتسألون عني فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس، «اللهم فاشهد ثلاث مرات» .
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديا صار ينادي بكل ما قاله من ذلك: أي وهو ربيعة بن أمية بن خلف أخو صفوان بن أمية وكان صّيتا. وصار صلى الله عليه وسلم يقول له: «يا ربيعة قل: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا كما تقدم، فيصرخ به» وهو واقف تحت صدر ناقته صلى الله عليه وسلم.
وربيعة هذا ارتد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه شرب الخمر، فهرب منه إلى الشام، ثم هرب إلى قيصر فتنصر ومات عنده.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه طاف ليلة هو وعمر رضي الله تعالى عنهما للحرس بالمدينة فرأوا نورا في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فإذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمن: تدري بيت من هذا؟ قال: لا، قال: هذا بيت ربيعة بن أمية، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12] فانصرف عمر. ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه غرب ربيعة إلى خيبر فكان ما تقدم.
وقد رأى ربيعة قبل ذلك في المنام كأنه في أرض معشبة مخصبة وخرج منها إلى أرض مجدبة كالحة. ورأى أبا بكر رضي الله تعالى عنه في جامعة من حديد عند سرير إلى الحشر، فقص ذلك على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال إن صدقت رؤياك تخرج من الإيمان إلى الكفر، وأما أنا فإن ذلك ديني جمع لي في أشد الناس إلى يوم الحشر.
وبعثت إليه صلى الله عليه وسلم أم الفضل زوجة العباس أم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم لبنا في قدح شربه أمام الناس، فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم: لم يكن صائما ذلك اليوم الذي هو التاسع، أي لأنهم تماروا عندها في صيامه صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم الذي هو يوم عرفة.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» أي وبهذا استدل أئمتنا أنه لا يستحب للحاج صوم يوم عرفة الذي هو التاسع من ذي الحجة.
فلما تم صلى الله عليه وسلم خطبته أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا فصلاهما مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين: أي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بمكة إقامة تقطع السفر لأنه دخلها في اليوم الرابع وخرج يوم الثامن، فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر يوم الرابع إلى عصر الثامن يقصر تلك الصلوات، فالجمع للسفر كما يقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه كالجمهور لا للنسك كما يقول غيرهم.
أقول: وفيه أن فقهاءنا ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياما: أي تقطع السفر لعدم استيطانه.
ويردّ بأنه من أين أنه صلى الله عليه وسلم عزم على الإقامة بمكة المدة التي تقطع السفر هذه دعوى تحتاج إلى دليل. وأيضا عزمه على ذلك إنما هو بعد عوده إلى مكة بعد فراغه من الوقوف والرمي، ولا ينقطع سفره إلا بوصوله إلى مكة.
والأولى استدلال فقهائنا على وجوب الاستيطان في إقامة الجمعة بعد أمره صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بإقامة الجمعة مع أنهم غير مسافرين لعدم استيطانهم للمحل. فما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن الجمع للسفر لا للنسك في محله.
وقد رأيت أن مالكا رضي الله تعالى عنه سأل أبا يوسف وقد كان حج مع هارون الرشيد وذلك بحضرة الرشيد، فقال له: ما تقول في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة، أصلى جمعة أم صلى ظهرا مقصورة؟ فقال أبو يوسف: صلى جمعة، لأنه خطب لها قبل الصلاة، فقال مالك: أخطأت، لأنه لو وقف يوم السبت لخطب قبل الصلاة، فقال أبو يوسف: ما الذي صلى؟ فقال مالك: صلى الظهر مقصورة، لأنه أسرّ بالقراءة فصوبه هارون في احتجاجه على أبي يوسف، والله أعلم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته إلى أن أتى الموقف، فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفا للدعاء من الزوال إلى الغروب. وفي الحديث: «أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، أي في يوم عرفة» كما في بعض الروايات: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» .
وجاء أن من جملة دعائه في ذلك اليوم: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن وسوسة الشيطان، ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر» .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، الوجل المشفق، المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وابتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضريع، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين» واستمر كذلك صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة.
أي وخطب صلى الله عليه وسلم على ناقته في ذلك اليوم. فعن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم قال: بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: «أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه. وإنه لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش، وللعاهر الحجر. ومن ادعى إلى غير أبيه أو مولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا، وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من نجد فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: الحج عرفة. من جاء ليلة جمع، أي المزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج» وجمع بفتح الجيم وسكون الميم أيام منى ثلاثة {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] ، أي وقال صلى الله عليه وسلم «وقفت ههنا وعرفة كلها موقف» زاد مالك في الموطأ «وارفعوا عن بطن عرنة» .
وفي كلام بعضهم نزلت: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] يوم الجمعة بعد العصر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة يندق من ثقل الوحي.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتفق في ذلك اليوم أربعة أعياد: عيد للمسلمين وهو يوم الجمعة. وعيد لليهود. وعيد للنصارى. وعيد للمجوس، ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
ولما نزلت بكى عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال رضي الله تعالى عنه: أبكاني أنا كنا في زيادة، أما إذا كمل فإنه لا يكمل شيء إلا نقص، فقال: «صدقت» . فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعش بعدها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، ولم ينزل بعدها شيء من الأحكام.
ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه خلفه ودفع إلى مزدلفة وقد ضم زمام راحلته القصواء التي خطب عليها في نمرة حتى أن رأسها ليصيب طرف رجليه، يسير العنق، حتى إذا وجد فسحة سار النص وهو فوق العنق، وهو يأمر الناس بالسكينة في السير، فلما كان في الطريق عند الشعب الأبتر نزل فيه فبال وتوضأ وضوآ خفيفا، ثم ركب حتى أتى المزدلفة التي هي جمع، أي وتقدم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفات وإفاضته إلى مزدلفة قبل أن يبعث كان مخالفا في ذلك لقوله: «وصلى المغرب والعشاء مجموعتين في وقت العشاء» أي مقصورتين بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع وأذن للنساء والضعفة: أي الصبيان أن يرموا ليلا، أي أن يذهبوا من مزدلفة إلى منى بعد نصف الليل بساعة ليرموا جمرة العقبة قبل الزحمة.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس» فليتأمل ذلك. فعن عائشة رضي الله عنها «أن سودة رضي الله عنها: أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفه أهله وروى ذلك الشيخان. ولم يأذن صلى الله عليه وسلم للرجال في ذلك إلا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم، أي فالمراد بالضعفة الصبيان كما تقدم، وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى أي وأن يبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغسلين.
وفي البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنه: «أنها قالت: فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إليّ من مفروح به، أي لأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس» وفي لفظ: «قبل حطمة الناس» لأن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ضخمة ثقيلة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من مزدلفة مع النساء والضعفة.
وفي مسلم: «مضت أم حبيبة من جمع بليل» أي في نصف الليل. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال «أرسلني صلى الله عليه وسلم مع ضعفة أهله، فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة، فلما كان وقت الفجر قام صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس أي بالمزدلفة الصبح مغلسا ثم أتى المشعر الحرام فوقف به: أي وهو راكب ناقته، واستقبل القبلة، ودعا الله، وكبر، وهلل ووحد، ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا» وجاء: «أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة لأمته يوم عرفة، فأجيب بأنه يغفر لها ما عدا المظالم، ثم دعا بذلك أي بالمغفرة لأمته بمزدلفة، فأجيب إلى ذلك: أي إلى غفران المظالم، فجعل إبليس لعنه الله يحثو التراب على رأسه، فضحك صلى الله عليه وسلم من فعله» وجاء ما بين أن المراد بالأمة من وقف بعرفة.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دفع: أي من المشعر الحرام قبل أن تطلع الشمس: أي قال جابر رضي الله تعالى عنه: وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأردف خلفه الفضل بن العباس، وجاءته امرأة تسأله، فقالت له: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟
قال: نعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. وفي لفظ آخر: «فوضع صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر» وفي لفظ آخر: أنه صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل، فقال له أبوه العباس رضي الله عنهما: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك؟ قال: «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان»، فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محسر حرّك ناقته قليلا وسلك الطريق التي تسلك على جمرة العقبة، فرمى بها أسفلها سبع حصيات، التقطها له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف بفتح الخاء المعجمة وإسكان الذال المعجمة، وهذا لا يخالف ما عليه أئمتنا من أن الأولى أن يلتقط حصى الرمى من مزدلفة.
ويكره أخذه من المرمى لجواز أن يكون التقط له ذلك من مزدلفة ثم سقط منه عند جمرة العقبة، فأمر ابن عباس بالتقاطه.
لكن الذي في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل محسرا: أي الوادي المعروف، وهو أول منى قال: «عليكم بحصى الخذف الذي ترمى به الجمرة، وهو يدل على أن أخذ الحصى من ذلك أولى، إلا أن يقال يجوز أن يكون» قال ذلك لجماعة تركوا أخذ ذلك من مزدلفة، وأمر صلى الله عليه وسلم بمثلها ونهى عن أكبر منها، وقطع صلى الله عليه وسلم التلبية عند الرمي، وصار يكبر عند رمي كل حصاة وهو راكب ناقته . وفي رواية «على بغلة» . قال بعضهم: وهو غريب جدا: «وبلال وأسامة أحدهما آخذ بخطامها والآخر يظله بثوبه، لا ضرب، ولا طرد، ولا إليك إليك» .
وفي رواية: «فرأيت بلالا رضي الله عنه يقود براحلته، وأسامة بن زيد رضي الله عنه رافعا عليه ثوبه من الحر حتى رمى جمرة العقبة» وخطب صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء، وقيل على بعير بمنى خطبة قرر فيها تحريم الزنا والأموال والأعراض، وذكر حرمة يوم النحر، وحرمة مكة على جميع البلاد، فقال: «يا أيها الناس أيّ يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا»، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا؟» قالوا شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا» أعادها مرارا ثم رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأمرهم صلى الله عليه وسلم بأخذ مناسكهم عنه لعله لا يحج بعد عامه ذلك، وكان وقوفه صلى الله عليه وسلم بين الجمرات والناس بين قائم وقاعد.
وجاء: أنه صلى الله عليه وسلم خطب في اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها، ويقال له يوم النفر الأول لجواز النفر فيه كما يقال لليوم الثالث في أيام التشريق يوم النفر الآخر.
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة، أي وهي التي قدم بها من المدينة وذلك بيده الشريفة لكل سنة بدنة. قال بعضهم. وفي ذلك إشارة إلى منتهى عمره صلى الله عليه وسلم، لأن عمره صلى الله عليه وسلم كان في ذلك اليوم ثلاثا وستين سنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة لكل سنة بدنة، وطبخ له اللحم من لحمها، وأكل منه: أي أخذ من كل بدنة بضعة، فجعل ذلك في قدر وطبخ، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقته، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا كرّم الله وجهه فنحر ما بقي وهو تمام المائة، أي ولعله الذي أتى به عليّ كرم الله وجهه من اليمن هذا.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثين بدنة، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا فنحر ما بقي منها وقال له «اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس، ولا تعط جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جذية من لحم واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحثو من مرقها» ففعل، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن منى كلها منحر، وأن فجاج مكة كلها منحر. ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف: أي حلقه معمر بن عبد الله وقال له: هنا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فبدأ بشقه الأيمن فحلقه ثم بشقه الأيسر، وقسم شعره فأعطى نصفه لأبي طلحة الأنصاري : أي شعر نصف رأسه الأيسر «بعد أن قال: ههنا أبو طلحة» وقيل أعطاه لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما، وقيل لأبي كريب: «وأعطى من نصفه الثاني» أي الذي هو الأيمن: «الشعرة والشعرتين للناس» .
وفي رواية: ناول صلى الله عليه وسلم الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري قأعطاه إياه، ثم ناول الحلاق الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، وقال: «اقسمه بين الناس» .
قال في النور: والحاصل أن الروايات اختلفت في مسلم. ففي بعضها أنه أعطاه الأيسر، وفي بعضها أنه أعطاه الأيمن. ورجح ابن القيم أن الذي اختص به أبو طلحة هو الشق الأيسر.
أقول: الذي في مسلم قال للحلاق: «ها وأشار بيده إلى جانبه الأيمن، فقسم شعره بين من يليه» وفي رواية: «فوزعه الشعرة والشعرتين، ثم أشار إلى الحلاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأم سليم» وفي رواية «هال ههنا أبو طلحة» وفي لفظ: «أين أبا طلحة فدفعه إلى أبي طلحة» .
وفي رواية: «ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة، فقال اقسم بين الناس» والجمع ممكن بين هذه الروايات، والله أعلم.
وعن بعضهم قال: شقت قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك وهو في الحرب فسقطت فطلبها طلبا حثيثا فعوقب في ذلك، فقال: إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها.
وعن أنس رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل» .
ثم تطيب صلى الله عليه وسلم، طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة، ويقال له طواف الركن، ويقال له طواف الصدر، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. وحلق بعض أصحابه وقصر بعض آخر. وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين، فأعاد صلى الله عليه وسلم: وأعادوا ثلاثا، وقال في الرابعة والمقصرين» .
والصحيح المشهور أنه قال ذلك في هذه الحجة التي هي حجة الوداع كما قال ذلك في الحديبية كما تقدم، وقيل لم يقله إلا في الحديبية، وبه جزم إمام الحرمين في النهاية. وقال النووي: ولا يبعد أن يكون وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الموضعين. قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، أي فإن في مسلم في حجة الوداع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين. قال: «اللهم اغفر للمحلقين»، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين، قال. «وللمقصرين»، ثم نهض صلى الله عليه وسلم راكبا إلى مكة فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة قبل الظهر وشرب من نبيذ السقاية» .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة رضي الله عنه فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ» : أي من سقاية العباس رضي الله عنه، فإنهم كانوا يضعون في السقاية التمر والزبيب كما تقدم، فشرب صلى الله عليه وسلم وسقى فضله لأسامة رضي الله تعالى عنه، وقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصنعوا. ثم شرب صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم بالدلو، قيل وهو قائم، وقيل وهو على بعير، والذي نزع له الدلو عمه العباس بن عبد المطلب» أي وفعل ذلك عند فتح مكة أيضا كما تقدم، وقيل لما شرب صلى الله عليه وسلم صب منه على رأسه الشريف. وعن ابن جريج: «أنه صلى الله عليه وسلم نزع الدلو لنفسه» .
وقيل إن هذا يخالف ما تقدم من قوله: «لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت» ومن قوله يوم فتح مكة: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر» كما اتفق عليه الشيخان، وقيل صلاة بمكة وبه انفرد مسلم ورحج بأمور.
وجمع بينهما بأنه يجوز أن يكون صلى الظهر بمكة أول الوقت ثم رجع إلى منى فصلاها مرة أخرى بأصحابه، أي الذين تخلفوا عنه بمنى، فإنه صلى الله عليه وسلم وجدهم ينتظرونه، فهي له صلى الله عليه وسلم معادة. قال بعضهم: وهذا مشكل على من لم يجوّز الإعادة.
وعورض هذا بأنه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم رمى جمرة العقبة ونحر ثلاثا وستين بدنة، ونحر علي كرّم الله وجهه بقية المائة، وأخذ من كل بدنة بضعة، ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقه، وحلق رأسه، ولبس وتطيب وخطب فكيف يمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة أول الوقت، ويعود إلى منى في وقت الظهر.
على أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى» رواه أبو داود.
وأجيب بأن النهار كان طويلا فلا يضر صدور أفعال منه صلى الله عليه وسلم كثيرة في صدر ذلك اليوم.
على أن ابن كثير رحمه الله، قال: لست أدري أن خطبته صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم أكانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى؟.
وأما رواية عائشة رضي الله تعالى عنها المقتضية لكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت. فأجاب بعضهم عنها بأنها ليست نصا في ذلك بل تحتمل فليتأمل.
فإن قيل: روى البخاري وأهل السنن الأربعة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرّ الزيارة الى الليل» وفي لفظ: «زار ليلا» قلنا المراد بالزيارة زيارة مجيئه، لا طواف الزيارة الذي هو طواف الإفاضة.
فقد روى البيهقي: «أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى» وهو قول عروة بن الزبير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل، فقد أخذه من قول عائشة المتقدم، وقد علمت ما فيه.
وقد قال بعضهم: الصحيح. من الروايات وعليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر بالنهار. والأشبه أنه كان قبل الزوال هذا كلامه.
وطافت أم سلمة رضي الله عنها في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس قالت: «وطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ ب {وَٱلطُّورِ} * {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} [الطور: 1- 2]» .
أي وعورض ذلك «بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت» فكيف يلتئم هذا مع طوافه قبل الظهر؟ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك الوقت بمكة.
ويجاب بأنه يجوز أن تكون أم سلمة أخرت طوافها لذلك الوقت وإن كانت مكة قبل الفجر.
وعورض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة في النهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس، هذا من المحال.
ويجاب بأن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور شهادة نفي على من يثبت. وأم سلمة رضي الله عنها لم تدّع أنها سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم. ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال: والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ، أي عند قدومه مكة لطواف الوداع عند الكعبة وأصحابه، وقرأ في صلاته {وَٱلطُّورِ} بكمالها.
قال: ويؤيد ذلك ما روي عن أم سلمة قالت: «شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي، قال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة»، ومضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ {وَٱلطُّورِ} * {وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} [الطور: 1- 2]» .
أي وحينئذ يكون ما تقدم من قول الراوي: «وطافت أم سلمة في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر» وقوله في الرواية الأخرى: «أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل النحر ثم مضت فأفاضت» أي طافت طواف الافاضة. وما جاء عن أم سلمة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة» قال بعضهم: ذكر يوم النحر غلط من الراوي أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر. ويقال بمثل ذلك فيما قبله فليتأمل، فإنه سيأتي في بعض الروايات أنه طاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح.
إلا أن يقال إنه صلى الله عليه وسلم مكث بعد الطواف لصلاة الصبح حتى صلاها وفيه أن بعضهم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت، أي طواف الوداع بعد صلاة الصبح، والله أعلم، وطافت في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر عائشة رضي الله عنها بعد أن طهرت من حيضها وكانت حائضا يوم عرفة، أي كما تقدم. وطافت أيضا صفية رضي الله عنها في ذلك اليوم.
وسئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عما تقدم بعضه على بعض من الرمي والحلق والنحر والطواف، فقال: لا حرج: أي لا إثم.
ففي مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: «وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى على راحلته للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر أن التحلل قبل النحر فحلقت قبل أن أنحر، فقال: «اذبح ولا حرج»، ثم جاءه رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل أن أرمي، فقال: «ارم ولا حرج» وجاءه آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال:«ارم ولا حرج»، قال: فما سئل عن شيء قدم ولا آخر إلا قال «افعل ولا حرج» ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أيضا في تقديم السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت «أي فمن شاء قدم السعي عقب طواف القدوم، ومن شاء أخره عن طواف الإفاضة» وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أتي بالسعي عقب طواف القدوم.
وأقام صلى الله عليه وسلم بمنى ثلاثة أيام يرمي الجمار: أي ماشيا في ذهابه وإيابه وأمر صلى الله عليه وسلم شخصا أن ينادي في الناس بمنى إنها أيام أكل وشرب وباءة. ورمى لكل جمرة من الجمرات الثلاث بعد الزوال، أي قبل الصلاة للظهر سبع حصيات، يبدأ بالتي تلي مسجد منى: أي الخيف ويقف عندها للدعاء، ثم التي تليها وهي الوسطى ثم يقف للدعاء ثم جمرة العقبة، ولم يقف عندها للدعاء: أي وكان أزواجه صلى الله عليه وسلم يرمين بالليل.
وخطبهم أي الناس في اليوم الأول من أيام منى كما تقدم» ويقال لذلك اليوم يوم القر لأنهم يقرون فيه في منى وهو يوم الرؤوس لأكلهم الرؤوس في ذلك اليوم، وفي اليوم الثاني من أيام منى وهو يوم النفر الأول، أي ويقال له يوم الأكارع: أي لأكلهم الأكارع في ذلك اليوم.
وأوصى بذي الأرحام خيرا. فقد خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة. والثانية يوم عرفة. والثالثة يوم النحر بمنى. والرابعة يوم القر بمنى. والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضا.
ثم نهض صلى الله عليه وسلم من منى في اليوم الثالث الذي هو يوم النفر الآخر ونفر معه المسلمون بعد الزوال أي وبعد الرمي.
واستأذنه عمه العباس رضي الله عنه في عدم المبيت بمنى في الليالي الثلاث من أجل السقاية فرخص له في ذلك.
وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة بالمحصب وهو الأبطح، أي ضربها له أبو رافع رضي الله عنه، وكان على ثقله ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بذلك. فعن أبي رافع رضي الله عنه:لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل بالأبطح، ولكني جئت فضربت قبة، فجاء فنزل، وكان صلى الله عليه وسلم قال لأسامة رضي الله عنه:«ذغدا ننزل بالمحصب إن شاء الله» وهو المحل الذي تحالف فيه قريش وكنانه على منابذه بني هاشم وبني المطلب حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، أي وكان ذلك سببا لكتابة الصحيفة.
وفيه أنه تقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم نزل بالحجون عند شعب أبي طالب المكان الذي حصرت فيه بنو هاشم وبنو المطلب وأنه خيف بني كنانة الذي تقاسمت قريش فيه جملتهم.
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر» .
ولما نزل صلى الله عليه وسلم بالمحصب صلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة، ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا رسول الله أأرجع بحجة ليس معها عمرة، فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقال: «اخرج بأختك من الحرم، ثم افرغا من طوافكما حتى تأتياني ههنا بالمحصب»، قالت: فقضى الله العمرة، وفي لفظ: فاعتمرنا من التنعيم مكان عمرتي التي فاتتني، وفرغنا من طوافها في جوف الليل، فأتيناه صلى الله عليه وسلم بالمحصب فقال: «فرغتما من طوافكما، قلنا نعم، فأذن في الناس بالرحيل» وفي رواية: «فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعد من مكة وأنا منهبطة إليها، أو أنا مصعدة وهو منهبط منها» .
واعترض كيف يأتي قولها عمرتي التي فاتتني مع قوله صلى الله عليه وسلم: «قد حللت من حجتك وعمرتك» وكيف أقرأها صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأجيب بأنها لما رأت صواحبها أتين بعمرة ثم بحج وهي لم تأت إلا بحج أحبت أن تأتي بعمرة أخرى زائدة على الحج وإن كانت العمرة مندرجة فيه، وأقرها صلى الله عليه وسلم تطييبا لخاطرها، لأنه صلى الله عليه وسلم كان معها إذا هويت الشيء الذي لا مخالفة فيه للشرع تابعها عليه. وبهذا استدل أئمتنا على جواز الإحرام بالعمرة قبل طواف الوداع.
وأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن لا ينصرفوا: أي إلى بلادهم حتى يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت: أي الذي هو طواف الوداع.
ورخص صلى الله عليه وسلم في ترك المؤمنين ذلك للحائض التي قد طافت طواف الإفاضة قبل حيضها كصفية أم المؤمنين رضي الله عنها، فإنها حاضت بعد طواف الإفاضة ليلة النفر من منى. أي وقالت: ما أراني إلا حابستكم لانتظار طهري وطواف الوداع، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «أو ما كنت طفت يوم النحر؟» أو في لفظ: «ما كنت طفت طواف الإفاضة يوم النحر؟ قالت بلى، قال: لا بأس انفري معنا» وفي رواية: «قال يكفيك ذلك» أي لأنه هو طواف الركن الذي لابد لكل أحد منه، بخلاف طواف الوداع لا يجب على الحائض ولا يلزمها الصبر لتطهر وتأتي به، ولا دم عليها في تركه.
قال الإمام النووي رحمه الله: وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكي عن بعض السلف وهو شاذ مردود.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة في تلك الليلة، وطاف طواف الوداع سحرا قبل صلاة الصبح، ثم خرج من الثنية السفلى ثنية كدى بضم الكاف والقصر: وهو عند باب شبيكة متوجها إلى المدينة: أي التي خرج منها لما فتح مكة كما تقدم.
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المسجد من باب الحزورة، ويقال له باب الحناطين.
وجاء عن جابر رضي الله عنه: «أن خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة كان عند غروب الشمس فلم يصلّ حتى أتى سرف» قال بعضهم: لعل هذا كان في غير حجة الوداع، فإنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت بعد صلاة الصبح فماذا أخره إلى وقت الغروب هذا غريب جدا هذا كلامه. وما روي أنه صلى الله عليه وسلم رجع بعد طواف الوداع إلى المحصب غير محفوظ.
أقول: هذا جمع به الإمام النووي رحمه الله بين الروايات المتقدمة عن عائشة حيث قال: ووجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم بعث عائشة مع أخيها بعد نزوله المحصب، وواعدها أن تلحقه بعد اعتمارها، ثم خرج هو صلى الله عليه وسلم بعد ذهابها فقصد البيت ليطوف طواف الوداع، ثم رجع بعد فراغه من طواف الوداع فلقيها وهو صادر وهي داخله لطواف عمرتها، ثم لما فرغت لحقته وهو في المحصب.
قال: وأما قولها فأذن في أصحابه فخرج ومر بالبيت وطاف فمتأول بأن في الكلام تقديما وتأخيرا، وإلا فطوافه صلى الله عليه وسلم كان بعد خروجها إلى العمرة وقبل رجوعها، وأنه فرغ قبل طوافها للعمرة هذا كلامه فليتأمل، فكانت مدة دخوله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وخروجه منها عشرة أيام، وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يأت بعمرة بعد حجه، وهو لا يناسب القول بأنه أحرم مفردا بالحج، بل يدل للقول بأنه أحرم قارنا أو نواهما بعد إطلاق الإحرام، أو أدخل الحج على العمرة.
وفي كلام بعضهم لم يعتمر صلى الله عليه وسلم تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده ولو جعل حجه منفردا لكان خلاف الأفضل، أي لأنه لم يقل أحد إن الحج وحده من غير اعتمار في سنته أفضل من القران.
وفي كلام بعض آخر: أجمعوا على أنه لم يعتمر بعد الحج، فتعين أن يكون متمتعا تمتع قران.
وقد يطلق الإفراد على الإتيان بأعمال الحج فقط وإن كان قد أحرم بهما معا كما أن القران قد يطلق على الإتيان بطوافين وسعيين. فمن روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحج أراد به أنه أتى بأعمال الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا.
ولم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة في هذه الحجة التي هي حجة الوداع.
ولما طاف صلى الله عليه وسلم سبعا وقف في الملتزم بين ركن الحجر وبين باب الكعبة فدعا الله وألزق جسده: أي صدره الشريف ووجهه بالملتزم.
أي ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محل بين مكة والمدينة يقال له غدير خمّ بقرب رابغ جمع الصحابة وخطبهم خطبة بين فيها فضل علي كرم الله وجهه، وبراءة عرضه مما تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وبخلا، والصواب كان معه كرم الله وجهه في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم «أيها الناس إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب» أي وفي لفظ في الطبراني «فقال: يا أيها الناس إنه قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي إلا نصف عمر الذي يليه من قبله، وإني لأظن أن يوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسؤول، وإنكم مسؤولون فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيرا، فقال صلى الله عليه وسلم: «أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن البعث حق بعد الموت، وأن السعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟» قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: «اللهم اشهد» الحديث «ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته، أي فقال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن تتفرقا حتى تردا عليّ الحوض» ، وقال في حق علي كرم الله وجهه لما كرر عليهم: ألست أولى بكم من أنفسكم ثلاثا، وهم يجيبونه صلى الله عليه وسلم بالتصديق والاعتراف، ورفع صلى الله عليه وسلم يد علي كرم الله وجهه وقال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار» وهذا أقوى ما تمسكت به الشيعة والإمامية والرافضة على أن عليا كرم الله وجهه أولى بالإمامة من كل أحد، وقالوا هذا نص صريح على خلافته سمعه ثلاثون صحابيا وشهدوا به، قالوا: فلعلي عليهم من الولاء ما كان له صلى الله عليه وسلم عليهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «ألست أولى بكم» وهذا حديث صحيح ورد بأسانيد صحاح وحسان، ولا التفات لمن قدح في صحته كأبي داود وأبي حاتم الرازي.
وقول بعضهم إن الزيادة اللهم وال من والاه إلى آخره موضوعة مردود، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيرا منها.
وقد جاء أن عليا كرم الله وجهه قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أنشد الله من ينشد يوم غدير خمّ إلا قام، ولا يقوم رجل يقول أنبئت أو بلغني إلا رجل سمعت أذناه ووعى قلبه، فقام سبعة عشر صحابيا وفي رواية ثلاثون صحابيا، وفي المعجم الكبير ستة عشر. وفي رواية اثنا عشر، فقال: هاتوا ما سمعتم، فذكروا الحديث، ومن جملته «من كنت مولاه فعلي مولاه» وفي رواية «فهذا مولاه» وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه: وكنت ممن كتم، فذهب الله ببصري، وكان علي كرم الله وجهه دعا على من كتم.
قال بعضهم: ولما شاع قوله صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» في سائر الامصار وطار في جميع الأقطار، بلغ الحارث بن النعمان الفهري، فقدم المدينة فأناخ راحلته عند باب المسجد، فدخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله أصحابه، فجاء حتى جثا بين يديه، ثم قال: يا محمد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا ذلك منك، وإنك أمرتنا أن نصلي في اليوم والليلة خمس صلوات ونصوم شهر رمضان ونزكي أموالنا ونحج البيت فقبلنا ذلك منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته، وقلت: من كنت مولاه، فعلى مولاه، فهذا شيء من الله أو منك؟ فاحمرت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «والله الذي لا إله إلا هو إنه من الله وليس مني، قالها ثلاثا، فقام الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» وفي رواية «اللهم إن كان ما يقول محمد حقا {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ، فو الله ما بلغ باب المسجد حتى رماه الله بحجر من السماء فوقع على رأسه فخرج من دبره فمات، وأنزل الله تعالى {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} * {لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1- 2] الآية، وكان ذلك اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وقد اتخذت الروافض هذا اليوم عيدا فكانت تضرب فيه الطبول ببغداد في حدود الأربعمائة في دولة بني بويه. وما جاء: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا. قال بعضهم قال الحافظ الذهبي هذا حديث منكر جدا أي بل كذب.
فقد ثبت في الصحيح ما معناه: «أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر» فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل سني شهرا هذا باطل، هذا كلامه فليتأمل.
وقد رددت عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع لخصت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الإمامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه آحاد طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة، ومن ثم قال بعض أهل السنة: يا سبحان الله من أمر الشيعة والرافضة إذا استدللنا عليهم بشيء من الأحاديث الصحيحة قالوا هذا خبر واحد لا يعني، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموا أتوا بأخبار باطلة كاذبة لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد التي منها أنه قال لعلي أخي ووصي وخليفتي في ديني بكسر الدال وخبر: أنت سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. وخبر: سلموا على عليّ بإمرة الناس، فإنها أحاديث كاذبة موضوعة مفتراة عليه، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ثانيها: أن اسم المولى يطلق على عشرين معنى، منها: أنه السيد الذي ينبغي محبته ويجتنب بغضه، ويؤيد إرادة ذلك «أن سبب إيراد ذلك أن عليا كرم الله وجهه تكلم فيه بعض من كان معه باليمن من الصحابة وهو بريدة، قدم هو وإياه عليه صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة التي هي حجة الوداع، وجعل يشكوه له صلى الله عليه وسلم لأنه حصل له منه جفوة، فجعل يتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا بريدة لا تقع في علي، فإن عليا مني وأنا منه، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فقال ذلك لبريدة خاصة. ثم لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى غدير خم أحب أن يقول ذلك للصحابة عموما أي فكما عليهم أن يحبوني فكذلك ينبغي أن يحبوا عليا. وعلى تسليم أن المراد أنه أولى بالإمامة، فالمراد في المآل لا في الحال قظعا، وإلا لكان هو الإمام مع وجوده صلى الله عليه وسلم، والمآل لم يعين له وقت، فمن أن أنه عقب وفاته صلى الله عليه وسلم، وجاز أن يكون بعد أن يعقد له البيعة ويصير خليفة، ويدل لذلك أنه كرم الله وجهه لم يحتج بذلك إلا بعد أن آلت إليه الخلافة ردا على من نازعه فيها كما تقدم. فسكوته كرم الله وجهه عن الاحتجاج بذلك إلى أيام خلافته، قاض على كل من له أدنى عقل فضلا عن فهم بأنه لا نص في ذلك على إمامته عقب وفاته صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: أنه تواتر النقل عن علي كرم الله وجهه، أنه صلى الله عليه وسلم لم ينص عند موته على خلافة أحد لا هو ولا غيره، فقد قيل له كرم الله وجهه كما يأتي: حدثنا فأنت الموثوق به والمأمون على ما سمعت، فقال: لا والله لئن كنت أول من صدّق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك ولو لم أجد إلا بردتي هذه. وفي رواية: ما تركت أخا نبي تيم وعدي يعني أبا بكر وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم ولقاتلتهما بيدي.
رابعها: أن لو كان هذا الحديث نصا على إمامته لم يسعه الامتناع من متابعة عمه العباس رضي الله تعالى عنه لما قال له العباس: اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا علمنا. وأيضا لو كان الحديث نصا لكان لما قالت الأنصار منا أمير ومنكم أمير، واحتج عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه بأن الأئمة من قريش قالوا له: قد ورد النص بخلافة علي كرم الله وجهه، ولم يكن بين ذكر الحديث في غدير خم وبين ذلك إلا نحو شهرين، فاحتمال النسيان على عليّ والعباس وعلى جميع الأنصار رضي الله تعالى عنهم من أبعد البعيد. على أنه ورد أنه لما قيل لعلي إن الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير قال كرم الله وجهه: هلا ذكرت الأنصار قول النبي صلى الله عليه وسلم «يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم» فكيف يكون الأمر فيهم مع الوصاية بهم، ودعوى الرافضة والشيعة أن الصحابة رضوان الله عليهم علموا هذا النص ولم يعلموا به عنادا غير مسموعة إذا هي ظاهرة البطلان، لأن في ذلك تضليلا لجميع الصحابة وهم رضي الله تعالى عنهم معصومون عن أن يجتمعوا على ضلالة.
ومن العجب العجيب أن بعض غلاة الرافضة يقول بتكفير الصحابة بسبب ذلك، وأن عليا كرم الله وجهه كفر لأنه أعان الكفار على كفرهم.
وأما دعواهم أن عليا إنما ترك النزاع في أمر الخلافة تقية وامتثالا لوصيته صلى الله عليه وسلم أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفا فكذب وافتراء، إذ كيف يجعله إماما على الأمة ويمنعه أن يسل سيفا على من امتنع من قبول الحق؟ وكيف منع سل السيف على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم مع قلة أتباعهم وكثرة أتباعه، وسله على معاوية رضي الله تعالى عنه مع وجود من معه من الألوف، ولما ساغ له أن يقول كما تقدم، لو كان عندي من النبي صلى الله عليه وسلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني تيم وعدي ينوبان على منبره صلى الله عليه وسلم، ولما بين سبب تركه لمقاتلة أبي بكر وعمر وعثمان ومقاتلته لمعاوية بأن أبا بكر اختاره صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعناه فولاها عمر فبايعناه وأعطيت ميثاقي لعثمان، فلما مضوا بايعني أهل الحرمين وأهل المصرين البصرة والكوفة، فوثب فيها من ليس مثلي ولا قرابته كقرابيت ولا علمه كعلمي ولا سابقته كسابقتي وكنت أحق بها منه: يعني معاوية رضي الله تعالى عنه كما سيأتي. ومن ثم لما قيل للحسن المثنى ابن الحسن السبط إن خبر «من كنت مولاه فعلي مولاه» نص في إمامة علي كرم الله وجهه قال: أما والله لو يعني النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان لأفصح لهم ولقال لهم: يا أيها الناس هذا وال بعدي والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا، وو الله لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليه في ذلك ثم تركه كان أعظم خطيئة.
وقد سئل الإمام النووي رحمه الله: هل يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه» أنه كرم الله وجهه أولى بالإمامة من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. فأجاب إنه لا يدل على ذلك، بل معنى ذلك عند العلماء الذين هم أهل هذا الشان وعليهم الاعتماد في تحقيق ذلك «من كنت ناصره ومواليه ومحبه ومصافيه فعليّ كذلك» .
وقد قيل في سبب ذلك أن أسامة بن زيد رضي الله تعالى قال لعلي كرم الله وجهه: لست مولاي، وإنما مولاي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول صلى الله عليه وسلم ذلك. ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة بات بها، أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان كره أن يدخل المدينة ليلا.
ولما رأى المدينة كبر ثلاث مرات وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، ثم دخل عليه الصلاة والسلام المدينة نهارا من طريق المعرّس بفتح الراء المشددة.