جهود الإمام الذهبي في تدوين السيرة النبوية

الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

توطئة:
شهدت المئة الثامنة بروز أعلام في الثقافة العربية الإسلامية كان من بينهم مؤرخون عنوا بالسيرة النبوية الشريفة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي (ت 705 هـ)، وابن سيد الناس اليعمري (ت 734 هـ) في كتابه النافع «عيون الأثر »، والقطب عبد الكريم الحلبي (ت 735 هـ)، وعلاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الخازن (ت 741 هـ)، وجمال الدين المزي (ت 742 هـ) في مقدمة «تهذيب الكمال» وشمس الدين الذهبي (ت 748 هـ)، وعلاء الدين علي بن عثمان التركماني الحنفي (ت 750 هـ)، وابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) في كتابه الشهير «زاد المعاد»، وعلاء الدين مغلطاي بن قليج (ت 762 هـ)، ومحمد بن علي المعروف بابن النقاش (ت 763 هـ)، وعماد الدين ابن كثير (ت 774 هـ) في مقدمة كتابه «البداية والنهاية»، وأفردها، وغيرهم(1).
ولد مؤرخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي بمدينة دمشق في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ، وعاش طفولته بين أكناف عائلة علمية متدينة اعتنت به ووجهته نحو طلب العلم منذ مدة مبكرة من حياته، فعني بالقراءات وجوّدها، وسمع من شيوخ بلده ورحل إلى البلدان في طلب الأسانيد العالية ولقاء المشايخ المشهورين، واتصل اتصالاً وثيقًا بثلاثة من شيوخ ذلك العصر هم: جمال الدين المزي (654 – 742 هـ)، وتقي الدين ابن تيمية(661 – 728 هـ)، وعلم الدين البرزالي (665 – 739 هـ)، وترافق معهم طيلة حياتهم، وكان الذهبي أصغرهم سناًّ، وتأثر بهم تأثرًا بيناً.
وعرف الذهبي بنشاطه العلمي المتميز الذي اتخذ وجهتين رئيستين: أولاهما مؤلفاته الكثيرة التي أربت على الثلاث مئة مؤلف بين كبير وصغير، وثانيتهما تدريسه الحديث في أمهات دور الحديث بدمشق.
ومع أن الذهبي كان مشاركًا في كثير من العلوم إلا أن منزلته العلمية وبراعته ظهرتا في أحسن الوجوه إشراقًا وأكثرها تألقًا عند دراستنا له محدثًا ومؤرخًا وناقدًا، فعلى الرغم من أنه عاش في بيئة غلب عليها الجمود والنقل والتلخيص، فإنه قد تخلص من كثير من ذلك بفضل سعة دراساته وفطنته. وكان مفهوم التاريخ عند الذهبي يتصل اتصالاً وثيقًا بالحديث النبوي وعلومه، وقد ظهر ذلك في عنايته بكتب التراجم والإفادة من الحديث في البناء التاريخي، كما سيأتي بيانه مفصلا . وتوفي الذهبي سنة 748 هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والإنجازات العلمية المتميزة(2).

السيرة النبوية:

كتب الذهبي «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» في نشرته الأخيرة في واحد وعشرين مجلدًا، خصص المجلد الأول للسنوات العشر التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتضمنت المئة والسبعون ورقة الأولى من المجلد الثاني بخطه الترجمة النبوية التي تناول فيها: نسبه الشريف، ومولده، وأسماءه، وإرضاعه، وشق صدره، ووفاة والده وكفالة جده وعمه وكل ما يتصل به قبل البعثة، ثم مبعثه، وإسلام الرعيل الأول من أصحابه، وما لاقاه في سبيل الدعوة إلى حين هجرته، ثم تناول صفته وشمائله وزهده، وملابسه، وسلاحه، وكل ما يتصل به، ثم مرضه ووفاته. أما المجلد الأول فقد نظمه على السنين، يذكر في كل سنة ما جرى فيها من أحداث على طريقة كتب الحوليات.
وقد حَدّد الذهبي نطاق «السيرة النبوية » ومكوناتها في إشارة بخطه في حاشية الورقة (98) من المجلد الثاني من تاريخ الإسلام – وهو المجلد الذي يبدأ بالترجمة النبوية – وعند بداية الفصل الخاص بمعجزاته صلى الله عليه وسلم، بقوله: «من شاء من الإخوان أن يفرد الترجمة النبوية،فليكتب
إذا وصل إلى هنا جميع ما تقدم من كتابنا في السفر الأول بلا بُد، فليفعل، فإن ذلك حسن، ثم يكتب بعد ذلك (فصل في معجزاته) إلى آخر الترجمة النبوية».
ويتبين من النص السابق أنَّ «السيرة النبوية» التي أرادها الذهبي تشملُ جميع المجلد الأول -وهو المجلد الخاص بالمغازي- ثم جميع الترجمة النبوية وهي المئة والسبعون ورقة من المجلد الثاني بخطه. أما ترتيبها فتحدده الملاحظة التي دَوّنها المؤلف بخطه في حاشية الورقة (98) من المجلد الثاني المشار إليها قبل قليل، وهذا يعني أن «السيرة النبوية» تبدأ من أول الترجمة النبوية (وهي أول المجلد الثاني)، فإذا ما وصلنا إلى الورقة (98) وهي آخر الهجرة إلى المدينة، عُدنا إلى المجلد الأول الخاص بالمغازي – وفيه العشر سنين التي لبث فيها بالمدينة إلى حين وفاته صلى الله عليه وسلم فدوناه بأجمعه، ثم أتممنا «السيرة » بالأوراق المتبقية من المجلد الثاني والتي تبدأ بمعجزاته صلى الله عليه وسلم وإلى نهاية الترجمة النبوية، وهي الأوراق 98 – 170، وعلى هذا الأساس حققتُ «السيرة النبوية» للذهبي مستخرجة من تاريخ الإسلام في مجلدين ونشرتها مؤسسة الرسالة في بيروت ملحقة بسير أعلام النبلاء.
وهذا الصنيع كله جاء تلبية لرغبة المؤلف الذهبي كما بينا قبل قليل، كما أنه يرحمه الله حينما ألف كتابه «سير أعلام النبلاء» جعله في أربعة عشر مجلدًا، أفرد المجلدين الأول والثاني منه للسيرة النبوية وسير الخلفاء الراشدين، ولكنه لم يكتبهما، وإنما أحال على كتابه الوسيع «تاريخ الإسلام» ليؤخذا منه ويُضما إلى «السير»، فقد جاء في طرة المجلد الثالث من نسخة أحمد الثالث الأولى تعليق بخطه كُتب على الجهة اليسرى نصه: «في المجلد الأول والثاني سير النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة تكتب من تاريخ الإسلام».
ومما يلاحظ أن شمس الدين السخاوي ذكر «السيرة النبوية» التي في «تاريخ الإسلام»، ثم ذكر بعد ذلك جماعة ممن أفردوا السيرة في كتاب مستقل وذكر الذهبي من بينهم، وذكر أنها في مجلد(3)، وهذا النص يقتضي أن يكون الذهبي قد ألف كتابًا مستقلا في السيرة النبوية، وهو أمر مستبعد، فالسيرة هي تلك التي كتبها في أول «تاريخ الإسلام» ولا نعرف غيرها.

وصف النسخ الخطية المعتمدة في تحقيق السيرة النبوية:

  1. مجلد مكتبة أيا صوفيا رقم (3005).
    وهو المجلد الثاني من نسخة المؤلف التي بخطه، والتي كانت موقوفة على المدرسة المحمودية بالقاهرة، ثم استولى عليها الأتراك عند استيلائهم على البلاد المصرية فأودعوها خزانة جامع أيا صوفيا بإستانبول (الملحقة اليوم بالمكتبة السليمانية). وقد جاء في طرة النسخة:
    «المجلد الثاني(4) من تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام وأوله الترجمة النبوية جمع كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان الفارقي ابن الذهبي». وعلى طرة النسخة أيضًا سماع لصلاح الدين الصفدي المتوفى سنة (764 هـ) على المؤلف وقد كتب بخطه المتقن المليح: «قرأت هذه المجلدة، وهي الجزء الثاني من تاريخ الإسلام على كاتبه ومؤلفه شيخنا الإمام الحافظ العلامة قدوة المؤرخين حجة المحدثين شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي – أدام الله الإمتاع بفوائده – في ثمانية عشر ميعادًا آخرها تاسع عشر ربيع الأول سنة (735 هـ) وسمعها كاملة فتاي طيدمر بن عبد الله الرومي ومن أول الترجمة النبوية إلى آخر ترجمة عيينة بن حصن. وسمع بعض ذلك في مياعيد مفرقة جماعة ذكرتهم في البلاغات على الهامش(5) وأجازنا رواية ذلك عنه أجمع. وكتب خليل بن أيبك بن عبد الله الشافعي الصفدي حامدًا ومصليًا».
    وعلى الطرة أيضًا نص وقفية الكتاب على المدرسة المحمودية بالقاهرة، وهو: «الحمد لله حق حمده. وقف وحَبَّس وسَبَّل المقر الأشرف العالي الجمالي محمود استدار العالية الملكي الظاهري -أعز الله تعالى أنصاره- جميع هذا المجلد وما قبله وما بعده من المجلدات من تاريخ الإسلام للذهبي بخطه، وعدة ذلك أحد وعشرون مجلدًا، وقفًا شرعيًا على طلبة العلم الشريف ينتفعون به على الوجه الشرعي. وجعل مقر ذلك بالخزانة السعيدة المرصدة لذلك بمدرسته التي أنشأها بخط الموازنيين بالقاهرة(6) المحروسة، وشرط الواقف المشار إليه  أن لا يخرج ذلك ولا شيء منه من المدرسة المذكورة برهن ولا بغيره. وجعل النظر في ذلك لنفسه أيام حياته ثم من بعده لمن يؤول إليه النظر على المدرسة المذكورة على ما شرح في وقفها.
    وجعل لنفسه أن يزيد في شرط ذلك وينقص ما يراه دون غيره من النظُّّار، جعل ذلك لنفسه في وقف المدرسة المذكورة، فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، إن الله سميع
    عليم، بتاريخ الخامس والعشرين من شعبان المكرم سنة سبع وتسعين وسبع مئة »، ثم شهادة اثنين بذلك.
    وفي أعلى الطرة خطوط جماعة من العلماء ممن نسخوا تاريخ الإسلام عن هذه النسخة أو اختصروه أو طالعوه واستفادوا منه وهي:
    «فرغه نسخًا وقراءة عبد الرحمن بن محمد ابن البعلي داعيًا لجامعه».
    و «طالعه وانتقاه وما قبله إبراهيم بن يونس البعلبكي الشافعي».
    و «أنهاه تعليقًا البدر البشتكي».
    و «طالعه يوسف الكرماني».
    و «فَرَّغ تراجمه ترتيبًا محمد ابن السخاوي، خُتم له بخير».
    يبدأ هذا المجلد، كما مر، بالترجمة النبوية التي تستغرق (170) ورقة منه وينتهي بنهاية سنة (30 هـ) ويقع في (241) ورقة.
    وقد عولنا عليه في جميع ما تضمنه من السيرة نظرًا لنفاسته ودقته بسبب كونه بخط المؤلف.
  2. المجلد الأول من نسخة بدر الدين البشتكي:
    يُعد بدر الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الدمشقي الأصل البشتكي الظاهري المتوفى سنة (830 هـ) أفضل من تصدى لتاريخ الإسلام بالنسَّْخ، إذ نسخ عن نسخة المؤلف التي بخطه نسختين كل واحدة منهما في واحد وعشرين مجلدًا ضخما، فكان يتابع الذهبي في تقسيمه للمجلدات، فنسخ كل مجلد بمجلد.
    وقد اعترف العلماء، ومنهم الحافظان ابن حجر والسخاوي، بصحة نقله وضبطه، قال السخاوي في وفيات سنة (830 هـ) من «وجيز الكلام » : «العلامة أحد أئمة الأدب ونادرة الوقت في سرعة الكتابة مع الصحة»(7).
    وكانت إحدى هاتين النسختين محفوظة في المدرسة الباسطية بالخرنفش من القاهرة، كما هو ثابت في طرة نسخة فيض الله، وكما نص عليه السخاوي في «الإعلان »(8)، ثم نُقل بعضها إلى دار الكتب المصرية حيث ما زالت هناك، وصارت هذه النسخة أصلا يُنتسخ منه، كما هو ظاهر في نص بعض نُسّاخ مجلدات «تاريخ الإسلام » المحفوظة في المكتبة الأحمدية بحلب، وأوقاف بغداد، والمكتبة الوطنية في باريس، ومكتبة البودليان بأكسفورد، وغيرها.
    والمجلد الأول الذي اعتمدتُه هو من نسخة أخرى، غير النسخة التي كانت محفوظة بالمدرسة الباسطية، وهو اليوم في مكتبة فيض الله بإستانبول رقم (1480)، والظاهر أن الأتراك جلبوه إليها من القاهرة بعد استيلائهم عليها ونقل كثير من الأوقاف إلى خزائن الكتب في إستانبول.
    ويتضمن هذا المجلد المغازي، أو تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة (1- 11 هـ)، ويتكون من (178) ورقة، لكل ورقة وجهان، مسطرة الوجه (23) سطرًا، في كل سطر قرابة(15) كلمة، نُسخ عن المجلد الأول من نسخة المؤلف، قال البشتكي في آخره: «آخر المجلد الأول من كتاب تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان ابن الذهبي، ومن خطه نقلته. وأنهاه تعليقًا الفقير إلى عفو الله وغفرانه ولطفه محمد بن إبراهيم بن محمد البشتكي، لطف الله به بمَنهِّ وكرمه، والحمد لله أولا وآخرًا، وباطناً وظاهرًا، اللهم صَلِّ على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، والطُفْ بمن كُتِبَ من أجله في نفسه وولده وأعنه وانفع به يا رب العالمين، وحسبي الله ونعم الوكيل».
    ويمتاز خط البشتكي بالدقة، وتظهر عليه آثار السرعة، وهو في غاية الجودة لمن يتعود قراءته، أما نقله فمتقن جدًا إذ تُعد نسخته أفضل نسخة بعد نسخة المؤلف.
    وقد كتب عنوان المجلد في طرة الكتاب: «الجزء الأول من تاريخ الإسلام للذهبي»، ثم كتب أحدهم إلى جنبه: «بخط البدر البشتكي»، ثم كتب تحته أحد الجُهلاء: «تأليف الإمام العالم الكامل الحافظ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الحصري (كذا) المتوفى سنة ست وأربعين وسبع مئة (كذا) رحمه الله.
    وكتب أحد الفُضلاء الفُهماء تعليقًا في أعلى الورقة الداخلية التي تسبق الورقة الأولى ما نصه: «هذا المجلد بخط البدر البشتكي، وفي المدرسة الباسطية نسخة أخرى مخرومة، فلما وجدتُ هذا المجلد في الشام ظننت أنه من نسخة الباسطية، فصحبته معي إلى القاهرة لأضعه في خزانة المدرسة المذكورة… والأجزاء التي فيها، فوجدت في تلك الأجزاء المجلد الأول (فتبين أن) هذا المجلد ليس من نسخة الباسطية بل من نسخة أخرى».
  3. المجلد الأول من نسخة أخرى بخط البدر البشتكي:
    وهو المجلد الأول من نسخة البدر البشتكي التي كانت بالمدرسة الباسطية بالخرنفش من القاهرة، وهو اليوم في المكتبة الوطنية بتونس برقم (14239)، وهو مخروم الأول حيث يبدأ في أثناء الكلام على وقعة بدر، ويقع في(151) ورقة ذات وجهين، ومسطرته مثل المجلد السابق. والظاهر أن هذا الخرم قديم حيث أشار إليه أحدهم في طرة المجلد الأول الموصوف أعلاه حينما قال: «وفي المدرسة الباسطية نسخة أخرى مخرومة».
    وجاء في آخره: «آخر المجلد الأول من تاريخ الإسلام علقه من خط مؤلفه الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي الفقير إلى عفو الله تعالى محمد بن إبراهيم بن محمد البشتكي، غفر الله ذنوبه وستر عيوبه بمنه وكرمه».
  4. المجلد الأول من النسخة المحفوظة في مكتبة الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود الخاصة بالرياض.
    يتناول هذا المجلد المدة من(1- 11 هـ) مثل المجلدين السابقين، ولكنه يزيد على المجلدين السابقين بأنه تضمن قسما من الترجمة النبوية حتى نهاية خبر وفاة خديجة رضي الله عنها.
    تقع هذه النسخة في (200) ورقة، مسطرتها (27) سطرًا، في كل سطر (15) كلمة تقريبًا، وقد انخرم قدر ورقة من أولها، وفيها بعض مقدمة الذهبي لكتابه، حيث يبدأ هذا المجلد في أثناء كلامه على المصادر التي أفاد منها في تأليف كتابه وهو قوله: «للإمام أحمد وتاريخ المفضل بن غسان الغلابي… ». كما وقع فيها خرم عند الورقة (27) من ترقيمي بسبب أن الناسخ وجد الأمر كذلك في الأصل الذي انتسخ منه، ويبدأ من أواخر الكلام على غزوة الخندق وينتهي في أثناء الكلام على غزة أحد، وهو يساوي ص 92 – 114 من المجلد الأول من طبعتنا.
    كتبت هذه النسخة سنة 1213 هـ وجاء في آخرها: «نجز الجزء الأول من تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام من تأليف الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، والله المحمود على إتمامه وكماله، ويتلوه الجزء الثاني المبدوء بقصة الإسراء وذلك في صبح يوم الاثنين رابع عشر ربيع الأول عام ألف ومئتين وثلاثة عشر أحسن الله ختامه، والمرجو ممن اطلع على هفوة صغيرة أو كبيرة أن يصلحها، لأن الأصل الذي نقلته منه كثير التحريف، والله أسأل أن يهدينا لإصابة الصواب وأن يوفقنا لصالح الأعمال بمنه وكرمه، آمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم».
    وقد رمزنا له بالحرف «ع».
  5. مجلد مكتبة السلطان أحمد الثالث بإستانبول رقم 2917 / 1(1- 11 هـ):
    وهو المجلد الأول من نسخة تتكون من ثمانية عشر مجلدًا كانت في ملك محمد بن أحمد بن إينال العلائي الدوادار الحنفي من أهل القرن التاسع(9)، ويتكون من (280) ورقة، مسطرتها (25) سطرًا في كل سطر (10 – 11) كلمة، وفيها جميع المغازي. وخط النسخة قليل الإعجام صعب القراءة على غير المختصين لكنه دقيق ومتقن.
  6. المجلد المحفوظ في خزانة كتب كوبرلي بإستانبول رقم (1015).
    يتكون هذا المجلد من (307) أوراق، مسطرتها (29) سطرًا وفيه بعض الخروم.
    تبدأ النسخة من أول الكتاب إلى آخر الطبقة الرابعة، وآخر ما فيه ترجمة أبي رافع القبطي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم(10)، وتنتهي المغازي في ظهر الورقة (119)، ووقع فيها بعض الخروم، ومنها خرم قدر ورقتين أعاد نسخه أحدهم فأكمل النسخة، وهي من منتسخات القرن التاسع الهجري كما يدل على ذلك الورق وبعض النصوص.
    وهذه النسخة هي التي استفاد منها سبط ابن حجر المتوفى سنة 899 هـ في كتابه «رونق الألفاظ» وكتب بخطه على كراسة منها: «مررت على هذه الكراسة وأصلحتها وقابلتها على نسخة بخط البدر البشتكي فصحت». وفي آخر هذا المجلد خط ابن الملا بتلخيص «تاريخ الإسلام» من هذه النسخة ونصه: «مررت على هذا المجلد وانتخبته من أوله إلى آخره، وكان الفراغ من انتخابه في سابع عشر المحرم سنة أربع وثمانين وتسع مئة؛ قال ذلك وكتبه أحمد ابن الملا محمد الشافعي عفا الله عنهما».
    وفي آخرها أيضًا خط ابن العمادي ونصه: «الحمد لله، طالعت هذه النسخة الشريفة، وسرحت طرق الطرف في روضتها الوريفة واجتنيت ثمر فوائدها واجتليت غرر فرائدها في ربيع الأول سنة 1033 . كتبه الفقير عبد الرحمن العمادي الحنفي، عُفي عنه».
    وقد رمزنا له بالحرف «ك».
  7. مجلد كيمبرج رقم (2926).
    يقع هذا المجلد في (238) ورقة، مسطرتها (29) سطرًا، وتنتهي المغازي فيه عند الورقة (131) ثم يستمر إلى آخر الترجمة النبوية، وبذلك شمل المجلد الأول من نسخة المؤلف والقسم الأكبر من المجلد الثاني.
    كتب هذا المجلد حسن بن علي بن محمد الزركشي وانتهي منه يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول سنة (845 هـ)، وقد وقع فيه بعض الخروم.
    ونظرًا لنفاسة نسخة البشتكي فقد كان المعوّل عليها في تحقيق القسم الخاص بالمغازي لا سيما وقد وقعت لنا منها نسختان وإن كانت الثانية فيها خرم.
    موارده:
    اعتاد كثير من كتاب السيرة النبوية قبل الذهبي اعتماد المؤلفات الخاصة بالمغازي أو السيرة مصدرًا أساسيًا لمؤلفاتهم، قلما يحيدون عنها، وفي مقدمتها سيرة ابن إسحاق، إلا أن الذهبي وظف معرفته الواسعة بالحديث في الإفادة منها باعتبارها مصادر أساسية تؤرخ الحقبة النبوية، فكان يعتمدها إلى جانب معرفته الواسعة بالمؤلفات التي عُنيت بالمغازي والسيرة.
    ومن هنا وجدناه يفتتح كتابة «تاريخ الإسلام » بالنقل من صحيح البخاري حيث ساق حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة في الهجرة ووصول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة في ربيع الأول.
    وقد أفاده هذا التنوع في الموارد في القدرة على بناء سيرة تستفيد من جميع الموارد المتاحة، ومنها الكتب الخاصة بالمغازي والسيرة، وفي طليعتها سيرة ابن إسحاق برواية البكائي(11)، وهو من القلائل الذين عنوا برواية يونس بن بكير لسيرة ابن إسحاق فأكثر النقل منها(12).
    ولم يترك من كتب المغازي والسير المعروفة إلا القليل النادر، فكان كثير العناية بالنقل منها.
    ومع أنَّ علماء الحديث قد تركوا محمد بن عمر الواقدي (ت 207 هـ) حيث تركه الإمام أحمد والبخاري وعبد الله بن نمير وعبد الله بن المبارك، ومسلم وغيرهم(13)، فإنه أكثر النقل من مغازيه بحيث قلما يخلو مبحث من مباحث السيرة إلا وفيه النقل عنه لمعرفته
    أنَّ مغازيه صحيحة في الجملة، وقد ذكر في موضع آخر أن الناس بحاجة إليه في المغازي والتاريخ(14).
    ومن ذلك عنايته بالنقل عن هشام بن محمد بن السائب ابن الكلبي في الأنساب مع شدة كلام المحدثين فيه
    (15)، لعلمه أن أحدًا لا يبلغ منزلته في معرفة الأنساب، ولذلك صَدّر ترجمته في «سير أعلام النبلاء » بقوله: «العلامة الأخباري النسّابة الأوحد أبو المنذر هشام ابن الأخباري الباهر محمد بن السائب بن بشر الكلبي الكوفي الشيعي، أحد المتروكين، كأبيه »(16).
    لقد امتازت موارد الذهبي في السيرة بالتنوع، فاعتمد كتب المغازي والسيرة، من مثل مغازي عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة، والزهري، وابن عائذ الكلبي، والوليد بن مسلم، وأبان بن عثمان وغيرهم من المتأخرين أمثال ابن مندة، وابن فارس، وشيخه الدمياطي ورفيقه ابن سيد الناس اليعمري، بل بلغ الأمر به أن يعتني بالمؤلفات الخاصة في جزئية من جزئيات السيرة، من ذلك أنه لما جاء إلى إحصاء أسماء من شهد بدرًا من المسلمين قال: «جمعها الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد في جزء كبير، فذكر من أجمع عليه ومن اختلف فيه من
    البدريين، ورتبهم على حروف المعجم فبلغ عددهم ثلاث مئة وبضعة وثلاثين رجلا، وإنما وقعت هذه الزيادة في عددهم من جهة الاختلاف في بعضهم»(17).
    أما المصنفات الحديثية فقد وظفها توظيفًا تاريخيًا بارعًا واستخلص منها وقائع، بل كان جل اعتماده عليها، لا سيما صحيح البخاري وصحيح مسلم، وسنن أبي داود وابن ماجة
    والنسائي وجامع الترمذي، فضلا عن مصنفي عبد الرزاق بن همام الصنعاني وأبي بكر بن أبي شيبة، ومسانيد الطيالسي، وعبد بن حميد، والإمام أحمد، ومعاجم الطبراني، وكتب دلائل
    النبوة ولا سيما «دلائل النبوة» للإمام البيهقي الذي استوعب الكثير من مادته.
    وكان -كعادته دائما – يبين حال الروايات صحة وسقما ، كلما اقتضى الحال ذلك، لا يمنعه من ذلك منزلة راوي الحديث أو الخبر، فعلى الرغم من قول الإمام مالك وغيره بأن مغازي موسى بن عقبة من أصح المغازي، فإن ذلك لم يمنعه من انتقاد بعض رواياته، فمن ذلك مثلا  تعقيبه على رواية موسى بن عقبة عن الزهري: «بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، وكان بين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة»(18) ،قال: «كذا قال، وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وهم لا يشك فيه أحد من علمائنا أنَّ
    رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل»(19).
    وانتقد رواية خليفة بن خياط المعروف بشباب العصفري، وهو صدوق(20)، فقد أخذ عليه قوله: «حدثنا يحيى من محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، قال: سمعت قُباث بن أشيم يقول: وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا(21) أعقله، وولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل»، فقال: «يحيى هو أبو زكير وشيخه متروك الحديث »(22).
    على أنه مثل غير من العلماء ربما يشتط أحيانًا فيصحح أسانيد لا تصح من نحو قوله مثلا عن رواية إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس: «هذا إسناد صحيح »(23) مع أنَّ سماكًا لا يمكن أن يبلغ مرتبة التوثيق، فهو في أحسن أحواله «صدوق»(24)، فضلا عن أن روايته عن عكرمة خاصة مضطربة، قال يعقوب بن شيبة: «قلت لعلي ابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة، سفيان وشعبة يجعلونها عن عكرمة، وغيرهما يقول: عن ابن عباس، إسرائيل وأبو الأحوص»(25).

النقد:

كان الإمام الذهبي يرحمه الله من المعنيين بالنقد كل العناية بحيث أصبح يحتل مكانًا بارزًا في كتبه، بل ألف الكتب الخاصة به، لذلك وجدناه عظيم العناية به في السيرة النبوية، مارسه في كل أقسامها وتنوع موارده فيها وعده جزءًا أساسيًا من منهجه في كتابة السيرة.
وانطلق الذهبي في هذه العناية وذاك الاهتمام من تكوينه الفكري المتصل برواية الحديث النبوي الشريف وروايته ودرايته الذي يؤكد ضرورة نقد الأسانيد والمتون، فيحكم على أسانيد الروايات مثلا بالصحة(26)، أو الحسن(27)، أو الغرابة(28)، أو الضعف(29)، وربما أشار فيما إذا كان الحديث مما اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم(30)،أو يكون منقطعًا(31)، أو مرسلا(32)، ونحو ذلك.
أما نقد المتن فالإمام الذهبي من البارعين في هذا المضمار، حيث يعني بإيراد الأدلة التي تثبت دعواه، فرد العديد من الروايات بناءً على ما تحصّل عنده من نقد متونها، وهي ظاهرة واضحة في ثقافة الذهبي وفكره النقدي، وفيما يأتي مثال له نظائر في عنايته بالسيرة النبوية الشريفة:
قال قُرَاد أبو نوح: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه محمد صلى الله عليه وسلم وأشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب نزلوا فخرج إليهم، وكان قبل ذلك لا يخرج إليهم، فجعل يتخلَّلهُم وهم يُحلُّون رِحالهم، حتى جاء فأخذ بيده صلى الله عليه وسلم فقال: هذا سيّد العالمين، هذا رسول ربِّ العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: وما عِلْمُك بهذا؟ قال: إنّكم حين أشرفتم من العَقَبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ ساجدًا، ولا يسجدون إلا لنبيّ، وإني لأعرِفُه بخاتم النُّبوَّة، أسفل غرضوف(33) كَتفه مثل التُّفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعامًا، فلما أتاهم به كان صلى الله عليه وسلم في رِعْيَة الإبل، قال: فأرسلوا إليه، فأقبل وعليه غَمامة تُظِلُّه، فلما دنا من القوم وجدَهم قد سبقوه – يعني إلى فَيْء شجرةٍ – فلما جلس مال فَيْء الشجرة عليه، فقال: انظروا فَيْء الشجرة مالَ عليه. قال: فبينا هو قائمٌ عليه يُناشِدُهم أنْ لا يذهبوا به إلى الروم، فإنّ الروم لو رأوْه عرفُوه بصفته فقتلوه، فالتفت فإذا بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم الراهب، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أنّ هذا النبيَّ خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا قد بُعِث إليه ناس، وإنّا أخبرنا فبعُِثنْا إلى طريقك هذا، فقال لهم: هل خلَفتم خلفَكم أحدًا هو خير منكم؟ قالوا: لا. إنما أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيهَ، هل يستطيع أحدٌ من الناّس ردَّه؟ قالوا: لا. قال: فتابَعُوه وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال:
أنشدكُم بالله أيكم وَليِهُّ؟ قال أبو طالب: أنا، فلم يزل يناشده حتى ردَّه أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا، وزوّده الراهب من الكَعْك والزَّيت(34).
تفرّد به قُرَاد، واسمه عبد الرحمن بن غزوان، ثقة، احتجّ به البخاري والنسائي، ورواه الناس عن قُرَاد، وحسَّنه الترمذي(35). وهو حديث مُنكر جدًا، وأين كان أبو بكر؟ كان ابن عشر سنين، فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث، ولم يكن وُلِد بعد، وأيضًا، فإذا كان عليه غمامة تُظلُّه كيف يُتصوَّر أن يميل فَيْء الشجرة؟ لأن ظلّ الغمامة يعدم فَيْء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَّر أبا طالب قطّ بقول الراهب، ولا تذاكَرَتْهُ قريش، ولا حَكَته أولئك الأشياخ، مع توفُّر هَممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك، فلو وقع لاشتهر بينهم أيَّما اشتهار، ولَبَقي عنده صلى الله عليه وسلم حسٌّ من النُّبوة، ولما أنكر مجيءَ الوحي إليه، أولا بغار حِراء وأتى خديجة خائفًا على عقله، ولمَا ذهب إلى شواهق الجبال ليرميَ نفسَه صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فلو أثَّر هذا الخوفُ في أبي طالب وردَّه، كيف كانت تطيبُ نفسُه أن يمكِّنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة(36)؟
ثم ذكر أنَّ ابن عائذ روى معناه في مغازيه دون قوله: «وبعث معه أبو بكر بلالا » إلى آخره، فقال: حدثنا الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو داود سليمان بن موسى، فذكره بمعناه. وساق بعده رواية ابن إسحاق في السيرة لقصة بحيرا الراهب(37).
وكان الذهبي غالبًا ما يعبر عن مثل هذه الروايات التي في متونها مخالفة لما هو ثابت بأنها منكرة(38).

fff

dddd