36 هـ
656 م
تفريق علي عماله عَلَى الأمصار

ولما دخلت سنة ست وثلاثين فرق علي عماله، فَمِمَّا كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ، قَالا: بَعَثَ عَلِيٌّ عُمَّالَهُ عَلَى الأَمْصَارِ،  …

فَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعُمَارَةَ بْنَ شِهَابٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَتْ لَهُ هِجْرَةٌ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَقَيْسَ بْنَ سَعْدٍ عَلَى مِصْرَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الشَّامِ، فَأَمَّا سَهْلٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَبُوكَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَمِيرٌ، قَالُوا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: عَلَى الشَّامِ، قَالُوا: إِنْ كَانَ عُثْمَانُ بَعَثَكَ فَحَيَّهَلا بِكَ، وَإِنْ كَانَ بعثك غيره فارجع! قال: او ما سَمِعْتُمْ بِالَّذِي كَانَ؟ قَالُوا: بَلَى، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَإِنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى أَيْلَةَ لَقِيَتْهُ خَيْلٌ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ فَالَّةِ عُثْمَانَ، فَأَنَا أَطْلُبُ مَنْ آوِي إِلَيْهِ وَأَنْتَصِرُ بِهِ، قَالُوا: مَنْ أنت؟ قال: قيس ابن سَعْدٍ، قَالُوا: امْضِ، فَمَضَى حَتَّى دَخَلَ مِصْرَ، فَافْتَرَقَ أَهْلُ مِصْرَ فِرَقًا، فِرْقَةٌ دَخَلَتْ فِي الْجَمَاعَةِ وَكَانُوا مَعَهُ، وَفِرْقَةٌ وَقَفَتْ وَاعْتَزَلَتْ إِلَى خَرِبَتَا وَقَالُوا: إِنْ قُتِلَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ فَنَحْنُ مَعَكُمْ، وَإِلا فَنَحْنُ عَلَى جَدِيلَتِنَا حَتَّى نُحَرِّكَ أَوْ نُصِيبَ حَاجَتَنَا، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: نَحْنُ مَعَ عَلِيٍّ مَا لَمْ يُقِدْ إِخْوَانَنَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَكَتَبَ قَيْسٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ فَسَارَ فَلَمْ يَرُدَّهُ أَحَدٌ عَنْ دُخُولِ الْبَصْرَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي ذَلِكَ لابْنِ عَامِرٍ رَأْيٌ وَلا حَزْمٌ وَلا اسْتِقْلالٌ بِحَرْبٍ وَافْتَرَقَ النَّاسُ بِهَا، فَاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ الْقَوْمَ، وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ، وَفِرْقَةٌ قَالَتْ: نَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَنَصْنَعُ كَمَا صَنَعُوا.
وَأَمَّا عُمَارَةُ فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِزُبَالَةَ لَقِيَهُ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَقَدْ كَانَ حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُ عُثْمَانَ خَرَجَ يَدْعُو إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ وَيَقُولُ: لَهْفِي عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَسْبِقْنِي وَلَمْ أُدْرِكْهُ!

يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذِعُ *** أَكُرُّ فِيهَا وَأَضَعُ

فَخَرَجَ حِينَ رَجَعَ الْقَعْقَاعُ مِنْ إِغَاثَةِ عُثْمَانَ فِيمَنْ أَجَابَهُ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَطَلَعَ عَلَيْهِ عُمَارَةُ قَادِمًا عَلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَإِنَّ الْقَوْمَ لا يُرِيدُونَ بِأَمِيرِهِمْ بَدَلا، وَإِنْ أَبَيْتَ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ فَرَجَعَ عُمَارَةُ وَهُوَ يَقُولُ: احْذَرِ الْخَطَرَ مَا يُمَاسِكُ، الشَّرُّ خَيْرٌ مِنْ شَرٍّ مِنْهُ.
فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْخَبَرِ وَغَلَبَ عَلَى عُمَارَةَ بْنِ شِهَابٍ هَذَا الْمَثَلُ مِنْ لَدُنِ اعْتَاصَتْ عَلَيْهِ الأُمُورُ إِلَى أَنْ مَاتَ وَانْطَلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَجَمَعَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْجِبَايَةِ وَتَرَكَهُ وَخَرَجَ بِذَلِكَ وَهُوَ سَائِرٌ عَلَى حَامِيَتِهِ إِلَى مَكَّةَ فَقَدِمَهَا بِالْمَالِ وَلَمَّا رَجَعَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّامِ وَأَتَتْهُ الأَخْبَارُ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، دَعَا عَلِيٌّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي كُنْتُ أُحَذِّرُكُمْ قَدْ وَقَعَ يَا قَوْمُ، وَإِنَّ الأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ لا يُدْرَكُ إِلا بِإِمَاتَتِهِ، وَإِنَّهَا فِتْنَةٌ كَالنَّارِ، كُلَّمَا سُعِرَتِ ازْدَادَتْ وَاسْتَنَارَتْ فَقَالا لَهُ: فَأْذَنْ لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَإِمَّا أَنْ نُكَابِرَ وَإِمَّا أَنْ تَدَعَنَا، فَقَالَ: سَأُمْسِكُ الأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، فَإِذا لَمْ أَجِدْ بُدًّا فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ.
وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَإِلَى أَبِي مُوسَى وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى بِطَاعَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَبَيْعَتِهِمْ، وَبَيَّنَ الْكَارِهَ مِنْهُمْ لِلَّذِي كَانَ، وَالرَّاضِيَ بِالَّذِي قَدْ كَانَ، وَمَنْ بَيْنِ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا عَلَى الْمُوَاجَهَةِ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
وَكَانَ رَسُولَ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي مُوسَى مَعْبَدٌ الأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ رَسُولَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مُعَاوِيَةَ سَبْرَةُ الْجُهَنِيُّ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَكْتُبْ مُعَاوِيَةُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُجُبْهُ وَرَدَّ رَسُولَهُ، وَجَعَلَ كُلَّمَا تَنَجَّزَ جَوَابَهُ لَمْ يُزِدْ عَلَى قوله:

أدم إدامة حصن أو خدا بِيَدِي *** حَرْبًا ضَرُوسًا تَشُبُّ الْجَزْلَ وَالضَّرَمَا
فِي جَارِكُمْ وَابْنِكُمْ إِذْ كَانَ مَقْتَلَهُ ***شَنْعَاءَ شَيَّبَتِ الأَصْدَاغَ وَاللَّمَمَا
أَعْيَا الْمُسَوَّدُ بِهَا وَالسَّيِّدُونَ فَلَمْ *** يُوجَدْ لَهَا غَيْرُنَا مَوْلًى وَلا حَكَمَا

وَجَعَلَ الْجُهَنِيُّ كُلَّمَا تَنَجَّزَ الْكِتَابَ لَمْ يُزِدْهُ عَلَى هَذِهِ الأَبْيَاتِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الثَّالِثُ مِنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فِي صَفَر، دَعَا مُعَاوِيَةُ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْسٍ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي رَوَاحَةَ يُدْعَى قَبِيصَةَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ طُومَارًا مَخْتُومًا، عُنْوَانُهُ: مِنْ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: إِذَا دَخَلْتَ الْمَدِينَةَ فَاقْبِضْ عَلَى اسفل الطُّومَارِ، ثُمَّ أَوْصَاهُ بِمَا يَقُولُ وَسَرَّحَ رَسُولَ على وخرجا فقد ما الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ لِغُرَّتِهِ، فَلَمَّا دَخَلا الْمَدِينَةَ رَفَعَ الْعَبْسِيُّ الطُّومَارَ كَمَا أَمَرَهُ، وَخَرَجَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مُعَاوِيَةَ مُعْتَرِضٌ، وَمَضَى حَتَّى يَدْخُلَ عَلَى عَلِيٍّ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الطُّومَارَ، فَفَضَّ خَاتَمَهُ فَلَمْ يَجِدْ فِي جَوْفِهِ كِتَابَةً، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: آمِنٌ أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الرُّسُلَ آمِنَةٌ لا تُقْتَلُ، قَالَ: وَرَائِي أَنِّي تَرَكْتُ قَوْمًا لا يَرْضَوْنَ إِلا بِالْقَوَدِ، قَالَ: مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ خَيْطِ نَفْسِكَ، وَتَرَكْتُ سِتِّينَ أَلْفَ شَيْخٍ يَبْكِي تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ وَهُوَ مَنْصُوبٌ لَهُمْ، قَدْ أَلْبَسُوهُ مِنْبَرَ دِمَشْقَ فَقَالَ: مِنِّي يَطْلُبُونَ دَمَ عُثْمَانَ! أَلَسْتُ مَوْتُورًا كَتِرَةِ عُثْمَانَ! اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، نَجَا وَاللَّهِ قَتَلَةُ عُثْمَانَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا أَصَابَهُ، اخْرُجْ، قَالَ: وَأَنَا آمِنٌ؟ قَالَ: وَأَنْتَ آمن فخرج العبسى وصاحت السبئيه قَالُوا: هَذَا الْكَلْبُ، هَذَا وَافِدُ الْكِلابِ، اقْتُلُوهُ! فَنَادَى: يَا آلَ مُضَرَ، يَا آلَ قَيْسٍ، الْخَيْلَ وَالنَّبْلَ، إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ جَلَّ اسْمُهُ ليردنها عليكم اربعه آلاف خصى، فانظروكم الْفُحُولَةُ وَالرِّكَابُ! وَتَعَاوَوْا عَلَيْهِ وَمَنَعْنَهُ مُضَرَ، وَجَعَلُوا يقولون له: اسْكُتْ، فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ، لا يُفْلِحُ هَؤُلاءِ أَبَدًا، فَلَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اسْكُتْ، فَيَقُولُ: لَقَدْ حَلَّ بِهِمْ مَا يَحْذَرُونَ، انتهت والله اعمالهم، وذهبت ريحههم، فو الله مَا أَمْسَوْا حَتَّى عُرِفَ الذُّلُ فِيهِمْ.