15 ق.هـ
607 م
تبشير التوراة به

أنزل الله التوراة على موسى محتوية على الشرائع التي تناسب أهل ذاك الزمن، ونوّه فيها بذكر كثيرٍ من الأنبياء الذين علم الله أنه سيرسلهم، فمما جاء فيها تبشيراً برسولنا الكريم …

خطاباً لسيّدنا موسى عليه السلام: «وسوف أُقيم لهم نبيّاً مثلك من بين إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ويكلمهم بكل شيء آمره به، ومَنْ لم يُطِعْ كلامه الذي يتكلم به باسمي فأنا الذي أنتقم منه، فأما النبي الذي يجترىء عليّ بالكبرياء ويتكلم باسمي بما لم آمره به أو باسم آلهة أخرى فليقتل، وإذا أحببتَ أن تميز بين النبي الصادق والكاذب فهذه علامتك: إنّ ما قاله ذلك النبي باسم الرب ولم يحدث فهو كاذب يريد تعظيم نفسه ولذلك لا تخشاه». ويقول اليهود إن هذه البشارة ليوشعبن نون خليفة موسى عليه السلام، مع أنهم كانوا ينتظرون في مدّة المسيح نبيّاً آخر غير المسيح، فإنهم أرسلوا ليوحنا المعمدان (يحيى) يسألونه عن نفسه فقالوا له: أنت إيليا؟ فقال: لا، فقالوا أنت المسيح؟ فقال: لا، فقالوا أنت النبي؟ فقال: لا، فقالوا ما بالك إذاً تُعَمدُ إذا كنت لست إيليا ولا المسيح ولا النبي؟ فهذه تدلّ على أن التوراة تبشر بإيليا والمسيح ونبي لم يأتِ حتى زمن المسيح، ثم إن التوراة تقول في صفة النبي إنه مثل موسى، وقد نصّت في آخر سفْر التثنية على أنه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثل موسى، وورد في هذه البشارة أن النبي الذي يفتري على الله يُقتل، ويُشْبهُ ذلك في القرآن قوله تعالى في سورة الحاقة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ(44) لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46] ونبيّنا صلى الله عليه وسلم مكث بين أعدائه الألداء من مشركين ويهود ثلاثاً وعشرين سنة يدعوهم فيها إلى الله، ومع ذلك  {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أكان يعجز الله ــــ وهو القادر على كل شيء ــــ أن يعاقب من ينسب إليه ما لم يقله وهو الذي قال في سورة الشورى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24]. وقد أخبرتنا هذه البشارة عن العلامة التي نعرف بها صدق النبي من كذبه وهي الإخبار بما سيأتي، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن أشياء كثيرة فحدثت كما أخبر عنها، ومنها ما لا ينفع معه الحَدْس والتخمين، مالإخبار بأن الروم سيغلبون بعد أم قهرهم الفرس قهراً شديداً حتى كادوا يحتلون القسطنطينية عاصمة مُلكهم، فالإخبار إذاً بأن الروم سَيَرُدون ما فُقد منهم بعد بضع سنين لا يكون إلا من عند الله، ولذلك استغربه جداً بعض المشركين من قريش وراهن على ذلك أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حقق الله الخبر فاستحق الصديق الرهن، وهذا قليل من كثير سيأتيك تفصيله إن شاء الله تعالى.
وروى القاضي عياض في الشفا أن عطاءبن يسار سأل عبد اللهبن عمروبن العاص عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عُمياً، وآذاناً صُماً، وقلوباً غُلْفاً.

وروي مثله عن عبد اللهبن سَلام رضي الله عنه وهو الذي كان رئيس اليهود فلم تُعْمِه الرياسة حتى يترك الدين القويم، وكذلك كعب الأحبار. وفي بعض طرق الحديث: «ولا صَخَّابٍ في الأسواق ولا قوَّال للخنا، أُسدده لكل جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة مقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلِّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأُسمي به بعد النكرة، وأُكثِّر به بعد القلّة، وأُغني به بعد العَيْلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأُؤلِّف به بين قلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أُخرجت للناس». وقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن صفته في التوراة فقال ــــ وهو الصادق الأمين ــــ: عبدي أحمد المختار مولده مكة ومهاجره المدينة ــــ أو قال: طَيْبة ــــ وأمته الحمَّادون الله على كل حال.