جمادي الأول 8 هـ
أيلول 629 م
(بُكَاءُ ابْنِ رَوَاحَةَ مَخَافَةَ النَّارِ وَشِعْرُهُ لِلرَّسُولِ)

فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، …
وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجَهُمْ وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا وَدَّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَنْ وَدَّعَ مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ يَا بْنَ رَوَاحَةَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ مَا بِي حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَذْكُرُ فِيهَا النَّارَ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا} [مريم: 71،] فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدَرِ بَعْدَ الْوُرُودِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمْ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ، وَرَدَّكُمْ إلَيْنَا صَالِحِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وضربة ذَات فرغ تَقْذِفُ الزَّبَدا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يُقَالَ إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي  أَرْشَدَهُ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ إنَّ الْقَوْمَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَدَّعَهُ، ثُمَّ قَالَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَاَلَّذِي نُصِرُوا
إنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بَهْ الْقَدَرُ
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ فِي الْمُرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَاَلَّذِي نُصِرُوا
إنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً فِرَاسَةً خَالَفَتْ فِيكَ الَّذِي نَظَرُوا
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إذَا وَدَّعَهُمْ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
خَلَفَ السَّلَامُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ فِي النَّخْلِ خَيْرَ مُشَيِّعٍ وَخَلِيلِ