17 ق.هـ
606 م
بناء الكعبة وقضية التحكيم

ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ …

وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام – ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادي التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألاَّ يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغي، ولا بيع ربًا، ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومي، فأخذ المعول وقال‏:‏ اللهم لا نريد إلاَّ الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء، فجزءوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها‏،‏ فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بنَّاءٌ رومي اسمه‏:‏ باقوم،.‏ ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود، اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليالٍ أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا‏:‏ هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء، فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه، أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضي به القوم‏.‏

وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوًا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا، سقفوه على ستة أعمدة‏.‏

وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه (15) مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع (1.50) متر من أرضية المطاف‏.‏ والضلع الذي فيه الباب والمقابل له (12) مترًا، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها (0.25) مترًا ومتوسط عرضها (0.30) مترًا وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها‏.‏