شعبان 12 ق.هـ
تموز 610 م
بدء الوحي

لمّا بلغ عليه الصلاة والسلام سن الكمال وهي أربعون سنة أرسله الله للعالمين بشيراً ونذيراً ليُخرجهم من ظُلمات الجهالة إلى نور العلم …

وكان ذلك في أول فبراير سنة 610 من الميلاد كما أوضحه المرحوم محمود باشا الفلكي، تبين بعد دقة البحث أَنَّ ذلك كان في 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة وذلك يوافق يوليو سنة 610. وأول ما بدىء به الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح، وذلك لما جرت به عادة الله في خلقه من التدريج في الأمور كلها حتى تصل إلى درجة الكمال. ومن الصعب جداً على البشر تلقي الوحي من المَلَك لأول مرة، ثم حبّب إليه عليه الصلاة والسلام الخلاء، ليبتعد عن ظُلُمات هذا العالم وينقطع عن الخلق إلى الله فإن في العزلة صفاءَ السريرة. وكان يخلو بغار حِراء فيتعبَّد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشراً، وتارة أكثر إلى شهر. وكانت عبادته على دين أبيه إبراهيم عليه السلام ويأخذ لذلك زاده، فإذا فرغ رجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فبينما هو قائم في بعض الأيام على الجبل إذْ ظهر له شخص، وقال: أبشر يا محمد أنا جبريل، وأنت رسول الله إلى هذه الأمة. ثم قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، فإنه عليه الصلاة والسلام أميّ لم يتعلم القراءة قبلاً. فأخذه فغطه بالنمط الذي كان ينام عليه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء. فأخذه فغطّه ثانية ثم أرسله، فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارىء، فأخذه فغطّه الثالثة، ثم أرسله فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ(1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ(3) الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] فرجع بها عليه الصلاة والسلام يرجف فؤاده، مما ألم به من الرَّوْع الذي استلزمته مقابلة المَلَك لأول مرة فدخل على خديجة زوجه، فقال: «زملوني زملوني»، لتزول عنه هذه القشعريرة، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي». لأن المَلك غطه حتى كاد يموت، ولم يكن له عليه الصلاة والسلام عِلم قبل ذلك بجبريل ولا بشكله، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فلا يسلَّط الله عليك الشياطين والأوهام، ولا مِراء أن الله اختارك لهداية قومك. ولتتأكد خديجة مما ظنته أرادت أن تثبت ممّن لهم علم بحال الرُّسُل، ممن اطلعوا على كتب الأقدمين، فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل ابن عم خديجة. وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان نزل الله على موسى – لأنه يعرف أن رسول الله إلى أنبيائه هو جبريل، ثم قال: يا ليتني فيها جذعا – شابا جلداً – إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها، لُمعاداتهم إيّاك، وكرهيتهم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقادات وجدوا عليها آباءهم فاستغرب عليه الصلاة والسلم ما نسب لقومه مع ما يعلمه من حبهم له لاتصافه بمكارم الأخلاق وصدق القول، حتى سموه الأمين، وقال: «أو مخرجي هم» قال: رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وقد نطق بذلك القرآن الكريم، قال تعالى في سورة إبراهيم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13] ولتمام تصديقِ ورقة برسالة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام قال: وإن يدْركْني يومك أَنْصُرْكَ نصراً مؤزّراً – معضداً – ثم لم يلبث ورقة أن توفي.