9 ربيع الثاني 1 هـ
24 تشرين الاول 622 م
الهجرة الشريفة: اليوم السادس عشر

وفي ليلته أمسى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم بقُباَء …

في ضواحي المدينة المنورة، فصلى المغرب والعشاء ثم بات بدار كلثوم بن هدم في منازل بني عمرو بن عوف بقُباء حتى أصبح، فصلى الصبح في قبُاء.
فلماّ كان وقت الضُحى ركب حتى المدينة المنورة يَحفُُّه الناس فأدركته الجمُعة في بني سالم بن عوف في وادي رانوناء، ومكانه الآن مسجد الجمعة في البقعة التي صلى فيها النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فصلاها بالناس.
وكانت أول جمعة يصليها النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم بالناس، وخطب فيها فقال: “الحمد للهّٰ، أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا اللهّٰ وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطُع اللهّٰ ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط، وضل ضلالا بعيدًا، وأوصيكم بتقوى اللهّٰ، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم، أن يحضه على الآهرة وأن يأمره بتقوى اللهّٰ، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرا. وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين اللهّٰ من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره، وذخرًا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، ويحذركم اللهّٰ نفسه واللهّٰ رؤوف بالعباد. والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى: {مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] “ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما” وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه. وإن تقوى اللهّٰ تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب اللهّٰ، قد علمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في اللهّٰ حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحي من حي عن بينة، ولا قوة إلا باللهّٰ، فأكثروا ذكر اللهّٰ، واعملوا لما بعد الموت، فإنه من أصلح ما بينه وبين اللهّٰ يكفه اللهّٰ ما بينه وبين الناس، ذلك بأن اللهّٰ يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، اللهّٰ أكبر، ولا قوة إلا باللهّٰ العلي العظيم“.
وكان قد أرسل إلى الأنصار من بني النَجّار -أخوال جدّه- فجاءوا فسلَمّوا عليه وعلى أبي بكر، وأحاطوا بهما متقلدين أسلحتهم في موكب احتفائي عظيم، وقالوا: “اركبا آمنين مطُاعين”، فركب صلى الله عليه وآله وسلم وأردف أبا بكر، ثم سار الركب الكريم إلى المدينة المنورة، وخرج من ينادي في المدينة يقول: “جاء نبي الله…جاء نبي الله”.
فدخل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم المدينة المنوَّرة في وقت اشتداد حر الشمس بعد الجمعة، فمر صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم على ديار بني سالم بن عوف فاستوقفه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة ورجال من بني سالم، وأمسكوا بزمام ناقته صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فقالوا: “يا رسول الله أقم عندنا في العدََد والعدَُّة والمنَعَةَ!”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “دعوها فإنها مأمورة، فإنما أنزل حيث أنزلني الله!”، فتركوا زمام الناقة، فانطلقت، حتى إذا مرَّت أمام ديار بني بيَاَضة أمسك زمام الناقة ز ياد بن لبيد وفروة بن عمرو ورجال بني بياضة، وقالوا: “يا رسول اللهّٰ هلَمَُّ إلينا إلى العدََدَ والعدَُّة والمنَعَةَ”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلمّ: “دعوها فإنها مأمورة”، فتركوها، فانطلقت، حتى إذا مرَّت بديار بني ساعدة، استوقفوها سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو ورجال بني ساعدة، وقالوا: “يا رسول اللهّٰ هلَمَُّ إلينا إلى العدََد والعدَُّة والمنَعَةَ”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “دعوها فإنها مأمورة“، فتركوها، فانطلقت، حتى إذا مرَّت أمام ديار بني الحارث بن الخزرج، استوقفوها سعد بن الربيع، وخارجة بن زيد، وعبدالله بن رواحة ورجال من بني الحارث بن الخزرج، فقالوا: “يا رسول اللهّٰ، هلَمَُّ إلينا إلى العدد والعدَُّة والمنَعَة”، فقال لهم صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “دعوها فإنها مأمورة“، فتركوها، فانطلقت، حتى إذا مرَّت بديار عدي بن النَجّار وهم عائلة سَلمْىَ بنت عمرو النجَّار يةّ الخزرجية أم جدَِّه عبدالمطلب، فهم أخوال جدَِّه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فاستوقفه سليط بن قيس، وأبو سليط أُسيرة بن خارجة ورجال من بني عدي بن النجار، فقالوا: ”يا رسول اللهّٰ هلَمَُّ إلى أخوالك إلى العدََد والعدَُّة والمنَعَةَ”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “دعوها فإنها مأمورة”، فتركوها، فانطلقت، حتى إذا أتت على ديار بني مالك بن النجار بركت في مكان مسجده صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم الآن، وكان هذا المكان مرِبد -مخزن لتجفيف التمر- لغلامين يتيمين من بني مالك بن النجار هما سهل وسهيل ابنا عمرو وكانا في كفالة معاذ بن عفراء وقيل في كفالة أبي أمامة أسعد بن زرارة، ثم قامت بعد أن بركت وسارت قليلاً ورسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لا ينزل عنها وقد ترك زمامها عليها، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأوّل مكان المسجد فبركت فيه ووضعت صدرها وبطنها مستقرَةّ على الأرض، فنزل عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سأل عن صاحب المرِبْدَ، فقال معاذ بن عفراء: هو يا رسول اللهّٰ لسهل وسهيل ابني عمرو، وهما يتيمان في كفالتي وسأعوضهما غيره، وقالا -سهل وسهيل- بل نهبه لك يا رسول الله!، فرفض النَبّي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يشتر يه منهما بثمنه.
ومرَّ النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في طر يقه بعبد اللهّٰ بن أبي ابن سلول – صار زعيمًا للمنافقين فيما بعد عليه لعنة اللهّٰ- وهو في بيت وكان سيدًا في قومه، فوقف النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ينتظر أن يدعوه إلى النزول كما فعل الأنصار – إذ كان من عادة العرب أن يضَُيفِّ سيد القوم الوافد-، فقال ابن سلول: “انظر الذين دعوك فانزل عليهم!”، فذكر النبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ذلك لبعض الأنصار، فقال سعد بن عبُادة: اعذره يا رسول اللهّٰ!، لقد منَّ اللهّٰ علينا بك يا رسول اللهّٰ ونحن نصنع له تاجًا نريد أن نجعله مَلكًِا علينا!
ولماّ نزل صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من على ناقته، وكان هناك عريش -مكان مسقوف بجريد النخل- ، فنزل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم فيه في الظِّل، ثم سأل: “أي بيوت أهلنا أقرب؟“، فقال أبو أيوب: “أنا يا نبي اللهّٰ، هذه داري، وهذا بابي”، قال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “فانطلق فهيئ لنا مقيلاً -مكاناً نرتاح فيه راحة القيلولة-”، فقال أبو أيوب: “أفأنقل رحلك -ناقتك- إليّ؟”، قال النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “نعم!”، ثم جاءه رجل من الأنصار وقال: “يا رسول اللهّٰ أين تحل-تنزل-؟”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “إن الرجل مع رحله حيث كان“، وأخذ أبو أمامة أسعد بن زرارة ناقة رسول الله صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم فكانت عنده يرعاها، وخرجت بنات من بني النَجّار يضربن بالدفوف فرحًا بالرسول صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وهن يقلن: نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جارِ فقال لهم النَبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “أتحبونني؟“، قالوا: “أي والله يا رسول الله!”، فقال: “وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم”.
ثم جاء أبو أيوب رضي اللهّٰ عنه وقال للنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “يا رسول اللهّٰ، قد هيأت لكما مقيلاً -مكان تستريحان فيه-، فقوما على بركة اللهّٰ فقيلا -استريحا-”، فقام النَبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من العريش وأبو بكر وذهبا إلى بيت أبي أيوب رضي اللهّٰ عنه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقعد في هذا العريش بالنهار و يصلي بالناس حتى بنى مسجده بالمدينة المنورة.
ولمَا نزل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في دار أبي أيوب وكانت الدار من طابقين، فنزل النَبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في الطابق السفلي، وصعد أبو أيوب وزوجته إلى الطابق العلوي، فتنبَهّ أبو أيوب وقال لزوجته متعجباً أنه لم يلتفت لذلك: “نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!”، فتنحوا جانباً من الطابق العلوي وكانوا لا يسيرون في وسطه حتى يكلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أن يصعد في الطابق العلوي تأدُّباً معه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم.
وجاء زيد بن ثابت -وكان غلامًا يتيمًا في حوالي الحادية عشرة من عمره- بأوَّل هديةّ إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم؛ قصعة -صينيَةّ كبيرة- فيها خبُز مثرود بلبن وسمن -مثل حلوى أُم عُلَيِ المصِْرِيَةّ- وقال: “أرسلت بهذه القصعة أمي”، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “بارك اللهّٰ فيك” ودعا أصحابه رضي اللهّٰ عنهم فأكلوا، ثم أرسل سعد بن عبادة بقصعة فيها ثريد -فتَةّ- وعراق لحم -موزة- وزيد بن ثابت واقفًا، وكان الأنصار يتناوبون على منزل أبي أيوب الثلاثة والأربعة يحملون الطعام كل ليلة، وكان يأكل مع النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من حضر من أصحابه، في حدود عشرة إلى ستة عشرة.
وجاء إلى النَبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عبد اللهّٰ بن سلام وقد أسلم في قبُاء، فقال: أشهد أنكّ نبي اللهّٰ حقًا، وأنك جئت بحق، يا رسول اللهّٰ إن اليهود قوم بُهت -كذَّابون ومدَُلسِّون-، ولقد علموا أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمَهُمُ وابن أعلمَهِِم، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني، فارسل إليهم فاسألهم عني”، فدعاهم الرسول صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وقال لهم: “يا معشر اليهود، و يلكم اتقوا اللهّٰ، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنيّ رسول الله حقًا وأني جئت بحق، أسلموا…“، فقالوا: “ما نعلمه، ما نعلمه، ما نعلمه!”، ثم سألهم صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “فأي رجل فيكم ابن سلام؟”، قالوا: “حبَْرنُا، وابن حبَْرِنا، وعاَلمِنِاَ وابن عاَلمِنِاَ!“، فقال صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “أرأيتم إن أسلم، تسلمون؟”، قالوا: “حاشا لله!، ما كان ليسُلِم”، فخرج عليهم عبد اللهّٰ بن سلام وقال: “أشهد أن لا إله إلا اللهّٰ، وأن محمدًا رسول اللهّٰ!”، فقالوا: “شرَُّناَ وابن شرَِّناَ، وجاَهِلنُاَ وابن جاَهِلنِاَ!”، فقال عبد اللهّٰ بن سلام: يا رسول الله هذا الذي كنتُ أخاف.
وفيه أتى سلمان الفارسي -على ما ذكرناه- إلى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم للمرة الثانية قبل إسلامه، ومعه بعض التمر يهديه للنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم حتى يتأكد سلمان من العلامة الثانية وهي أنه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم يأكل الهدية، فقال :”قد علمت أنك رجل صالح فهذه هدية اختصصتك بها” فقبلها النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وأكل منها وأطعم أصحابه، فتأكد بذلك سلمان من العلامة الثانية، ثم انتظر سلمان عدة أشهر وأتى بعدها للنبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في المرة الأخيرة التي أسلم فيها، وسيأتي ذكر العلَاَمَة الثالثة وإسلام سلمان في شوّال من آخر هذه السنة.