25 ربيع الأول 1 هـ
10 تشرين الاول 622 م
الهجرة الشريفة: اليوم الثاني

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته بمكّة المكرمّة، …

وقد رصدت قريش عددًا من فتيانها الأقو ياء ليضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد عند خروجه صلى الله عليه وآله وسلم من بيته ليلاً، كما هي عادته ليصُليّ من الليل عند البيت الحرام، فيتفرق بذلك دمه في القبائل كما يزعمون فتقبل بنو هاشم منهم الدِّيةَ.
فلما كان بعد وقت العشاء –الساعة الثامنة والنصف مساءاً تقريباً- وقفت مجموعة الفتيان تلك عند باب بيته صلى الله عليه وآله وسلم ينتظرون خروجه، ومعهم بعض من كان حاضرًا في دار الندوة وقت التخطيط لهذه المؤامرة كأبي جهل ابن هشام الذي قال لهم: “إن محُمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كُنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعُثتم من بعد موتكم، فجعُلت لكم بساتين وحدائق كبساتين الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح!، ثُم بعُثِتم من بعد موتكم ثم جُعلت لكم نار تُحرقون فيها!”.
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسمع مقالة أبي جهل، وهم واقفون لا يرونه ولا يسمعونه صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذ حَفنةَ -ملئ الكف- من تراب في يده ثم قال: “نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم” ثم أخذ ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلوا آيات من سورة يس: {يسۤ * وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ} [يس: 1-2] إلى قوله تعالى {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، وانصرف صلى الله عليه وآله وسلم مسُرعاً في طريقه إلى بيت أبي بكر الصديق، فأتى شخص إلى المجموعة الواقفة لم يكن معهم رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خارجًا، فقال لهم: “خيبكم اللهّٰ، ما تنتظرون؟”، قالوا: “محمدًا!”، قال: “لقد خرج محمد منذ قليل، فما ترك منكم رجلاً إلا وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أما ترون ما بكم؟!”، فمسحوا رؤوسهم فوجدوا عليها تراباً، ثم نظروا من ثقُب الباب فوجدوا علياً نائماً وعليه ثوب النبّي صلى الله عليه وآله وسلم فظنوّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا لأنفسهم: لا، هذا محمد مازال نائماً!، ثم استمروّا واقفين ينتظرون خروجه لصلاة الليل كما هو المعتاد منه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم.
وأنزل اللهّٰ على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا اليوم قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ …} [الأنفال: 30]. — وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ} [الطور: 31].
وسار صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من بيته حوالي 400 متر مجدًا في سيره، مستغرقاً ثلاث دقائق تقريباً، إلى أن وصل الحزورة، وهي سوق قديم بمكة قريب من دار أم هانئ بنت أبي طالب -بنت عمّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم- وهي الآن جزء من الحرم المكي الشريف في جنوب الكعبة، فوقف عنده ناظراً لمكّة، وقال قولته المشهورة: “إنك لأحب بلاد اللهّٰ إليّ، وإنيّ لأعلم أنك لأحب بلاد اللهّٰ إلى اللهّٰ، ولولا أن أهلكَِ أخرجوني منكِ ما خرجت”، ثم مشى صلى الله عليه وآله وسلم قاطعاً حوالي 350 متراً أخرى إلى بيت أبي بكر الصديق مستغرقاً ثلاث دقائق أيضًا ووصل في حدود التاسعة إلا الربع مساءاً تقريباً.
ثم انتظر صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أبي بكر إلى منتصف الليل، ثم خرجا من باب صغير خلفي في بيت أبي بكر الصديق، وخرج معهم عبدالله بن أبي بكر وعامر بن فهيرة خادم أبي بكر، وساروا جميعا إلى جنوب مكة في منطقة صخريةّ وعرة إلى جبل ثور قاطعين حوالي 6 كم في ساعة ونصف تقريباً.
وكان من دعائه صلى الله عليه وآله وسلم عند مسيره إلى غار ثور: “الحمد للهّٰ الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللّني، وعلى صالح خلقي فقوّمني، وإلى ربيّ فحببّني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربيّ، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض فكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن يحلّ بي غضبك أو ينزل عليّ سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجاءة نقمتك وتحوّل عاقبتك وجميع سخطك، لك العتبى خير ما استطعت، ولا حول ولا قوّة إلا بك”.
ووصلوا عند غار ثور بحدود الساعة الواحدة ليلاً من وقت السحر، فدخلوا الغار -وهو داخل حدود مكة أو ما يعُرف الآن بحد الحرم-، وكان أبا بكر خرج ومعه كل ثروته النقديةّ تقريباً، وهي 6000 درهم فضّة، أو ما يوازي 17 كجم من الفضّة تقريباً.
وأثناء سيرهم إلى الغار كان أبو بكر رضي اللهّٰ عنه يسير أمام النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم مدة، ثم يسير خلفه مدة، ثم عن يمينه ثم عن شماله. وهكذا، فقال له رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم: “أبا بكر!…مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟”، قال : “يا رسول اللهّٰ أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك!”، فقال: “أبا بكر…لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟!” قال: “نعم! والذي بعثك بالحق!، ما كانت لتكون ملمة إلا أحببت أن تكون بي دونك”.
ثم لما وصلوا عند جبل ثور، آثر أبا بكر أن يدخله قبل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ليتأكد أن الغار ليس به حيوان مفترس أو حيةّ، فكلمّا وجد جُحراً قطع من ثوبه وغطّاه به، حتى لم يبق من ثوبه ذلك ما يقطع، فوضع قدميه على آخر جحر وجده يغطيه بهما، ودخل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، ثم أعطى أبا بكر تعليماته لابنه عبدالله ولخادمه عامر بن فهيرة -وكان غلامًا ذكيًاّ-، فأمر عبدالله أن يذهب فيتسمع أخبار قريش في الصباح و يأتيهم ليلاً بها ويبيت عندهم في الغار ثم ينصرف وقت السحر راجعاً لمكّة كأنه قد بات بها، فلا يثُير الشكوك حوله، وأن يفعل هذا حتى يخرجوا من الغار، وأمر عامر بن فهيرة أن يسرح بغنمات لأبي بكر حول جبل ثور ليخُفي آثار الأقدام وكذلك آثار أقدام عبدالله بعد ذهابه ورجوعه، ويأتي إليهما كل مدة ليلاً ليحلب لهما من لبنها ليشربا، وقد لجئا للغار حتى يهدأ التفتيش والبحث عنهما في أرجاء مكّة، ولما جلسا بالغار ووضع أبا بكر قدميه على الجحُرْ المفتوح المتبقي بالغار خرجت حيَةّ من الجحُرْ فلسعته رضي الله عنه وجعلت دموعه تنحدر ويتألم في صمت لئلا يقُْلقِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتنبه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : “مالك يا أبا بكر؟”، فأخبره، فوضع النَبّي صلى الله عليه وآله وسلم من ريقه الشريف على قدم أبي بكر فشُفيِتَ بإذن الله.
ثم لما كان آخر الليل رجع عبد الله ابن أبي بكر إلى مكّة، وسرح عامر ابن فهيرة على الآثار عائدًا أيضًا، وكانت المجموعة الواقفة على باب النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من شباب قرُيش وشيوخه ما زالت تنتظر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما طلع الصباح وجدوا النائم عليًاّ رضي اللهّٰ عنه، فجنَُّ جُنونهم وهجموا عليه؛ فعنفوه وسألوه: “أين محمدًا؟” قال: “لا علم لي!” فتركوه وأسرعوا إلى بيت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على الباب فخرجت لهم أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما؛ فقالوا: “أين أبوك يا بنت أبي بكر؟” قالت: “لا أدري والله أين أبي!” فرفع أبو جهل لعنه الله يده، فلطم خدََّها لطمة أوقعت قرِطها -حلَقَ الأذن- وأدمى وجهها رضي الله عنها.
ودخل على أسماء وعائشة رضي الله عنهن جدَّهن أبو قحافة وقد ذهب بصره، فقال: “والله إنيِّ لأراه -يعني أبا بكر- قد فَجعَكَمُ بماله مع نفسه -يعني سافر ولم يترك لكم شيئاً-!”، فقالت له أسماء: “كلاّ يا أبت!، لقد ترك لنا خيراً كثيراً!”، وأخذت أسماء رضي اللهّٰ عنها بعض الحجارة فوضعتها في كيس من القماش على كُوَّة -فتحة في الجدار يضعون فيها المصباح عادةً للإضاءة- كان أبو بكر يضع فيها ماله، ثم أخذت بيد جدّها وقالت: “يا أبت ضع يدك على هذا المال!”، فوضع يده عليه ثم قال: “لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن!”، والحق أن أبا بكر لم يترك لهم شيئاً، إنما أرادت أسماء بفطنتها وذكاءها أن تسَُكِّن جدّها.
ثم انطلق فتية قرُيش وأشرافها يبحثون عن النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وأبي بكر بجنون في كل مكان، فرصد بعضهم مائة ناقة مكافأة لمن يجدهم، وانطلق البحث والتفتيش من الجميع في كل مكان ومعهم المختُصَُّون البارعون في اقتفاء الآثار، ومنهم سرُاقة بن مالك المدلجي وكرز بن علقمة، وكلهّم يطمع في المكافآت المرصودة، وأمر اللهّٰ شجرة فأنبتت أمام الغار وسترتهما، والعنكبوت فنسجت خيطها على بابه، وحمامتين بريَتّين فنزلتا في عشُ أمام الغار، وغربت الشمس وهم بالغار.