5 ربيع الثاني 1 هـ
20 تشرين الاول 622 م
الهجرة الشريفة: اليوم الثاني عشر

وفي ليلته أمسى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عند آخر وادي ريم من جهة المدينة المنورة، …

فصلوا المغرب والعشاء واستراحوا أوّل الليل، ثم أكملوا المسير حوالي 22 كم في أربع ساعات ونصف تقريباً حتى وصلوا عند وادي العقيق، ووصلوه وقت صلاة الصبح تقريباً فصلوا به أو قريباً منه.
ثم أكملوا المسير حوالي 7 كم في ساعة ونصف تقريباً إلى أن وصلوا عند الجثِجْاَثة، ولماّ وصلوا عند القرية في ذلك
الموضع سأل النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم أهلها: “من يدلنا على طر يق بني عمرو بن عوف فلا يقرب يثرب؟”، فدلوّه على
طر يق الظَّبي، فسلك بهم سعد الدليل الذي أوصلهم من العرَجْ عن طريق ركَُوبةَ من الطر يق الذي دلهّ أهل القرية عليه.
فسار الركب النبوي الشريف إلى أوّل طر يق الظبي حوالي 15 كم في ثلاث ساعات تقريباً، ثم حوالي 9 كم في ساعتين تقريباً حتى وصلوا عند العصُْبةَ، ثم منها حوالي 1.5 كم في ثلُث الساعة تقريباً حتى وصلوا عند منازل بني عمرو بن عوف في قبُاَء، ووصلوا تقريباً وقت الظهيرة، ولماّ وصل صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم عند بني عمرو بن عوف سأل: “أين أبو أمامة أسعد بن زرارة؟“، فقال سعد بن خيثمة: ”هو يسكن قريباً مني يا رسول اللهّٰ، وسأناديه لك”.
فنزل النَبّي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في دار كلثوم بن هدم، ونزل أبو بكر على خبيب بن أساف، وقيل: نزل على خارجة بن أبي زهير، وجلس صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم في بيت سعد بن خيثمة يستقبل الناس وكان سعد هذا غير متزوج وكانوا يسمون بيته ببيت العزَُاّب، وطارت الأخبار إلى المدينة فعلم الأنصار بقدوم النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم فجاءوا إلى قبُاء يسلمون عليه ويرحبون به في بلادهم.
ثم بدأ النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم تأسيس مسجد قبُاء وهو المسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم بالمدينة، وقيل: بل هو المسجد النبّوي الذي نزلت فيه الآية والله أعلم.
وكان سلمان الفارسي يعمل في بعضنخل المدينة عند رجل يهودي اشتراه عبدًا من بعض التجار من قبيلة كلب، وكان قاَبلَهَم في مدينة عموّرِ يَةّ  التي تقع في بلاد الروم -تركيا الآن-، فأعطاهم بقراته وغنماته على أن يوصّلوه لأرض العرب باحثاً عن النبي الذي سيبُعث في أرضالعرب كما أوصاه بعضالرهبان من النصارى ممن بقوا على الملة القويمة، فظلمه أولئك التجار وباعوه عبدًا، فلما كان هذا اليوم الذي دخل فيه النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم قبُاء، وكان يعمل في بعضنخل سيده، جاء لزيارة سيده ابن عم له من يهود بني قر يظة، فسمع سلمان ابن عم سيده يقول لسيده: يا فلان، قاتل اللهّٰ بني قيلة، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي! فانتفض سلمان وهو فوق النخلة لما سمع هذا وهبط مسرعاً حتى ظن أنه يسقط على سيدّه، ثم جعل يقول لابن عم الرجل: “ماذا تقول!” وكأنه غير مصدّق!، فلكمه سيده لكمة شديدة، ثم قال لسلمان: ”وما شأنك أنت؟ أقبل على عملك!”، قال سلمان: ”لا شيء، إنما أردت أن أتأكد منه مما قال!”.
قال سلمان: وقد كان عندي شيء بعض من التمر كنت قد جمعته، فلما أمسيت -آخر النهار، غالباً قبل دخول الليل- أخذته ثم ذهبت به إلى رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وهو بقباء، فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرُباء ذوو حاجة، وهذا شيء قد كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، قال: فقربته إليه، فقال رسول اللهّٰ صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم لأصحابه: “كلوا” وأمسك يده فلم يأكل، قال سلمان: فقلت في نفسي: هذه واحدة، وكان سلمان قد علم صفة النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم من بعض الرهبان النصارى الذين لازمهم -كما في قصّته- فأراد أن يختبر صفات النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم ومنها أنهّ لا يأكل الصدقة و يأكل الهديةّ.
وعلَِم يَهود المدينة ومشركوها أيضًا بقدومه صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم، فجاء بعضهم ينظر إليه وبعضهم يستطلع خبره وبعضهم يصدّقه، وأحب صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم موافقة أهل الكتاب من اليهود تأليفًا لقلوبهم على الإيمان بالرسالة، فوجد بعضهم صائماً هذا اليوم -وكان موافقًا العاشر من تشري يهودي- فسألهم عن ذلك؛ فقال بعضهم “يوم نََجىّ اللهّٰ فيه موسى من فرعون، فصامه موسى شكرا لله، فنحن نصومه”، ولكن لا يوجد دليل على صحةّ عبارتهم في كتبهم المعاصرة ولعلّ قد اعتراها
التحر يف، لكنّهم لا يزالون يعظّمون يوم العاشر من تشري هذا للآن فيصومونه ويسمونه صيام كيبور، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “نحن أولى بموسى منكم”، فأمر بصيام يوم العاشر من محرمّ وكان موافقا اًلأربعاء التالي على تقويم أهل المدينة -في حساب النسيء- وهو أوّل عاشوراء فصامه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنهّ صلى اللهٰ عليه وآله وسلم أمر بصيامه من العام المقبل في محرمّ الصحيح، والله أعلم.
وسمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي وهو يعمل في أرضله، وكان على اليهودية واسمه الحصين بن سلام، يقول عبد الله: “لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسراً بذلك صامتاً عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة، فلما نزل في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كبرّت، فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت!، قال لها: أي عمَة، والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به، فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا نُخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ قال لها: نعم!، قالت: فذاك إذًا”.
ثم خرج عبد الله بن سلام لينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عن نفسه: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أسرع الناس إليه فكنت فيمن أسرع إليه، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول “أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”.
ثم ذهب عبد اللهّٰ بن سلام إلى النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم وقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي؛ ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه-أي متى يشُبه الولد أبيه ومتى يشُبه أمه-؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أخبرَنَيِ بِهنَِّ جبر يل آنفا“، قال عبد الله: جبر يل؟!، قال: نعم!، قال عبد اللهّٰ: عدو اليهود من الملائكة؟، فقرأ عليه صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ} [البقرة: 97] الآية، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: “أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فز يادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد“، فقال عبد الله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. يا رسول الله إن اليهود قوم بهت -كذابون ومفترون ينتقصون الناس حقوقهم- وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه من
اليهود.
وصلىّ النبي صلى اللهّٰ عليه وآله وسلم الظهر والعصر بقُباء ونزل الليل وهو مبيت بها.