1 هـ
622 م
الهجرة إلى المدينة

لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم، جاءهما الدليل الذي هو الرجل الدؤلي براحلتيهما، …

فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامر بن فهيرة: أي رديفا لأبي بكر يخدمهما، أي وفي البخاري «أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم» أي ولا مخالفة لما سيأتي.
ويروى «أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه» أي بركابه، والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاي: ركاب الإبل خاصة فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أبشرك؟» قال بلى فداك أبي وأمي، قال: «إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة، ويتجلى لك خاصة» قال الخطيب: هذا الحديث لا أصل له. قال السيوطي:
رأيت له متابعات ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه: «اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي» .
وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل، وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي معك أي وفي رواية: من هذا الذي بين يديك؟ وفي رواية: من هذا الغلام بين يديك أي بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول: هذا الرجل يهديني الطريق يعني طريق الخير، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر «أله الناس» أي أشغل الناس عني: أي تكفل عني بالجواب لمن سأل عني، فإنه لا ينبغي لنبيّ أن يكذب: أي ولو صورة كالتورية، فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر، وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه، لأن أبا بكر كان معروفا لهم، لأنه كان يكثر المرور عليهم في التجارة للشام: أي معروفا لغالبهم، فلا ينافي ما جاء في بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت؟ يقول: باغي أي طالب حاجة، فعلم أن الأنبياء لا ينبغي لهم الكذب ولو صورة، ومن ذلك التوراة، لكن سيأتي في غزوة بدر وقوع التوراة منه صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبي بكر ناقته وفي التمهيد لابن عبد البر أنه لما أتي براحلة أبي بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنت اركب وأردفك أنا، فإن الرجل أحق بصدر دابته، فكان إذا قيل له من هذا وراءك؟ قال: هذا يهديني السبيل» .
أقول: لا مخالفة بين هذا وما تقدم، لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف أبي بكر على ناقة أبي بكر، وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه، وأن ركوبه لها كان في أثناء الطريق، ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة، أو ترك ركوبها لأجل إراحتها، والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر، وإن كان الأوّل هو الغالب والله أعلم، وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله:

ونحا المصطفى المدينة واشتا *** قت إليه من مكة الأنحاء

أي وقصد صلى الله عليه وسلم المدينة واشتاقت إليه الجهات والنواحي من مكة. وقد جاء «أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه {إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص:85] أي إلى مكة» .
وأهل الرجعة يقولون إلى الدنيا: أي من يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى، وقد أظهرها عبد الله بن سبأ، كان يهوديا وأمه يهودية سوداء؛ ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، أظهر الإسلام في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وقيل في خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام، فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ} [القصص:85] فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام، وتقدم ذلك في أثناء الكلام على بدء الوحي، وسيأتي ذلك عند بناء المسجد. وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة، أي فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان.
فعن سراقة قال «جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج: أي بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة إني رأيت أسودة: أي أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا: أي بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم، أي وفي لفظ «قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا عليّ آنفا» أي قريبا «إني لأراهم محمدا وأصحابه. قال سراقة: فأومأت إليه أن أسكت، ثم قلت: إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت إلى منزلي، فأمرت جاريتي أن تخرج فرسي خفية إلى بطن الوادي وتحبسها عليّ، وأخذت رمحي وخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه في الأرض» والزج الحديدة التي تكون في أسفل الرمح «وخفضت عاليه» أي أمسكت بأعلاه «وجعلت أسفله في الأرض لئلا يراه أحد» وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره، ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما، زاد في رواية «ثم انطلقت فلبست لأمتي، وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركني أهل الماء يعني قومه.
قال: حتى أتيت فرسي» أي وكان يقال لها العود، والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى. قال في النور: والمراد هنا الأنثى، لقوله «فركبتها» أي بالغت في إجرائها «حتى دنوت منهم» ..
وفي لفظ: «فرفعتها تقرب بي» وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها، لأن التقريب دون العدو وفوق العادة «فعثرت بي فرسي» أي فوقعت لمنخريها كما في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
زاد في رواية «ثم قامت تحمحم، فخررت عنها، فقمت فأهويت بيدي على كنانتي فاستخرجت الأزلام» أي وهي عيدان السهام التي لا ريش لها ولم تركب فيها النصال «واستقسمت بها أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره وهو عدم إضرارهم» أي لأنه مكتوب عليها افعل لا تفعل، ويقال للأوّل الآمر، ويقال للثاني الناهي «فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت» أي غابت «يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، أي وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان» أي غبار «ساطع في السماء مثل الدخان أي مع كون الأرض جلدة، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان: أي وقلت أنظروني لا أوذيكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه» .
أي وفي رواية: ناديت القوم، وقلت أنا سراقة بن مالك، انظروني أكلمكم، أنا لكم نافع غير ضار، وإني لا أدري لعل الحي فزعوا لركوبي: أي أن بلغهم ذلك وأنا راجع رادّهم عنكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «قل له: ماذا تبتغي؟» فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم.
وفي رواية «قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك وأرد من ورائي» وفي رواية قال «يا هذان ادعوا لي الله ربكما، ولكما أن لا أعود ففعل: أي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس» وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخافة، «قال: فركبت فرسي» أي بعد نهوضها «حتى جئتهم، فقلت: إن قومك جعلوا فيك الدية: أي مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك» وهذا هو المراد بقوله في الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم، وكأنه رأى أن ذلك كاف في لحوقه بهم عن ذكر أبي بكر. «قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا وقالا:
اخف عنا» أي وفي رواية «عرضت عليهما الزاد والحملان» أي ولعل الحملان هو المراد بالمتاع، أي لأنه جاء «أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتي، وغنمي وإبلي بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما، فقالا: اكفنا نفسك، فقال: كفيتماهما» .
أقول: وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم «يا سراقة إذا لم ترغب في دين الإسلام فإني لا أرغب في إبلك ومواشيك» . وفي رواية عن أبي بكر رضي الله عنه، قال «لما أدركنا سراقة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا قال {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي وقد تقدم أنه قال ذلك له في الغار فلما، كان بيننا وبينه قيد: أي مقدار رمح أو ثلاثة، قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت، قال: «لم تبكي؟» قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «اللهم اكفناه بما شئت، فساخت به فرسه في الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة» أي ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين، لجواز أن يكون ذلك في أوّل أمرها، ثم صارت إلى بطنها، وذلك كله في المرة الأولى، فلا يخالف ما في الإمتاع «لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه في الأرض إلى بطنها، فقال: ادع لي يا محمد أن يخلصني الله تعالى ولك عليّ أن أرد عنك الطلب، فدعا فخلص فعاد فتبعهم، فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك عليّ» الحديث إذ هو يدل على أنها في المرة الأولى وصلت إلى بطنها؛ وفي الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك. وقد يدل له ما يأتي عن الهمزية، ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها في الأرض في المرة الثانية. وفي لفظ «فقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك، فادع الله ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمينّ على من ورائي من الطلب، فدعا له فانطلق راجعا» .
وفي السبعيات للهمداني أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمنعني الجبار الواحد القهار»، ونزل جبريل عليه السلام وقال: يا محمد إن الله عز وجل يقول: جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أرض خذيه» فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب، فساق سراقة فرسه فلم يتحرك، فقال: يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتني لأكونن لك لا عليك، فقال: «يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده» .
وروي في بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد، وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه في الأرض؛ وهذا أي الاقتصار على غوص قوائم فرسه في الأرض لا ينافي الزيادة، فلا يخالف ما سبق، وفي السابغة تاب توبة صدق.
وفي الفصول المهمة لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك في اليوم الثاني من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال: بلغني أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران، فأيكم يأتيني بخبره فوثب سراقة، فقال، أنا لمحمد يا أبا الحكم. ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا: أي في أثر النبي صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به، فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دهينا، هذا سراقة قد أقبل في طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور، فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم، فلما قرب منهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت وأن شئت»؛ فغابت قوائم فرسه في الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك، فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال: يا محمد أنت أنت وأصحابك، أي أنت كما أنت أي آمن وأصحابك، فادع ربك يطلق لي جوادي ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء، وقال: «اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده » قال: فأطلق الله تعالى قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما أي ولعل هذا في المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم، وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافي الزيادة عليها، فلا يخالف ما سبق في هذه الرواية «ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا، فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة» وفي ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبي جهل:

أبا حكم والله لو كنت شاهدا *** لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدا *** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟

وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم في الجبل؛ لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه.
وقد يقال: لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس في مجلس قومه؛ فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود في مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده.
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار، ويسبقهم على قديد. ولا ينافي ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش، لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقة. ولا ينافي ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم، لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل. وفي كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبي جهل. ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما.
وفي رواية أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اصرعه» فصرع عن فرسه، فقال: يا نبي الله مرني بما شئت، قال: «تقف مكانك لا تتركنّ أحدا يلحق بنا» .
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت. ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهي: فعثرت بي فرسي فخررت عنها. وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
قال سراقة «فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، لأنه وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
وفي السبعيات «قال سراقة: يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر أمرك في العالم؛ وتملك رقاب الناس، فعاهدني أني إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني، فأمر عامر بن فهيرة، أي وقيل أبا بكر فكتب لي في رقعة من أدم، أي وقيل في قطعة من عظم، وقيل في خرقة» .
أقول: وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذي يكتب، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك، فأحدهما كتب في الرقعة من الأدم، والآخر كتب في العظم أو الخرقة. أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم، فلا مخالفة.
«ولما أراد الانصراف قال له: يكف بك يا سراقة إذا تسورت بسواري كسرى؟ قال كسرى بن هرمز؟ قال نعم» وسيأتي أن سراقة أسلم بالجعرانة، ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له «مرحبا بك».
وعن سراقة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه، فلقيته بالجعرانة، فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك، ماذا تريد؟ قال: فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابي وأنا سراقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم وفاء وبشر»، أدنه، فدنوت منه وأسلمت .
ولما جيء لعمر رضي الله تعالى عنه في زمن خلافته بسواري كسرى وتاجه ومنطقته أي وبساطه وكان ستين ذراعا في ستين ذراعا، منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع، كان يبسط له في إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور- وجيء له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكنّ ثلاثا وعليهنّ الحليّ والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه. وعند ذلك دعا سراقة وقال: ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له: قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك: أي ورفع عمر بها صوته وصبّ المال الذي جيء به من أموال كسرى في صحن المسجد، وفرقه على المسلمين، ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين، فأصاب عليا رضي الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار. ثم جيء ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه، وأمر المنادي أن ينادي عليهنّ، وأن يزيل نقابهنّ عن وجوههنّ ليزيد المسلمون في ثمنهن، فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادي في صدره فغضب عمر رضي الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين، فقال له علي رضي الله تعالى عنه: مهلا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ارحموا عزيز قوم ذل، وغني قوم افتقر» فسكن غضبه، فقال له علي: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة، فقال له عمر: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ فقال: يقوّمن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن، فقومن وأخذهن علي رضي الله تعالى عنه، فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم، وأخرى لمحمد بن أبي بكر فجاء منها بولده القاسم، والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده عليّ الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا، وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسريّ، فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه.
ومن غريب الاتفاق ما حكاه بعضهم قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب وأعجب سعيد بي يوما، فقال لي: من أخوالك؟ فقلت: أمي فتاة، فكأني نقصت من عينه، فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر، فلما خرج من عنده، قلت له: يا عم من هذا؟ قال: سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك؟ هذا سالم بن عبد الله بن عمر، قلت فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض، فلما خرج قلت: يا عم من هذا؟ قال: ما أعجب أمرك! أتجهل مثل هذا؟
قال القاسم بن محمد بن أبي بكر، قلت: فمن أمه؟ قال فتاة. ثم دخل عليه علي بن الحسين فجلس ثم نهض، فلما خرج قلت له: من هذا؟ قال: عجبت منك! أتجهل مثل هذا؟ هذا علي زين العابدين بن الحسين، قلت: فمن أمه؟ قال: فتاة. قلت: يا عمي رأيتني نقصت من عينك لما علمت أن أمي فتاة فما لي في هؤلاء أسوة؟ فقال: أجل وعظمت في عينه جدا.
ولما رجع سراقة صار يردّ عنهم الطلب، لا يلقى أحدا إلا ردّه، يقول: سيرت أي اختبرت الطريق فلم أراد أحدا. وفي لفظ قال لقريش: أي الجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك: قد عرفتم بصرى بالطريق، وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا أي فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أي ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم نزل في خيمة أم معبد كما سيأتي، أرسلوا سرية في طلبه، يقول قائلهم: اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب، فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة، فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أي سلاحا له.
وفي رواية «قال سراقة: خرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما، ورجعت وأنا أحب الناس في أن لا يعلم بهما أحد» ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أمّ معبد. ففي تتمة الخبر: أن تلك السرية جاءت إلى أمّ معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشفقت: أي خافت عليه منهم، فتعاجمت عليهم: أي أظهرت عدم علمها بذلك؛ فقالت: إنكم تسألوني عن أمر ما سمعت به قبل عامي هذا، ثم قالت: لئن لم تنصرفوا عني لأصرخنّ في قومي عليكم وكانت في عز من قومها، فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه: أي من أي طريق توجه، أي ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة سراقة قبل قصة أمّ معبد، وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله:

غرّت سراقة أطماع فساخ به *** جواده فانثنى للصلح مطلبا

وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله:

واقتفى أثره سراقة فاسته *** وته في الأرض صافن جرداء
ثم ناداه بعد ما سيمت الخس *** ف وقد ينجد الغريق النداء

أي وتبع أثره سراقة، فهوت: أي سقطت به صافن، وهي الفرس التي تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر، وهو وصف محمود في الخيل.
جرداء، قصيرة الشعر، وذلك وصف محمود في الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها. وقد يخلص الدعاء الغريق، كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه.
قال: وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «أنه قال: سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد، رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسوّيت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ثم بسطت له فروة معي، ثم قلت: يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرّف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردناه: أي وهو الظل، فلقيته، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته» أي وقال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسم هذا الراعي ولا على اسم صاحب الغنم «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال نعم، قلت: أفتحلب لي؟ قال نعم، فأخذ شاة فحلب لي في قعب معه» وفي رواية في إداوة معي على فيها خرقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت حتى أستيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب، لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك، فكان كل راع مأذونا له في ذلك أي كما تقدم، فلا ينافي ما جاء «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غير معرفة الراعي.
وأما قول بعضهم إنما استجاز شربه لأنه مال حربي، ففيه نظر، لأن الغنائم: أي أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ؛ ثم قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم يأن للرحيل؟» قلت بلى، فارتحلنا بعد ما زالت الشمس».
أي وفي رواية «أن أبا بكر، قال: قد آن الرحيل يا رسول الله» أي دخل وقته، قال الحافظ ابن حجر: يجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر: بلى، ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل «واجتازوا في طريقهم بأمّ معبد» أي واسمها عاتكة، وكان منزلها بقديد، أي وهو محل سراقة كما تقدم، ولعلها كانت بطرفه الأخير الذي يلي المدينة، ومنزل سراقة بطرفه الذي يلي مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل. وكانت أمّ معبد امرأة برزة جلدة تختبي بفناء بيتها وتطعم وتسقي وهي لا تعرفهم، أي وسألوها لحما وتمرا أي وفي رواية أو لبنا يشترونه، فقالت: والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم أي للشراء، وفي رواية «ما أعوزناكم القرى» لأنهم كانوا مسنتين: أي مجدبين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم معبد هل عندك من لبن؟» قالت: لا والله، فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم أي لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال «قال هل بها من لبن؟» قالت: هي أجهد من ذلك قال: «أتأذنين في حلابها؟» قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك أي أصلح شأنك بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها، فدعا بها فمسح ظهرها بيده أي وفي رواية فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال «ادع هذه الشاة، ثم قال: يا غلام هات فرقا»، فمسح ظهرها وفي رواية فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى، أي وقال: «اللهم بارك لنا في شاتنا» فدرت واجترت وتفاحجت» أي فتحت ما بين رجليها للحلب ثم دعا بإناء يربض الرهط أي يرويهم بحيث يغلب عليهم الريّ فيربضون وينامون. والرهط من الثلاثة للعشرة، وقيل من التسعة إلى الأربعين فحلب فيها ثجا أي بقوة لكثرة اللبن.
ومن ثم قال حتى علاه البهاء وفي رواية حتى علته الثمالة بضم المثلثة: أي الرغوة. وفي رواية «فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل» أي مرة ثانية بعد الأولى «ثم شرب صلى الله عليه وسلم، فكان آخرهم شربا» وقال «ساقي القوم آخرهم شربا» ثم حلب فيه وغادره» أي تركه عندها وارتحل، وإلى ذلك أشار الإمام السبكي بقوله في تائيته:

مسحت على شاة لدى أم معبد *** بجهد فألفتها أدرّ حلوبة

وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة:

درت الشاة حين مرت عليها *** فلها ثروة بها ونماء

أي أرسلت الشاة لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة.
وعن أم معبد: أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى سنة ثماني عشرة، وقيل سبع عشرة من الهجرة، ويقال لتلك السنة عام الرمادة: أي وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها، أي لخبث لحمها، وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وعند ذلك آلى عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس: أي يجيء عليهم الحيا وهو المطر، وقال: كيف لا يعنيني شأن الرعية إذ لم يمسني ما مسهم، وهذا السياق يدل على أن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة.
وفي تاريخ العيني شارح البخاري، قال يونس «عن ابن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال اشربي يا أم معبد، فقالت اشرب اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك، فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد، فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم، ووصفوه لها، فقالت: ما أدري ما تقولون قد ضافني حالب الحائل، فقالوا: ذلك الذي نريده» .
وعند قول عمر رضي الله تعالى عنه ذلك، قال كعب لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء، فقال عمر: هذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، وصنو أبيه، وسيد بني هاشم يعني العباس، فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس، فصعد عمر المنبر ومعه العباس، وقال: اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنوا أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين؛ ثم قال عمر للعباس: يا أبا الفضل قم وادع، فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه: اللهم شفعنا في أنفسنا وأهلينا. اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع. اللهم إنا لا نرجو إلا إياك، ولا ندعو غيرك، ولا نرغب إلا إليك، فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم، وخاضوا في الماء وأخصبت الأرض، وعاش الناس، فقال عمر: هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى، فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون: هنيئا لك، سقينا في الحرمين.
وذكر السهيلي أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة في ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح في السحاب. أتاك الغوث أبا حفص، أتاك الغوث أبا حفص.
هذا، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي في الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، لأستسقين غدا بمن يسقيني الله به، فلما أصبح غدا للعباس رضي الله تعالى عنه فدق عليه الباب، فقال من؟ قال: عمر، قال: ما حاجتك؟ قال: اخرج حتى نستسقي الله بك، قال اقعد، فأرسل إلى بني هاشم أن تطهروا، والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه، وأخرج طيبا وطيبهم، ثم خرج وعليّ أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره، وقال يا عمر لا تخلط بنا غيرنا، ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا، وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا. اللهم فكما تفضلت علينا في أوله فتفضل علينا في آخره. قال جابر: فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا، فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا، فقال العباس: أنا ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي ابن المسقي خمس مرات، أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرات فسقي، هذا كلامه فلينظر الجمع.
قال ابن شهاب: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه: أي وكان لا يمر عمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس، وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له، أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال «احفظوني في العباس، فإنه عمي وصنو أبي» وفي رواية «فإنه بقية آبائي» .
قالت أم معبد في وصف تلك الشاة «وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا» أي بكرة وعشية وما في الأرض قليل ولا كثير: أي مما يتعاطى الدواب أكله «ولما جاء زوجها أبو معبد» قال السهيلي: لا يعرف اسمه، وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم، وقيل خنيس، وقيل عبد الله «جاء عند المساء يسوق أعنزا عجافا، ورأى اللبن الذي حلبه صلى الله عليه وسلم عجب، وقال: يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب في البيت؟ أي والشاة عازب» أي لم يطرقها فحل، لكن رأيته في النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التي لا تأوي إلى المنزل في الليل. وفي الصحاح: العازب الكلأ البعيد الذي لم يؤكل ولم يوطأ.
قالت: «مرّ بنا رجل مبارك، قال: صفيه، قالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه» أي مشرقه «في أشفاره» أي أجفان عينيه أي شعرها النابت بها «وطف» أي طول «وفي عينيه دعج» أي شدة سواد في بياض، أي وهذا هو الحور، ومن ثم فسر بعضهم الدعج بشدة السواد. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض، بل كان أشكل العين. والشكلة: حمرة في بياض العين، وهو دليل الشهامة، وهي من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة كما تقدم «وفي صوته صحل» أي بحة بضم الموحدة، أي ليس حاد الصوت «غصن بين الغصنين، لا تشنؤه من طول» أي لا تبغضه لفرط طوله «ولا تقتحمه من قصر» أي تحتقره من قصره «لم تعبه ثجلة» أي عظم البطن وكبرها «ولم تزر به صعلة» أي صغر الرأس، «كأن عنقه إبريق فضة» أي والإبريق السيف الشديد البريق «إذا نطق فعليه البهاء، وإذا صمت فعليه الوقار، له كلام كخرزات النظم، أزين أصحابه منظرا، وأحسنهم وجها، أصحابه يحفون به، إذا أمر ابتدروا أمره، وإذا نهى انتهوا عند نهيه» .
قال: وفي لفظ «أنها قالت: رأيت رجلا ظاهرا الوضاءة أبلج الوجه» أي مشرقه «حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزره صعلة، وسيما قسيما» أي حسنا «في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل» أو قالت «صهل، أحور أكحل» أي في أجفان عينيه سواد خلقه «وفي عنقه سطع» أي نور «وفي لحيته كثافة» أي لا طويلة ولا دقيقة «أزج» أي رقيق طرف «الحاجب، أقرن» أي مقرون الحاجبين «شديد سواد الشعر، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما به» أي ارتفع على جلسائه «وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة لا تشنؤه» أي تبغضه «من طول» أي من فرط طوله «ولا تقتحمه عين من نظر» أي لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له «غصنا بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدرا؛ له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود مخدوم محشود، له حشد وجماعة، لا عابس ولا مفند» أي يكثر اللوم اهـ «قال: هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته، ولأجتهدن أن أفعل» .
أي وفي الإمتاع «ويقال إنها» أي أم معبد «ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها، ووضعت لهم في سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة، وبقي عندها أكثر لحمها» .
وفي الخصائص الكبرى «أنه صلى الله عليه وسلم بايعها» أي أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها. وفي كلام ابن الجوزي أن أم معبد هاجرت وأسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم.
أقول: في شرح السنة للبغوي: وهاجرت هي وزوجها؛ وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر، واستشهد يوم الفتح، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ويقال إن زوجها خرج في أثرهم فأدركهم، وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع.
وفي الأجوبة المسكتة لابن عون، قيل لأم معبد: ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من سائر صفات من وصفه: أي من الرجال، فقالت: أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل؟.
وفي ربيع الأبرار للزمخشري عن هند بنت الجون أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته، فدعا بماء فغسل يديه، ثم تمضمض ومجّ ذلك في عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهي أعظم دوحة» أي شجرة ذات فروع كثيرة «وجاءت بثمر كأعظم ما يكون، في لون الورس، ورائحة العنبر، وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برىء، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا درّ فكنا نسميها المباركة، فأصحبنا في يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر ورقها ففزعنا لذلك، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة.
وعن أم معبد أنها قالت: مرّ علي خيمتي غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان، فقلت ما هذا؟ قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاي: يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السير كي لا تنشف القرب، أي فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو «إن جاءك كتابي ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إليّ من ماء زمزم» فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر» ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد في أبيات، منها:

جزى الله رب الناس خير جزائه *** رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر ثم ترحلا *** فأفلح من أمسى رفيق محمد

فعلموا توجهه ليثرب: أي وفي طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد، قال بعضهم: وليست بأم معبد التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة.
ويجوز أن يكون الخبر الذي وصل إليهم في اليوم الثاني من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم، وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله:

وتغنت بمدحه الجن حتى *** أطرب الإنس منه ذاك الغناء

أي وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة في صورة الغناء الذي تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه، وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله:

إن يسلم السعدان يصبح محمد *** من الأمر لا يخشى خلاف المخالف

فقالوا: السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة، وسعد هديم، فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول:

فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعا *** ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

فقالوا: سعد الأوس سعد بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة، ففيه نظر، لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك؟ فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان.
أقول: يجوز أن تكون أن هنا بمعنى إذ: أي صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى خلاف المخالف لأجل إسلام السعدين، أو المراد دوامهما على الإسلام، على أنه ذكر في الأصل إن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ.
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة: أربعة من الأوس: سعد بن معاذ، وسعد بن خيثمة، وسعد بن عبيد، وسعد بن زيد، وثلاثة من الخزرج: سعد بن عبادة، وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة، والله أعلم.
قال: وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما في الأصل، وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذي صرح به جماعة اهـ.
أقول: ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك؟ قلت: والله لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمة خرم منها قرطي، أي وفي لفظ: طرح منها قرطي. والقرط: ما يعلق في شحمة الأذن، قالت. ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أي توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول:

جزى الله رب الناس

الأبيات كذا في الأصل.
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في خروجه للغار، وقولها فمضى ثلاث لا ندري أين توجه يقتضي أن المراد خروجه من الغار، وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة في اليوم الثاني من خروجه من الغار، وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل.
وقد تبع الأصل في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قدّم خبر سراقة على قصة أم معبد، إلا أن يقال الدمياطي لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته، وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص. قيل هي قصة أم معبد وقيل غيرها، وهي أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه؟ فقال لرجل من أسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وقال: «سلمت إن شاء الله تعالى»، ثم قال للراعي: «ما اسمك؟» قال مسعود، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: «سعدت إن شاء الله تعالى» .
وفي الإمتاع: ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه في ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا: أي والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد.
وفي الشرف أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم طمع في ذلك، فخرج هو في سبعين من أهل بيته. وفي لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا، وحينئذ يراد ببيته قومه، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له: «من أنت؟» قال: بريدة بن الحصيب، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم: قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح، قال: ممن أنت؟ قال: من أسلم من بني سهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم «سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر» أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم. ثم قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم من أنت؟ قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله»، فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم بريدة وكل من كان معه: أي وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، ثم قال بريدة: يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء، فحلّ بريدة عمامته، ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه: أي وقال له كما في الوفاء: تنزل على من يا نبي الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ناقتي هذه مأمورة»، فقال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهم يعني قومه «طائعين غير مكرهين» .
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حرّ الظهيرة.
أقول: ولعلّ خروجهم كان في ثلاثة أيام، وهي المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التي كان بها في الغار، والله أعلم.
فانقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أي وأحرقتهم الشمس، وإذا رجل من اليهود صعد على أطم: أي محل مرتفع من آطامهم أي من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين: أي لأنهم لقوا الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما في البخاري.
وقيل إن الذي كساهما طلحة بن عبيد الله. فقال في النور: ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكره، وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطي لهذا القيل ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذي في السير. ومال الدمياطي إلى ترجيحه على عادته في ترجيح ما في السير على ما في الصحيح، لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه في ابتداء أمره، فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة.
فلما رآهم ذلك اليهودي يزول بهم السراب، أي يرفعهم ويظهرهم: أي والسراب ما يرى كالماء في وسط النهار في زمن الحرّ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم: أي حظكم الذي تنتظرون، أي وفي رواية: فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبي أمامة وأصحابه من الأنصار، أي ولا مانع من وجود الأمرين، فثار المسلمون إلى السلاح، فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة، أي وفي لفظ: فوافوه وهو مع أبي بكر في ظل نخلة، ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة، ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطمئنين.
وفي لفظ: فاستقبله زهاء خمسمائة أي ما يزيد على خمسمائة من الأنصار، فقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم: أي لأنه كان شيخ بني عمرو بن عوف: أي وهم بطن من الأوس، قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفي قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة، أي وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنجحت يا أبا بكر، وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه في بيت سعد بن خيثمة: أي لأنه كان عزبا لا أهل له هناك، أي وكان منزله يسمى منزل العزاب، والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب، وقيل هي لغة رديئة.
أقول: وبذلك يجمع بين قول من قال: نزل على كلثوم وقول من قال: نزل على سعد بن خيثمة، ثم رأيت الحافظ الدمياطي أشار إلى ذلك، والله أعلم.
ونزل عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد أن تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدي الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم، لأمره له صلى الله عليه وسلم بذلك كما تقدم.
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام عليّ رضي الله تعالى عنه بالأبطح ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت تؤدى إليه أمانته، فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه، فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم، ومعه أم أيمن وولدها أيمن، وجماعة من ضعفاء المؤمنين.
أقول: سيأتي ما يخالف ذلك، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل في دار أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة إلا أن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذي فيه استدعاء سيدنا علي رضي الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبي رافع رضي الله تعالى عنهما وأنهما صحباه. ولا ينافي ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد عليّ رضي الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدي الودائع، لأن تلك الليالي الثلاث كانت مدة تأدية الودائع؛ ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ يكون قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على أم كلثوم فلا مخالفة، لكن في السيرة الهشامية فنزل: أي عليّ معه أي مع النبي صلى الله عليه وسلم على أم كلثوم وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث في قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتي، وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبي رافع، لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة.
وفي الإمتاع: لما قدم عليّ من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه، فاعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ولا مانع من وقوع ذلك من عليّ مع وجود ما يركبه، لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة في عظيم الأجر.
وفي السيرة الهشامية: أن إقامة عليّ بقباء كانت ليلة أو ليلتين، وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، قال علي: فسألتها فقالت: هذا سهل بن حنيف قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا: أي اجعليه للنار، فكان عليّ يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم.
قال: ونزل أبو بكر على حبيب بن أبي إساف، وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فحاء مهملة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ولد نبيكم يوم الاثنين، وحملت به أمه يوم الاثنين، وخرج من مكة: أي من الغار يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.
قال الحاكم: تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين. زاد بعضهم: وفتح مكة كان يوم الاثنين، ووضع الركن كان يوم الاثنين.
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكي، وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه. وقيل خرج من مكة أي إلى الغار يوم الخميس، وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم في الغار تلك الليلة التي هي ليلة الجمعة، وليلة السبت وليلة الأحد، وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد.
ففي البخاري «أتاهما» أي الدليل «براحلتيهما صبح ثلاث» وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبي بكر، وقول أبي بكر «سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة» يقتضي أنهما خرجا من الغار ليلا، بل أول الليل، لأن مع التأكيد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا، وتقدم عن البخاري «أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث» وحمل ذلك على ما قارب الصبح من الليل بعيد فليتأمل هذا المحل. وقيل دخلها أي المدينة ليلا كما في رواية لمسلم، أي وقال الحافظ ابن حجر: ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا.
أقول: لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة، فلا يخالف ما تقدم، وقيل دخلها يوم الجمعة. وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم.
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة. فعن البراء رضي الله تعالى عنه، قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير: أي الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلنّ بقولهن: طلع البدر علينا. الخ.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:

طلع البدر علينا *** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا *** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع

قال: واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة، بل هي من جهة الشام. فقد قال ابن القيم في الهدى في غزوة تبوك: ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة. ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك، وليس في محله، وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها في دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اهـ.
أي وفي كلام بعضهم: ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها، فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود، فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به؛ وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشي مع المسافر من المدينة إليها، وهو اسم قديم جاهلي، وقيل إسلامي؛ سمي ذلك المحل لذلك، وقيل لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتي استمتعوا بهن في خيبر عند رجوعهن من خيبر، أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها، أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودّع بعض المسافرين عندها، وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء، وسياق بعضهم يقتضيه؛ وسياق بعض آخر يقتضي أنه كان عند دخوله قباء؛ ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء، ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ فعن البراء إلى آخره، وهي المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم؛ وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره، ولعل منه ما في بعض الروايات المتقدمة «دخل المدينة يوم الجمعة» الذي حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم.
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس أي وأبو بكر شيخ: أي شيبه ظاهر، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب: أي شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبي بكر كما تقدم.
وقد قال أنس: لم يكن في الذين هاجروا أشمط غير أبي بكر «فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء أبا بكر فيعرفه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرفه الناس أي عرفه من جاء منهم بعد ذلك: أي لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم.
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم «ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف» أي في قباء «بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثة ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة» وقيل لبث بضع عشرة ليلة، وهو المنقول عن البخاري.
وعن ابن عقبة «أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة» وفي الهدى «أقام أربعة عشر يوما» وهو ما في صحيح مسلم فليتأمل «وأسس في قباء المسجد الذي أسس على التقوى: أي الذي نزلت فيه الآية، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال في الهدى: ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: «مسجدكم هذا، وأشار لمسجد المدينة» أي وفي رواية «فأخذ حصاة فضرب به الأرض، وقال:مسجدكم هذا» يعني مسجد المدينة، لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه.
ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بني المدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى: أي لكن الذي نزلت فيه الآية مسجد قباء وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار قال: قيل وكان محل مسجد قباء مربد أي محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم، وهو أول مسجد بني في الإسلام لعموم المسلمين، فلا ينافي أنه بني قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذي بناه كالمسجد الذي بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم.
أي وفي كلام ابن الجوزي: أول من بنى مسجدا في الإسلام عمار بن ياسر.
وفي السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر: ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه، فجمع حجارة فبنى مسجد قباء أي فإنه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار، فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين.
قال: وعن جابر «لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، نعمر المساجد، ونقيم الصلاة» ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير. ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد في المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال: كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم، أي ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثني عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان.
وقد يقال: ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثني عشر عليه، بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر، والمدة تزيد على السنتين فليتأمل. وهو: أي مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أي آمنين.
وقيل: إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا.
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية، وما في الطبراني بسند رجاله ثقات، عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضي الله تعالى عنها قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر أي يتبعه فيأتي الرجل من أصحابه فيقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي تعطيني أكفك. فيقول: «لآخذ مثله حتى أسسه».
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال: «يا أهل قباء ائتوني بأحجار من الحرة»، فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه، ثم قال: «يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجر فضعه إلى جنب حجر عمر» قال بعضهم: كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة، وسيجيء في بناء مسجد المدينة نحوه، ويحتاج للجمع بين هذه الروايات.
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال «من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة» وروي: أي الترمذي والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «صلاة في مسجد قباء كعمرة» وفي رواية «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: لو كان بطرف من الأطراف. وفي رواية في أفق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل.
أي وصحح الحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا» وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن أبيه قال «خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء» وعن ابن عمر «أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء فيصلي فيه ركعتين» وعنه قال «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلي فجاءته الأنصار تسلم عليه. فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم، قال: يشير إليهم بيده وهو يصلي» أي يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق.
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة في الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضي الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلي فسلمت فأومأ إليها برأسه.
وفي الهدى: وأما حديث «من أشار في الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته» فحديث باطل. وفي كلام بعضهم: قد ثبت في الأحاديث الصحيحة «أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو في الصلاة أشار باصبعه المباركة جواب السلام» وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول، وهو «من أشار في صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته» وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة.
ولما نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [التّوبة: 108] أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال: ما هذا الطهور الذي أنثى الله عليكم به. فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا  امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، فقال: «هو هذا» وفي لفظ «أتاهم رسول الله في مسجد قباء» أي وفي الكشاف «ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس، فقال: «أمؤمنون أنتم؟» فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أتؤمنون بالقضاء؟» قالوا نعم، قال: «وتصبرون على البلاء؟» قالوا نعم، قال: «أتشكرون على الرخاء؟» قالوا نعم، قال عليه الصلاة والسلام: «مؤمنون ورب الكعبة»، فجلس وقال: «يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تتبعون عند الوضوء وعند الغائط» أي المعبر عنه بالطهور فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [التّوبة:108] هذا كلامه. وفي رواية، «فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء في الطهور، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟» قالوا: يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلناها كما غسلوا وفي لفظ «كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعه، قال: «فلا تدعوه» وفي لفظ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنانة، فقال: «هل مع ذلك غيره؟» قالوا لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء وفي رواية، «ستنجي من البول والغائط زاد في رواية ولا ننام الليل كله على الجنابة، قال: «هو ذاك فعليكموه» أي ألزموه.
أي وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء. قال بعضهم في إسناده ضعف، وبهذا وما تقدم من ذكر الحجارة يرد على الإمام النووي حيث قال: هكذا أي ذكر الحجر مع الماء في خبر الأنصار بقباء رواه الفقهاء في كتبهم، وليس له أصل في كتب الحديث، بل المذكور فيها أنهم قالوا كنا نستنجي بالماء وليس فيها مع الحجر. أي ويكون السكون عن ذكر الحجر لكونه كان معلوما فعله.
وفي الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في شرعه وأمته الاستنجاء بالجامد، وبالجمع فيه بين الماء والحجر.
ومن أهل قباء عويمر بن ساعدة قال في حقه صلى الله عليه وسلم «نعم العبد من عباد الله والرجل من أهل الجنة عويمر بن ساعدة» أي لأنه كان أول من استنجى بالماء كما قيل، أي ومن ثم جاء تخصيصه بالسؤال. فقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويمر بن ساعدة فقال: «ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به». فقال: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط الحديث، وهذا السياق ربما يقتضي أن الاستنجاء بالماء لم يكن معروفا في غير أهل قباء نزول هذه الآية.
وفي كلام بعضهم: أول من استنجى بالماء إبراهيم الخليل. وكره بعض الصحابة الاستنجاء بالماء وهو حذيفة، ولعله لكونه في الاستنجاء بالماء عدول عن الرخصة.
ونقل عن ابن عمر أنه كان لا يستنجي بالماء، ولعله لما ذكرنا، وكذا ما نقل عن ابن الزبير «ما كنا نفعله» وعن الإمام أحمد أنه لم يصح حديث في الاستنجاء بالماء. وبالغ مغلطاي في رده. وعن سيدنا مالك إنكار أن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، ولعل المراد إنكار صحة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فليتأمل.
وذكر الأحجار في الخبر يؤيد ظاهره ما ذكره إمامنا في الأم أن سنة الجمع بين الحجر والماء تتوقف على كون الاستنجاء بالحجر كافيا لو اقتصر عليه بقوله والاستنجاء بالحجر كاف، ولو أتى به: أي بالاستنجاء الكافي رجل ثم غسل بالماء كان أحب إليّ، وإنما قلنا ظاهره لإمكان رجوع الضمير للاستنجاء لا بقيد كونه كافيا.
والذي عليه متأخرو أصحابنا أن سنة الجمع يكتفي فيها بإزالة العين ولو بحجر واحد. وقد يقال هذا محبوب، وما ذكره الإمام أحب.
ولا يخفى أن حديث الأنصار يقتضي اختصاص سن الجمع بين الحجر والماء بالغائط، وبه قال القفال في كتابه «محاسن الشريعة» والمفهوم من نص الأم أن مثل الغائط البول، ثم بعد إقامته صلى الله عليه وسلم المدة المذكورة بقباء ركب راحلته الجدعاء، وقيل القصواء، وقيل العضباء. أي قاصدا المدينة. والجدعاء بالدال المهملة: المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها. والقصواء: المقطوع طرف أذنها. والعضباء: المشقوقة الأذن. قال بعضهم. وهذه ألقاب، ولم يكن بها: أي بتلك النوق شيء من ذلك، وسيأتي عن الأصل أن هذه ألقاب لناقة واحدة.
ولما ركب صلى الله عليه وسلم وخرج من قباء وسار سار الناس معه ما بين ماش وراكب أي ولازال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا: أي حرصا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له حتى دخل المدينة. قال: وصار الخدم والصبيان يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء محمد صلى الله عليه وسلم، ولعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قالت بنو عمرو بن عوف له صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أخرجت ملالا لنا، أم تريد دارا خيرا من دارنا؟ قال «إني أمرت بقرية تأكل القرى» أي تغلبها وتقهرها، والمراد أهلها: أي أن أهلها تفتح القرى فيأكلون أموال أهل تلك القرى، ويسبون ذراريهم فخلوا سبيلها، يعني ناقته صلى الله عليه وسلم، أي ومن أسماء تلك القرية المدينة.
وروى الشيخان «أمرت بقرية تأكل القرى يثرب وهي المدينة» فالمدينة علم بالغلبة على تلك القرية كالنجم للثريا إذا أطلق فهي المرادة، وإن أريد غيرها قيد، والنسبة إليها مدني، ولغيرها من المدن مديني للفرق بينهما. ويثرب: اسم محل فيها سميت كلها به، ولعل ذلك المحل سمي بذلك لأنه نزل به يثرب من نسل نوح.
وفي الحديث «المدينة تنفي الناس» أي شرارهم «كما ينفي الكبير خبث الحديد» .
ففي بعض الروايات «لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها» قيل وكان ذلك في حياته صلى الله عليه وسلم. وقيل يكون ذلك في زمن الدجال، فقد جاء أن الدجال يرجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه» وفي رواية «ينزل الدجال السبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل منافق وكافر» وبهذا استدل من قال: كون المدينة تنفي الخبث ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، لأن المنافقين كانوا بها، وخرج منها جماعة من خيار الصحابة منهم علي وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود.
وفي كلام ابن الجوزي أن عبد الله بن مسعود مات بالمدينة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أيّ أرض مات بها رجل من أصحابي كان قائدهم ونورهم يوم القيامة» وفي رواية «فهو شفيع لأهل تلك الأرض» .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» أي خير لهم من بلاد الرخاء، بدليل صدر الحديث «يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله من هو خير منه» أي من خرج منها رغبة عنها إلى غيرها من بلاد الرخاء والسعة فلا دليل في ذلك على أنها أفضل من مكة.
ومن أسمائها أكالة البلدان، ومن أسمائها البارة بتشديد الراء، وتسمى الفاضحة لأن من أضمر فيها شيئا أظهر الله ما أضمره وافتضح به: أي فالمراد أضمر شيئا من السوء. وقد قال صلى الله عليه وسلم «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى، هي طابة» كشامة «هي طابة، هي طابة، قال ذلك ثلاثا» وفي رواية «فليستغفر الله، فليستغفر الله، فليستغفر الله، هي طيبة» كهيبة «هي طيبة، هي طيبة، هي طائب» ككاتب.
قيل: وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها، ولا يدخلها طاعون ولا دجال، ولا يكون بها مجذوم: أي لأن ترابها يشفي من الجذام، وتسميتها يثرب في القرآن إنما هو حكاية لقول المنافقين أي بعد نهيهم عن ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم «لا أراها إلا يثرب» أي ونحو ذلك من كل ما وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم من تسميتها بذلك كان قبل النهي عن ذلك.
أي وجاء «إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها» ويأزر بكسر الزاي أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض، وفي رواية «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، يأزر كما تأزر الحية إلى جحرها» ، وإنما كرهت تسميتها بيثرب، لأن يثرب مأخوذ من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب، ومنه قوله تعالى: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ} [يوسف:92] أو من الثرب بالتحريك وهو الفساد.
وعن القاسم بن محمد، قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، وقيل أحد عشر، من جملتها سكينة، أي ومن جملتها الجابرة: أي التي تجبر، والعذراء والمرحومة. وفي كلام بعضهم: لها نحو مائة اسم منها دار الأخيار، ودار الأبرار، ودار الإيمان، ودار السنة، ودار السلامة، ودار الفتح. قال الإمام النووي: لا يعرف في البلاد أكثر اسما منها ومن مكة.
ومما يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء متوجها إلى المدينة كان يوم الجمعة قول بعضهم: وعند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي بمن معه من المسلمين وهم مائة، وصلاها بعد ذلك في المدينة وكانوا به صلى الله عليه وسلم أربعين.
فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا، أي ولم يحفظ أنه صلاها مع النقص عن هذا العدد ومن حينئذ صلى الجمعة في ذلك المسجد. سمي هذا المسجد بمسجد الجمعة، وهو على يمين السالك نحو قباء، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة: أي وخطب لها، وهي أول خطبة خطبها في الإسلام أي ومن خطبته تلك «فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإنها تجزي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته» وفي رواية «والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ونقل القرطبي هذه الخطبة في تفسيره، وأوردها جميعها في المواهب، وليس فيها هذا اللفظ.
أقول: هذا واضح إن كان أقام في قباء الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس كما تقدم وأما على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بضع عشر ليلة أو أكثر من ذلك كما تقدم، فيبعد أنه لم يصل الجمعة في قباء في تلك المدة. ثم رأيت في كلام بعضهم أنه كان يصلي الجمعة في مسجد قباء في إقامته هناك.
أي ويبعد أن صلاها من غير خطبة. وفي الجامع الصغير «إن الله كتب عليكم الجمعة في مقامي هذا، وفي ساعتي هذه، في مشهدي هذا، في عامي هذا إلى يوم القيامة، من تركها من غير عذر مع إمام عادل أو إمام جائر فلا جمع له شمله ولا بورك له في أمره، إلا ولا صلاة له ولا حج له، إلا ولا بركة له ولا صدقة له» فإن كان قال ذلك في هذه الخطبة التي خطبها في مسجد الجمعة كما هو المتبادر، اقتضى ذلك أنها لم تكن واجبة قبل ذلك وهو مخالف قول فقهائنا أنها وجبت بمكة ولم تقم بها لعدم قدرتهم على إظهارها بمكة، لأن إظهارها أقوى من إظهار جماعة الصلوات الخمس.
وفي الإتقان مما تأخر حكمه عن نزوله آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة. وقول ابن الغرس إن اقامة الجمعة لم تكن بمكة قط يرده ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك؛ قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره، فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع النداء يستغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا؟ قال: أي بني، كان أول من صلى بنا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، هذا كلامه، وليتأمل ما وجه الرد من هذا.
وجاء «صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها، وصيام شهر رمضان في المدينة ألف شهر فيما سواها» كذا في الوفاء عن نافع عن ابن عمر. وأوّل قرية صليت فيها الجمعة بعد المدينة قرية عبد القيس بالبحرين، وهل كانت الخطبة قبل الصلاة أو بعدها.
في الدر أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو بالمدينة يخطب الجمعة بعد أن يصلي مثل العيدين، فبينما هو يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير دحية الكلبي، وكان إذا قدم يخرج أهله للقائه بالطبل واللهو، ويخرج الناس للشراء من طعام تلك العير والتفرج عليها، وقيل للتفرج على وجه دحية، فقد قيل كان إذا قدم دحية المدينة لم تبق معصر إلا خرجت لتنظر إليه لفرط جماله. ولا مانع أن يكون ذلك لاجتماع الأمرين، فانفض الناس ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا نحو اثني عشر رجلا. والجلال المحلي في قطعة التفسير أسقط لفظ نحو: أي وانفضاض ما عدا هؤلاء، يحتمل أن يكون بعد ذلك في حال الخطبة قبل تمام الأركان. ويحتمل أن يكون بعد ذلك.
وعلى الأول: يجوز أن يكون رجع ممن انفض ما يكمل به العدد أربعين قبل طول الفصل. وقد أعاد صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعوه من أركان الخطبة عند انفضاضهم، فلا يخالف ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجوب سماع أربعين لأركان الخطبة.
قال مقاتل: بلغني أنهم فعلوا ذلك أي الانفضاض عند الخطبة ثلاث مرات، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] . ثم صار صلى الله عليه وسلم يخطب قبل أن يصلي أي ليحافظ الناس على عدم الانفضاض لأجل الصلاة، وعليه انعقد الإجماع، فلا نظر لمخالفة الحسن البصري. وحينئذ يكون قول بعض فقهائنا استدلالا على وجوب تأخر صلاة الجمعة عن الخطبتين يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين أي استقر ثبوت ذلك.
وعن الزهري بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب أي في غير الخطبة المتقدمة «كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر من الناس، يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا، فما شاء الله كان لا ما شاء الناس، وما شاء الله كان ولو كره الناس، لا مبعد لما قرب الله، ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شيء إلا بإذن الله» والله أعلم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته بعد الجمعة متوجها للمدينة: أي وقد أرخى زمامها ولم يحركها وهي تنظر يمينا وشمالا، فسأله بنو سالم منهم عتبان بكسر العين المهملة ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك، وعبادة بن الصامت، فقالوا: يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعزة والمنعة. وفي لفظ والثروة وفي لفظ أنزل فينا، فإن فينا العدد والعدة والحلقة أي السلاح ونحن أصحاب الحدائق والدرك، يا رسول الله كان الرجل من العرب يدخل هذه البحيرة خائفا فيلجأ إلينا، فقال لهم «خيرا، وقال: خلوا سبيلها» يعني ناقته «دعوها فإنها مأمورة» ، أي وفي رواية «إنها مأمورة خلوا سبيلها وهو يتبسم ويقول: بارك الله عليكم، فانطلقت حتى وردت دار بني بياضة» أي محلتهم، أي والمراد القبيلة فسأله بنو بياضة أي ومنهم زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو ومثل ما تقدم، وأجابهم بأنها مأمورة خلوا سبيلها، فانطلقت حتى وردت دار بني ساعدة أي ومنهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة، فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك وأجابهم بخلوا سبيلها فإنها مأمورة، فانطلقت حتى مرت بدار عديّ بن النجار وهم أخواله صلى الله عليه وسلم أي أخوال جده عبد المطلب كما تقدم أي بأوائل دورهم فسأله بنو عدي بن النجار أي أولئك الطائفة منهم بمثل ما تقدم أي وفي رواية «أنهم قالوا له: نحن أخوالك، هلم إلى العدة والمنعة والعزة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله» أي زاد في رواية لا تجاوزنا، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا، وأجابهم بأنها مأمورة، فانطلقت حتى بركت في محل من محلات بني النجار وذلك في محل المسجد، أي محل بابه أو في محل المنبر الآن وذلك عند دار بني مالك بن النجار، وعند باب أبي أيوب الأنصاري» أي واسمه خالد بن زيد النجاري الأنصاري الخزرجي شهد العقبة وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مع علي بن أبي طالب من خاصته شهد معه الجمل وصفين والنهروان. غزا أيام معاوية أرض الشام مع يزيد بن معاوية سنة خمسين، وقيل:
إحدى وخمسين فتوفي عند مدينة قسطنطينية فدفن هناك. وأمر يزيد بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبره حتى خفي أثر القبر خوفا أن تنبشه الكفار، فكان المشركون إذا أمحلوا كشفوا عن قبره فيمطروا فلم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم ثم وثبت، وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها، ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها فبركت فيه وتجلجلت أي بالجيم تضعضعت ووضعت جرانها أي باطن عنقها من المذبح إلى المنحر، وأزرمت أي صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها صلى الله عليه وسلم، {وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ}[المؤمنون:29] أي قال ذلك أربع مرات، وأخذه صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذه عند الوحي أي وسري عنه وقال: هذا إن شاء الله يكون المنزل أي وأمر أن يحط رحله وفي لفظ: أن أبا أيوب قال له ائذن لي أن أنقل رحلك فأذن له، واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه في بيته، أي وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده، أي وذكر بعضهم أن أبا أيوب لما نقل رحله أناخ الناقة في منزله. وقد يقال: لا مخالفة، لجواز أن يكون أسعد أخذ بزمامها بعد ذلك فكانت عنده.
أي وعن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه «لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة اقترعت الأنصار أيهم يأويه فقرعتهم» الحديث. وقد يقال: مراده بالأنصار أهل تلك المحلة التي بركت فيها الناقة.
وذكر السهيلي أنها لما ألقت جرانها في دار بني النجار: أي في محل من محلاتها جعل رجل من بني سلمة وهو جبار بن صخر، أي وكان من صالحي المسلمين ينخسها رجاء أن تقوم فينزل في دار بني سلمة فلم تفعل.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم «قال خير دور الأنصار بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير» .
ولما بلغ ذلك سعد بن عبادة وجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع، أسرجوا إليّ حماري أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ابن أخته سهل، فقال: أتذهب لتردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم؟ أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع، فرجع وقال: الله ورسوله أعلم، وأمر بحماره فحل عنه. وفي رواية قال له: اجلس، ألا ترضى أن سماك رسول الله في الأربع الدور التي سمى، فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمي، فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت جويريات من بني النجار بالدفوف يقلن:

نحن جوار من بني النجار *** يا حبذا محمد من جار

فخرج إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أتحببنني، وفي رواية أتحبوني؟» قلن نعم يا رسول الله، فقال: «الله يعلم أن قلبي يحبكن» وفي رواية «والله أحبكم» وفي رواية «وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم، وأنا والله أحبكم قال ذلك ثلاثا» وهذا دليل لسماع الغناء على الدفّ من المرأة لغير العرس؛ ويدل لذلك أيضا ما جاء عن ابن عباس مرفوعا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا سماطين، وجاءت جارية يقال لها سيرين معها مزهر تختلف به بين القوم، وهي تغنيهم وتقول:

هل عليّ ويحكم *** إن لهوت من حرج

فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «لا حرج إن شاء الله تعالى» .
وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار يغنيان وفي رواية يضربان بدفين، فاضطجع صلى الله عليه وسلم على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فانتهرني، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «دعها» وفي رواية «قال أبو بكر بمزمور» وفي رواية «بمزمار» وفي لفظ «بمزمارة الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ذلك مرتين وانتهرني، وكان صلى الله عليه وسلم متغشيا بثوبه، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف، فقال: «دعها يا أبا بكر فإنها أيام عيد» أي لأن تلك كانت أيام منى.
وقيل كان يوم عيد الفطر. وقيل الأضحى، ولا مانع من تعدد الواقعة.
أقول: في البخاري عن الربيّع بنت معوّذ أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها غداة بنى عليها وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر، حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» .
وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: «إن كنت نذرت فاضربي»، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها وقعدت عليه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان ليفرق منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب ودخل أبو بكر وهي تضرب، فلما دخلت أنت ألقت الدف» أي وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل.
ولا ينافي هذا: أي سماعه الغناء من المرأة مع الضرب على الدف ما تقدم في باب ما حفظ به صلى الله عليه وسلم في صغره من أمر الجاهلية، لأن الدف ثم كان معه مزمار بخلافه هنا، وتسمية أبي بكر رضي الله تعالى عنه الدف مزمارا، لأنه كان يعتقد حرمة ذلك، فشبهه بالمزمار المحرم سماعه.
قال بعضهم: واعلم أن السماع في طريق القوم معروف وفي الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف. وقال بعض آخر: إنه من أكبر مصايد النفوس أي والرجوع بها إلى الله تعالى. وقد شوهد تأثير السماع في الحيوانات غير الناطقة بل في الأشجار، ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع.
وعن أبي بشير: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر مرّا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون ويقولون:

يا أيها الضيف المعرج طارقا *** لولا مررت بآل عبد الدار
لولا مررت بهم تريد قراهم *** منعوك من جهد ومن إقتار

أي ولم ينكر عليهم، وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر، فقد صحت الأخبار وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه صلى الله عليه وسلم بالأصوات الطيبة مع الدف وبغيره، وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ولو فيه جلاجل لما هو سبب لإظهار السرور. وعلى جواز إنشاد الشعر واستماعه، حيث خلا عن هجو لغير نحو فاسق متجاهر بفسقه، وخلا عن تشبب بمعين من امرأة أو غلام، والخلاف إنما هو في سماع الملاهي كالأوتار والمزامير، وخوف الفتنة من سماع صوت المرأة أو الأمرد الجميل.
ونقل عن الجنيد أنه قال: الناس في السماع: أي سماع الآلات على ثلاثة أضرب العوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم. والزهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهداتهم. والعارفون وهو مستحب لهم الحياة قلوبهم. وذكر نحوه أبو طالب المكي، وصححه السهروردي في عوارف المعارف.
وفي كلام بعضهم: جبلت النفوس حتى غير العاقلة على الإصغاء إلى ما يحسن من سماع الصوت الحسن، فقد كانت الطيور تقف على رأس داود عليه الصلاة والسلام لسماع صوته، لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن صفوان بن أمية وهو من المؤلفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء عمر بن قرة، فقال: يا رسول الله إن الله كتب عليّ الشقوة فلا أنال الرزق إلا من دفي بكفي، فأذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة، كذبت أي عدوّ الله: أي يا عدوّ الله، والله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرّم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله، أما إنك لو قلت بعد كهذه المقالة، لضربتك ضربا وجيعا» إلا أن يقال هذا النهي إن صح محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة، وهو مكروه تنزيها. وقوله صلى الله عليه وسلم «اخترت ما حرم الله عليك» إلى آخره للمبالغة في التنفير عن ذلك.
ونزل صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب وقال: «المرء مع رحله»، أي بعد أن قال أي بيوت أهلنا يعني أهل تلك المحلة من بني النجار أقرب؟ فقال أبو أيوب: داري هذه وقد حططنا رحلك فيها، فذهبت تلك الكلمة أي التي هي: المرء مع رحله مثلا وقال: اذهب فهيىء لنا مقيلا فذهب فهيأ ذلك، ثم جاء فقال: يا نبي الله قد هيأت مقيلا فقم على بركة الله تعالى، ونزل معه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه .
أقول: وفي رواية فتنازع القوم أيهم ينزل عليه أي كل يحرص على أن تكون داره له منزلا أي مقاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك، فلما أصبح غدا حيث أمر» وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل الليلة»: أي غد تلك الليلة، ولا يخالف هذا ما قبله من قول بني النجار هلم إلينا، وقوله لهم: إنها مأمورة، لجواز أن يكون أمر بالنزول عليهم.
واعلم أن خصوص البقعة والمحلة من محلات بني النجار التي ينزل بها من دارهم ما تبرك به الناقة. وفيه أنه يبعد مع ذلك، أي مع قوله المذكور أي أنه ينزل على بني النجار سؤال غير بني النجار في النزول عنده، إلا أن يقال لعل السائلين له صلى الله عليه وسلم في ذلك لم يبلغهم قوله المذكور، أو جوزوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا له في ذلك رأي، وقد أشار إلى نزوله صلى الله عليه وسلم على بني النجار الإمام السبكي في تائيته بقوله:

نزلت على قوم بأيمن طائر *** لأنك ميمون السنا والنقيبة
فيا لبني النجار من شرف به *** يجرون أذيال المعالي الشريفة

وهذا السياق يدل على أن تنازع القوم، وقوله لهم المذكور كان في آخر ليلة، وهو في قباء، وهو يرد قول بعضهم: يشبه أن يكون ذلك في أول قدومه صلى الله عليه وسلم من مكة قبل نزوله قباء، لا في قدومه باطن المدينة. فالمراد بأهل المدينة أهل قباء.
ويرد قول سبط ابن الجوزي لعله نزل على بني النجار ليلة: أي تلك الليلة ثم ارتحل إلى بني عمرو بن عوف أي في قباء. هذا وفي رواية عن أنس بن مالك رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى ملأ من بني النجار فجاؤوا متقلدين سيوفهم. قال أنس: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رديفه وملأ من بني النجار حوله حتى أناخ بفناء أبي أيوب وهذه الرواية وقع فيها اختصار كبير.
ويقال «إنه صلى الله عليه وسلم عرّج على عبد الله بن أبي ابن سلول وكان جالسا محتبيا وأراد النزول عليه، فقال له «اذهب إلى الذين دعوك وأنزل عليهم»، فقال له سعد بن عبادة: يا رسول الله لا تجد في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه وقد وقع له في بعض الأيام أنه صلى الله عليه وسلم، قيل له: يا رسول الله لو أتيت عبد الله بن أبي ابن سلول أي متألفا له ليكون ذلك سببا لإسلام من تخلف من قومه، وليزول ما عنده من النفاق «فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال له: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد، والأيدي والنعال، فنزل {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] كذا في البخاري.
وفيه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على ابن أبي ابن سلول وهو في جماعة فقال ابن أبيّ: لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد، فسمعها ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه برأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم «لا، ولكن برّ أباك» وكان ابن أبيّ جميل الصورة ممتلىء الجسم، فصيح اللسان، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}[المنافقون:4] الآية، ولكونه متبوعا جيء فيه بصيغة الجمع.
وعن الزهري أخبرني عروة بن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حمارا على إكاف وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مرّ بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ابن سلول، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة فثار غبار من مشي الحمار، فخمر ابن أبيّ أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا؛ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم نزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال ابن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بن رواحة: بل يا رسول الله فاغشنا فإنا نحب ذلك، واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتبادرون، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب يعني ابن أبيّ»، قال كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه فيعصبوه بالعصابة، فلما ردّ بالحق الذي أعطاك الله شرق، فذلك الذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
ومكث صلى الله عليه وسلم ببيت أبي أيوب إلى أن بني المسجد وبعض مساكنه، وقد مكث في بناء ذلك من شهر ربيع الأول إلى شهر صفر من السنة القابلة، أي وذلك اثنا عشر شهرا: وقيل مكث ببيت أبي أيوب سبعة أشهر.
«قال ولما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون» أي غالبهم أخذا مما يأتي «فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان، فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم. فكان المهاجرون في دور الأنصار وأموالهم» اهـ.
وكان من جملة محل مسجده صلى الله عليه وسلم مسجد لأبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه، وكان أبو أمامة يجمع فيه بمن يليه، بناه في بعض مربد للتمر لسهل وسهيل: أي يجفف فيه التمر، ويرادف المربد الجرين والمسطح والبيدر: وهو ما يبسط فيه الزرع أو التمر للتجفيف.
«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ذلك المسجد، قال: فعن أمّ زيد بن ثابت أنها قالت: رأيت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يصلي بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم في مسجد بناه في مربد سهل وسهيل، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم وصلى بهم في ذلك المسجد وبناه» أي مع إدخال بقية ذلك المربد فهو مسجده.
وحينئذ لا يخالف ذلك قول الحافظ الدمياطي عن الزهري قال «بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين قبل قدومه صلى الله عليه وسلم، وكان مربدا لسهل وسهيل، وكان جدار مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، وكان يصلي بأصحابه ويجمع بهم فيه الجمعة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار يصلي فيه» .
وفي الإمتاع «كان أسعد بن زرارة بنى فيه جدارا تجاه بيت المقدس كان يصلي إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير، ثم صلى بهم إليه مصعب» هذا كلامه، وتعلم ما فيه لما قدّمناه في قدوم مصعب المدينة، لكن في البخاري «أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مرابض الغنم قبل أن يا بني المسجد» أي ولعله اتفق له ذلك في بعض الأوقات، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي حيث أدركته الصلاة.
«ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة التي كان من جملتها ذلك المسجد ليجعلها مسجدا فإنها كانت في يده ليتيمين في حجره، وهما سهل وسهيل، وقيل كانا في حجر معاذ ابن عفراء» قال في الأصل، وهو الأشهر.
وفي المواهب: أن الأو ل هو المرجح، واليتيمان المذكوران من بني مالك بن النجار، وقيل كانا في حجر أبي أيوب الأنصاري. قال بعضهم: والظاهر أن الكل: أي من أسعد ومعاذ وأبي أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عمّ فنسبا إلى حجر كل.
«وقد عرض أبو أيوب عليه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ تلك الأرض ويغرم لليتيمين قيمتها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر» أي وفي رواية «فدعا الغلامين فساومهما بالمربد فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك» أي وحينئذ يكون وصفهما باليتيم باعتبار ما كان.
وفي رواية أرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملأ من بني النجار ولعلهم من تقدم وهم أسعد ومعاذ وأبو أيوب ومعهم سهل وسهيل فجاؤوه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم «ثامنوني بحائطكم هذا أي خذوا مني ثمنه». قالوا لا يا رسول الله، والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، فأبى أن يأخذه إلا بالثمن.
قال «وجاء أن أسعد بن زرارة عوض اليتيمين من تلك الأرض نخلا أي له في بني بياضة، وقيل: أرضا هما فيها أبو أيوب، وقيل معاذ ابن عفراء» .
وطريق الجمع بين ذلك أنه يحتمل أن كلا من أسعد وأبي أيوب ومعاذ ابن عفراء دفع للغلامين شيئا: أي زيادة على العشرة دنانير فنسب ذلك لكل منهم.
وجاء «أنه كان في تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها صلى الله عليه وسلم فنبشت؛ وأمر بالعظام فألقيت» اهـ، أي وفي رواية «وأمر بالعظام أن تغيب» أي وفي رواية «كان في موضع المسجد نخل وخرب» أي حفر ومقابر للمشركين «فأمر صلى الله عليه وسلم بالقبول فنبشت، وبالخرب فسويت، وبالنخل فقطعت» .
أي وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة» أي وهي تلك الأرض التي كانت مربدا، أي وسمي حديقة لوجود النخل به «وأمر بالغرقد الذي فيه أن يقطع» أي والغرقد: شجر معروف. وبقيع الغرقد: مقبرة أهل المدينة. وشجر الغرقد: يقال له شجر اليهود، فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال ولجنده من اليهود، فإذا توارى اليهودي بشجرة نادته يا روح الله هاهنا يهودي، فيأتي حتى يقف عليه، فإما أن يسلم وإما أن يقتل؛ إلا شجر الغرقد فإنه لا يدل على اليهودي إذا توارى به؛ فقيل له شجر اليهود لذلك.
قال: وكان في المربد ماء مستبحر فسيروه حتى ذهب. والمستبحر الذي ينشع ويظهر من الأرض.
«ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ وبنى المسجد» وجاء «أنه صلى الله عليه وسلم عند الشروع في البناء وضع لبنة، ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة أي بجانب لبنته صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عمر فوضع لبنة بجانب لبنة أبي بكر، ثم جاء عثمان فوضع لبنة بجانب لبنة عمر» .
أي وقد أخرج ابن حبان لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجرا وقال لأبي بكر: «ضع حجرك إلى جنب حجري، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال لعثمان ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدي» قال أبو زرعة إسناده لا بأس به، فقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وفي رواية «هؤلاء ولاة الأمر بعدي» قال ابن كثير وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جدا.
قال بعضهم: وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ما ذكر. أي ضع حجرك إلى جنب حجر عمر يرد على من زعم أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قبورهم، أي إذ لو كان إشارة إلى ذلك لدفن عثمان بجانب عمر كما دفن عمر بجانب أبي بكر، بل هو إشارة إلى ترتيب الخلافة، أي لأنه لا يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي إلا ذلك» ومن ثم جاء في رواية «فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال أمر الخلافة من بعدي» .
وتصحيح الحاكم لما ذكر يظهر التوقف في قول بعضهم إن هذا لم يجىء في الصحيح إلا أن يريد صحيح الشيخين.
وأما قوله قال البخاري في تاريخه: إن ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور، لأن عمر وعثمان وعليا قالوا: لم يستخلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقال عليه: معناه لم ينص على استخلاف أحد بعينه عند موته، وذلك لا ينافي الإشارة إلى وقوع الخلافة لهؤلاء بعده، ولا ينافي قوله «هؤلاء الخلفاء بعدي» لجواز أن يراد الخلافة في العلم. ثم رأيت ابن حجر الهيتمي أشار إلى ذلك حيث قال: قلت هذا أي وضع تلك الأحجار، وقوله صلى الله عليه وسلم «هؤلاء الخلفاء بعدي» مع احتماله للخلافة في العلم والإرشاد متقدم على وقت الاستخلاف عادة وهو قرب الموت، فلم يكن نصا سالما من المعارض هذا كلامه «ثم قال للناس ضعوا أي الحجارة فوضعوا، ورفع بالحجارة أي قريب من ثلاثة أذرع، وبني باللبن وجعل عضادتيه أي جانبيه بالحجارة وسقفه بالجريد، وجعلت عمده» وفي رواية «سواريه من جذوع النخل، وطول جداره قامة» أي كان ارتفاعه قدر قامة.
قال: وعن شهر بن حوشب قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يا بني المسجد قال «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك، قيل: وما ظلة موسى؟ قال: كان إذا قام أصاب رأسه السقف».
أي فالمراد اجعلوا سقفه يكون بحيث إذا قمت أصاب رأسي السقف، أو رفعت يدي أصابت السقف.
والجمع بين هاتين الروايتين يدل على أن المراد ما هو قريب من ذلك، بحيث لا يكون كثير الارتفاع، فلا ينافي ما يأتي من أمره بجعل ارتفاعه سبعة أذرع فليتأمل.
وفي سيرة الحافظ الدمياطي «فقيل له: ألا تسقف؟ فقال: عريش كعريش موسى، خشبات وثمام» أي وقيل للحسن: ما عريش موسى؟ قال: إذا رفع يده بلغ العرش: يعني السقف.
وفي رواية «لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد، قال: قيل لي: أي قال له جبريل: عريش كعريش أخيك موسى، سبعة أذرع طولا في السماء، وكان سبعة أذرع بحيث يصيب رأسه ولا تزخرفه، ثم الأمر أعجل من ذلك» أي وفيه أن هذا يقتضي أن موسى كان طوله سبعة أذرع، وهو يخالف ما اشتهر أن قامة موسى كانت أربعين ذراعا، وعصاه كذلك، ووثبته كذلك. وقد جاء «ما أمرت بتشييد المساجد» أي ولعل قوله ذلك كان «لما جمع الأنصار مالا وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه، إلى متى نصلي تحت هذا الجريد» .
وجاء «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» . وجاء «من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد» أي تزخرفها كما تزخرف اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم ولم يكن على السقف كبير طين، إذ كان المطر يكف: أي ينزل منه ماء المطر المخالط للطين عليهم بحيث يمتلىء: أي المسجد طينا، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت فطين: أي جعل عليه طين كثير بحيث لا ينزل عليه المطر فقال: «لا عريش كعريش موسى» فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند بنائه عمل فيه المسلمون المهاجرون والأنصار، وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليرغب المسلمين في العمل فيه.
قال: فقد جاء «أنه صلى الله عليه وسلم صار ينقل اللبن» أي في ثيابه. وفي رواية في ردائه حتى اغبرّ صدره الشريف، وصار يقول:

هذا الحمال لا حمال خيبر ***  هذا أبرّ ربنا وأطهر

أي هذا المحمول من اللبن أبرّ وأطهر يا ربنا مما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب، فالحمال بالحاء المهملة بمعنى المحمول؛ ووقع في رواية بالجيم جمع جمل، قال بعضهم: وله وجه، والأول أظهر، ولا يحسن هذا الوجه إلا إذا كانت جمال خيبر أنفس من جمال غيرها وصار يقول:

اللهم إن الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجره

قال البلاذري: وهذا القول لامرأة من الأنصار، وتمامه:

وعافهم من حرّ نار ساعره *** فإنها لكافر وكافره

والذي في البخاري «فاغفر للأنصار والمهاجرة» ولعله صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرجه عن الوزن كما هو عادته في إنشاد الشعر كما سيأتي: وفي لفظ «فأصلح» وفي لفظ «فأكرم» وفي رواية «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأناصرة» وفي رواية «فانصر الأنصار والمهاجرة» وعن الزهري أنه كان يقول «اللهم لا خير إلا خير الآخرة، فارحم المهاجرين والأنصار» لأنه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا، وفيه أنه مع قوله: اللهم إن الأجر إلى آخره لا يكون شعرا موزونا، إلا إن حذف أل من اللهم وقال لا هم وكسر همزة فارحم؛ وحينئذ تكون المرأة من الأنصار إنما نطقت بذلك: أي قالت لا هم إلى آخره، وهو صلى الله عليه وسلم هو الذي غيره.
ونقل عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال البيت، ولم أقف على قائله، وسيأتي عن الزهري أنه من إنشائه صلى الله عليه وسلم وسيأتي ما فيه.
وفي كلام بعضهم: قال ابن شهاب: يعني الزهري: لم يبلغنا في الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام: أي موزون إلا هذه الأبيات، قال ابن عائذ: أي التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد: أي وفيه أن هذا مخالف لما تقدم عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا إلا قوله هذا الحمال، فلا يحسن أن يفسر كلامه بذلك، على أنه تمثل ببيت شعر تام موزون غير ذلك، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم جعل يدور بين قتلى بدر ويقول:

نفلق هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كانوا أعقّ وألّا ما

وفي المواهب: وقد قيل إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده، أي ولذلك جاء «ما أبالي ما أوتيت إن أنا قلت الشعر من قبل نفسي» وفي الكشاف: وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر، ولا دليل على منه إنشاده أي الشعر موزونا متمثلا.
أقول: نقل الحافظ الدمياطي عن الزهري أنه كان يقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله إلا قوله:

هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبرّ ربنا وأطهر

أي فإنه من قوله، وهو يخالف ما تقدم عنه، ولعله سقط من عبارة الزهري المذكورة شيء، والأصل أنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله، ولم يقل ما قبله تاما: أي موزونا إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، فلا يخالف ما تقدم عنه، وكونه كان لا يقيم الشعر: أي لا يأتي به موزونا ولو متمثلا هو المنقول عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد قيل لها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بشيء من الشعر؟
فقالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره وآخره أوله: أي غالبا كان يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار، ويقول: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا أي وذلك قول سحيم بمهملة مصغرا عبد بني الحساس، شاعر مشهور مخضرم:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

ولما غير ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الصديق رضي الله تعالى عنه: إنما قال الشاعر كذا، فأعاده صلى الله عليه وسلم كالأول، فقال الصديق: أشهد أنك رسول الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ} [يس:69] .   ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سحيم:

الحمد لله حمدا لا انقطاع له *** فليس إحسانه عنا بمقطوع

قال أحسن وصدق، وقول الصديق أشهد أنك رسول الله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ} [يس:69] يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجري الشعر على لسانه موزونا وقد قيل له صلى الله عليه وسلم: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:

ألم ترياني كلما جئت طارقا *** وجدت بها وإن لم تطيب طيبا

الأصل وجدت بها طيبا وإن لم تطيب.
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يقول له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا رواية، والمراد بكون الشعر أبغض إليه الإتيان به، وإلا فقد كان يسمع الشعر كما تقدم ويستنشده، فقد ذكر بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم كان يستنشد الخنساء أخت صخر لأمه، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: هيه يا خناس، ويومىء بيده» .
وقد قال بعضهم: أجمع أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، ومن شعرها في أخيها المذكور:

أعينيّ جودا ولا تجمدا *** ألا تبكيان لصخر الندا
طويل النجاد عظيم الرماد *** وساد عشيرته أمردا

وللجلال السيوطي كتابه سماه «نزهة الجلساء في أشعار الخنساء» وقولنا في قول عائشة إنه كان يتمثل بالشعر، ويجعل أوله آخره: أي غالبا حتى لا ينافي ما جاء عنها: كان يتمثل بشعر ابن رواحة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود وقولها: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد شعرا إلا بيتا واحدا:

تفاءل لما تهوى بكن فلقلما *** يقال لشيء كان إلا تخلفا

وفي الخصائص الكبرى قال المزني: ولم يبلغني أنه صلى الله عليه وسلم أنشد بيتا تاما على رويه، بل إما الصدر كقول لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أو العجز كقول طرفة:

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

أي وفيه ما تقدم عن عائشة، وكقوله- وقد أنشده أعشى بني مازن أبياتا في ذم النساء، آخر تلك الأبيات:

وهن من شر غالب لمن غلب

فجعل صلى الله عليه وسلم يقول:

وهن شر غالب لمن غلب

فإن أنشد بيتا كاملا غيره أي غالبا، لما تقدم كبيت العباس بن مرداس، أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال يوما للعباس بن مرداس «أرأيت قولك» وفي لفظ أنت القائل:

أصبح نهبي ونهب العبي *** د بين الأقرع وعيينه

فقيل له: إنما هو بين عيينة والأقرع، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما هو الأقرع وعيينة»، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله» وفي لفظ أشهد أنك رسول الله، ما أنت بشاعر ولا رواية، ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع: أي أنه لا ينبغي لك أن تكون شاعرا كما قال الله، ولا ينبغي لك أن تكون راويا للشعر: أي بأن تأتي به على وجهه، أي لا يكون شأنك ذلك مباعدة عن الشعر، وكون شأنه ذلك لا ينافي وجوده منه على وجهه في بعض الأحيان فليتأمل.
وعن بعضهم: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط أي موزونا. وقد يقال: لا يخالف هذا ما تقدم عن المواهب، لأنه يجوز أن يكون هذا المنقول عن عائشة.
وعن المزني وعن بعضهم: كان أغلب أحواله كما قدمناه في المنقول عن عائشة ثم رأيته في الامتاع أشار إلى ذلك بقوله: وربما أنشد صلى الله عليه وسلم البيت المستقيم في النادر، وقول المواهب: لا دليل على منع إنشاده متمثلا، أي دائما وأبدا، ويدل لذلك قول الزهري: إنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله: هذا الحمال إلى آخره، وفيه ما علمت ولا يخفى أن الشعر عرف بأنه كلام عربي موزون عن قصد.
قال البدر الدمياطي. وقولنا عن قصد يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها: أي من بحور الشعر الستة عشر، وقد ذكرها الجلال السيوطي في نظمه للتخليص، وذلك كما في قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وكقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبإ:13] وقوله تعالى: {نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصّف:13] وككلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

أي بناء على تسليم أنه من قوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد قيل إنه من قول عبد الله بن رواحة: أي فإن ذلك مذكور في أبيات قالها في غزوة مؤتة وقد صدمت أصبعه فدميت، وذكر بدل «في سبيل الله» في كتاب الله، ولا مانع أن يكون ابن رواحة أدخل ذلك البيت في تلك الأبيات التي صنعها كما تقدم.
وفي كلام ابن دحية: ولا يمرّ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضروب الرجز إلا ضربان منهوك ومشطور؛ فالمنهوك:

أنا النبي لا كذب

والمشطور:

هل أنت إلا أصبع دميت

وقيل البيت الواحد لا يكون شعرا، على أنه قيل: إن الرجز ليس من الشعر عند الأخفش خلافا للخليل: أي فإن الأخفش احتج على أن الرجز ليس بشعر رادا على الخليل ومن تبعه القائلين بأنه من الشعر حيث قال: لأحتجنّ عليهم بحجة إن لم يقروا بها كفروا: لم كان شعرا ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى يقول {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ} [يس:69] هذا كلامه. قال في النور: والصحيح أنه شعر أي موافقة للخليل، وقد علمت أن ما جرى منه على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس شعرا لعدم قصده فليتأمل.
وقد نقل الماوردي من أئمتنا أنه كما يحرم عليه قول الشعر أي إنشاؤه، يحرم عليه روايته أي دون إنشاده متمثلا.
وفرق بعضهم بين الإنشاد والرواية، بأن الرواية يقول: قال فلان كذا؛ وأما إنشاده متمثلا، فلا يقول ذلك هذا كلامه.
وفيه أنه قال لما قيل له: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول إلى آخره. وقال للعباس بن مرداس: أنت القائل إلى آخره. قال ذلك البعض. وكان الفرق بين الرواية والإنشاد أن في قوله قال فلان فيه رفعة للقائل بسبب قوله، وهذا متضمن لرفع شأن الشعر، والمطلوب منه الإعراض عن الشعر من حيث كونه شعرا.
وفيه أن الصديق قال له عند كل من الرواية والإنشاد، لست بروايه كما تقدم، وعن الخليل: كان الشعر أحب إليه صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام.
أي وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر، لأن المراد بالشعر الذي يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق؛ والذي يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو ونحو ذلك.
ومن ثم قيل: الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. وفي الجامع الصغير:
الشعر بمنزلة الكلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، الشعر الحسن أحد الجمالين، يكسوه الله المرء المسلم.
وقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا خفي عليكم شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب، وفي كلام سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: نعم الأبيات من الشعر يقدمها الرجل في صدر حاجته، يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها لؤم اللئيم.
والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلم إنما هو إنشاد الشعر: أي الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه، وهذا هو المعنى بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ} [يس:69] .
فإن فرض وقوع كلام موزون منه صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك شعرا اصطلاحا لعدم قصد وزنه، فليس من الممنوع منه.
والغالب عليه صلى الله عليه وسلم أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله لا يأتي به موزونا، وربما أتى به موزونا.
وادّعى بعض الأدباء أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر: أي يأتي به موزونا قصدا، ولكنه كان لا يتعاطاه: أي لا يقصد الإتيان به موزونا. قال: وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا بأنه كان لا يحسنه، وفيه أن في ذلك تكذيبا للقرآن.
وفي التهذيب للبغوي. من أئمتنا، قيل: كان صلى الله عليه وسلم يحسن الشعر ولا يقوله.
والأصح أنه كان لا يحسنه، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون. ثم رأيته في ينبوع الحياة. قال: كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظا لنفسه وماله يعرّض في كلامه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر، يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس:69] .
قال بعضهم: والحكمة في تنزيه القرآن عن الشعر الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق، ومجمع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التخيل بتصور الباطل في صورة الحق، والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم والإيذاء، دون إظهار الحق وإثبات الصدق، ولهذا نزه الله تعالى نبيه عنه، ولأجل شهر الشعر بالكذب سمّى أصحاب البرهان القياسات المؤدّية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية.
وقد جاء التنفير عن إنشاد الشعر في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك ثلاث مرات» والأخذ بعمومه فيه من العسر ما لا يخفى.
وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: من قال آدم قد قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالإثم، وإن محمدا والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم في النهي عن الشعر سواء.
وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي في قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ٱلشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} [يس: 69] اعلم أن الشعر محل الإجمال واللغز والتوراة: أي ما رمزنا لمحمد صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ألغزنا ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئا آخر، ولا أجملنا له الخطاب بحيث لم يفهمه، وأطال في ذلك. وهل يشكل على ذلك الحروف المقطعة أوائل السور، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يرى أن ذلك من المتشابه، أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه والله أعلم.
ولما رأته صلى الله عليه وسلم الصحابة ينقل اللبن بنفسه دأبوا في ذلك، أي في نقل اللبن أي وهو المراد بالصخر في قول بعضهم وجعل أصحابه ينقلون الصخر، أو المراد الصخر الذي يا بنى به الجدار وجانبا الباب كما تقدم، حتى قال قائلهم:

لئن قعدنا والنبي يعمل *** لذاك منا العمل المضلل

وجعل يحمل كل رجل لبنة لبنة، وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن رأس عمار ويقول: «يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك؟» قال: إني أريد الأجر من الله تعالى وفي رواية كان يحمل لبنة عن نفسه ولبنة عنه صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال: يا بن سمية: «للناس أجر، ولك أجران، وآخر زادك أي من الدنيا شربة من لبن» وجاء في حق عمار ابن سمية «ما عرض عليه أمران قط إلا اختار رضي الله عنه الأرشد منهما، إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق، وتقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة، وتدعوك إلى النار، وعمار يقول: أعوذ بالله» . وفي رواية: بالرحمن من الفتن، أي وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستمر ينقل اللبن، بل نقل ذلك في بعض الأوقات.
وفي مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر لعمار حين شغل بحفر الخندق، فجعل يمسح رأس عمار ويقول: «ابن سمية تقتلك فئة باغية» . وفي رواية: تعيين من أبهمه أبو سعيد وهو أبو قتادة. وزاد في رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق وكان الناس يحملون لبنة لبنة» أي من الحجارة التي تقطع «وعمار ناقة من وجع كان به، فجعل يحمل لبنتين، قال لعمار: «بؤسا لك يا بن سمية، تقتلك الفئة الباغية» .
ثم رأيت بعضهم قال: يشبه أن يكون ذكر الخندق وهما، أو قالها عند بناء المسجد وقالها يوم الخندق، هذا كلامه: أي ويكون عمار بن ياسر في الخندق قد صار يحمل الحجرين وكان في بناء المسجد يحمل اللبنتين، وكان عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه رجلا متنظفا أي مترفها، فكان إذا حمل اللبنة يجافي بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأنشد يقول: أي مباسطة مع عثمان بن مظعون لأطعنا فيه:

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن التراب حائدا
أي وكان عثمان هذا من جملة من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: لا أشرب شرابا يذهب عقلي ويضحك بي من هو أدنى مني.
وذكر ابن إسحاق قال: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز، هل تمثل به عليّ أو أنشأه؟ فكل يقول: لا أدري، فسمع ذلك الرجز عمار بن ياسر، فصار يرتجز بذلك وهو لا يدري من يعني بذلك، فمرّ يرتجز بذلك على عثمان، فظن عثمان أن عمارا يقصد التعريض به، فقال له عثمان: يا بن سمية ما أعرفني بمن تعرض به، لتكفنّ أو لأعترضنّ بهذه الحديدة- لحديدة كانت معه- وجهك، وفي لفظ: والله إني أراني سأعرض هذه العصا بأنفك، لعصا كانت في يده، فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال «إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني». ووضع يده الشريفة بين عينيه الشريفتين فقال الناس لعمار: قد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي ونخاف أن ينزل فينا قرآن، فقال: أنا أرضيه، فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك؟ قال: «ما لك ولهم؟» قال: يريدون قتلي فيحملون لبنة لبنة ويحملون عليّ لبنتين لبنتين أي وفي لفظ «يحملون عليّ اللبنتين والثلاث» أي ولعله حمل ثلاث لبنات في بعض الأوقات «فأخذ بيده وطاف به المسجد، وجعل يمسح ذفرته من التراب» والذفرة بالذال المعجمة: الشعر الذي جهة القفا، ويقول يا بن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، ويقول: ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة» أي إلى سببها، وهو اتباع الإمام الحق، لأنه كان يدعو إلى اتباع عليّ وطاعته وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك «ويدعونه إلى النار» أي إلى سببها، وهو عدم اتباع عليّ وطاعته واتباع معاوية وطاعته.
وفيه أن تلك الفئة التي كان فيها قاتلة كان فيها جمع من الصحابة وهم معذورون بالتأويل الذي ظهر لهم، إلا أن يقال: يدعونه إلى النار باعتبار اعتقاده، وإطلاق البغي عليهم حينئذ باعتبار ذلك، قال بعضهم: وفئة معاوية وإن كانت باغية لكنه بغي لا فسق فيه، لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه، أي وما زاده بعضهم في الحديث: «لا أنا لهم الله شفاعتي يوم القيامة» قال ابن كثير: من روى هذا فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقلها، إذ لم تنقل عمن يقبل.
وقال الإمام أبو العباس بن تيمية: وهذا كذب مزيد في الحديث، لم يروه أحد من أهل العلم، بإسناد معروف وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم «عمار جلدة ما بين عينيّ» لا يعرف له إسناد. والذي في الصحيح «تقتل عمارا الفئة الباغية» وعن أبي العالية، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «قاتل عمار في النار» ومن العجب أن أبا العالية هذا هو القاتل لعمار يوم صفين، فكان أبو العالية مع معاوية، وكان عمار مع عليّ، أي ويقول: إن عمارا لما برز للقتال قال: اللهم لو أعلم رضاك عني أن أوقد نارا فأرمي نفسي فيها لفعلت، أو أغرق نفسي لفعلت، وإني لا أريد قتال هؤلاء إلا لوجهك الكريم، وأنا أرجو أن لا تخيا بني وجعلت يده ترتعش على الحربة، أي لأن عمره يومئذ كان ثلاثا وسبعين سنة، أي وقد كان جيء به بلبن فضحك، فقيل له: ما يضحكك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «آخر شراب تشربه حين تموت لبن» وفي رواية «آخر زادك من الدنيا مشيج من اللبن» ثم نادى: اليوم زخرفت الجنان، وزينت الحور الحسان، اليوم نلقى الأحبة، محمدا وحزبه.
ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال: قتل عمار، فقال معاوية قتل عمار فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقال له معاوية: دحضت، أي زلقت في بولك، أنحن قتلناه، إنما قتله من أخرجه، وفي رواية قال له: اسكت، فوالله ما تزال تدحض، أي تزلق في بولك، إنما قتله عليّ وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بيننا.
وذكر أن عليا رضي الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره، قال إنما قتله من أخرجه من داره يعني بذلك عليا، فقال علي رضي الله تعالى عنه فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه.
ولما قتل عمار، جرد خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه سيفه وقاتل مع علي وكان قبل ذلك اعتزل عن الفريقين، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقتل عمارا الفئة الباغية» فقاتل معاوية حتى قتل. وكان ذو الكلاع رضي الله تعالى عنه مع معاوية، وقال له يوما ولعمرو بن العاص: كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر، فقالا له: إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار.
ولما قتل عمار قال معاوية: لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى علي أي لأن ذا الكلاع كان ذووه أربعة آلاف أهل بيت، وقيل عشرة آلاف.
وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء رضي الله تعالى عنه مع علي رضي الله تعالى عنه، فلما قتل عمار أخذ سيفين ولبس درعين، ولم يزل يضرب بسيفيه حتى انتهى إلى معاوية، فأزاله عن موقفه، وأزال أصحابه الذين كانوا معه عن موقفهم. ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له ونازع الأمر أهله. ومن ليس قبله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق؛ وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وأنتم والله على الحق، على نور من ربكم وبرهان مبين، فقاتلوا الطغاة الجناة؛ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله، قوموا رحمكم الله.
ولما قتل عمار ندم ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على عدم نصرة عليّ والمقاتلة معه، وقال عند موته: ما أسفي على شيء ما أسفي على ترك قتال الباغية، قال بعضهم: شهدنا صفين مع علي بن أبي طالب في ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان، وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر، وكان خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين كان مع علي يوم صفين كافا سلاحه حتى قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل، لأنه كان يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «عمار تقتله الفئة الباغية» .
وفي الحديث «من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، مما يزول مع الحق حيث يزول، عمار خلط الإيمان بلحمه ودمه، عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما» .
وجاء أن عمارا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مرحبا بالطيب المطيب إن عمار بن ياسر حشي ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا» وفي رواية «إن عمارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» .
وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد في سرية كان فيها خالدا أميرا، فلما جاآ إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده، فقال خالد: يا رسول الله أيسرك أن هذا العبد الأجدع يشتمني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا خالد لا تسب عمارا؛ فإن من سب عمارا فقد سب الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله، ومن لعن عمارا لعنه الله»، ثم إن عمارا قام مغضبا، فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه، فرضي عنه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الحق مع عمار ما لم يغلب عليه دلهة الكبر» وهذا الحديث من أعلام النبوّة، فإن عمارا وقع بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشحناء، وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان، فاستدعاه سعد بن أبي وقاص وكان مريضا، فقال له: ويحك يا أبا اليقظان، كنت فينا من أهل الخير، فما الذي بلغني عنك، من السعي في الفساد بين المسلمين، والتألب على أمير المؤمنين، أمعك عقلك أم لا؟ فغضب عمار ونزع عمامته وقال: خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه، فقال سعد: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك، خلعت ربقة الإسلام من عنقك، وخرجت من الدين عريانا كما ولدتك أمك، فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول: أعوذ بربي من فتنة سعد، وعند ذلك روى سعد الحديث وقال: قد دله وخرف عمار، وأظهر عمار القوم على ذلك. قال: وجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره والباب الذي كان يقال له باب عاتكة، وكان يقال له باب الرحمة، والباب الذي يقال له الآن باب جبريل. انتهى، أي وهو الباب الذي كان يدخل منه صلى الله عليه وسلم ويقال له باب عثمان، لأنه كان يلي دار عثمان، وهو الذي يخرج منه الآن إلى البقيع.
أقول: وجعل قبلته إلى بيت المقدس كان قبل أن تحول القبلة، ولما حولت قبلته إلى الكعبة وهذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أتيممها أو أؤمها» أي أقصدها. وفي رواية «ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى فرج لي ما بيني وبين الكعبة» والله أعلم.
أي وفي كلام بعضهم: ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاي، أن موضع المسجد كان ابتاعه تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بألف سنة، وإنه لم يزل على ملكه: أي متعلقا به من ذلك العهد على ما دل عليه كتاب تبع.
أقول: سيأتي أن تبعا بنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارا بالمدينة إذا قدمها ينزل في تلك الدار، وأنه يقال: إنها دار أبي أيوب.
وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ذلك المربد ودار أبي أيوب مجموعها تلك الدار، وأن تلك الدار قسمت فكان دار أبي أيوب بعضها وذلك المربد بعضها الآخر؛ وأن الأيدي تداولت سكنى تلك الدار إلى أن صارت سكنا لأبي أيوب، وهذا هو المراد بقول المواهب: تداولت الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب.
لكن قد يقال: لو كانت الدار مذكورة في الكتاب لذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الكتاب كما سيأتي وصل إليه في مكة في أول البعثة ونزوله دار أبي أيوب، وأخذه المربد على الكيفية المذكورة يبعد ذلك، أي أنه ذكر له أمر تلك الدار، والله أعلم.
قال «ومكث صلى الله عليه وسلم يصلي في المسجد بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر، ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان في مؤخر المسجد» .
وفي كلام بعضهم: لما حولت القبلة لم يبق من الأبواب التي كان يدخل منها صلى الله عليه وسلم إلا الباب الذي يقال له باب جبريل عليه السلام، أي فإنه بقي في محله وأما باب الرحمة الذي كان يقال له أيضا باب عاتكة فأخر عن محله.
وسبب وضع الحصا في المسجد أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة، فجعل الرجل يأتي بالحصا في ثوبه فيبسطه تحته ليصلي عليه، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «ما أحسن هذا» وفي رواية «ما أحسن هذا البساط» .
وقد يعارض هذا ما قيل «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحصب المسجد» فمات قبل ذلك فحصبه عمر رضي الله تعالى عنه.
أقول: قد يقال لا معارضة، لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أعجبه ذلك من فعل بعض الصحابة أمره أن يحصب جميع المسجد، لأن الواقع تحصيب بعضه، لكن يشكل على ذلك قول بعضهم من البدع فرش المساجد، إلا أن يراد بالحصر ونحوها لأنه لم يكن زمنه صلى الله عليه وسلم ولا أمر به، ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال: أول من فرش الحصر في المساجد عمر بن الخطاب، وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصباء أي في زمنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
وفي الإحياء: أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إذ من عزيز المعروف في زماننا فرش المساجد بالبسط الرقيقة فيها، وقد كان يعدّ فرش البواري في المسجد بدعة؛ كانوا لا يرون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل، هذا كلام الإحياء: أي والحصباء لا تعد حائلا، وسيأتي أن المسجد بني بعد فتح خيبر، وهي التي عناها خارجة رضي الله تعالى عنه بقوله «ما كثر الناس قالوا: يا رسول الله لو زيد فيه، ففعل» ولعلها هي التي أدخل فيها الأرض التي اشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من بعض الأنصار بعشرة آلاف درهم، ثم جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أتشتري مني البقعة التي اشتريتها من الأنصار أي التي كانت مجاورة للمسجد «فاشتراها منه ببيت في الجنة» .
أي وفي رواية: أن عثمان رضي الله تعالى عنه لما حصر، أي الحصرة الثانية وأشرف على الناس من فوق سطح داره، وقد اشتد به العطش، قال: أهاهنا عليّ؟ قالوا لا، قال: أهاهنا طلحة؟ قالوا لا، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من يبتاع مربد بني فلان» أي لمربد كان مجاورا للمسجد «غفر الله له» فابتعته بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا شك عثمان، وتقدم أنه اشتراها بعشرة آلاف درهم فليتأمل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: قد ابتعته، فقال «اجعله مسجدنا وأجره لك»، قالوا: اللهم نعم، قد كان ذلك وفي لفظ، أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يشتري بقعة ابن فلان لبقعة كانت إلى جنب المسجد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من يشتريها ويوسعها في المسجد له مثلها» وفي لفظ «خير له منها في الجنة» فاشتريتها ووسعتها في المسجد فأنتم الآن تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين، أي وزاد فيه عثمان رضي الله تعالى عنه بعد ذلك زيادة كبيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج كما في البخاري، وعدد عثمان رضي الله تعالى عنه أشياء منها أنه قال «أنشدكم بالله وبالإسلام، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة، ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشتري بئر رومة يجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين» في لفظ: «ليكون دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها في الجنة» وفي لفظ له «بها مشرب في الجنة» فاشتريتها من صلب مالي فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، بل وتمنعوني الماء: ألا أحد يسقينا فإني أفطر على الماء الملح وفي رواية: هل فيكم من يبلغ عليا عطشنا فأبلغوه، فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية أي وكانت هذه البئر ركية ليهودي يقال له رومة، يقال إنه أسلم، وكان يبيع المسلمين ماءها، كانت بالعقيق، وتفل فيها صلى الله عليه وسلم فعذب ماؤها: ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين، يضرب بدلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فساومه فيها عثمان فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثني عشر ألف درهم، وجعل ذلك للمسلمين، وجعل له يوما ولليهودي يوما، فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت عليّ زكيتي، فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف، وقيل جملة ما اشتراها به خمسة وثلاثون ألف درهم. وقول عثمان جعلتها للغني والفقير وابن السبيل، دليل على أن قوله دلوي فيها كدلاء المسلمين على أنه لم يشترط ذلك بل قصد به التعميم في الموقوف عليه. ولا دليل فيه على جواز أن للواقف أن يشترط له الانتفاع بما وقفه كما زعمه بعضهم.
وكان حصار عثمان رضي الله تعالى عنه شهرين وعشرين يوما. وفي كلام سبط ابن الجوزي: كان الحصار الأول عشرين يوما، والثاني أربعين يوما، وفي يوم من تلك الأيام قال: وددت لو أن رجلا صادقا أخبرني عن أمري هذا: أي من أين أوتيت؟ فقام رجل من الأنصار، فقال أنا أخبرك يا أمير المؤمنين، إنك تطأطأت لهم فركبوك وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك، فقال له: صدقت، اجلس.
وأول من دخل عليه الدار محمد بن أبي بكر، تسور عليه هو وجماعة من الحائط من دار عمرو بن حزم فأخذ بلحيته، فقال له: دعها يا بن أخي، فوالله لقد كان أبوك يكرمها فاستحى وخرج. وفي رواية: لما أخذ بلحيته هزها وقال له ما أغنى عنك معاوية، وما أغنى عنك ابن أبي سرح، فقال له: يا بن أخي أرسل لحيتي، فوالله إنك لتجر لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فتركه وخرج، ويقال إنه قال له: ما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك، فقال عثمان: أستنصر بالله عليك وأستعين به، ثم طعن جبينه بمشقص كان في يده، ثم ضربه بعض هؤلاء بالسيف فأتته نائلة زوج عثمان فقطع أصابع يدها الخمس.
وعن ابن الماجشون، عن مالك أن عثمان بعد قتله ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، وقيل أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام لا يستطيع أحد أن يدفنه، فلما كان الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير، وقيل صلى الله عليه وسلم أربعة، وإن ابن الزبير لم يشهد قتل عثمان فاحتملوه، فلما اجتازوا به للمقبرة منعوهم وقالوا: والله لا يدفن في مقابر المسلمين فدفنوه بمحل كان الناس يتوقون أن يدفنوا موتاهم به، فكان يمر به ويقول: سيدفن هنا رجل صالح فيتأسى به الناس في دفن موتاهم به وكان ذلك المحل بستانا فاشتراه عثمان وزاده في البقيع، فكان هو أول من قبر فيه، وحملوه على باب وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعهم به من شدة الخوف، ولما دفنوه عفّوا قبره خوفا عليه أن ينبش. وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب.
وسبب هذه الفتنة أنهم نقموا عليه أمورا:
منها عزلة لأكابر الصحابة ممن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أوصى عمر رضي الله تعالى عنه بأن يبقى على ولايته، وهو أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه من البصرة، فإن عمر رضي الله تعالى عنه أوصى بأن يبقى على ولايته، فعزله عثمان وولى ابن خاله عبد الله بن عامر محله، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها ابن أبي سرح وعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة، وعزل ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عنها أيضا وأشخصه إلى المدينة، وعزل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عن الكوفة وولى أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبي معيط الذي سماه الله تعالى فاسقا بقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً}[السّجدة:18] وصار الناس يقولون بئس ما فعل عثمان، عزل اللين الهين الورع المستجاب الدعوة، وولى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر، ولعل مستندهم في ذلك ما رواه الحاكم في صحيحه «من ولى رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» .
ومنها أنه أدخل عمه الحكم بن أبي العاص والد مروان المدينة وكان يقال له طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وقد كان صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف، ومكث بها مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر بعد أن سأله عثمان في إدخاله المدينة فأبى، فقال له عثمان: عمي، فقال: عمك إلى النار، هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا رددته أبدا، فلما توفي أبو بكر وولي عمر كلمه عثمان في ذلك، فقال له: ويحك يا عثمان، تتكلم في لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريده وعدو الله وعدو رسوله؟ فلما ولي عثمان ردّه إلى المدينة، فاشتد ذلك على المهاجرين والأنصار، فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة، فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه، واعتذر عثمان عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان وعده برده وهو في مرض موته، قال: فشهدت عند أبي بكر، فقال إنك شاهد واحد ولا تقبل شهادة الواحد، ثم قال لي عمر كذلك، فلما صار الأمر إليّ قضيت بعلمي. أي: وأما عزله لأبي موسى، فإن جند عمله شكوا شحه فعزله خوف الفتنة.
ومنها أنه جاء إلى عثمان أهل مصر يشكون ممن ولاه عليهم وهو ابن أبي سرح وقالوا: كيف توليه على المسلمين وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه؟ وتعزل عمرو بن العاص عنا.
وردّ هذا بأن عزله لعمرو إنما كان لكثرة شكايتهم منه، وابن أبي سرح أسلم بعد الفتح وحسن حاله ووجدوه لسياسة الأمر أقوى من عمرو بن العاص، وعزله للمغيرة بأنه أنهي إليه فيه أنه ارتشى فرأى المصلحة في عزله، فلما عادوا إلى مصر قتل ابن أبي سرح رجلا منهم فعادوا إلى عثمان وكلموا أكابر الصحابة كعلي وطلحة بن عبيد الله، فقالوا اعزله عنهم فإنهم يسألونك رجلا مكانه، فقال لهم عثمان: يختارون رجلا أوليه عليهم، فاختاروا محمد بن أبي بكر، فكتب إليه عهده وولاه، فخرج وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار وجماعة من التابعين لينظروا بين أهل مصر وبين ابن أبي سرح، فلما كان محمد بن أبي بكر ومن معه على مسيرة ثلاثة مراحل من المدينة، فإذا هم بغلام أسود على بعير، فقالوا له: ما قضيتك؟ فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين، أرسلني إلى عامل مصر، فقال له واحد منهم: هذا عامل مصر يعني محمد بن أبي بكر، فقال: ما هذا أريد، فلما أخبر ذلك الرجل محمد بن أبي بكر استدعاه، فقال له بحضور من معه من المهاجرين والأنصار: أنت غلام من؟ فصار تارة يقول غلام أمير المؤمنين وتارة يقول غلام مروان، فعرفه رجل من القوم وقال: هذا غلام عثمان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر برسالة، قال: معك كتاب؟ قال لا، ففتشوه فإذا معه كتاب: من عثمان إلى ابن أبي سرح في قصبة من رصاص في جوف الإداوة في الماء، ففتح الكتاب، فحضره جميع من معه، فإذا فيه: إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل في قتلهم، وفي رواية: انظر فلانا وفلانا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقهم، وعاقب فلانا بكذا وفلانا بكذا، منهم نفر من الصحابة ونفر من التابعين.
وفي رواية: اذبح محمد بن أبي بكر واحش جلده تبنا، وكن على عملك حتى يأتيك كتابي، فلما قرؤوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وقرىء الكتاب على جميع من بالمدينة من الصحابة والتابعين، فما منهم أحد إلا واغتم لذلك، فدخل عليه عليّ مع جماعة من أهل بدر ومعه الكتاب والغلام، فقالوا له: هذا الغلام غلامك؟ قال نعم، قالوا والبعير بعيرك؟ قال نعم، قالوا: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال: لا، وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لي به، فقال له عليّ: والخاتم خاتمك، قال نعم، قال: فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتابك عليه ختمك وأنت لا تعلم به؟ فحلف بالله ما أمرت بهذا الكتاب ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر، فعرفوا أنه خط مروان لا عثمان، لأن عثمان لا يحلف باطلا: وفي رواية: الخط خط كاتبي، والخاتم خاتمي. وفي رواية: انطلق الغلام بغير أمري وأخذ الجمل بغير علمي، قالوا: فما نقش خاتمك؟ قال: نقش عليه مروان، فسألوه أن يدفع لهم مروان وكان مروان عنده في الدار فأبى، فخرجوا من عنده غضابا، وقالوا لا يبرأ عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونعرف حال الكتاب، فإن كان عثمان أمر به عزلناه، وإن كان مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون في أمر مروان، فأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان خوفا عليه من القتل، فحوصر عثمان بسبب ذلك، ومنعوه الماء ووقع ما تقدم.
وذكر ابن الجوزي أنه لما دخل المصريون على عثمان رضي الله عنه والمصحف في حجره يقرأ فيه، فمدوا إليه أيديهم، فمد يده فضربت فسال الدم.
وقيل: وقعت قطرة على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ} [البقرة: 137] فقال:أما إنها أول يد خطت المفصل هذا كلامه: أي وهذا من أعلام النبوة. فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على {فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ} [البقرة:137]» قال الذهبي: إنه حديث موضوع: أي قوله فيه وأنت تقرأ إلى آخره.
وروي أنه لما حوصر قال: والله ما زينت في جاهلية ولا إسلام، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منذ هداني الله، ولا قتلت نفسا فيم تقتلونني؟ وقال {وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود:89] يا قوم لا تقتلوني، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا وشبك بين أصابعه، وقال معددا لنعم الله تعالى عليه: ما وضعت يدي على فرجي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما مرت بي جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندي شيء فأعتقها بعد ذلك، قال بعضهم: وجملة من أعتقه عثمان ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.
وذكر أنه رأى في الليلة التي قتل في يومها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر في المنام وقالوا له: اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة، فلما أصبح دعا بالمصحف فنشره بين يديه ولبس السراويل، ولم يكن لبسها قبل ذلك في الجاهلية ولا في الإسلام خوفا أن يطلع على عورته عند قتله.
وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضي الله تعالى عنه، أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية. وأعطى الحارث عشر ما يباع في السوق: أي سوق المدينة. وأنه جاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته، وأنه أنفق أكثر ببيت المال في عمارة ضياعه ودوره، وأنه حمى لنفسه دون إبل الصدقة، وأنه حبس عبد الله بن مسعود وهجره، وحبس عطاء وأبي بن كعب، ونفى أبا ذر إلى الربذة، وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية، وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة، ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال، وقال لعبد الرحمن بن عوف: إنك منافق، وإنه أقطع أكثر أراضي بيت المال، وأن لا يشتري أحد قبل وكيله وأن لا تسير سفينة في البحر إلا في تجارته، وأنه أحرق الصحف التي فيها القرآن، وأنه أتمّ الصلاة بمنى ولم يقصرها لما حج بالناس، وأنه ترك قتل عبيد الله وقد قتل الهرمزان. وقد أجاب عن ذلك كله في الصواعق فراجعه.
وما رواه الزبير بن بكار عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل اللبن ولم يبن به المسجد إلا بعد أربع سنين من الهجرة رأيت ما يرده في تاريخ للمدينة. ونصه: ما روي عن أنس واه أو مؤوّل، والمعروف خلافه والله أعلم.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي» قال بعضهم: إن صح هذا كان من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، أي لأنه وسع بعد ذلك: أي وسعه المهدي وذلك في سنة ستين ومائة ثم زاد فيه المأمون في سنة اثنتين ومائتين.
وبه يرد القول بأن المضاعفة خاصة بالموجود حين الإشارة: أي لكن المحافظة على الصلاة فيما كان في عهده صلى الله عليه وسلم أولى.
قال: وبنى حجرتين لعائشة وسودة: أي بناهما مجاورتين للمسجد وملاصقتين له على طرز بناء المسجد من لبن، وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد: أي وقدم رجل من أهل اليمامة عند الشروع في بناء المسجد يقال له طلق من بني حنيفة.
فعنه رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يا بني مسجده والمسلمون يعملون معه فيه، وكنت صاحب علاج الطين، فأخذت المسحاة وخلطت بها الطين، فقال لي: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم «رحم الله امرأ أحسن صنعته» وقال لي «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه» وفي لفظ «إن هذا الحنفي لصاحب طين» وفي لفظ «قربوا اليماني من الطين، فإنه أحسنكم له مسكا، وأشدكم منكبا» وفي لفظ «دعوا الحنفي والطين فإنه من أصنعكم للطين» وأرسل وهو في بيت أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ليأتيا بأهله: أي والخمسمائة أخذها من أبي بكر ليشتريا بها ما يحتاجان إليه، فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة، وأرسل معهما أبو بكر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن الأريقط دليلا أي ببعيرين أو ثلاثة، فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتيه صلى الله عليه وسلم وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد، فأسامة أخو أيمن لأمه، وكان أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه وابن حاضنته.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسامة عثر يوما في أسكفة الباب فشج وجهه، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أميطي عنه»، قالت عائشة: فكأني تقذرته أي لأنه كان أسود أفطس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصه يعني الدم ثم يمجه .
وأما بنته صلى الله عليه وسلم زينب التي هي أكبر بناته، فكانت مع زوجها ابن خالتها أبي العاص بن الربيع فمنعها من الهجرة، وسيأتي أنها هاجرت بعد ذلك قبله وتركته على شركه، وبعد أن أسر في بدر وأطلق، وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يخلي سبيلها، ففعل ثم لما أسلم ردها إليه.
وأما بنته رقية، فتقدم أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان، وخرج مع فاطمة ومن ذكر معها عبد الله بن أبي بكر، ومعه عيال أبي بكر فيهم زوجته أم رومان وعائشة وأختها أسماء زوج الزبير: أي وهي حامل بابنها عبد الله بن الزبير، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «أنها كانت هي وأمها على بعير في محفة فنفر البعير، قالت: فصارت أمي تقول: وابنتاه واعروساه، فمسك البعير وسلم الله» وفي رواية عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «لما صارت أمي تقول: واعروساه وابنتاه سمعت قائلا يقول: أرسلي خطامه، فأرسلت خطامه، فوقف بإذن الله، وسلمنا الله» وأم رومان ولدت لأبي بكر عائشة وعبد الرحمن رضي الله تعالى عنهم؛ وكانت قبل أبي بكر تحت عبد الله بن الحارث فولدت له الطفيل، قال صلى الله عليه وسلم في حقها «من يسره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان» وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماتت سنة ست من الهجرة ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبرها، وقال: «اللهم إنه لم يخف عليك ما لاقت أم رومان فيك وفي رسولك صلى الله عليه وسلم» .
وعورض القول بموتها في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في البخاري عن مسروق قال: سألت أم رومان وهي أم عائشة رضي الله تعالى عنهما، ومسروق ولد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وما في البخاري حديث صحيح مقدم على ما ذكره أهل السير من موتها في حياته صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن أسماء «فنزلت بقباء فولدته بها» يعني ولدها عبد الله بن الزبير، «ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حنكه بتمرة» أي بتلك التمرة. ففي المواهب «وحنكه بها، ثم دعا له وبرك عليه» وهو أوّل مولود ولد في الإسلام أي للمهاجرين.
وفيه أن أسماء إنما قدمت المدينة: أي إلى قباء بعد تحوله صلى الله عليه وسلم من قباء، ويدل له قول بعضهم: قدم آل أبي بكر من مكة وهو صلى الله عليه وسلم يا بني مسجده، وأنزلهم أبو بكر في السنح، إلا أن يقال: يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاء إلى قباء بعد ذلك فقد قال بعضهم: وهذا السياق يدل على أن عبد الله بن الزبير ولد في السنة الأولى لا في الثانية كما قاله الواحدي وتبعه غيره، فقال: ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة ففرح به المسلمون فرحا شديدا، لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم مولود، وهذا ربما يؤيد القول الثاني، إلا أن يقال: يجوز أن يكون عبد الله مكث في بطنها المدة المذكورة.
فقد ذكر أن مالكا رضي الله تعالى عنه مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي مكث في بطن أمه سنتين. وفي المحاضرات للجلال السيوطي أن مالكا مكث في بطن أمه ثلاث سنين، وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة بحمل أربع سنين، وحينئذ يجوز أن تكون سيدتنا أسماء جاءت إلى قباء فولدت سيدنا عبد الله، وصادف مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء في ذلك اليوم، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق رضي الله تعالى عنه.
وروي «أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره والده الزبير بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه» وكون آل أبي بكر نزلوا عند مجيئهم المدينة في السنخ لا ينافي كون أسماء نزلت بقباء وولدت بها لأنه يجوز أن يكون نزول أسماء في السنح بعد نزولها في قباء، قصدا لراحتها لكونها كانت حاملا حتى وضعت، والسياق المتقدم يدل على ذلك، وكون عبد الله بن الزبير أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة كذلك عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أول مولود ولد للمهاجرين بالحبشة، ويقال له عبد الله الجواد.
واتفق أن النجاشي ولد له مولود يوم عبد الله هذا، فأرسل إلى جعفر يقول له:كيف سميت ابنك، فقال: سميته عبد الله، فسمى النجاشي ابنه عبد الله وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبد الله المذكور، فكانا يتراسلان بتلك الأخوة من الرضاع.
وأوّل مولود ولد للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد، وقيل النعمان بن بشير.
وذكر أن أم أسماء قدمت المدينة وهي مشركة على أسماء بهدية، فحجبتها أسماء وردت عليها هديتها، فسألت عائشة رضي الله تعالى عنها صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأمر أسماء أن تؤوي أمها وتقبل هديتها.
قيل وفي ذلك وفي إرسال عبد الرحمن بن أبي بكر وهو بمكة على دينه قبل أن يسلم إلى أبيه يسأله النفقة فأبى أبوه أن ينفق عليه أنزل الله الإذن في الإنفاق على الكفار.
وقال أبو أيوب الأنصاري لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في أسفل البيت وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني أكره وأعظم أن أكون في العلو وتكون تحتي، فأظهر أنت وكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب أرفق بنا» : أي السفل أرفق بنا «وبمن يغشانا» أي وفي لفظ «إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت»، قال أبو أيوب: فانكسر حب لنا فيه ماء والحب بضم الحاء المهملة: الجرة الكبيرة «فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء فيؤذيه، ولم أزل أتضرع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول في العلو» أي وفي رواية عن أبي أيوب قال «نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت في العلو، فلما خلوت إلى أم أيوب، فقلت لها: رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا، ينتثر التراب عليه من وطء أقدامنا، وتنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحي» وفي رواية ينزل عليه القرآن، ويأتيه جبريل، فما بت تلك الليلة أنا ولا أم أيوب، فلما أصبحت قلت: يا رسول الله ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب قال: «لم؟ يا أبا أيوب»؛ قلت: كنت أحق بالعلو منا، ينزل عليك الملائكة، وينزل عليك الوحي والذي بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا» أي وعن أفلح مولى أبي أيوب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل أسفل وأبو أيوب في العلو انتبه أبو أيوب ذات ليلة؛ فقال: نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتا في جانب، فلما أصبح» الحديث.
وعند نزوله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب صارت تأتي إليه جفنة سعد بن عبادة، وجفنة أسعد به زرارة كل ليلة، أي وكانت جفنة سعد بن عبادة؛ بعد ذلك تدور معه صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، فقد جاء «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة جفنة من ثريد» أي عليه لحم أو خبز في لبن أو في سمن أو في عسل أو بخل وزيت، في كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه، وصار وهو في بيت أبي أيوب يأتي إليه الطعام من غيرهما» أي فقد جاء «وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون، حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب» أي وفي لفظ «وجعل بنو النجار يتناوبون في حمل الطعام إليه صلى الله عليه وسلم مقامه في منزل أبي أيوب رضي الله تعالى عنه وهو تسعة أشهر. وأول طعام جيء به إليه صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب قصعة أم زيد بن ثابت» .
فعن زيد بن ثابت أول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب قصعة أرسلتني بها أمي إليه فيها ثريد خبز برّ بسمن ولبن فوضعتها بين يديه، وقلت: يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي، فقاله: «بارك الله فيها» أي وفي رواية «بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا» قال زيد: فلم أرم الباب: أي أرده حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد وعراق لحم» أي بفتح العين عظم عليه لحم، فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين. وقد جاء «كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد» ويقال له الثفل بالمثلثة والفاء.
ولما بني المسجد جعل في المسجد محلا مظللا يأوي إليه المساكين يسمى الصفّة، وكان أهله يسمون أهل الصفة، وكان صلى الله عليه وسلم في وقت العشاء يفرقهم على أصحابه ويتعشى معه منهم طائفة.
وظاهر السياق أن ذلك: أي المحل فعل في زمن بناء المسجد وآوى إليه المساكين من حينئذ، لكن روى البيهقي عن عثمان بن اليمان قال: لما كثر المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم زاد ولا مأوى، أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وسماهم أصحاب الصفة؛ وكان يجالسهم ويأنس بهم، أي وكان إذا صلى أتاهم فوقف عليهم فقال: «لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة» .
أقول: ذكر أن المسجد كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه بسعف النخل، فلما قدم تميم الداري المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسواري المسجد وأوقدت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «نوّرت مسجدنا نوّر الله عليك، أما والله لو كان لي ابنة لأنكحتكها» .
هذا، وفي كلام بعضهم: أول من جعل في المسجد المصابيح عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. ويوافقه قول بعضهم: والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها: أي المساجد. وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فإنه لما جمع الناس على أبي بن كعب في صلاة التراويح علق القناديل، فلما رآها عليّ تزهر قال: نورت مساجدنا نور الله قبرك يابن الخطاب، ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة، فلا يخالف ما تقدم عن تميم الداري.
ثم رأيت في أسد الغابة عن سراج غلام تميم الداري قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن خمسة غلمان لتميم الداري، فأمرني يعني سيده فأسرجت المسجد بقنديل فيه زيت وكانوا لا يسرجون فيه إلا بسعف النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسرج مسجدنا؟» فقال تميم: غلامي هذا، فقال: «ما اسمه؟» فقال فتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل اسمه سراج، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم سراجا» .
وعن بعضهم قال: أمرني المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح في المساجد، فلم أدر ما أكتب، لأنه شيء لم أسبق إليه، فأريت في المنام أكتب، فإن فيها أنسا للمتجهدين، ونفيا لبيوت الله عن وحشة الظلم، فانتبهت وكتبت بذلك. قال بعضهم: لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان، ويقال لها ليلة الوقود ينبغي أن يكون ذلك كتزويق المساجد ونقشها. وقد كرهه بعضهم والله أعلم.
قال: وذكر ابن إسحاق في كتاب المبدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن تبع بن حسان الحميري، هو تبع الأول: أي الذي ملك الأرض كلها شرقها وغربها، وتبع بلغة اليمن: الملك المتبوع، ويقال له الرئيس لأنه رأس الناس بما أوسعهم من العطاء وقسم فيهم من الغنائم، وكان أول من غنم.
ولما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمي بداء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا، وأنتن حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح كما تقدم، وتقدم أنه بعد ذلك كسا الكعبة، وبعد ذلك اجتاز بيثرب، وكان في ركابه مائة ألف وثلاثون ألفا من الفرسان، ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة، فأخبر أن أربعمائة رجل من أتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها، فسألهم عن الحكمة في ذلك؟ فقالوا: إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها، فبنى فيها لكل واحد منهم دارا، واشترى له جارية وأعتقها وزوجها منه، وأعطاهم عطاء جزيلا، وكتب كتابا وختمه ودفعه إلى عالم عظيم منهم، وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه، وفي ذلك الكتاب، أنه آمن به وعلى دينه، وبني دار له صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا قدم تلك البلد ويقال إنها دار أبي أيوب. أي كما تقدم، وأنه من ولد ذلك العالم الذي دفع إليه الكتاب، أي فهو صلى الله عليه وسلم لم ينزل إلا داره أي على ما تقدم.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي دعا إلى الإسلام أرسلوا إليه ذلك الكتاب مع شخص يسمى أبا ليلى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «أنت أبو ليلى الذي معك كتاب تبع الأول؟» فقال له أبو ليلى: من أنت؟ قال: «أنا محمد، هات الكتاب»، فلما قرأه: أي قرىء عليه. وذكر بعضهم: أن مضمون الكتاب. أما بعد يا محمد، فإني آمنت بك وبربك ورب كل شيء، وبكل ما جاءك من ربك من شرائع الإسلام والإيمان. وإني قلت ذلك، فإن أدركتك فيها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني فإني من أصل الأولين، وبايعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله، وأنا على ملتك وملة إبراهيم. وختم الكتاب وتلا: أي قرأ عليه {لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ} * {بِنَصْرِ ٱللَّهِ} [الروم:4-5] فقد قرأ هذا قبل نزوله: وكتب عنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين ورسول رب العالمين، من تبع الأول حمير، أمانة الله في يد من وقع هذا الكتاب في يده، إلى أن يدفعه إلى صاحبه ودفعه إلى رأس العلماء المذكورين. ثم وصل الكتاب المذكور إلى النبي صلى الله عليه وسلم على يد بعض ولد العالم المذكور حين هاجر وهو بين مكة والمدينة، وسياق الرواية الأولى يدل على أن ذلك كان في أول البعثة، وبعد قراءة الكتاب عليه صلى الله عليه وسلم قال: «مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات» وكان بين تبع هذا، أي بين قوله إنه آمن به وعلى دينه، وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء، أي وتقدم أنه ابتاع المحل الذي بناه دارا له قبل مبعثه بألف سنة فليتأمل. ويقال إن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء اهـ.
أقول: قد علمت أن نزوله صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب على الوجه المتقدم، وأخذه المربد على الكيفية المتقدمة مع وصول الكتاب إليه أول البعثة أو بين مكة والمدينة وهو مهاجر إلى المدينة يبعد هذا.
وفيه أيضا: أن الذي في «التنوير» لابن دحية أن هذا تبع الأوسط، وأنه الذي كسا البيت بعد ما أراد غزوه، وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبي اسمه محمد.
أي فقد ذكر بعضهم أن تبعا أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود، فقال له رجل منهم بلغ من العمر مائتين وخمسين سنة: الملك أجل من أن يستخفه غضب، وأمره أعظم أن يضيق عنا حمله أو نحرم صفحة، مع أن هذه البلدة مهاجر نبي يبعث بدين إبراهيم. فكتب كتابا وذكر فيه شعرا، فكانوا يتوارثون ذلك الكتاب إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، فأدوه إليه. ويقال إن الكتاب كان عند أبي أيوب الأنصاري وكان ذلك قبل مبعثه بسبعمائة عام.
وفي «التنوير» أيضا أن ابن أبي الدنيا ذكر أنه حفر قبر بصنعاء قبل الإسلام، فوجد فيه امرأتان لم يبليا، وعهد رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر فلانة وفلانة ابنتي تبع، ما تتاوهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. وجاء «لا تسبوا تبعا، فإنه كان مؤمنا» .. وفي رواية «لا تسبوا تبعا الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة» قال السهيلي: وكذا تبع الأول كان مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقال شعر ينبىء فيه بمبعثه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وكانت المدينة في الجاهلية معروفة بالوباء: أي الحمى، وكان إذا أشرف على واديها أحد ونهق نهيق الحمار لا يضره الوباء. وفي لفظ: كان إذا دخلها غريب في الجاهلية يقال له إن أردت السلامة من الوباء فانهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك سلم.
وفي حياة الحيوان: كانوا في الجاهلية إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار: أي نهقوا عشرة أصوات في طلق واحد قبل أن يدخلوها، وكانوا يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهلها من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطفّفين:1] الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأصحابه أصابت أصحابه بالحمى. وفي لفظ: استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم، فمرض كثير منهم وضعفوا، حتى كانوا يصلون من قعود، فرآهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «اعلموا: أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، فتجشموا المشقة وصلوا قياما» .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، ولما حصلت لها الحمى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي أراك هكذا؟» قالت: بأبي أنت وأمي هذه الحمى وسبتها، فقال: «لا تسبيها فإنها مأمورة، ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله تعالى عنك»، قالت: فعلمني، قال، قولي: «اللهم ارحم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق، من شدة الحريق؛ يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلها آخر، فقالتها، فذهبت عنها» .
وعن علي رضي الله تعالى عنه «لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فأصابنا بها وعك» : أي حمى، ومن جملة من أصابته الحمى سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ومولياه عامر بن فهيرة وبلال: أي وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد:

كل امرىء مصبح في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله

أي وهذا من شعر حنظلة بن يسار، بناء على الصحيح أن الرجز يقال له شعر كما تقدم؛ وليس من شعر أبي بكر.
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أي ولا في الجاهلية كما في رواية عنها: والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا في الإسلام: أي لم ينشئه حتى مات، أي وهذا ربما ينافي ما في الينبوع: ليس عمل الشعر رذيلة، قد كان الصديق وعمر وعلي رضوان الله تعالى عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبي بكر وعمر. وما تقدم عن عائشة معارض بظاهر ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

أمين مصطفى بالخير يدعو *** كضوء البدر زايله الظلام

إلا أن يحمل قولها على أنها لم تسمع ذلك منه بناء على أن ذلك من إنشاء الصديق. وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته: أي صوته يقول متشوقا إلى مكة

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة *** وهل يبدون لي شامة وطفيل

اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، وأراد بلال بالوادي وادي مكة. والإذخر: نبت معروف. وجليل: بالجيم نبت ضعيف، وشامة وطفيل: جبلان بقرب مكة، أي وفي رواية: وهل يبدون لي عامر وطفيل
وعامر أيضا: جبل من جبال مكة.
وفي شرح البخاري للخطابي: كنت أحسب شامة وطفيلا جبلين حتى مررت بهما، فإذا هما عينان من ماء هذا كلامه.
وقد يقال: يجوز أن تكون العينان بقرب الجبلين المذكورين، فأطلق اسم كل منهما على الآخرين، ولعل هذا اللعن من بلال كان قبل النهي عن لعن المعين، لأنه لا يجوز لعن الشخص المعين على الراجح، إلا إن علم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب دون الكافر الحيّ، لأنه يحتمل أن يختم له بالحسنى فيموت على الإسلام، لأن اللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى المستلزم لليأس منها. وأما اللعن على الوصف كآكل الربا فجائز أو أن ذلك محمول في ذلك على الإهانة والطرد عن مواطن الكرامة لا على الطرد عن رحمة الله تعالى الذي هو حقيقة اللعن، وكان كل من أبي بكر وعامر وبلال في بيت واحد. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها:
فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فدخلت عليهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فإذا بهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من شدة الوعك فسلمت عليهم، أي وقالت لأبيها: يا أبت كيف أصبحت؟ فأنشدها الشعر المتقدم، قالت: فقلت: إنا لله، إن أبي ليهذي، قالت: فقلت لعامر بن فهيرة: كيف تجدك؟ فقال:

إني وجدت الموت قبل ذوقه *** إن الجبان خنقه من فرقه

قالت: فقلت: هذا والله لا يدري ما يقول، قالت: ثم قلت لبلال: كيف أصبحت فإذا هو لا يعقل. وفي رواية فأنشدها البيتين، قالت: وذكرت حالهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: إنهم يهذون ولا يعقلون من شدة الحمى.
أي وهذا السياق يخالف ما في السيرة الهشامية أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما قدم المدينة أخذته الحمى هو وعامر بن فهيرة وبلال، إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أنها أخذتهم أولا وأقلعت عنهم ثم عادت عليهم بعد دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة، أو أن عائشة استأذنته في ذلك وذكرت له حالهم قبل دخوله بها لأنها كانت معقودا عليها، ولعل الصديق كان في غير بيت أم عائشة.
والذي في تاريخ الأزرقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: «كيف تجدك؟» فأنشده ما تقدم، ثم دخل على بلال فقال: كيف تجدك يا بلال؟ فأنشده ما تقدم، ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال: «كيف تجدك يا عامر؟ فأنشده ما تقدم» ولا مانع من التعدد فليتأمل.
وحين ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها له ذلك نظر إلى السماء، أي لأنها قبلة الدعاء وقال «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد» وفي رواية «وأشدّ وبارك لنا في مدّها وصاعها، وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة» أي الجحفة كما في رواية. وهي قرية قريبة من رابع محل إحرام من يجيء من جهة مصر حاجا، وكان سكانها إذ ذاك يهود. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جبلت عليه النفوس من حبّ الوطن والحنين إليه، ومن ثم جاء في حديث «أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رجلا بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة من مكة، فقالت له: كيف تركت مكة؟ فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تشوقنا يا فلان» وفي رواية «دع القلوب تقر» .
أقول: ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى كان في آخر الأمر، وأما عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فخير بين الطاعون والحمى: أي بقائها، فأمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام كما جاء في بعض الأحاديث «أتاني جبريل بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام» وقولنا أي بقائها ردّ لما قد يتوهم من الحديث أن الحمى لم تكن بالمدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إليها، وإنما اختار الحمى على الطاعون لأنه كان حينئذ في قلة من أصحابه، فاختار بقاء الحمى لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون. ثم لما أحتاج للجهاد وأذن له في القتال ووجد الحمى تضعف أجساد الذين يقاتلون دعا بنقل الحمى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصح بلاد الله تعالى بعد أن كانت بخلاف ذلك، كذا قيل فليتأمل.
فإنه يقتضي أن الحمى لما نقلت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وهو الموافق لما يأتي عن الخصائص، وحين نقلت الحمى إلى الجحفة صارت الجحفة لا يدخلها أحد إلا حم، بل قيل إذا مر بها الطائر حم.
واستشكل حينئذ جعلها ميقاتا للإحرام، وقد علم من قواعد الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما فيه ضرر.
وأجيب بأن الحمى انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها، كذا قيل فليتأمل.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال «رأيت» أي في النوم «امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» .
وفي الخصائص الصغرى للسيوطي: «وصرف الحمى عنها: يعني المدينة أول ما قدمها ونقلها إلى الجحفة، ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام، ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره صلى الله عليه وسلم إياها لم تستطع أن تأتي أحدا من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه، فأرسلها إلى الأنصار» .
فقد جاء «إن الحمى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: أنا أم ملدم» وفي رواية أنا الحمى، أبري اللحم، وأشرب الدم، قال: «لا مرحبا بك ولا أهلا» .
وفيه أنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم نهى عائشة عن سبها، فقالت له: أمضي إلى أحب قومك أو أحب أصحابك إليك، فقال: «اذهبي للأنصار»، فذهبت إليهم فصرعتهم فقالوا له: ادع لنا بالشفاء، فقال: «إن شئتم دعوت الله عز وجل يكشفها عنكم، وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم» وفي رواية «كانت لكم طهورا»، فقالوا بلى دعها يا رسول الله ولعله هذا كان لطائفة من الأنصار، فلا ينافي ما جاء «أن الأنصار لما شكوا له الحمى وقد مكثت عليهم ستة أيام بليالها دعا لهم بالشفاء، وصار صلى الله عليه وسلم يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية» وهذا الذي في الخصائص يدل على أن الحمى لما ذهبت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة، وأنها بعد ذلك عادت إلى المدينة باختيار منه صلى الله عليه وسلم.
والذي نقله هو عن الحافظ ابن حجر أن الحمى كانت تصيب من أقام بالمدينة من أهلها وغيرهم، فارتفعت بالدعاء عن أهلها إلا النادر ومن لا يألف هواها.
وقد جاء «وإن حمى ليلة كفارة سنة، ومن حم يوما كانت له براءة من النار، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» .
والذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه عن جابر استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من هذه؟» قالت: أم ملدم، فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن شئتم دعوت الله تعالى ليكشفها وإن شئتم تكون لكم طهورا»، قالوا أو يفعل؟ قال «نعم»، قالوا فدعها والله أعلم.
ثم دعا صلى الله عليه وسلم بقوله «اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة وفي رواية «واجعل مع البركة بركتين» وجاء «أنهم شكوا له صلى الله عليه وسلم سرعة فناء طعامهم، فقال لهم: قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» قيل معناه تصغير الأرغفة، ودعا لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال «اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ملئها في غيرها من البلاد» أي ولعل الدعاء بذلك ليس خاصا بتلك الأغنام الموجودة في زمنه صلى الله عليه وسلم.
ويدل لذلك ما ذكره السيوطي في الخصائص الصغرى: مما اختصت به المدينة أن غبارها يطفىء الجذام، ونصف أكراش الغنم فيها مثل ملئها في غيرها من البلاد، والكرش كالمعدة للإنسان.
وكما صينت المدينة عن الطاعون بإرساله إلى الشام صينت عن الدجال. روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنقاب المدينة أي على أبوابها «ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال» وفي رواية «لها» : أي المدينة «سبعة أبواب على كل باب ملك» .
فإن قيل: كيف مدحت المدينة بعدم دخول الطاعون، وكيف أرسله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع أنه شهادة؟.
وأجيب بأنه إنما أرسله إلى الشام لما تقدم، وصينت عنه بعد انتفاء ما تقدم، لأن سببه طعن كفار الجن وشياطينهم، فمنع من المدينة احتراما لها، ولم يتفق دخول الطاعون بها في زمن من الأزمنة، بخلاف مكة فإنه وجد بها في بعض السنين وهي سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
ويقال إنه وقع في سنة تسع وثلاثين بعد الألف لما هدم السيل الكعبة: أي الجانب الذي جهة الحجر. قال بعضهم: فمن حين انهدم وجد الطاعون بمكة، واستمر إلى أن أقاموا الأخشاب موضع المنهدم وجعلوا عليها الستر، فعند ذلك ارتفع الطاعون، كذا أخبر بعض الثقات من أهل مكة.
وكونه لم يتفق دخول الطاعون في المدينة في زمن من الأزمنة يخالفه قول بعضهم: وفي السنة السادسة من الهجرة وقع طاعون في المدينة أفنى الخلق، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها، وإن سمعتم به في أرض فلا تقربوها» .
ويروى أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة رفع يديه وهو على المنبر وقال: «اللهم انقل عنها الوباء ثلاثا» أي وفيه أن هذا قد يخالف ما سبق من أن هذا كان في آخرة الأمر لا عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، إلا أن يحمل على أن قدومه صلى الله عليه وسلم كان من سفر لا للهجرة.
وفي الحديث «سيأتي على الناس زمان يلتمسون فيه الرخاء فيحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون؛ لا يلبث فيها أخذ فيصبر للأوائها وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا وشفيعا»
وفي مسلم «لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا وكنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا» أي شفيعا للعاصي وشهيد للطائع. واللأواء بالمد الجوع.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت، فإني أشفع لمن يموت بها، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى ذوب الملح في الماء» وفي رواية «أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح في الماء، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد» أي وفي رواية في مسلم «تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة» وتقدم أن هذا ليس عاما في الأزمنة ولا في الأشخاص، وفي رواية «مكة والمدينة ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» أي وبهذا الحديث تمسك من جوّز اللعن على يزيد، لما تقدم عنه في إباحة المدينة في وقعة الحرة.
وردّ بأنه لا دلالة فيه على جواز لعن يزيد باسمه، والكلام إنما هو فيه، وإنما يدل على جواز لعنه بالوصف وهو «من أخاف أهل المدينة» وليس الكلام فيه، والفرق بين المقامين واضح كما علمت.
وجاء «أهل المدينة جيراني وحقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر من حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال، أي وهي عصارة أهل النار» وفي لفظ «من أخاف هذا الحيّ من الأنصار، فقد أخاف ما بين هذين ووضع يده على جنبيه» وقيل لها طيبة لطيب العيش بها، ولأن للعطر أي الطيب بها رائحة لا توجد فيه في غيرها.
ومن خصائصها أن ترابها شفاء من الجذام كما تقدم. زاد بعضهم: ومن البرص، بل من كل داء، وعجوتها شفاء من السم.
أي وفي الحديث «تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة، وإن خرابها يكون من الجوع، وإن خراب اليمن يكون من الجراد» أي وقد دعا صلى الله عليه وسلم على الجراد، فقال «اللهم أهلك الجراد، واقتل كباره، وأهلك صغاره واقطع دابره، وخذ بأفواهها عن مواشينا وارزقنا إنك سميع الدعاء» وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بأول التمر فيقول: «اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارها، وفي مدّنا، وفي صاعنا بركة مع بركة، ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة، وإني عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» .
ثم بنى صلى الله عليه وسلم بقية الحجر التسع عند الحاجة إليها، أي وهذا هو الموافق لما سبق أن بعضها بني مع المسجد وهي حجرة سودة وحجرة عائشة رضي الله تعالى عنهما كما تقدم.
وفي كلام أئمتنا أن بيوته صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا عن المسجد، وكلام الأصل يقتضي أنها بنيت كلها في السنة الأولى من الهجرة حيث قال: وفيها: أي السنة الأولى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومساكنه: أي وخط صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في كل أرض ليست لأحد وفيما وهبته له الأنصار من خططها. وأقام قوم منهم ممن لم يمكنه البناء بقباء عند من نزلوا عليه بها.
قال عبد الله بن زيد الهذلي: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك: أي بعد موت أزواجه صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: حضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ بإدخالها في المسجد،، فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم: أي وكانت تسعة: أربعة مبنية باللبن، أي وسقفها من جريد النخل مطين بالطين، ولها حجر من جريد، أي غير بيت أم سلمة فإنها جعلت حجرتها بناء.
وكان صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل، فلما قدم دخل عليه أول نسائه فقال لها: ما هذا البنيان؟ قالت: أردت أن أكف أبصار الناس، فقال صلى الله عليه وسلم «وإن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان» وعن علي رضي الله تعالى عنه «إن لله بقاعا تسمى المنتقمات، فإذا اكتسب الرجل المال من حرام سلط الله عليه الماء والطين، ثم لا يمتعه به» أي وكانت تلك الحجر التي من الجريد مغشاة من خارج بمسوح الشعر، وخمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر بها، على أبوابها ستور من مسوح الشعر، أي وهي التي يقال لها البلانس ذرع الستر فوجد ثلاثة أذرع في ذراع.
هذا، وفي كلام السهيلي: كانت مساكنه صلى الله عليه وسلم مبنية من جريد عليه. طين، وبعضها من حجارة موضوعة وسقوفها كلها من جريد، وكانت حجرته عليه الصلاة والسلام أكسية من شعر مربوطة بخشب من عرعر، هذا كلامه.
قال بعضهم: وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء، يريدون ما رضي الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الأرض بيده، أي فإن ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر في البنيان.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض طرق المدينة فرأى فيه مشرعة، فقال: «ما هذه؟» قالوا: هذه لرجل من الأنصار، فجاء ذلك الرجل فسم على النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا، فاعلم بالقصة فهدمها الرجل .
وعن الحسن البصري قال: كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي، أي لأن الحسن البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب يقينا، وكان ابنا لمولاة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم اسمها خيرة، وكانت أم سلمة تخرجه للصحابة يباركون عليه، وأخرجته إلى عمر رضي الله تعالى عنه فدعا له بقوله: اللهم فقهه في الدين، وحببه إلى الناس، وكان والده من جملة السبي الذي سباه خالد في خلافة الصديق من الفرس.
وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لأن عمره كان قبل أن يخرج عليّ من المدينة إلى الكوفة، وذلك بعد قتل عثمان أربع عشرة سنة. قيل له: يا أبا سعيد: إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وإنك لم تدركه؟» فقال لذلك السائل: كل شيء سمعتني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا، أي خوفا من الحجاج.
وقد أخرج له عن عليّ جماعة من الحفاظ كالترمذي والنسائي والحاكم والدارقطني وأبو نعيم ما بين حسن وصحيح، وبه يردّ قول من أنكر أنه لم يسمع من علي، لأن المثبت مقدم على النافي، أو هو محمول على أنه لم يسمع من علي بعد خروج علي من المدينة.
قال بعضهم: وتلك الفصاحة التي كانت عند الحسن والحكمة من قطرات لبن شربها من ثدي أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، فإن أمه ربما غابت فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فربما در عليه ثديها فشربها.
قال بعضهم: كان الحسن البصري أجمل أهل البصرة. وفي كلام ابن كثير:
كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا، هذا كلامه. وكان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمة، وإذا جلس فكأنه أسير أمر بضرب عنقه، وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له.
وعن الواقدي: كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله، فكلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا تحول له حارثة عن منزل حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي وهذا يخالف ما تقدم عن الأصل، من أن مساكنه بنيت في السنة الأولى.
ومات عثمان بن مظعون، وهو أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وأمر صلى الله عليه وسلم أن يرش قبره بالماء، ووضع حجرا عند رأس القبر، أي بعد أن أمر رجلا أن يأتيه بحجر، فأخذ الرجل حجرا ضعف عن حمله، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن ذراعيه ثم حمله ووضعه في المحل المذكور، وقال: «أتعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» أي ومن ثم دفن ولده إبراهيم عند رجليه.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت، قالت: ورأيت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدي عثمان بن مظعون.
أي وفي الاستيعاب «أنه مات بعد شهوده بدرا، فلما غسل وكفن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه» ولا معاوضة بينه وبين خبر عائشة رضي الله تعالى عنها السابق كما لا يخفى وجعل النساء يبكين، فجعل عمر يسكتهنّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عمر»، ثم قال: «إياكن ونعيق الشيطان، ومهما كان من العين فمن الله من الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان»، وقالت امرأته، وهي خولة بنت حكيم، وقيل أمّ العلاء الأنصارية وكان نزل عليها، وقيل أم خارجة بن زيد: طبت، هنيئا لك الجنة أبا السائب، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة غضب وقال: «وما يدريك؟» فقالت: يا رسول الله مارسك وصاحبك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أدري ما يفعل بي»، فأشفق الناس على عثمان.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن خولة بنت حكيم دخلت عليها وهي متشوشة الخاطر، فقالت لها عائشة: ما بالك؟ قالت: زوجي تعني عثمان بن مظعون يقوم الليل ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فذكرت له ذلك، فلقي عثمان فقال له: «يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أما لك بي أسوة، والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا» أي وسماه السلف الصالح فقال عند دفن ولده إبراهيم «الحق بسلفنا الصالح» وقال عند دفن بنته زينب «الحقي بسلفنا الخير عثمان بن مظعون» .
ومات أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه ووجد أي حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدا شديدا عليه، وكان نقيبا لنبي النجار، فلم يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا بعده، أي بعد أن قالوا له اجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم، وقال لهم: «أنتم أخوالي وأنا نقيبكم، وكره أن يخص بذلك بعضهم دون بعض، فكانت من مفاخرهم».
أي ووهم ابن منده وأبو نعيم في قولهما إن أبا أمامة كان نقيبا لبني ساعدة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل نقيب كل قبيلة منهم، ومن ثم كان نقيب بني ساعدة سعد بن عبادة.
أي وقد قيل إن قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مات البراء بن معرور، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب هو وأصحابه فصلى على قبره، وقال: «اللهم اغفر له وارحمه وارض عنه وقد فعلت» وهي أول صلاة صليت على الميت في الإسلام بناء على أن المراد بالصلاة حقيقتها، وإلا جاز أن يراد بالصلاة الدعاء، ويوافق ذلك قول الإمتاع: لم أجد في شيء من كتب السير متى فرضت صلاة الجنازة.
ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون. وقد مات في السنة الثانية، وكذلك أسعد بن زرارة مات في السنة الأولى.
ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصلاة الحقيقة، وقد تقدم ذلك وتقدم ما فيه.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود، أي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير: أي صالحهم على ترك الحرب والأذى: أي أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم، وأن لا يعينوا عليه أحدا، وأنه إن دهمه بها عدوّ ينصروه، وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم.
وقد ذكر في الأصل صورة الكتاب، وآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك، وهي دار أبي طلحة زوج أمّ أنس، أي واسمه زيد بن سهل، وقد ركب البحر غازيا فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها ولم يتغير.
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أن أبا طلحة لم يكن يكثر من الصوم في عهد رسول الله بسبب الغزو، فلما مات صلى الله عليه وسلم سرد الصوم. وكانت المؤاخاة- بعد بناء المسجد، وقيل والمسجد يا بنى- على المواساة والحق، وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام، وفي لفظ دون القرابة، فقال «تآخوا في الله أخوين أخوين» .
أقول: ذكر ابن الجوزي عن زيد بن أبي أوفى قال «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد المدينة، فجعل يقول: أين فلان أين فلان؟ فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده، فقال: «إني محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم»: إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا، ثم تلا هذه الآية {ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ ٱلنَّاسِ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [الحجّ:75] وإني أصطفي منكم من أحبّ أن أصطفيه، وأواخي بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكته، قم يا أبا بكر، فقام فجثا بين يديه صلى الله عليه وسلم، فقال: «إن لك عندي يدا الله يجزيك بها، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذتك خليلا، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي وحرك قميصه بيده»، ثم قال: «ادن يا عمر»، فدنا فقال: «قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص، فدعوت الله أن يعزّ بك الدين أو بأبي جهل ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهما إلى الله فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة، وآخى بينه وبين أبي بكر» هذا كلام ابن الجوزي، وهو يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار أيضا كما آخى بينهم قبل الهجرة، وهذا لا يتم إلا لو آخى بين غير أبي بكر وعمر من المهاجرين، ويكون ابن أبي أوفى اقتصر.
والمعروف المشهور أن المؤاخاة إنما وقعت مرتين مرة بين المهاجرين قبل الهجرة، ومرة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة والله أعلم. ويدلّ لذلك قول بعضهم: كانوا إذ ذاك خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار، أي وقيل كانوا تسعين «فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال: هذا أخي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين، وآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد» وكان صهرا لأبي بكر، كانت ابنته تحت أبي بكر «وبين عمر وعتبان بن مالك، وبين أبي رويم الخثعمي وبين بلال، وبين أسيد بن حضير وبين زيد بن حارثة، وكان أسيد ممن كناه النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبس، وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد العقلاء أهل الرأي، وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يكرمه ولا يقدم عليه أحدا، وآخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ، وآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع، وعند ذلك قال سعد لعبد الرحمن: يا عبد الرحمن إني من أكثر الأنصار مالا، فأنا مقاسمك، وعندي امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له «بارك الله لك في أهلك ومالك».
وفي الأصل عن ابن إسحاق آخى رسول الله بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال: «تآخوا في الله أخوين أخوين» .
وفي كلام بعضهم «أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وبين زيد بن حارثة» وإليه أوصى حمزة يوم أحد، فليتأمل فإنهما مهاجران «ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب وقال هذا أخي»، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليّ أخوين وفيه أن هذا ليس من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد تقدم في المؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة مؤاخاته له صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه جاء عليّ تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب «وآخى بين جعفر بن أبي طالب، وهو غائب بالحبشة وبين معاذ بن جبل» أي أرصد، معاذا لأخوة جعفر إذا قدم من الحبشة.
وبه يردّ ما قيل جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح خيبر سنة سبع، فكيف يؤاخي بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه الصلاة والسلام «وآخى بين أبي ذرّ الغفاري والمنذر بن عمرو، وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب» .
وفي الاستيعاب «أنه آخى بين سلمان وأبي الدرداء» وجاء سلمان لأبي الدرداء زائرا فرأى أمّ الدرداء مبتذلة فقال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه، فسأل أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم عما قال سلمان، فقال له مثل ما قال سلمان» ولعل هذه المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء كانت قبل عتق سلمان، لأنه تأخر عتقه عن أحد، لأن أول مشاهده الخندق كما تقدم.
وروى الإمام أحمد عن أنس «أنه آخى بين أبي عبيدة وبين أبي طلحة» وقد تقدم أنه آخى بينه وبين سعد بن معاذ، وقال المهاجرون «يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، كفونا المؤنة وأشركونا في المهنة. أي الخدمة حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كلهقال: «لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم لهم» أي فإن ثناءكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة.
قال بعضهم: والمؤاخاة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك لنبيّ قبله ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص» أي المحبوسين عند قريش المانعين لهما من الهجرة، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة أي بعد أن خرج إلى المدينة من حبس أهله له بمكة كما تقدم أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعهما وكان بيتا لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة: أي حجرا فوضعها تحت قيدهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه ذو المروة، ثم جعلهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فأنشد أي متمثلا:

هل أنت إلا إصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم أن ذلك يردّ القول بأن عياشا استمرّ محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد دعا صلى الله عليه وسلم في قنوت الصلاة بقوله «اللهم أنج الوليد بن الوليد» أي وذلك أن يتخلص من حبسه بمكة، أي فإن الوليد أسر يوم بدر، أسره عبد الله بن جحش فقدم في فدائه أخواه خالد وكان أخاه لأبيه وهشام وكان أخاه لأمه وأبيه، أي ومن ثم لما أبى عبد الله أن يأخذ في فداء الوليد إلا أربعة آلاف درهم وصار خالد يأبى ذلك، قال له هشام: إنه ليس بابن أمك، والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت.
ويقال إنه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن جحش: «ولا تقبل في فدائه إلا شملة أبيه» وهي درع فضفافة مقومة بمائة دينار «فجاآ بها وسلماها إلى عبد الله» فلما افتدي وقدم إلى مكة أسلم، فقيل له: هلا أسلمت قبل أن تفتدي؟ فقال: كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الإسار، فلما أسلم حبسه أهل مكة، ثم أفلت ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد عمرة القضاء، وكتب إلى أخيه خالد، فوقع الإسلام في قلب خالد، وكان خالد من جملة من خرج من مكة فارّا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كراهة الإسلام وأهله، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد عنه، وقال «لو أتانا خالد لأكرمناه، وما مثله يجهل الإسلام» فكتب له أخو الوليد بذلك، وفي مدة حبس الوليد كان صلى الله عليه وسلم في كل ليلة إذا صلى العشاء الآخرة قنت في الركعة الأخيرة يقول «اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم انج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج هشام بن العاص، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف، فأكلوا العلهز؛ ثم لم يزل يدعو للمستضعفين حتى نجاهم الله» أي بعد أن نجى عياشا وهشاما والوليد.
أقول: هذه الرواية تدل على أنه كان يدعو بما ذكر في الركعة الأخيرة من العشاء الآخرة. وفي البخاري أن ذلك كان في الركعة الأخيرة من الصبح.
وقد يقال: لا مخالفة، لأنه كان صلى الله عليه وسلم تارة يدعو في الركعة الأخيرة من صلاة العشاء الآخرة، وتارة في الركعة الأخيرة من الصبح، أو كان يدعو بذلك فيهما وكل روى بحسب ما رأى، والله أعلم.
ثم لا زال المهاجرون والأنصار يتوارثون بذلك الإخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر {وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ} [الأنفال:75] أي القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] أي في الإرث {فِي كِتَابِ ٱللَّهِ} [الأنفال:75] أي اللوح المحفوظ فنسخت ذلك، أي لأنه كان الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة، وشدّ أزر بعضهم ببعض؛ فلما عزّ الإسلام، واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، بطل التوارث، ورجع كل إنسان إلى نسبة وذوي رحمه: أي ومن ثم قيل لزيد بن حارثة زيد بن حارثة: أي بعد أن كان يقال له زيد بن محمد، وكانت المؤاخاة بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل غير ذلك.
أقول: تقدم أن سبب امتناع أن يقال زيد بن محمد نزول قوله تعالى {ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ} [الأحزاب:5] أي ومن ثم قيل للمقداد بن عمرو، وكان يقال له المقداد بن الأسود، لأن الأسود كان تبناه في الجاهلية، ومن لم يعرف أبوه ردّ إلى مواليه؛ ومن ثم قيل لسالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بعد أن كان يقال له سالم بن أبي حذيفة، فكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه، ومن ثم أنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة.
وجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يدخل عليّ وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وإنه يدخل عليّ، وأظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فماذا ترى فيه؟ فقال: «أرضعيه تحرمي» .
وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لعائشة «ما ترى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم» وكان سالم رضي الله تعالى عنه يؤم المهاجرين الأولين في مسجد، قباء فيهم أبو بكر وعمر.
وفي ينبوع الحياة: كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار توجب التوارث بينهم ثم نسخ ذلك قبل العمل به، وأما قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت {وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ}[الأنفال:75] فمعناه أنهم التزموا هذا الحكم ودانوا به.
ومن المشكل حينئذ ما نقل «أن الحتات» بضم الحاء وفتح المثناة فوق مخففة «كان صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين معاوية، ولما مات الحتات عند معاوية في خلافته ورثه بالأخوة مع وجود أولاده» ثم رأيت الحافظ ابن حجر في الإصابة ذكر ذلك ونظر فيه، والله أعلم.