السيرة النبوية بين الحقائق الموثقة والتأويلات المزيفة

معالي الأستاذ الدكتور عباس الجراري

عمّان- المملكة الأردنيّة الهاشميّة

(حدث وفاته صلى الله عليه وسلم ومشكل تأسيس الدولة والخلافة)

السيرة النبوية – كما لا يخفى – علم قائم الذات، محوره النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وما عرف من وقائع وأحداث تشكل بداية تاريخ الإسلام بمبادئه وأحكامه ومعجزاته وعلاقاته وقيمه، وما كان عليه شخص الرسول الكريم وسلوكه؛ مما يزكيه ما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف وسلوك الصحابة الأبرار، وفق ما جاءت به وفصلت القول فيه المصادر المعنية بهذا الموضوع الغني الخصيب؛ بعيداً عن أي رفض لذلك أو التشكيك فيه، على ما في بعض هذه المصادر من تحريف.

ويعتبر القرآن الكريم أهم مرجع لهذه السيرة العطرة في مختلف مراحلها وأطوارها، من خلال ما عرضته معظم سوره وما فيها من آيات تناولت شخصه عليه السلام، ورسالته وما عانى لتبليغها، وما قام به من هجرة وغزوات، مع الإلحاح على بشريته وإنسانيته.

وتلفت النظر في القرآن المجيد سورة تحمل اسم «محمد»، على الرغم من أنها تناولت موضوع الجهاد ومشروعيته، لدرجة أنها تسمى كذلك سورة «القتال». ولعل سبب نسبتها إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن اسمه ذكر لأول مرة في الآية الثانية منها، وهي قوله تعالى: {وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} وهي بذلك سبقت ذكره في سورة آل عمران [الآية: 144] التي ورد فيها قوله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ}. هذا مع العلم أن اسم النبي الكريم ورد كذلك في سورتين أخريين، هما:

  1. سورة [الأحزاب: 40] حيث يقول الحق سبحانه: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ}.
  2. سورة [الفتح: 9] التي وردت فيها الآية الكريمة: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ}.

واعتبار القرآن الحكيم مصدراً أساسياً في السيرة النبوية يقتضي الرجوع إلى كتب التفسير، التي لا شك يحتاج الذي يعتمد عليها إلى إعمال النَّظر العلمي الدقيق، فيما قدمت من شروح وتأويلات وأخبار وأحاديث وغيرها، حتى يتضح الصحيح منها والزائف.

ومثلها كتب الحديث التي اهتمت بجمع ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات وغيرها، مما زخرت به حياته الحافلة. وهي باعتمادها على الرواية والنقل تحتاج إلى كثير من الفحص، طبقاً للمعايير التي وضعها المحدثون الثقات، وخاصة ما يتصل منها بالسند وما يحكمه من قانون الجرح والتعديل. ويعتبر في طليعتها «موطأ» الإمام مالك بن أنس(1)، وصحيح البخاري(2)، وصحيح مسلم(3). وإلى جانب كتب الصحاح هذه تأتي كتب السنن التي هي: سنن أبي داوود(4)، وسنن ابن ماجة(5)، وسنن الترمذي(6)، ثم سنن النسائي(7).

وضمن هذه المصادر يشار إلى مصنفات عنيت بالشمائل المحمدية والمغازي والسير، وكتب التاريخ العام وما إليها مما يؤرخ للفكر الإسلامي والأدب العربي بأنماطه الشعرية والنثرية وما أنتج فيها من نبويات ومولديات.

وتكاد السيرة التي جمعها محمد بن إسحاق(8) أن تكون من أهم كتب السيرة إن لم تكن أهمها. ومثلها المختصر الذي وضعه لها عبد المالك بن هشام(9)، والشرح الذي ألفه أبو القاسم السهيلي المالقي المراكشي(10) بعنوان: «الروض الأنف». ولا تذكر مصنفات السيرة النبوية – وهي عديدة – من غير أن يشار إلى كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» للقاضي عياض السبتي المراكشي(11). وهو من أكثر الكتب التي لقيت عناية كبيرة لدى ) المغاربة والمشارقة، شرحاً واختصاراً ونظماً وتدريساً وغير ذلك(12).

* * *

وعلى الرغم من أن معظم كتب السيرة والدراسات القائمة حولها جاءت بالمناهج التي سارت عليها –مع اختلافها- ملتزمة ولو إلى حد ما بما ورد في المصادر، فإن هذه السيرة لاعتماد جوانب منها على الرواية، قد تعرضت عند بعض العلماء المسلمين والمستعربين لشيء من التحريف الذي استغله خصوم الإسلام والجاهلون بحقائقه؛ سواء بتزييف هذه الحقائق أو المبالغة في عرضها أو إساءة تفسيرها وتأويلها، بقصد أو بدونه، وإن أفضت في النهاية إلى تشويه صورة الدين وحامل رسالته عليه أزكى التحية وأطيب التسليم.

هذا من غير أن ننسى أن سؤالاً كبيراً ينبغي أن يثار متصلاً بالروايات وتعددها. ويتعلق ببداية حركة التدوين التي ظهرت بعد ظهور الخلافات السياسية والمذهبية التي عرفها المسلمون؛ مما يستلزم الكثير من التحري في هذه الروايات التي قد تكون تأثرت بتلك الخلافات.

ومع أن المجال لا يتسع للوقوف عند نماذج من تلك الحالات التي قد يحيد بي تناولها عن موضوع هذا العرض، فإنه يكفيني أن أشير إلى ما أظن أنه من آخر ما صدر متعلقاً بالسيرة النبوية أو بالأحرى ببعض جوانبها؛ وهو الكتاب الذي ألفته – بالفرنسية – الباحثة التونسية السيدة هالة وردي عن «الأيام الأخيرة لمحمد »(13) هادفة به – حسب قولها – إلى إبراز الحجم التاريخي والوجه الحقيقي للنبي الكريم، من خلال إجراء تحقيق عن «موته الغامض »(14)، معتبرة هذا الموت «مأساة شكسبيرية». ولا عجب أن تنظر بهذه الرؤية الروائية، فهي متخصصة في الأدب الفرنسي، وحاصلة على الدكتوراه فيه، وأستاذة له وللحضارة الفرنسية بجامعة تونس المنار. وقد ذكرت في سيرتها الذاتية أنها تعنى حالياً بالبحث في الجهود القرآنية للمستشرقين باللغة الفرنسية. والحقيقة أنه ليس في تخصصها الأدبي ما يمنع من تناول قضايا معينة في السيرة النبوية التي هي بحكم سعة مجالاتها وتعدد آفاقها تحتاج دراستها إلى تخصصات متنوعة، طالما يظل الباحث في حدوده المعرفية.

والكتاب يضم ثمانية عشر فصلاً تبدأ بغزوة تبوك وبيعة العقبة ووفاة ابنه إبراهيم وحجة الوداع، وتستمر في عرض جوانب من حياته صلى الله عليه وسلم لتقف عند مرضه وحادث موته ودفنه، وعجزه عن التوصية بشأن خلافته؛ مع إثارة مسألة تسممه وتأخير دفنه، معتبرة موته «جريمة»، ومنتهية إلى أنه عليه السلام ليس هو مؤسس الدولة، ولكن الذي أسسها هو أبو بكر؛ مع ما رافق ذلك أو أعقبه من خلافات، وما كان واقعاً بين بعض آل البيت وبعض الصحابة، وما كان كذلك مع الأمويين.

والمتأمل في هذا الكتاب تبدو له الباحثة الفاضلة قد حشدت ما وقع بين يديها من روايات وردت – بحق أو بباطل – من غير أن تتحرى فيها وفي مصادرها، سواء أكانت تاريخية أم حديثية، ظانة أنها تقوم بنقد ذاتي لوقائع السيرة النبوية. وذلكم أمر محمود في حد ذاته، لحاجة تاريخنا وفكرنا في عمومه إلى مثل هذا النقد؛ شريطة أن يكون مؤسساً على المعرفة والموضوعية والنزاهة. إلا أنها قد تجاوزت ذلك النقد، بل تجاوزت في نظري مجال البحث الحق، ونصبت نفسها قاضية تحكم ووكيلة نيابة تتهم؛ مما أفضى بعملها إلى التشويش.

ومع أن الكتاب يحتاج إلى كثير من التصفية النقدية، ومراجعة مؤلفته في معظم القضايا التي عرضتها، مما لا يتسع له إطار هذا العرض، فسوف أكتفي بالوقوف عند بعضها، ولا سيما عند ثلاثة منها، بقصد توضيحها وفق ما أرى أنه يبعدها عن الشوائب التي ألصقت بها، أي من خلال ما تداولته المصادر الأولى المعتمدة التي سبقت الإشارة إلى جملة منها. وهذه القضايا هي:

1. مرضه صلى الله عليه وسلم وموته ودفنه.
2. اختيار خليفته قبل دفنه.
3. استمرار الدولة التي أسسها صلى الله عليه وسلم وليس خليفته الصِّديق.

* * *

أما عن مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم فقد كانت لذلك إرهاصات، بدأت مع حجة الوداع ووقوفه بعرفة، حيث نزل قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً} [المائدة: 3]. وقد عقب النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الآية بقوله وهو واقف عند جمرة العقبة: «خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا »(15). وكان ) عليه السلام قد قال حين نزلت سورة النصر(16): «إنه قد نعيت إلى نفسي»(17)؛ ثم قام على المنبر وقال: «إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله »(18).

وفي سيرة ابن إسحاق أن السيدة عائشة قالت: «رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارأساه، فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه»(19). وفي سياق هذه المرحلة «البشرية» من شعوره بالوجع، فضل أن يُمرَّض في بيت السيدة عائشة الذي دخله بعد أن غادر بيت زوجته السيدة ميمونة؛ وهو يتهادى بين عمه العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب. وما إن وصل حتى أمرهم، لما كان يشعر به من الحمى، أن يهرقوا عليه الماء فصبوه عليه «من سبع قرب لم تحل أوكيتهن»(20).

وفي هذه الأثناء استحضر ما كان حدث له بخيبر(21) فقال: «ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، وهذا أوان انقطاع أبهَرى من ذلك السم»(22).

حدث هذا في الأيام الأخيرة من صفر سنة تسع هجرية، واستمرت حاله المرضية نحو أسبوع أو عشرة أيام. وكان بحكم هذه الحالة قد تعذر عليه الخروج للصلاة، فأمر أبا بكر أن يصلي بالناس وألح في أمره فصلى بهم ابتداء من عشاء ليلة الجمعة إلى فجر يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، الموافق سابع يونيو عام اثنين وثلاثين وستمائة. وكان صلى الله عليه وسلم قد أطل على المصلين من حجرة عائشة فتبسم قبل أن يتوفاه الله(23) وهو يقول: «اللهم أعني على سكرات الموت »(24). وفي هذه اللحظة الإنسانية الحرجة خرج أبو بكر إلى الناس يخبر بالحدث الأليم قائلاً: «ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقد قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ} [آل عمران: 144] .

وبعد فجر ذلك الاثنين ثاني عشر ربيع الأول(25) انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عفو الله. وقبل أن يتم تجهيزه ودفنه اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -على حد ما سأوضح بعد- ثم عادوا فغسلوه وكفنوه وصلى عليه الناس فرادى فوجاً بعد فوج، ثم حفر له قبر حيث قبض .(26)

إن اختيار خليفة يعني اختيار من يخلفه – ليس في النبوة بطبيعة الحال – ولكن في الحكم، أي في رئاسة الدولة التي أسسها صلى الله عليه وسلم وليس خليفته الصديق، كما عند مؤلفة كتاب «أيام النبي الأخيرة».

لقد تم هذا الاختيار في سقيفة بني ساعدة(27)، حيث اجتمع الأنصار ملتفين حول سعد بن عبادة، والتحق بهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ومن معهم من المهاجرين؛ ولم يتخلف إلا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله الذين ظلوا في بيت فاطمة يجهزون دفن النبي الكريم.

في هذا الاجتماع قام خطيب الأنصار الذين كانوا يرون أنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم منذ الوهلة الأولى، ولم يحاربوه كما فعل أهل مكة، وقال: «… أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، وقد دفت دافة من قومكم… يريدون أن يج يجتزونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ». ثم تكلم أبو بكر باسم المهاجرين من قريش الذين اعتبروا أنفسهم أول من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم وآزره، فقال: «… أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً. وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم ». وأخذ بيد عمر وأبي عبيدة بن الجراح. فقال أحد الأنصار: «… منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ،» أي من المهاجرين أمير ومن الأنصار أمير. وهو اقتراح رفضه هؤلاء وأولئك، حفاظاً على الوحدة وخشية تجدد العداوة القديمة بين الأوس والخزرج. وكان أن كثر اللغط وارتفعت الأصوات فقال عمر لأبي بكر: «ابسط يدك يا أبا بكر » فبسط يده فبايعه عمر ثم بايعه الأنصار ».

وفي الغد اجتمع الناس في المسجد وصعد أبو بكر المنبر، وتكلم قبله عمر فقال: «أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهداً عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا وأن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه ». فتمت البيعة العامة لأبي بكر الذي تكلم فقال: «… أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالذل. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى الصلاة يرحمكم الله .»

وتجدر الإشارة إلى أنه قبل بيعة أبي بكر كانت طائفة ترى أن يكون الخليفة من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو رأي علي الذي سبق أن ذكرنا أنه كان غائباً عن السقيفة، وكان مرشحاً لها أولى الناس قرابة، وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم العباس بن أبي طالب، وابن عمه علي الذي كان مقدماً على العباس لسبقه إلى الإسلام؛ إضافة إلى أن علياً هو زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مشهوداً له بالشجاعة والجهاد. وبرز من أنصار هذا الرأي الزبير بن العوام وبعض بني هاشم وبعض الأنصار.

ولا شك أن مرد مثل هذه الخلافات –عند بعض الدارسين ومنهم صاحبة الكتاب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبث في قضية الخلافة قبل وفاته، إذ لم يوص لأحد بها ولم يكتب وصية بها، زاعمين أنه ترك المسلمين يتخبطون مختلفين حول من يخلفه على رئاسة الدولة. ويبدو لي إضافة إلى كل ما قيل حول هذه المسألة، أن النبي عليه السلام كان على ثقة في الصحابة وفي إيمانهم القوي وضميرهم الديني اليقظ.

هنا يشار إلى ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة قال: «هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده». قال عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله». كما ورد أن أهل البيت اختلفوا واختصموا، فمنهم من يقول: «قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده». ومنهم من يقول ما قال عمر. فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قوموا عني». وكان ابن عباس يقول: «إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم».(28)

ويشار كذلك إلى أن بعض أهل السنة يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف أبي بكر بعده على الأمة، لا سيما وقد أنابه عنه في الصلاة. ثم إنه قيل لعمر: «ألا تستخلف ؟» قال: «إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني، أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنوا عليه فقال: «راغب وراهب، ووددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي، لا أتحملها حياً وميتا»(29)

كما يشار إلى أن بعض الذين كانوا متحمسين لعلي يقولون إنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بأن علياً ينبغي أن يكون الخليفة بعده، وذلك في مثل قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» «و علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي»(30).

مهما يكن من أمر هذه الخلافات والأقوال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص لأحد بالخلافة ولم يكتب وصيته بها، ولكن المسلمين ظلوا يحاولون أن يجتهدوا في شأنها. ولو أنه أوصى لأحد الصحابة بالخلافة ثم حدث ما حدث للمسلمين بعد ذلك من نزاعات وانقسامات، لكان وزر ذلك واقعاً على النبي الكريم الذي توفي بعد أن نشر الدعوة الإسلامية وترك للأمة دولة قائمة كان هو مؤسسها كما سيتضح بعد.

* * *

ليس من شك في أن تأسيس الرسول صلى الله عليه وسلم للدولة كان ضرورة ملحة بعد أن تشكل مجتمع إسلامي مقيم في أرض محددة، ممتعاً بالسيادة، وشاعراً بشخصيته المعنوية وبالحاجة إلى نظام يضبط شؤونه وعلاقاته. وزاد في هذه الضرورة ما كان يدعو إليه القرآن الكريم بشأن تكوين «الأمة » وخيريتها ووحدتها، في مثل قوله سبحانه: {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 103 – 104] .

والحقيقة أن المسلمين في اجتهادهم بشأن الخلافة، كانوا ينظرون إليها باعتبارها –كما قلت من قبل- ضرورة غدت تحكمها نظرية «المصالح المرسلة » المعروفة في الفقه الإسلامي، والمبيحة في التشريع لما يراه المسلمون ملائماً للواقع. ثم إن الدعوة إلى تشكيل هذه الدولة كان نابعاً من اعتبار الرسول صلى الله عليه وسلم أو من يخلفه مجرد منفذ وساهر على مصالح المسلمين، وليس حاكماً بإطلاق، لأن الحاكم المطلق هو الله عز وجل المتصرف في الكون كيف يشاء: {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ} [يوسف: 40]، {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

ومن ثم فإن رئيس الدولة في المنظور الإسلامي، وهو في هذا السياق النبي الكريم، كان يتلقى التوجيه الإلهي متمثلاً في قوله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، إذ كان مطالباً بأن يحكم بالحق وبما أنزل الله: {فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ} [ص: 26] ، {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ} [المائدة: 49]. وهو محاسب إن لم يسلك هذا السبيل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].

والحكم بالحق وبما أنزل الله يقتضي الحكم بالعدل والمساواة: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ} [النساء: 58]. وفي الحديث 5 الشريف أنه: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(31)

والحرص على العدل يستدعي عدم الاستبداد بالرأي. وهو ما جعل الشورى مبدأ أساسياً في المنظور الإسلامي لتسيير شؤون الدولة. وكان النبي الكريم يلجأ إليه في شؤون الدنيا عامة. وقد أمره الله تعالى بذلك في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ} [آل عمران: 159] .

وقد أكد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك في أكثر من حديث على هذا النحو: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر»(32)، إذ أنتم أعلم بأمر دنياكم »(33).

وحتى تتحقق هذه المبادئ التي تقوم عليها الدولة، والتي أرسى دعائهما وطبقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويتحقق معها رضا الأمة عن رئيسها، فقد دعا تعالى إلى ضرورة وجود عقد بينهما هو المتمثل في البيعة. وقد ذكر منها القرآن الكريم بيعتين:

  1. بيعة النساء التي بايعه بها الرجال كذلك، وفيها يقول سبحانه: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ} [الممتحنة: 12].
  2. بيعة الرضوان أو بيعة الشجرة، لأن الله رضي عن مقدميها، ولأنه صلى الله عليه وسلم تلقاها وهو مستظل بشجرة يقال إنها شجرة السَّمُر المعروف بالطلح: {لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [الفتح: 18-19] .

وفي إطار هذه المسؤوليات التي كان يتحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره رئيساً للدولة، يُذكر ما كان يقوم به لتحقيق العدالة والسلم الاجتماعي، وما كان يتحمله من أعباء سياسية واقتصادية وقضائية وغيرها مما يجمعه مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر». كما تُذكر مهام كثيرة، داخلية وخارجية كان يقوم بها، سواء في أول أمر الدعوة أو بعد أن تقوى هذا الأمر؛ مما كان يعرضه على القبائل أو تعرضها هي عليه، وما كان له مع قريش من تفاوض، وما كان له معها أو مع اليهود، من معاهدات، وما أرسل من بعثات إلى البلدان. ثم لم يلبث أن جهز الجيوش ونظمها تحت راياته، وخرج بها في غزوات أو وجه بها سرايا ترأسها بعض الصحابة. هذا في الوقت الذي وجه سفارات وأرسل كتباً إلى بعض الملوك والأمراء، يدعوهم إلى الإسلام ويضع عليها خاتمه الذي هو رمز للدولة ولشخصه عليه الصلاة والسلام، ويتلقى ردودهم عليها، وكان من قبل يدعو إلى الدين خفية. وقد اشتهرت في هذا المجال كتبه إلى هرقل عظيم الروم، والحارث الغساني، وكسرى عظيم الفرس، والمقوقس عظيم القبط، والنجاشي أصحمة ملك الحبشة، وهوذة الحنفي صاحب اليمامة، والمنذر بن ساوي التميمي رئيس البحرين، وإلى ملكي عمان.

* * *

هكذا لم ينتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إلا وقد نشر الدعوة وأسس الدولة وأرسى دعائمها وأبرز قيمها وضبط علاقاتها، وترك للمسلمين أن يجتهدوا في مواصلة مسيرتها وتنميتها، والحفاظ قبل ذلك على وحدتها وخيريتها.

وتلكم حقيقة أجمع المؤرخون والدارسون على إظهارها كلها أو بعضها، رغم تعدد الروايات وتفاوت هذه الروايات في الصحة والموضوعية. ومن ثم وتأكيداً لما سبق ذكره، فإني أرى مجانباً لهذه الحقيقة ما ذهبت إليه الباحثة الموقرة من أن مؤسس الدولة هو أبو بكر وليس الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن أن وفاته التي تمت في بيت السيدة عائشة بالمدينة المنورة(34) كانت «جريمة»، وأن جثمانه حسب بعض المصادر التحريفية التي رجعت إليها، بقي ثلاثة أيام حتى تحلل؛ في حين أنه توفي صباح الاثنين ودفن ليل الثلاثاء الذي صادف ليلة الأربعاء(35)، بعد أن غسل وكفن وصلي عليه. وكان قبل ذلك بنحو ثلاثة أيام قد شعر بوجع جعله يسترجع سببه، مرتبطاً بمحاولة التسمم التي كان تعرض لها قبل ثلاثة أعوام. وهي حالة تؤكد طبيعته البشرية ومشاعره الإنسانية، وإن بدا غريباً ظهور أعراض هذه المحاولة بعد تلك الأعوام؛ مع أنه لم يزد على أن لاك مضغة من ذلك الطعام المسموم ثم لفظها.

أما الإجراءات التي تمت منذ مرضه إلى دفنه، فتدل على وعي بضرورة الحرص على الدين والدولة، وهذه على الخصوص، وكان الصحابة مشغولين بمشكل رئاستها، حتى لا يحدث فراغ أو يقع اضطراب، وهو ما جعلهم يسرعون لحل هذا المشكل في سقيفة بني ساعدة، مدركين سر عدم استخلافه أحد أصحابه في حياته والحكمة في ذلك.

ويعتبر هذا الاهتمام بمشكل الخلافة سلوكاً شرعياً و «دستورياً» بالمفهوم المعاصر، مما قد يحدث أو حدث بالفعل في حالات مشابهة.

ولتقريبه نشير إلى ما عشناه في المغرب إثر وفاة الملك المغفور له جلالة الحسن الثاني أكرم الله مثواه، إذ توفي عشية الجمعة تاسع ربيع الثاني عام عشرين وأربعمائة وألف للهجرة، الموافق للثالث والعشرين من يوليوز عام تسعة وتسعين وتسعمائة وألف ميلادية. ونودي بولي عهده الأمير سيدي محمد – جلالة الملك محمد السادس نصره الله – عاهلاً على المغرب، طبقاً لأحكام الدستور والبيعة الشرعية التي عقدت له في القصر الملكي بالرباط مساء اليوم نفسه، ولم يتم دفنه إلا بعد عصر الأحد بضريح محمد الخامس(36). وأعلن بعد ذلك في بلاغ من وزارة القصور الملكية بتعيين يوم ثلاثين يوليوز من كل سنة عيداً للعرش.

* * *

أما بعد هذا، فلعلي أن أعرب عن تمام اتفاقي مع الباحثة الجليلة، فيما يتصل بما عاناه المسلمون من خلافات بدأت في العهد الراشدي، ثم تطورت بعد ذلك بين آل البيت والأمويين. وهو مما تناولت تفاصيله كتب التاريخ. ولا أرى حاجة في هذا العرض المحدود والمحدد بموضوعه، أن أشير إلى أحداثه الأليمة وما ترتب عليها من نزاعات وانقسامات، هي في عمق أسبابها وليدة الصراع من أجل السلطة والحكم. وأظنها كذلك نتيجة ضعف الوعي عند بعضهم بمفهوم الدولة ووحدة الأمة، وكذا نتيجة غلبة النزعة القبلية التي لم تكن قد خمدت في نفوسهم بعد، وتطورت مع توالي العصور عبر الخلافات الطائفية والمذهبية التي ما زالت آثارها للأسف فاعلة فيهم إلى اليوم(37).

وهذه حقيقة على المسلمين وغيرهم أن يتدبروها، أي أن يميزوا بين الإسلام بقيمه ومبادئه، وبين المنتمين إليه – أو بعضهم على الأقل – الذين كانوا وما زالوا بسلوكهم «الجاهلي» لم يتشربوا روح هذه المبادئ والقيم. شأنهم في ذلك شأن أي مجتمع متخلف يكون له دستور راق يسئ تطبيقه، مما لا يبرر إلغاء هذا الدستور خضوعاً لواقع هذا المجتمع المتخلف. وحتى لو حدث هذا الإلغاء وعُوض بتشريع جديد يكون ناجحاً عند آخرين، فإنه لن ينجح عنده، طالما ظلت أسباب تخلفه موجودة. وهو ما يؤكده حال الذين يدعون إلى إبعاد الإسلام عن المجال السياسي، ومع ذلك لم يفلحوا في تحقيق ما يتطلعون إليه من رقي وتقدم.

إن المشكل اليوم – كما كان في الماضي – قائم على تباين المنظور للسياسة في مفهومها الحق الرامي إلى تدبير الاختلافات التي هي طبيعية في كل المجتمعات، والمفهوم الشائع المرتبط بالحزبية الضيقة التي، وإن اتخذت الإسلام شعاراً لها عند البعض، فهي تغذي تلك الاختلافات بما تثيره من تصارع وتناحر، وسعي بأي ثمن إلى السلطة والحكم. وقد تتعدى مجالات اعتدال الدين ووسطيته وسلميته إلى ما يدعو للغلو والعنف والإرهاب. وهو ما نعيش اليوم كثيراً من مظاهره العدوانية التي يرفضها الإسلام ويتبرأ منها المسلمون.

وما أحوج المتتبعين لمثل هذا المشكل أن يراجعوا وقائع تاريخ بعض المجتمعات التي كانت تعاني التمزق والتشتت، وأدركت أهمية وحدتها بانضوائها تحت لواء الإسلام – من حيث هو دين تسامح وتعايش، ومن حيث هو كذلك سياسة مرنة حكيمة – فتشبثت به وحافظت عليه واعية بأهمية هذه الوحدة. وليس من شك في أن هؤلاء كانوا واعين بهذا الوصل الذي ينبغي أن يكون بين السياسة والدين، بما يضمه الدين من ثقافة لم تعد لها اليوم في العمل الحزبي أي تأثير؛ بحكم واقع معقد جعل معظم المثقفين يختارون الانزواء، مكتفين بالتفرج، وربما بالتأفف في أحسن الأحوال. وتلكم قضية أخرى تحتاج بدورها إلى التدبر.