محرم 3 هـ
تموز 624 م
السنه الثالثه من الهجره

غزوه ذي امر، فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ، …

أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ غَطْفَانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ، فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الأَوَّلِ كُلِّهِ إِلا قَلِيلا مِنْهُ.
ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي سَلِيمٍ، حَتَّى بَلَغَ بَحْرَانَ مَعْدِنًا بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الآخَرَ وَجُمَادَى الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا

خبر كعب بن الأشرف
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة سرى النبي صلى الله عليه وسلم سرية إلى كعب بن الأشرف، فزعم الواقدي ان النبي وجه من وجه إليه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال:
كَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الأَشْرَفِ أَنَّهُ لَمَّا أُصِيبَ أَصْحَابُ بَدْرٍ، وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةِ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ بَشِيرَيْنِ، بَعَثَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن المغيث ابن أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أسير الظَّفَرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة، وَصَالِحِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كل قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِهِ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ بن الأشرف- وكان رجلا من طيّئ، ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَقَالَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ:
وَيْلَكُمْ أَحَقٌّ هَذَا! أَتَرَوْنَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَتَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمِّي هَذَانِ الرَّجُلَانِ- يَعِني زَيْدَ بْنَ حارثة، وعبد الله بن رواحه؟ وهؤلاء اشراف الْعَرَبِ وَمُلُوكُ النَّاسِ وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَنَا مِنْ ظَهْرِهَا.
فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ، خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيِّ، وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَجَعَلَ يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَيُنْشِدُ الأَشْعَارَ، وَيَبْكِي عَلَى أَصْحَابِ الْقَلِيبِ الَّذِينَ أُصِيبُوا بِبَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ رَجَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَقَالَ:

أَرَاحِلٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ *** وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ!
صَفْرَاءَ رَادِعَةً لَوْ تُعْصَرُ انْعَصَرَتْ *** مِنْ ذِي الْقَوَارِيرِ وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ
يَرْتَجُّ مَا بَيْنَ كَعْبَيْهَا وَمِرْفَقِهَا *** إذا تاتت قِيَامًا ثُمَّ لَمْ تَقُمِ
أَشْبَاهُ أُمِّ حَكِيمٍ إِذْ تُوَاصِلُنَا *** وَالْحَبْلُ مِنْهَا مَتِينٌ غَيْرُ مُنْجَذِمٍ
إِحْدَى بَنِي عَامِرٍ جُنَّ الْفُؤَادُ بِهَا *** وَلَوْ تَشَاءُ شَفَتْ كَعْبًا مِنَ السَّقَمِ
فَرْعُ النِّسَاءِ وَفَرْعُ الْقَوْمِ وَالِدُهَا *** أَهْلُ التَّحِلَّةِ وَالإِيفَاءِ بِالذِّمَمِ
لَمْ أَرَ شَمْسًا بِلَيْلٍ قَبْلَهَا طَلَعَتْ *** حَتَّى تَجَلَّتْ لَنَا فِي لَيْلَةِ الظُّلَمِ

ثُمَّ شَبَّبَ بِنِسَاءٍ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بْنِ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ: «مَنْ لِي مِنَ ابْنِ الأَشْرَفِ!» قَالَ: فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ: أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ قَالَ: «فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ»، فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا يَعْلَقُ بِهِ نَفْسُهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «لِمَ تَرَكْتَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ قَوْلًا لا أَدْرِي أَفِي بِهِ أَمْ لَا! قَالَ: «إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجَهْدُ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَقُولَ قَالَ: «قُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ!» قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بن مسلمه وسلكان بن سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ- وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَكَانَ أَخَا كَعْبٍ مِنَ الرضاعه- وعباد ابن بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الأَشْرَفِ قبل ان يأتوه سلكان بن سَلَامَةَ أَبَا نَائِلَةَ، فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً، وَتَنَاشَدَا شِعْرًا- وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشِّعْرَ- ثم قال: ويحك يا بن الأَشْرَفِ! إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ، قَالَ: أَفْعَلُ، قَالَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ بَلَاءً عَلَيْنَا عَادَتْنَا الْعَرَبُ ورمونا عن قوس واحده، وَقُطِعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ، وَجَهَدَتِ الأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جُهِدْنَا وَجُهِدَ عِيَالُنَا! فَقَالَ كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ الأَشْرَفِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كنت اخبرتك يا بن سَلَامَةَ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا كُنْتُ أَقُولُ، فَقَالَ سِلْكَانُ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنُكَ وَنُوَثِّقُ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ قَالَ: تَرْهَنُونَنِي أَبْنَاءَكُمْ! فَقَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا! إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ ما فيه لك وفاء- واراد سلكان الا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءُوا بِهَا- فَقَالَ: إِنَّ في الحلقه الوفاء، قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ فَيَنْطَلِقُوا فَيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
فَحَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: «انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ» ثُمَّ رَجَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَأَقْبَلُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ- وكَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِعُرْسٍ- فَوَثَبَ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَأَخَذَتِ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَتِهَا، وَقَالَتْ: إِنَّكَ امْرُؤٌ مُحَارِبٌ، وَإِنَّ صَاحِبُ الْحَرْبِ لا يَنْزِلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ قَالَ: إِنَّهُ أَبُو نَائِلَةَ، لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا لَمَا أَيْقَظَنِي، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ فِي صَوْتِهِ الشَّرَّ قَالَ: يَقُولُ لَهَا كَعْبٌ: لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ، فَنَزَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً، وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالُوا له: هل لك يا بن الأَشْرَفِ، أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثَ بِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ! قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ! فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ، فَمَشَوْا سَاعَةً ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ شم يَدَهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبَ عِطْرٍ قَطُّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا، حَتَّى اطْمَأَنَّ ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، فَعَادَ لِمِثْلِهَا، فَأَخَذَ بِفَوْدَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ، فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ، فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ:
فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي حِينَ رَأَيْتُ أَسْيَافَنَا لا تُغْنِي شَيْئًا، فَأَخَذْتُهُ، وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ، قَالَ: فَوَضَعْتُهُ فِي ثُنْدُؤَتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ، وَوَقَعَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ بِجُرْحٍ فِي رَأْسِهِ أَوْ رِجْلِهِ، أَصَابَهُ بَعْضُ أَسْيَافِنَا قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى سَلَكْنَا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، ثُمَّ عَلَى بُعَاثَ حَتَّى أَسْنَدْنَا فِي حَرَّةِ الْعَرِيضِ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ وَنَزَفَهُ الدَّمُ، فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَتَانَا يَتْبَعُ آثَارَنَا قَالَ:
فَاحْتَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفِلَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا، وَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا، فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ خَافَتْ يَهُودُ بِوَقْعَتِنَا بِعَدُوِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ»، فَوَثَبَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ- رَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ يَهُودَ كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ فَقَتَلَهُ- وَكَانَ حُوَيْصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُسْلِمْ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ مُحَيِّصَةَ- فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيْصَةُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ! قَتَلْتَهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ! قَالَ مُحَيِّصَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ مَنْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ لضربت عنقك قال: فو الله إِنْ كَانَ لأَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيْصَةَ، وَقَالَ: لَوْ أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ بِقَتْلِي لَقَتَلْتَنِي! قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ! فَأَسْلَمَ حُوَيْصَةُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني هَذَا الْحَدِيثُ مَوْلًى لِبَنِي حَارِثَةَ، عَنِ ابْنَةِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِرَأْسِ ابْنِ الأَشْرَفِ إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَمَّ كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الآخِرَةِ، وَأَنَّ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السنه غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ أَنْمَارٍ- وَيُقَالُ لَهَا: ذُو أَمَرَّ- وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ قَبْلُ.
قَالَ الواقدي: وَفِيهَا وُلِدَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ

غزوة القردة
قال الواقدي: وفي جمادى الآخرة من هذه السنة، كانت غزوة القردة وكان أميرهم- فيما ذكر- زيد بن حارثة، قال: وهي أول سرية خرج فيها زيد بن حارثة أميرا.
قال أبو جعفر: وكان من أمرها مَا حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، قَالَ: سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الَّتِي بَعَثَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فِيهَا حِينَ أَصَابَ عِيرَ قُرَيْشٍ، فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، عَلَى الْقردة، مَاءٍ مِن مِيَاهِ نَجْدٍ قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَتْ خَافَتْ طَرِيقَهَا الَّتِي كَانَتْ تَسْلُكُ إِلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ مَا كَانَ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ، فَخَرَجَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَمَعَهُ فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ عِظَمُ تِجَارَتِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُ الرِّجَالُ، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَزَعَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَانَ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: قَدْ عَوَّرَ عَلَيْنَا مُحَمَّدٌ مُتْجَرَنَا وَهُوَ عَلَى طَرِيقِنَا وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: إِنْ أَقَمْنَا بِمَكَّةَ أَكَلْنَا رُءُوسَ أَمْوَالِنَا قَالَ أَبُو زَمْعَةَ بْنُ الأَسْوَدِ:
فَأَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَسْلُكُ بِكُمُ النَّجْدِيَّةَ، لَوْ سَلَكَهَا مُغْمَضَ الْعَيْنَيْنِ لاهَتْدَى قَالَ صَفْوَانُ: مَنْ هُوَ؟ فَحَاجَتُنَا إِلَى الْمَاءِ قَلِيلٌ، إِنَّمَا نَحْنَ شَاتُونَ قَالَ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ، فَدَعَوَاهُ فَاسْتَأَجْرَاهُ، فَخَرَجَ بِهِمْ فِي الشِّتَاءِ، فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى ذَاتِ عِرْقٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمْ عَلَى غمره، وانتهى الى النبي صلى الله عليه وسلم خَبَرُ الْعِيرِ وَفِيهَا مَالٌ كَثِيرٌ، وَآنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ حَمَلَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَخَرَجَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَاعْتَرَضَهَا، فَظَفَرَ بِالْعِيرِ، وَأَفْلَتَ أَعْيَانُ الْقَوْمِ، فَكَانَ الْخُمْسُ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، وَقَسَّمَ الأَرْبَعَةَ الأَخْمَاسِ عَلَى السَّرِيَّةِ، وَأَتَى بِفُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ الْعِجْلِيِّ أَسِيرًا، فَقِيلَ: إِنْ أَسْلَمْتَ لم يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْلَمَ، فَأَرْسَلَهُ

مقتل أبي رافع اليهودي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كان مقتل أبي رافع اليهودي- فيما قيل- وكان سبب قتله، أنه كان- فيما ذكر عنه- يظاهر كعب بن الأشرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجه اليه- فيما ذكر- رسول الله صلى الله عليه وسلم في النصف من جمادى الآخرة من هذه السنه عبد الله بن عتيك، فحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ- وَكَانَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ- رِجَالًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن عتيك- وكان ابو رافع يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَبْغِي عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، قَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بن عقبة- أو عبد الله بن عَتِيكٍ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي أَنْطَلِقُ وَأَتَلَطَّفُ لِلْبَوَّابِ، لَعَلِّي أَدْخُلُ! قَالَ:
فَأَقْبَلَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الْبَابِ، تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ، كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً، وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ قَالَ: فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ تَحْتَ آرِيِّ حِمَارٍ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الأَقَالِيدَ عَلَى وَدٍّ قَالَ:
فَقُمْتُ إِلَى الأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا، فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يَسْمُرُ عِنْدَهُ فِي عَلَالِيٍّ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ، فَصَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُهُ عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ قُلْتُ: إِنَّ الْقَوْمَ نَذَرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسَطَ عِيَالِهِ، لا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ! قُلْتُ: أَبَا رَافِعٍ! قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ، فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دهش فما اغنى شَيْئًا وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ وَمَكَثْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ قَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ! إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ، قَالَ: فَاضْرِبْهُ فَأَثْخِنْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ قَالَ: ثُمَّ وَضَعْتُ ضَبِيبَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ، حَتَّى أَخْرَجْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَعَرَفْتُ أَنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحَ الأَبْوَابَ بَابًا فَبَابًا، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي، وَأَنَا أَرَى أَنِّي انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ، فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، قَالَ: فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي، ثُمَّ إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ.
وَاللَّهِ لا أَبْرَحُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ: أَقَتَلْتُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ: فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ، قَامَ النَّاعِي عَلَيْهِ عَلَى السُّورِ، فَقَالَ: أنْعى أَبَا رَافِعٍ رَبَّاحَ أَهْلِ الْحِجَازِ! قَالَ:
فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ! قَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ، فَانْتَهَيْتُ الى النبي صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: «ابْسُطْ رِجْلَكَ»، فَبَسَطْتُهَا فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّمَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ السَّرِيَةَ الَّتِي وجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي رَافِعٍ سَلَّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إِنَّمَا وَجَّهَهَا إِلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَأَنَّ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا اليه فقتلوه، كانوا أبا قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ، وَالأَسْوَدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ.
وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَصَّ مِنْ قِصَّةِ هَذِهِ السَّرِيَةِ ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: كان سلام بن أبي الحقيق- وهو أبو رافع- ممن كان حزب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريضه عليه، فاستأذنت الخزرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق، وهو بخيبر، فأذن لهم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة عن محمد بن إسحاق، عن محمد مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قال: كان مما صنع الله به لرسوله أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها قال:
وإذا فعلت الخزرج شيئا، قالت الأوس مثل ذلك فلما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الخزرج:
لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف! فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج ثم من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن الأسود، حليف لهم من أسلم، فخرجوا، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عتيك، ونهاهم أن يقتلوا وليدا أو امرأة.
فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه من خلفهم على أهله، وكان في علية له إليها عجلة رومية، فأسندوا فيها حتى قاموا على بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: نفر من العرب نلتمس الميرة، قالت:
ذاك صاحبكم فادخلوا عليه، فلما دخلنا أغلقنا عليها وعلينا وعليه باب الحجرة، وتخوفنا أن تكون دونه مجاولة تحول بيننا وبينه قال: فصاحت امرأته، ونوهت بنا، وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، والله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه، كأنه قبطية ملقاة قال: ولما صاحت بنا امرأته، جعل الرجل منا يرفع عليها السيف ثم يذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكف يده، ولولا ذاك فرغنا منها بليل، فلما ضربناه بأسيافنا، تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني! قال: ثم خرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيئ البصر، فوقع من الدرجة فوثئت رجله وثئا شديدا واحتملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم، فندخل فيه قال: وأوقدوا النيران، واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه، وهو يقضي بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أن عدو الله قد مات! فقال رجل منا: أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدته ورجال يهود عنده، وامرأته في يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم وتقول: أما والله لقد عرفت صوت ابن عتيك، ثم أكذبت، فقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد! ثم أقبلت عليه لتنظر في وجهه ثم قالت: فاظ والله يهود! قال: يقول صاحبنا، فما سمعت من كلمة كانت ألذ إلى نفسي منها، ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا، فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله، وكلنا يدعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هاتوا أسيافكم»، فجئناه بها فنظر إليها، فقال لسيف عبد الله بن أنيس: «هذا قتله، ارى فيه اثر الطعام» فقال حسان بن ثابت، وهو يذكر قتل كعب بن الأشرف وسلام ابن ابى الحقيق:

لله در عصابه لاقيتهم *** يا بن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم *** مرحا كأسد في عرين مغرف
حتى أتوكم في محل بلادكم *** فسقوكم حتفا ببيض ذفف
مستبصرين لنصر دين نبيهم *** مستضعفين لكل أمر مجحف

حَدَّثَنِي موسى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالا: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ ابْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، أَنَّهَا حَدَّثَتْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، ان الرهط الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ لِيَقْتُلُوهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ، وَحَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا خَيْبَرَ لَيْلا قَالَ: فَعَمَدْنَا إِلَى أَبْوَابِهِمْ نُغْلِقُهَا مِنْ خَارِجٍ، وَنَأْخُذُ الْمَفَاتِيحَ، حَتَّى أَغْلَقْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَهُمْ، ثُمَّ أَخَذْنَا الْمَفَاتِيحَ فَأَلْقَيْنَاهَا فِي فَقِيرٍ، ثُمَّ جِئْنَا إِلَى الْمَشْرَبَةِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ، فَظَهَرْتُ عَلَيْهَا أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ وَقَعَدَ أَصْحَابُنَا فِي الْحَائِطِ، فَاسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةُ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ: إِنَّ هَذَا لَصَوْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ ابْنُ أَبِي الْحَقِيقِ: ثَكِلَتْكِ أُمُّكِ! عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بِيَثْرِبَ، اين هو عندك هذه الساعة! افتحى لي، إِنَّ الْكَرِيمَ لا يُرَدُّ عَنْ بَابِهِ هَذِهِ السَّاعَةَ فَقَامَتْ فَفَتَحَتْ، فَدَخَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ: دُونَكَ، قَالَ: فَشَهَرْتُ عَلَيْهَا السَّيْفَ، فَأَذْهَبَ لأَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ فَأَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، فَأَكُفُّ عَنْهَا، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ عَلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ قَالَ: فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ مُظْلِمَةٍ إِلَى شِدَّةِ بَيَاضِهِ، فَلَمَّا رَآنِي وَرَأَى السَّيْفَ، أَخَذَ الْوِسَادَةَ فَاتَّقَانِي بِهَا، فَأَذْهَبُ لأَضْرِبَهُ فَلا أَسْتَطِيعُ، فَوَخَزْتُهُ بِالسَّيْفِ وَخْزًا ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ عبد الله ابن أُنَيْسٍ، فَقَالَ: أَقْتُلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ فَذَفَّفَ عَلَيْهِ قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ، فَانْطَلَقْنَا، وصاحت المرأة وا بياتاه وا بياتاه! قَالَ: فَسَقَطَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ فِي الدَّرَجَةِ، فَقَالَ: وَارِجْلاهُ وَارِجْلاهُ! فَاحْتَمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَتَّى وَضَعَهُ إِلَى الأَرْضِ.
قَالَ: قُلْتُ: انْطَلِقْ، لَيْسَ بِرِجْلِكَ بَأْسٌ قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: جِئْنَا أَصْحَابَنَا فَانْطَلَقْنَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْسِي أَنِّي تَرَكْتُهَا فِي الدَّرَجَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْسِي، فَإِذَا أَهْلُ خَيْبَرَ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، لَيْسَ لَهُمْ كَلامٌ إِلا مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ:
فَجَعَلْتُ لا أَنْظُرُ فِي وَجْهِ إِنْسَانٍ، وَلا يَنْظُرُ فِي وَجْهِي إِنْسَانٌ إِلا قُلْتُ:
مَنْ قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ؟ قَالَ: ثُمَّ صَعِدْتُ الدَّرَجَةَ، وَالنَّاسُ يَظْهَرُونَ فِيهَا، وَيَنْزِلُونَ، فَأَخَذْتُ قَوْسِي مِنْ مَكَانِهَا، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَأَدْرَكْتُ أَصْحَابِي، فَكُنَّا نَكْمُنُ النهار ونسير الليل، فإذا كمنا بالنهار أَقْعَدْنَا مِنَّا نَاطُورًا يَنْظُرُ لَنَا، فَإِنْ رَأَى شَيْئًا أَشَارَ إِلَيْنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بالبيضاء كنت- قال موسى: انا ناطرهم، وَقَالَ عَبَّاسٌ: كُنْتُ أَنَا نَاطُورُهُمْ- فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَذَهَبُوا جَمْزًا وَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى إِذَا اقْتَرَبْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ أَدْرَكْتُهُمْ، قَالُوا: مَا شَأْنُكَ؟ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: لا، إِلا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنْ قَدْ بَلَغَكُمُ الإِعْيَاءُ وَالْوَصَبُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَحْمِلَكُمُ الْفَزَعُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وفي هذه السنه تزوج النبي صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدًا، وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ- فِيمَا قِيلَ- مِنْ سَنَةِ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجَرَةِ.

غزوة أحد
قال أبو جعفر: وكان الذي هاج غزوة أحد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش وقعة بدر وقتل من قتل ببدر من أشراف قريش ورؤسائهم، فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بن عمر بن قتادة، والحصين ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلِّهِمْ فِيمَا سُقْتُ مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالُوا:
لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٍ- أَوْ مَنْ قَالَهُ مِنْهُمْ- يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقَلِيبِ، فَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا، فَفَعَلُوا، فَاجْتَمَعَتْ قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَكُلُّ أُولَئِكَ قَدِ اسْتَعْوَوْا عَلَى حَرْبِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الجمحى قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فَقِيرًا ذَا بَنَاتٍ، وَكَانَ فِي الأُسَارَى، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ قَدْ عَرَفْتَهَا، فَامْنُنْ عَلَيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ! فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال صفوان ابن أُمَيَّةَ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ، فَاخْرُجْ مَعَنَا.
فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ فَلا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَى فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ إِنْ رَجَعْتَ أَنْ أُغْنِيَكَ، وَإِنْ أَصَبْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ، وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بن جُمَحٍ، إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يُحَرِّضُهُمْ ويدعوهم الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ، كَانَ حَبَشِيًّا يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ.
فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَجَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ، وَلِئَلَّا يَفِرُّوا فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ- وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، مَعَهُ هند بنت عتبة ابن رَبِيعَةَ- وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ بِبَرْزَةَ- قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ:
وَقِيلَ بِبَرَّةَ- بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّةِ، وَهِيَ أم عبد الله ابن صَفْوَانَ- وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَرَجَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بِسُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ- وَهِيَ أُمُّ بَنِي طَلْحَةَ مُسَافِعٍ والْجلاسِ وَكِلابٍ، قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ وَأَبُوهُمْ- وَخَرَجَتْ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بن المضرب احدى نساء بنى مالك ابن حِسْلٍ، مَعَ ابْنِهَا أَبِي عُزَيْزِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهِيَ أُمُّ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وخرجت عمره بنت علقمه احدى نساء بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَكَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِوَحْشِيٍّ أَوْ مَرَّ بِهَا قَالَتْ:
إِيهِ أَبَا دُسْمَةَ! اشْفِ وَاشْتَفِ- وَكَانَ وَحْشِيٌّ يُكَنَّى أَبَا دُسْمَةَ.
فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ، مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مِمَّا يَلِي الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ نَزَلُوا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِلْمُسْلِمِينَ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي ادخلت يدي في درع حصنيه فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا» وَنَزَلَتْ قُرَيْشٌ مَنْزِلَهَا مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فَأَقَامُوا بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الجمعه وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى الْجُمُعَةَ، فَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ فَالْتَقَوْا يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ، وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ مع راى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى راى رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ: أَلَّا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ وَحُضُورُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا، لا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا، فَقَالَ عَبْدُ الله بن ابى بن سَلُولٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ وَلا تخرج اليهم، فو الله مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ لَنَا قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَجْلِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ من فوقهم، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاءُوا فَلَمْ يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا السُّدِّيُّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ مَا حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَمِعَ بِنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهَا أُحُدًا، قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ مَا أَصْنَعُ!» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الأَكْلُبِ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا غَلَبَنَا عَدُوٌّ لَنَا قَطُّ أَتَانَا فِي دِيَارِنَا، فَكَيْفَ وَأَنْتَ فِينَا! فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ- وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا- فَاسْتَشَارَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الاكلب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَيُقَاتِلُوا فِي الأَزِقَّةِ، فَأَتَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يا رسول الله لا تحرمني الجنه، فو الذى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ: «بِمَ؟» قَالَ: بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنِّي لا أَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ قَالَ: «صَدَقْتَ»، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دَعَا بِدِرْعِهِ فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاحَ نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا! نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ! فَقَامُوا فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعَهَا حتى يقاتل» فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ عَبْدُ الله بن ابى بن سلول في ثلاثمائه، فَتَبِعَهُمْ أُبو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا نَعْلَمُ قِتَالا، وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} [آل عمران: 122] فَهُمْ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، هَمُّوا بِالرُّجُوعِ حِينَ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَعَصَمَهُمُ الله عز وجل، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق: قال: قالوا: لما خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَكْرَهْنَاكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَنَا، فَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ صَلَّى اللَّهُ عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يضعها حتى يقاتل،» فخرج رسول الله فِي أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالشَّوْطِ بَيْنَ أُحُدٍ وَالْمَدِينَةِ انْخَزَلَ عَنْهُ عبد الله بن ابى بن سَلُولٍ بِثُلُثِ النَّاسِ، فَقَالَ: أَطَاعَهُمْ فَخَرَجَ وَعَصَانِي، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أَيُّهَا النَّاسُ! فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: يَا قَوْمِ أُذَكِّرُكُمُ الله ان تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ! قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ مَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ، فَلَمَّا اسَتَعْصَوْا عَلَيْهِ، وَأَبَوْا إِلا الانْصِرَافَ عَنْهُ، قَالَ: أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ! فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بن ابى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين بثلاثمائة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ ثَلَاثةَ آلافٍ، وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ، وَالظُّعُنُ خَمْسَ عَشْرَةَ امْرَأَةً.
قَالَ: وكان في المشركين سبعمائة دارع، كان فِي الْمُسْلِمِينَ مِائَةُ دَارِعٍ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنَ الْخَيْلِ إِلَّا فَرَسَانِ: فَرَسٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَفَرَسٌ لأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ الْحَارِثِيِّ فَأَدْلَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الشَّيْخَيْنِ حِينَ طَلَعَتِ الْحَمْرَاءُ- وَهُمَا أُطُمَانِ، كَانَ يَهُودِيٌّ وَيَهُودِيَّةٌ أَعْمَيَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمَا، فَيَتَحَدَّثَانِ فَلَذِلَكِ، سُمِّيَا الشَّيْخَيْنِ، وَهُو فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ- قال: وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الْمُقَاتَلَةَ بِالشَّيْخَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَأَجَازَ مَنْ أَجَازَ، وَرَدَّ مَنْ رَدَّ، قَالَ: وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ، وَأُسَيْدُ بْنُ ظُهَيْرٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعُرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الشَّمَّاخُ:

رَأَيْتُ عُرَابَةَ الأَوْسِيَّ يَنْمِي *** إِلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ *** تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ

قَالَ: وَرَدَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، وَأَجَازَ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَكَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَدِ اسْتَصْغَرَ رَافِعًا، فَقَامَ عَلَى خُفَّيْنِ لَهُ فِيهِمَا رِقَاعٌ، وَتَطَاوَلَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، فَلَمَّا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أَجَازَهُ.
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ تَحْتَ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَمِّ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فكان ربيبه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ، وَعَرَضَ أَصْحَابَهُ، فَرَدَّ مَنِ اسْتَصْغَرَ رَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ، وَأَجَازَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ لِرَبِيبِهِ مُرِّيِّ بْنِ سِنَانٍ: يَا أَبَتِ، اجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَرَدَّنِي وَأَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، فَقَالَ: مُرِّيُّ بْنُ سِنَانٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَدَدْتَ ابْنِي، وَأَجَزْتَ رَافِعَ بْنَ خديج وابنى يصرعه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لِرَافِعٍ وَسَمُرَةَ: «تَصَارَعَا»، فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشَهِدَهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَكَانَ دَلِيلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبُو حَثْمَةَ الْحَارِثِيُّ.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابن إسحاق: قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ، فَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كِلَابَ سَيْفٍ، فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم- وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَلَا يَعْتَافَ- لِصَاحِبِ السَّيْفِ: «شِمْ سَيْفَكَ، فَإِنِّي أَرَى السُّيُوفَ سَتُسَلُّ الْيَوْمَ» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ: «مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كُثُبٍ، مِنْ طَرِيقٍ لا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ؟»
فَقَالَ أَبُو حَثْمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَدَّمَهُ فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ حَتَّى سَلَكَ بِهِ فِي مَالِ الْمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ- وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ- فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ، وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ حَائِطِي، قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَفْعَلُوا، فَهَذَا الأَعْمَى الْبَصَرِ، الأَعْمَى الْقَلْبِ» وَقَدْ بَدَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنه، فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ، وَقَدْ سَرَحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ مِنْ قَنَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْقِتَالِ: أَتَرْعَى زُرُوع بَنِي قَيْلَةَ وَلما نضارب! وتعبا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة رَجُلٍ، وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلافِ رَجُلٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَأَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُعَلَّمٌ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا، وَقَالَ: «انْضَحْ عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا، فَاثْبُتْ مَكَانَكَ لا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ»، وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ دِرْعَيْنِ.
فَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ المقدام، قال:
حدثنا إسرائيل وَحَدَّثَنا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَلَقِيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المشركين اجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجَالا بِإِزَاءِ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا».
فَلَمَّا لَقِيَ الْقَوْمَ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ قَدْ رَفَعْنَ عَنْ سوقهن، وبدت خلا خيلهن، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ! فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَهْلا، أَمَا عَلِمْتُمْ مَا عَهِدَ إِلَيْكُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم! فَأَبَوْا، فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صَرَفَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، فَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، حَتَّى نَزَلَ أُحُدًا، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، وَأَمَّرَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْخَيْلِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ، واعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللِّوَاءَ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْحَسْرِ، وَبَعَثَ حَمْزَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَعَهُ عِكْرِمَةُ بن ابى جهل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ، وَقَالَ: «اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَكُنْ بِإِزَائِهِ حَتَّى أُوذِنَكَ»، وَأَمَرَ بِخَيْلٍ أُخْرَى، فَكَانُوا مِنْ جَانِبٍ آخَرَ، فَقَالَ: «لا تَبْرَحُنَّ حَتَّى أُوذِنَكُمْ» وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَحْمِلُ اللاتَ وَالْعُزَّى، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الزُّبَيْرِ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَهَزَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] – إِلَى قَوْلِهِ- {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ ينصرهم، وانه معهم وان رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ نَاسًا مِنَ النَّاسِ، فَكَانُوا مِنْ وَرَائِهِمْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كونوا هاهنا، فَرُدُّوا وَجْهَ مَنْ فَرَّ مِنَّا، وَكُونُوا حُرَّاسًا لَنَا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنَا» وَأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا هَزَمَ الْقَوْمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَالَ الَّذِينَ كَانُوا جُعِلُوا مِنْ وَرَائِهِمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَأَوُا النِّسَاءَ مُصْعِدَاتٍ فِي الْجَبَلِ، وَرَأَوُا الْغَنَائِمَ: انْطَلِقُوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَدْرِكُوا الْغَنِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقُونَا إِلَيْهَا، وَقَالَتْ طائفه اخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فَنَثْبُتْ مَكَانَنَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ لَهُمْ: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] الَّذِينَ أَرَادُوا الْغَنِيمَةَ، {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ} [آل عمران: 152] الَّذِينَ قَالُوا: نُطِيعُ رَسُولَ اللَّهِ وَنَثْبُتُ مَكَانَنَا، فَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا شَعُرْتُ أَنَّ أحدا من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَعَرَضَهَا، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ أَمَرَ الرُّمَاةَ، فَقَامُوا بِأَصْلِ الْجَبَلِ فِي وُجُوهِ خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: «لا تَبْرَحُوا مَكَانَكُمْ إِنْ رَأَيْتُمْ أَنَّنَا قَدْ هَزَمْنَاهُمْ، فَإِنَّا لا نَزَالُ غَالِبِينَ مَا ثَبَتُّمْ مَكَانَكُمْ» وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ.
ثُمَّ إِنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُثْمَانَ صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ قَامَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْجَلُنَا بِسِيُوفِكُمْ إِلَى النَّارِ، وَيَعْجَلُكُمْ بِسُيُوفِنَا إِلَى الْجَنَّةِ، فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْجَلُهُ اللَّهُ بِسَيْفِي إِلَى الْجَنَّةِ، أَوْ يَعْجَلُنِي بِسَيْفِهِ إِلَى النَّارِ! فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا أُفَارِقُكَ حَتَّى أَعْجَلَكَ بِسَيْفِي إِلَى النَّارِ، أَوْ تَعْجَلَنِي بِسَيْفِكَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَطَعَ رِجْلَهُ فَسَقَطَ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ الله والرحم يا بن عم! فتركه، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعلى: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُجْهِزَ عَلَيْهِ؟» قَالَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّي نَاشَدَنِي حِينَ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ثُمَّ شَدَّ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَهَزَمَاهُمْ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ فَهَزَمُوا أَبَا سُفْيَانَ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ- وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ- حَمَلَ فَرَمَتْهُ الرُّمَاةُ فَانْقَمَعَ فَلَمَّا نَظَرَ الرُّمَاةُ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ فِي جَوْفِ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَهِبُونَهُ، بَادَرُوا الْغَنِيمَةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَتْرُكُ أَمْرَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَانْطَلَقَ عَامَّتُهُمْ فَلَحِقُوا بِالْعَسْكَرِ، فَلَّما رَأَى خَالِدٌ قِلَّةَ الرُّمَاةِ صَاحَ فِي خَيْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ فقتل الرماه، وحمل على اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ أَنَّ خَيْلَهُمْ تُقَاتِلُ، تَنَادَوْا فشدوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ.
فَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلابِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَازِعِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ الزبير: عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سَيْفًا فِي يَدِهِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ:
«مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟» قَالَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟» فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟» قَالَ: فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ، وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: «حَقُّهُ أَلا تَقْتُلَ بِهِ مُسْلِمًا، وَأَلا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ،» قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ قَالَ: وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْقِتَالَ أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ، قَالَ: فَقُلْتُ: لأَنْظُرَنَّ الْيَوْمَ مَا يَصْنَعُ، قَالَ: فَجَعَلَ لا يَرْتَفِعُ لَهُ شَيْءٌ إِلا هَتَكَهُ وَأَفْرَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ، مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ، فِيهِنَّ امْرَأَةٌ تَقُولُ:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَبْسُطُ النَّمَارِقْ أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ قَالَ: فَرَفَعَ السَّيْفَ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا قَالَ: قُلْتُ: كُلَّ عَمَلِكَ قَدْ رَأَيْتُ، أَرَأَيْتَ رَفْعَكَ لِلسَّيْفِ عَنِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَا أَهْوَيْتَ بِه إِلَيْهَا! قَالَ:
فَقَالَ: أَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً.
رَجَعَ الْحَدِيثُ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟» فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ،» فَقَالَ: أَنَا آخِذُهُ بِحَقِّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ- وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ إِذَا كَانَتْ، وَكَانَ إِذَا أَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ يَعْصِبُهَا عَلَى رَأْسِهِ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ- فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: «إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ» وَقَدْ أَرْسَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَسُولا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمِّنَا نَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ لَنَا بِقِتَالِكُمْ فَرَدُّوهُ بِمَا يَكْرَهُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمَرَ بن قَتَادَة، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ عَبْدَ عَمْرِو بْنَ صَيْفِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَمَةَ، أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَقَدْ كَانَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الأَوْسِ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ ابن حَنِيفٍ- وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ- فَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ مُحَمَّدًا لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامِرٍ فِي الأَحَابِيشِ وَعُبْدَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَنَادَى:
يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالُوا: فَلا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ- وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبَ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الْفَاسِقَ- فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شديدا، ثم ارضخهم بِالْحِجَارَةِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لأَصْحَابِ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، إِنَّكُمْ وُلِّيتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَسَنَكْفِيكُمُوهُ فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَاعَدُوهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إِلَيْكَ لِوَاءَنَا، سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ! وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّوَاتِي مَعَها.
وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ وَيُحَرِّضْنَهُمْ، فَقَالَتْ هِنْدٌ فِيمَا تَقُولُ:

إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ *** وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ *** فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

وَتَقُولُ:

وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ! *** وَيْهَا حُمَاةَ الأَدْبَارِ!
ضَرْبًا بِكُلِّ بتار

وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَصْرَهُ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ، فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لا شَكَّ فِيهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمِّرَاتٍ هوارب، ما دون اخذهن قليل كَثِيرٌ، إِذ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ أَدْبَارِنَا وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ! فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ، بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ حَدَّثَنَا ابن حميد قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته سمره بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش، فلاثوا به، وكان اللواء مع صواب، غلام لبني أبي طلحة، حبشي، وكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، ثم برك عليه، فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه، وهو يقول: اللهم هل أعذرت! فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:

فخرتم باللواء وشر فخر *** لواء حين رد إلى صواب
جعلتم فخركم فيها لعبد *** من الأم من وطي عفر التراب
ظننتم والسفيه له ظنون *** وما إن ذاك من أمر الصواب
بأن جلادنا يوم التقينا *** بمكة بيعكم حمر العياب
أقر العين أن عصبت يداه *** وما إن تعصبان على خضاب

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سعيد، قال: حدثنا حبان ابن عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:
لَمَّا قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْحَابَ الالويه، ابصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: «احْمِلْ عَلَيْهِمْ»، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَرَّقَ جَمْعَهُمْ، وَقَتَلَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيَّ قَالَ: ثُمَّ أَبْصَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةً مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ:
«احْمِلْ عَلَيْهِمْ»، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَفَرَّقَ جَمَاعَتَهُمْ، وَقَتَلَ شَيْبَةَ بن مالك احد بنى عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَلْمُوَاسَاةُ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ»، فَقَالَ جِبْرِيلُ:
وَأَنَا مِنْكُمَا، قَالَ: فَسَمِعُوا صَوْتًا:

لا سَيْفَ إِلا ذُو الْفَقَارِ *** وَلا فَتًى إِلا عَلِيٌّ

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا أُتِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ خَلْفِهِمُ انْكَشَفُوا وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْبَلاءِ أَثْلاثًا: ثُلُثٌ قَتِيلٌ، وَثُلُثٌ جَرِيحٌ، وَثُلُثٌ مُنْهَزِمٌ، وَقَدْ جَهَدَتْهُ الْحَرْبُ حَتَّى مَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ، وَأُصِيبَتْ رباعيه رسول الله صلى الله عليه وسلم السُّفْلَى، وَشُقَّتْ شَفَتُهُ، وَكُلِمَ فِي وَجْنَتَيْهِ وَجَبْهَتِهِ فِي أُصُولِ شَعْرِهِ، وَعَلاهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ بِالسَّيْفِ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَشُجَّ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ!» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآيَةَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ غَشِيَهُ الْقَوْمُ:
«مَنْ رَجُلٌ يَشْرِي لَنَا نَفْسَهُ!» فَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قال: حدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، قَالَ: فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السَّكَنِ فِي نَفَرٍ خَمْسَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ عُمَارَةُ بْنُ زياد ابن السكن، فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا، ثُمَّ رَجُلا، يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ زِيَادٌ- أَوْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ- فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، ثُمَّ فَاءَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادنوه منى»، فادنوه منه، فوسده قَدَمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِ النَّبْلُ، وَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُنَاوِلُنِي وَيَقُولُ:
ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا فِيهِ نَصْلٌ، فَيَقُولُ:
ارْمِ بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عن محمد بن إسحاق، قال:
حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ، وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّهَا بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ لِوَاؤُهُ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ ابْنُ قُمَيْئَةَ اللَّيْثِيُّ.
وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ:
قَتَلْتُ مُحَمَّدًا فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَأَةَ بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ- وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ- فَقَالَ لَهُ حمزه بن عبد المطلب: هلم الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ- وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارٍ مَوْلاةَ شُرَيْقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ- فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فقال وَحْشِيٌّ غُلامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لانظر الى حمزه يهذ النَّاسَ بِسَيْفِهِ، مَا يَلِيقُ شَيْئًا يَمُرُّ بِهِ، مِثْلَ الْجَمَلِ الأَوْرَقِ، إِذْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ الى يا بن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ! فَضَرَبَهُ، فَكَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، وَهَزَزْتُ حربتي حتى إذ رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي لُبَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَأَقْبَلَ نَحْوِي، فَغَلَبَ فَوَقَعَ، فَأَمْهَلْتُهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ جِئْتُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَ تَنَحَّيْتُ إِلَى الْعَسْكِر، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِشَيْءٍ حَاجَةٌ غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مُسَافِعِ بْنِ طَلْحَةَ وَأَخَاهُ كِلابَ بْنَ طَلْحَةَ، كِلاهُمَا يُشْعِرُهُ سَهْمًا، فَيَأْتِي أُمَّهُ سِلافَةَ فَيَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ أَصَابَكَ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلا حِينَ رَمَانِي يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَقْلَحِ! فَتَقُولُ: أَقْلَحِيٌّ! فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنِ اللَّهُ أَمْكَنَهَا مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الخمر وكان عاصم قد عاهد الله الا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا وَلا يَمَسَّهُ.
فَحَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَطَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ قَالُوا: قُتِلَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: فما تصنعون بالحياه بعده؟ قوموا فموتوا كراما على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قَالَ:
حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً وَطَعْنَةً فَمَا عَرَفَهُ إِلا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِحُسْنِ بَنَانِهِ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال:
كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما حدثني ابن شهاب الزهري- كعب بن مالك، أخو بني سلمة، قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت: بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! فاشار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أنصت فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب، معه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد! لا نجوت إن نجوت! فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ قال: «دعوه»، فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة- قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي:
فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مرارا.
وكان أبي بن خلف- كما حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ- يَلْقَى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عِنْدِي الْعُودَ، أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُكَ عليه! فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، قَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدُ قَالُوا: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنْ بِكَ بَأْسٌ قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ بمكة قال لي: انا اقتلك، فو الله لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرَفٍ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ: فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى مَلأَ دِرْقَتَهُ مِنَ الْمِهْرَاسِ ثُمَّ جاء به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ، وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ نَبِيِّهِ».
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لَسَيِّئَ الْخُلُقِ، مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَتَى ابْنُ قُمَيْئَةَ الْحَارِثِيُّ احد بنى الحارث ابن عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجَرٍ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ، وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ، فَأَثْقَلَهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ، وَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَقَامُوا عليها، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْعُو النَّاسَ: «إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ!
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ!» فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلاثُونَ رَجُلا، فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ إِلا طَلْحَةَ وَسَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ، فَحَمَاهُ طَلْحَةُ، فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فِي يَدِهِ فَيَبِسَتْ يَدُهُ، وَأَقْبَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَقَدْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ»، فَقَالَ: يَا كَذَّابُ، اين تفر! فحمل عليه فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم فِي جَيْبِ الدِّرْعِ، فَجُرِحَ جُرْحًا خَفِيفًا، فَوَقَعَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَاحْتَمَلُوهُ، وَقَالُوا:
لَيْسَ بِكَ جِرَاحَةٌ، فَمَا يُجْزِعُكَ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: لأَقْتُلَنَّكَ! لَوْ كَانَتْ بِجَمِيعِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ لَقَتَلَتْهُمْ! فَلَمْ يَلْبَثْ إِلا يَوْمًا أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ.
وَفَشَا فِي النَّاسِ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ: لَيْتَ لَنَا رَسُولا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ! يَا قَوْمُ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا قَوْمُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ! ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو النَّاسَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَهُ فَقَالَ: «أَنَا رَسُولُ اللَّهِ»، ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ به، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحَزَنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ، وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] .
فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسَوْا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وأهمهم ابو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تُقْتَلْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لا تُعْبَدُ!» ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ، فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: اعْلُ هُبَلُ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ، وَيَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ، وَكَانَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلائِكَةُ، وَكَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «قُلِ: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ» فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ! أَمَا إِنَّهَا قَدْ كَانَتْ فِيكُمْ مُثْلَةٌ، مَا أَمَرْتُ بِهَا وَلا نَهَيْتُ عَنْهَا، وَلا سَرَّتْنِي وَلا سَاءَتْنِي، فَذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِشْرَافَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ} [آل عمران: 153] ، وَالْغَمُّ الأَوَّلُ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَتْحِ، وَالْغَمُّ الثَّانِي إِشْرَافُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153] من الغنيمه {وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ} [آل عمران: 153] من القتل حين تَذْكُرُونَ فَشَغَلَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنْهُ- بَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الشِّعْبِ، وَمَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا»، فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ عَنِ الْجَبَلِ، وَنَهَضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا وَقَدْ كَانَ بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهر بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَنَهَضَ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كَمَا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: «أَوْجَبَ طَلْحَةُ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ مَا صَنَعَ» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إِلَى الْمنقَّى دُونَ الأَعْوَصِ، وَفَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ، حَتَّى بَلَغُوا الْجَلْعَبِ جَبَلًا بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الأَعْوَصَ، فَأَقَامُوا بِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عريضَةً».
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْغَسِيلُ، الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الأَسْوَدِ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ شَعُوبٍ- قَدْ عَلا أَبَا سُفْيَانَ، فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ صَاحِبَكُمْ»- يَعْنِي حَنْظَلَةَ- «لَتُغَسِّلُهُ الْمَلائِكَةُ فَسَلُوا أَهْلَهُ: مَا شَأْنُهُ»؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لذلك غسلته الملائكة،» فقال شداد ابن الأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِ حَنْظَلَةَ:

لأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي *** بِطَعْنَةٍ مِثْلَ شُعَاعِ الشَّمْسِ

وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَبْرَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَمُعَاوَنَةَ ابْنِ شعُوبٍ شَدَّادِ بْنِ الأَسْوَدِ إِيَّاهُ عَلَى حَنْظَلَةَ:

وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُميتٌ طِمِرَّة *** وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لابْنِ شَعُوبٍ
فَمَا زَالَ مُهْرِي مُزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمْ *** لَدَى غَدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبٍ
أُقَاتِلُهُمْ وَأَدْعِي يال غَالِبٍ *** وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنِ صَلِيبٍ
فبكي ولا ترعي مقالة عاذل *** ولا تسأمي من عبرة ونحيب
أباك وإخوانا له قد تتابعوا *** وحق لهم من عبرة بنصيب
وسلى الذي قد كان في النفس أنني *** قتلت من النجار كل نجيب
ومن هاشم قرما نجيبا ومصعبا *** وكان لدى الهيجاء غير هيوب
ولو أنني لم أشف منهم قرونتي *** لكانت شجى في القلب ذات ندوب
فآبوا وقد أودى الحلائب منهم *** لهم خدب من مغبط وكئيب
أصابهم من لم يكن لدمائهم *** كفيا ولا في خطة بضريب

فأجابه حسان بن ثابت فقال:

ذكرت القروم الصيد من آل هاشم *** ولست لزور قلته بمصيب
أتعجب أن أقصدت حمزة منهم *** نجيبا وقد سميته بنجيب
ألم يقتلوا عمرا وعتبة وابنه *** وشيبة والحجاج وابن حبيب!
غداة دعا العاصي عليا فراعه *** بضربة عضب بله بخضيب

وقال شداد بن الأسود، يذكر يده عند أبي سفيان بن حرب فيما دفع عنه:

ولولا دفاعى يا بن حرب ومشهدي *** لألفيت يوم النعف غير مجيب
ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت *** ضباع عليه او ضراء كليب

وقال الحارث بن هشام يجيب أبا سفيان في قوله:
وما زال مهري مزجر الكلب منهم.
وظن أنه يعرض به إذ فر يوم بدر:

وإنك لو عاينت ما كان منهم *** لأبت بقلب ما بقيت نخيب
لدى صحن بدر أو لقامت نوائح  *** عليك، ولم تحفل مصاب حبيب
جزيتهم يوما ببدر كمثله *** على سابح ذي ميعة وشبيب

قال أبو جعفر: وقد وقفت هند بنت عتبة- فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بن كيسان- والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيا، غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة، فصرخت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني صالح بْنُ كَيْسَانَ، أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال لحسان: يا بن الْفُرَيْعَةِ لَوْ سَمِعْتَ مَا تَقُولُ هِنْدٌ وَرَأَيْتَ أَشَرَهَا، قَائِمَةً عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةَ! فَقَالَ لَهُ حَسَّانُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي وَأَنَا عَلَى رَأْسٍ فَارِعٍ- يَعْنِي أُطُمَةً- فَقُلْتُ:
وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَسِلاحٌ مَا هِيَ بِسِلاحِ الْعَرَبِ، وَكَأَنَّهَا إِنَّمَا تَهْوِي إِلَى حَمْزَةَ، وَلا أَدْرِي أَسْمِعْنِي بَعْضَ قَوْلِهَا أكفيكُمُوهَا، قَالَ: فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بَعْضُ مَا قَالَتْ، فَقَالَ حَسَّانُ يَهْجُو هِنْدًا:

أَشِرَتْ لِكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا *** لُؤْمًا إِذَا أَشِرَتْ مَعَ الْكُفْرِ
لَعَنَ الإِلَهُ وَزَوْجَهَا مَعَهَا *** هِنْدَ الْهُنُودِ عَظِيمَةَ الْبَظْرِ
أَخَرَجْتِ مرقصة إلى أحد *** في القوم مقتبة على بكر
بكر ثفال لا حراك به *** لا عن معاتبة ولا زجر
وعصاك إستك تتقين بها *** دقي العجاية هند بالفهر
قرحت عجيزتها ومشرجها *** من دأبها نصا على القتر
ظلت تداويها زميلتها *** بالماء تنضحه وبالسدر
أخرجت ثائرة مبادرة *** بأبيك وابنك يوم ذي بدر
وبعمك المستوه في ردع *** وأخيك منعفرين في الجفر
ونسيت فاحشة أتيت بها *** يا هند، ويحك سبة الدهر!
فرجعت صاغرة بلا ترة *** منا ظفرت بها ولا نصر
زعم الولائد أنها ولدت *** ولدا صغيرا كان من عهر

قال أبو جعفر: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم- فِيمَا حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل.
وحدثنا ابن وكيع، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ أَشْرَفَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:
أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُجِيبُوهُ»، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تُجِيبُوهُ»، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الخطاب؟ ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُجِيبُوهُ»، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، لَوْ كَانُوا فِي الأَحْيَاءِ لأَجَابُوا، فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ أَبْقَى اللَّهُ لَكَ مَا يُخْزِيكَ! فَقَالَ: اعْلُ هُبَلُ! اعْلُ هُبَلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَجِيبُوهُ»، قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ»! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَلا لَنَا الْعُزَّى وَلا عُزَّى لَكُمْ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ»! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، أَمَا إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلا لَمْ آمُرُ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: لَمَّا أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمَّ يَا عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِيتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ؟» فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ:
أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ لا، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ كَلامَكَ الآنَ، فَقَالَ: أَنْتَ أَصْدَقُ عِنْدِي مِنَ ابْنِ قَمِيئَةَ وَأَبَرُّ، لِقَوْلِ ابْنِ قَمِيئَةَ لَهُمْ: إِنِّي قَتَلْتُ مُحَمَّدًا ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلاكُمْ مُثُلٌ وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَلا سَخَطْتُ، وَلا نَهَيْتُ وَلا أَمَرْتُ.
وَقَدْ كَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانَ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، قَدْ مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بِزُجِّ الرُّمْحِ، وَهُوَ يَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ! فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يصنع بابن عمه كما تَرَوْنَ لَحْمًا! فَقَالَ: اكْتُمْهَا، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى: إِنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «قُلْ نَعَمْ هِيَ بَيْنَنَا وبينك موعد».
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن ابى طالب ع، فَقَالَ: «اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يُرِيدُونَ! فَإِنْ كَانُوا قَدِ اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ، وَامَتَطَوُا الإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ، وَسَاقُوا الإِبِلَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فو الذى نفسي بيده، لئن أرادوها لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فِيهَا ثُمَّ لأُنَاجِزَنَّهُمْ» قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا اجْتَنَبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوُا الإِبِلَ تَوَجَّهُوا الى مكة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَأَخْفِهِ حَتَّى تَأْتِيَنِي» قال على ع: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ قَدْ تَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ أَقْبَلْتُ أَصِيحُ، مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَكْتُمَ الَّذِي أَمَرَنِي به رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا بِي مِنَ الْفَرَحِ، إِذْ رَأَيْتُهُمْ انْصَرَفُوا إِلَى مَكَّةَ عَنِ الْمَدِينَةِ.
وَفَرَغَ النَّاسُ لِقَتْلاهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- كما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيِّ أَخِي بَنِي النَّجَّارِ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ؟» – وَسَعْدٌ أَخُو بَنِي الْحَارِثَ بْنِ الْخَزْرَجِ- أَفِي الأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا أَنْظُرُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَعَلَ، فَنَظَرَ فوجده جريحا في القتلى به رمق، قال: فقلت له: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ لَهُ: أَفِي الأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الأَمْوَاتِ؟
قَالَ: فَأَنَا فِي الأَمْوَاتِ، أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: ان سعد ابن الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرَ مَا جُزِيَ نَبِيٌّ عَنْ أُمَّتِهِ، وَأَبْلِغْ عَنِّي قَوْمَكَ السَّلامُ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ الله ان خلص الى نبيكم صلى الله عليه وسلم وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُفُ ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مات، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرته خبره وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي- يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إِسْحَاقَ، قَالَ:
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزبير، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَى بِحَمْزَةَ مَا رَأَى، قَالَ: «لَوْلا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ أَوْ تَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي أَجْوَافِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَنَا أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ،» فَلَمَّا رَأَى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَغَيْظَهُ عَلَى مَا فُعِلَ بِعَمِّهِ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ!.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: أَخْبَرَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ سَلَمَةُ: وحدثني مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وحدثني الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126] ، الى آخر السورة، فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَبَرَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقْبَلَتْ- فِيمَا بَلَغَنِي- صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِتَنْظُرَ إِلَى حَمْزَةَ- وَكَانَ أَخَاهَا لأَبِيهَا وَأُمِّهَا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابْنِهَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: «الْقَهَا فَارْجِعْهَا، لا تَرَى مَا بِأَخِيهَا» فَلَقِيَهَا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهَا: يا أمه، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ قَلِيلٌ! فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لأَحْتَسِبَنَّ وَلأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا جَاءَ الزُّبَيْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: «خَلِّ سَبِيلَهَا»، فَأَتَتْهُ فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِهِ فَدُفِنَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ- وَكَانَ لأُمَيْمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَالُهُ حَمْزَةَ، وَكَانَ قَدْ مُثِّلَ بِهِ كَمَا مُثِّلَ بِحَمْزَةَ، الا ان لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَنَهُ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ إِلا عَنْ أَهْلِهِ.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى أُحُدٍ وَقَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ- وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ- وَثَابِتُ بْنُ وَقْشِ بْنِ زَعُورَاءَ فِي الآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ: لا ابالك! ما تنتظر؟
فو الله إِنْ بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلا ظِمْءُ حِمَارٍ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةٌ الْيَوْمَ أَوْ غَدٍ، أَفَلا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا، ثُمَّ نَلْحَقَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم! فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا، ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى دَخَلا فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمَّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ، الْيَمَانُ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوهُ، وَلا يَعْرِفُونَهُ فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَبِي! قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ عَرَفْنَاهُ.
وَصَدَقُوا، قَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وهو ارحم الراحمين! فاراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدِيَهُ فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قَالَ: قَالَ محمد بْن إِسْحَاقَ:
حدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة، أن رجلا منهم كان يدعى حاطب بْن أمية بْن رافع، وكان له ابن يقال له يزيد بْن حاطب، أصابته جراحة يوم أحد: فأتي به إلى دار قومه وهو يموت، فاجتمع إليه أهل الدار، فجعل المسلمون يقولون من الرجال والنساء: ابشر يا بن حاطب بالجنة، قَالَ: وكان حاطب شيخا قد عسا فِي الجاهلية، فنجم يومئذ نفاقه، فَقَالَ: بأي شيء تبشرونه، أبجنة من حرمل! غررتم والله هذا الغلام من نفسه، وفجعتموني بِهِ! حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بن عمر بن قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أُتِيَ لا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ: «إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ»، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، قَاتَلَ قِتَالا شَدِيدًا، فَقَتَلَ هُوَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَوْ تِسْعَةً، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةَ، فَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظُفَرَ قَالَ:
فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ! قَالَ: بم ابشر! فو الله إِنْ قَاتَلْتُ إِلا عَلَى أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ، فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ، أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ رَوَاهِشَهُ فَنَزَفَهُ الدم فمات، فاخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا!» وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقٌ الْيَهُودِيُّ، وَكَانَ احد بنى ثعلبه ابن الْفِطْيَونِ، لَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَقَالَ: لا سَبْتَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ، وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- فِيمَا بَلَغَنِي: «مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ» .
حَدَّثَنَا ابْنُ حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إِسْحَاقَ، قَالَ: وَقَدِ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلاهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا» .
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن محمد بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَئِذٍ حِينَ أَمَرَ بِدَفْنِ الْقَتْلَى: «انْظُرُوا عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا، فَاجْعَلُوهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» قَالَ: فَلَمَّا احْتَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْقَنَاةَ أُخْرِجَا وَهُمَا يَنْثَنِيَانِ كَأَنَّمَا دُفِنَا بالأمس.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهُ حِمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ- كَمَا ذُكِرَ لِي- فَنُعِيَ لَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ، لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبُّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زوجها» .
قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِدَارٍ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الاشهل وظفر، فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: «لَكِنَّ حَمْزَةَ لا بَوَاكِيَ لَهُ!» فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ امر نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزَّمْنَ ثُمَّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حَدَّثَنَا ابن حميد، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بِأُحُدٍ، فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمَّ فُلانٍ، هُوَ بِحَمْدِ الله كما تحبين، قالت: أرنيه حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأُشِيرَ لَهَا إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: اغسلي عن هذا دمه يا بنيه، وناولها على ع سيفه، وقال: وهذا فاغسلي عنه، فو الله لقد صدقنى اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ الْقِتَالَ لَقَدْ صَدَقَ مَعَكَ سَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ» وَزَعَمُوا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حين اعطى فاطمه ع سَيْفَهُ قَالَ:

أَفَاطِمُ هَاكَ السَّيْفُ غَيْرُ ذَمِيمِ *** فَلَسْتُ بِرِعْدِيدٍ وَلا بِمُلِيمِ
لَعَمْرِي لَقَدْ قَاتَلْتُ فِي حُبِّ أَحْمَدَ *** وَطَاعَةِ رَبٍّ بِالْعِبَادِ رَحِيمِ
وسيفي بكفى كالشهاب اهزه *** اجذبه مِنْ عَاتِقٍ وَصَمِيمِ
فَمَا زِلْتُ حَتَّى فَضَّ رَبِّي جُمُوعَهُمْ *** وَحَتَّى شَفَيْنَا نَفْسَ كُلِّ حَلِيمِ

وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ حِينَ أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَاتَلَ بِهِ قِتَالا شَدِيدًا- وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَخْمِشُ النَّاسَ خَمْشًا شَدِيدًا فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَمَّا حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَلْوَلَتْ، فَإِذَا امْرَأَةٌ، فاكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً- وَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ:

أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي *** وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَلا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكُيُولِ *** اضْرِبْ بسيف الله والرسول

غزوه حمراء الأسد
وكان رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ السَّبْتِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ بِأُحُدٍ، فحدثنا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عبد الله، عن عكرمة، قَالَ: كان يوم أحد يوم السبت، للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد- وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال- اذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بْن عبد الله بْن عمرو بن حزام، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع، وقال لي: يا بني، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فاذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه، وانما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج فِي طلبهم، ليظنوا به قوة، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سلمة، عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ كَانَ شَهِدَ أُحُدًا، قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لأَخِي وَقَالَ لي:
أتفوتنا غزوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مِنَّا إِلا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم- وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ- فَكُنْتُ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عَقِبَةً وَمَشَى عَقِبَةً، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَخَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ، وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا: الاثْنَيْنِ، وَالثُّلاثَاءُ، وَالأَرْبِعَاءُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ مَرَّ بِهِ- فِيمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قال: حَدَّثَنَا سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ محمد بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- مَعْبَدٌ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بِتُهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا- وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ- فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ كَانَ أعفاك فيهم! ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، وقالوا:
أصبنا حد أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، ثُمَّ رَجَعْنَا قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ، لَنَكِرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا، قَالَ:
مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلِبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ! قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ حتى ترى نواصي الخيل قال: فو الله لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، قَالَ:
فانى انهاك عن ذلك، فو الله لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتَ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ، قَالَ: وَمَاذَا قُلْتَ؟ قال: قلت:

كادت تهد من الأَصْوَاتُ رَاحِلَتِي *** إِذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالْجُرْدِ الأَبَابِيلِ تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةً *** عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلا خُرْقٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَةً *** لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ *** إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ!
إِنِّي نَذِيرٌ لأَهْلِ الْبُسْلِ ضَاحِيَةً *** لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ *** وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ

قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ، قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيَرَةَ، قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ، وَأَحْمِلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْمَسِيرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه: «حسبنا الله ونعم الوكيل!» قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الاخبار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ظَفَرَ فِي وَجْهِهِ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَأَبِي عَزَّةَ الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى حَمْرَاءِ الأَسَدِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ- أَعْنِي سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ- وُلِدَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَفِيهَا عَلِقَتْ فَاطِمَةُ بِالْحُسَيْنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَ وِلادَتِهَا الْحَسَنَ وَحَمْلِهَا بِالْحُسَيْنِ إِلا خَمْسُونَ لَيْلَةً.
وَفِيهَا حَمَلَتْ- فِيمَا قِيلَ- جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ فِي شوال.