5 هـ
627 م
الخدعة في الحرب

فخرج من عنده وتوجه إلى بني قريظة الذين نقضوا عهود المسلمين، فلما رأوه أكرموه لصداقته معهم، فقال: …

يا بني قريظة تعرفون ودّي لكم وخوفي عليكم، وإني محدِّثكم حديثاً فاكتموه عنّي، قالوا: نعم، فقال: لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع والنضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وديارهم، وإن قريشاً وغطفان ليسوا مثلكم فهم إذا رأوا فرصة انتهزوها وإلا انصرفوا لبلادهم. وأما أنتم فتساكنون الرجل ــــ يريد الرسول ــــ ولا طاقة لكم بحربه وحدكم، فأرى ألاّ تدخلوا في هذه الحرب حتى تستيقنوا من قريش وغطفان أنهم لن يتركوكم ويذهبوا إلى بلادهم بأن تأخذوا منهم رهائن سبعين شريفاً منهم، فاستحسنوا رأيه وأجابوه إلى ذلك.
ثم قام من عندهم وتوجه إلى قريش فاجتمع برؤسائهم، وقال: أنتم تعرفون ودّي لكم، ومحبتي إيّاكم، وإني محدّثكم حديثاً فاكتموه عني، قالوا: نفعل، فقال لهم: إن بني قريظة قد ندموا على ما فعلوه مع محمد وخافوا منكم أن ترجعوا وتتركوهم معه فقالوا له: أيُرضيك أن نأخذ جمعاً من أشرافهم ونعطيهم لك، وتردّ جناحنا الذي كسرت ــــ يريد بني النضير ــــ فرضي بذلك منهم. وها هم مرسلون إليكم فاحذروهم ولا تذكروا مما قلت لكم حرفاً.

ثم أتى غطفان فأخبرهم بمثل ما أخبر به قريشاً، فأرسل أبو سفيان وفداً لقريظة يدعوهم للقتال غداً فأجابوا: إنّا لا يمكننا أن نقاتل في السبت ــــ وكان إرساله لهم ليلة السبت ــــ ولم يُصِبنا ما أصابنا إلا من التعدّي فيه، ومع ذلك فلا نقاتل حتى تعطونا رهائن منكم حتى لا تتركونا وتذهبوا إلى بلادكم، فتحققت قريش وغطفان كلام نُعيم بن مسعود، وتفرقت القلوب فخاف بعضهم بعضاً، وكان عليه الصلاة والسلام قد ابتهل إلى الله الذي لا ملجأ إلا إليه ودعاه بقوله: «اللهمّ مُنْزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب اهزم الأحزاب، اللهمّ اهزمهم وانصرنا عليهم» وقد أجابَ الله دعاءه عليه الصلاة والسلام، فأرسل على الأعداء ريحاً باردة في ليلة مظلمة، فخاف العرب أن تتفق اليهود مع المسلمين ويهجموا عليهم في الليلة المدلهمَّة فأجمعوا أمرهم على الرحيل قبل أن يصبح الصباح. ولما سمع عليه الصلاة والسلام الضوضاء في جيش العدو، قال لأصحابه: «لا بدّ من حادث، فمَن منكم ينظر لنا خبر القوم؟» فسكتوا حتى كرر ذلك ثلاثاً. وكان فيهم حُذيفة بن اليمان، فقال عليه الصلاة والسلام: «تسمع صوتي منذ الليلة ولا تجيب» فقال: يا رسول الله البرد شديد، فقال: «اذهب في حاجة رسول الله واكشف لنا خبر القوم» فخاطر رضي الله عنه بنفسه في خدمة نبيِّه، حتى اطّلع على جليّة الخبر، وأن الأعداء عازمون على الرحلة.