5 هـ
627 م
الحجاب

وفيه نزلت آية الحجاب وهو خاص بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، …

وكان عمر بن الخطاب قبل نزول آيته يحبّه ويذكره كثيراً، ويودّ أن ينزل فيه قرآن، وكان يقول: لو أُطَاع فيكن ما رأتكنَّ عين، فنزل في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآء حِجَابٍ ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53]. فقال بعضهم: أَنُنْهى أن نكلم بنات عمّنا إلا من وراء حجاب؟ لئن مات محمد لأتزوجن عائشة فنزل بعد الآية المتقدمة: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53]. أما غير أزواجه عليه الصلاة والسلام من المؤمنات، فأمرن بغضّ الأبصار، وحفظ الفروج، كما أمر بذلك الرجال، وأُمرن ألاّ يبدين زينتهنّ للأجانب إلا ما ظهر منها كالخاتم في الإصبع، والخضاب في اليد، والكحل في العين، أما ما خَفي منها فلا يحلّ إبداؤه كالسوار للذراع، والدُّمْلُج للعضد، والخلخال للرجل، والقِلادة للعنق، والإكليل للرأس، والوشاح للصدر، والقرط للأذن. والمراد بالزينة الظاهرة والخفية موضعها، وأُمرن أيضاً بأن يضربن بخمرهنّ على الجيوب كيلا تبقى صدورهنَّ مكشوفة، فإن النساء إذ ذاك كانت جيوبهنّ واسعة تبدو منها نحورهنّ وصدورهنّ وما حواليها، وكنّ يسدلن الخُمُر من ورائهنّ، ونُهين عن أن يضربن بأرجلهنّ ليعلم أنهنّ ذوات خلخال. وإذا كان النهي عن إظهار صوت الحلي بعدما نهين عن إظهار الحلي، عُلِمَ بذلك أن النهي عن إظهار مواضع الحلي أبلغ وأبلغ، قال تعالى في سورة النور: {وَقُل لّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَآئِهِنَّ أَوْ ءابَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وكان النساء في أول الإِسلام كما كنّ في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في دِرْع وخمار، لا فرق بين الحُرّة والأَمَة، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل والغيطان، وربما تعرضوا للحُرّة بعلَّة الأَمَة يقولون: حسبناها أَمَةً، فأُمرنَ أن يخالفن بزيهنّ زِيّ الإماء بأن يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ليغطي الوجه والأعطاف ليحتشمن، ويُهَبْن فلا يطمع فيهنّ طامع، قال تعالى في سورة الأحزاب: {يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْواجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 59].

أما حَجْبُ المرأة عمّن يريد خطبتها فهو أمر لم يكن يُفعل في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد السلف الصالح، فإن الشّارع الحكيم سنّ ذلك ليكون الرجل على علم مما يُقدِم عليه، حتى يتم الوفاق والوئام بين الزوجين في أمر أجمع عليه أئمة الدين.
قال حجة الإسلام الغزالي في «الإحياء»: وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الألفة ولذلك استحبّ النظر، فقال: «إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة، فلينظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينهما» ــــ أي: يؤلف بينهما ــــ من وقوع الأَدَمَة على الأَدَمة، وهي الجلدة الباطنة، والبشرة: الجلدة الظاهرة، وإنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن في أعين الأنصار شيئاً فإِذا أراد أحدكم أن يتزوج منهنّ فلينظر إليهنّ» قيل: كان في أعينهنَّ عمش. وقيل: صغر. وكان بعض الصالحين لا ينكحون كرائمهم إلا بعد النظر احترازاً من الغرور، وقال الأعمش: كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم.
ولا يبعد أن يكون فساد الزمن والابتعاد عن التربية الدينية التي تسوق إلى مكارم الأخلاق قد حَسَّنا عند عامة المسلمين في العصور الأولى حجب المرأة مطلقاً حسماً للمفاسد ودَرْءاً للفتنة.