11 ق.هـ
611 م
الجهر بالدعوة

ظهور الإسلام وانتشاره في مكة

قال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث الناس به، ثم إن الله عز وجل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي في الناس بأمره ويدعو إليه، وكان مدة ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستسر به إلى أن أمره الله بإظهاره ثلاث سنين فيما بلغني من بعثه، ثم قال الله له: {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ثم قال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ (214) وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214-215] {وَقُلْ إِنِّيۤ أَنَا ٱلنَّذِيرُ ٱلْمُبِينُ} [الحجر: 89] فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه، ولم يردوا عليه حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته
صلى الله عليه وسلم إلا من عصم الله منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.

دفاع أبي طالب عن الحبيب

وحدَبَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهراً له لا يرده عنه شيء، فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعُتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدَبَ عليه، وقام دونه، ولم يسلمه لهم. مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولًا رفيقًا، وردهم ردًّا جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظُهر دين الله ويدعو إليه، ثم شرَي الأمر بينه وبينهم، حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، فتذامروا عليه، وحض بعضهم بعضًا عليه، ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى، فقالوا: يا أبا طالب، إن لك سِنًاّ وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يملك أحد الفريقين، أو كما قال، ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه.

محاولة للتوفيق بين النبي والمشركين

وذكر أن أبا طالب لما قالت له قريش هذه المقالة، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا له، فابق علي وعلى نفسك، ولا تحُمِلّني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه في بداء، وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال له: “يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهر الله وأهلكِ فيه ما تركته، ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام“، فلما ولى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا ابن أخي، فأقبل عليه، فقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدًا.

مساومة قريش لأبي طالب

ثم إن قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله، فإنما هو رجل كرجل، قال: والله لبئس ما تسومونني ، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟
هذا والله ما لا يكون أبدًا، فقال المطعم بن عدي : والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال له أبو طالب: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني، ومظاهرة القوم علي، فاصنع ما بدا لك، فحقب الأمر، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضًا.

تعذيب قريش للمسلمين

قال: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم، ومنع الله تعالى منهم رسوله بعمه أبي طالب، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه، وأقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب.

دعوة النبي للناس جهارًا

حدثنا محمد بن المنكدر، أنه سمع ربيعة بن عباد أو عياد الدؤلي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول: “يا أيها الناس: إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً“. قال: ووراءه رجل يقول: يا أيها الناس، وإن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم، فسألت: من هذا الرجل؟ فقيل: أبو لهب.