7 ق.هـ
615 م
الإيذاء

ورأى رسول الله من المشركين كثير الأذى وعظيم الشدّة، خصوصاً إذا ذهب إلى الصلاة عند البيت، وكان من أعظمهم أذًى لرسول الله جماعة سمّوا لكثرة أذاهم بالمستهزئين …

فأوّلهم وأشدّهم: أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي، قال يوماً: يا معشر قريش إِنَّ محمداً قد أتى ما ترون من عيب دينكم وشتم آلهتكم، وتسفيه أحلامكم، وسبّ آبائكم، إني أُعاهد الله لأجلسنّ له غداً بحجر لا أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته رضَختُ به رأسه فأَسْلِمُوني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بي بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، فلما أصبح أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا عليه الصلاة والسلام كما كان يغدو إلى صلاته، وقريش في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعِل، فلما سجد عليه الصلاة والسلام احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه من الفزع ورمى حجره من يده. فقام إليه رجال من قريش فقالوا: ما لكَ يا أبا الحَكَم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم، فلما دنوت منه عرض لي فحل من الإبل والله ما رأيت مثله قطّ هَمَّ بي أن يأكلني، فلما ذُكر ذلك لرسول الله قال: «ذاك جبريل ولو دنا لأخذه». وكان أبو جهل كثيراً ما ينهى الرسول عن صلاته في البيت فقال له مرة بعد أن رآه يصلي: ألم أنهك عن هذا؟ فأغلظ له رسول الله القول وهدده، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فأنزل الله تهديداً له في آخر سورة اقرأ: {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ(15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ(16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ(17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ(18) كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 15-19].

ومن أذيته للرسول ما حكاه عبد اللهبن مسعود من رواية البخاري قال: كنا مع رسول الله في المسجد وهو يصلي، فقال أبو جهل: ألا رجل يقوم إلى فَرْث جزور بني فلان فيلقيه على محمد وهو ساجد؟ فقام عقبةبن أبي مُعَيطبن أبي عمروبن أميةبن عبد شمس، وجاء بذلك الفرث، فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فلم يقدر أحد من المسلمين الذين كانوا بالمسجد على إلقائه عنه لضعفهم عن مقاومة عدوهم، ولم يزل عليه الصلاة والسلام ساجداً حتى جاءت فاطمة بنته فأخذت القذر ورمته. فلما قام دعا على مَنْ صنع هذا الصنع القبيح فقال: «اللهمّ عليك بالملأ من قريش» وسمّى أقواماً، قال ابن مسعود: فرأيتهم قُتلوا يوم بدر.

ومما حصل لرسول الله مع أبي جهل أن هذا ابتاع أجمالاً من رجل يقال له الإراشي فمطله بأثمانها فجاء الرجل مجمع قريش يريد منهم مساعدة على أخذ ماله، فدلّوه على رسول الله ليُنصفه من أبي جهل استهزاء لما يعلمونه من أفعال ذلك الشقي بالرسول، فتوجه الرجل إليه وطلب منه المساعدة على أبي جهل فخرج معه حتى ضرب عليه بابه فقال: مَنْ هذا؟ قال: «محمد»، فخرج منتقعاً لونه فقال له الرسول: «أعطِ هذا حقه»، فقال أبو جهل: لا تبرحْ حتى تأخذه، فلم يبرح الرجل حتى أخذ دَيْنه، فقالت قريش: ويلك يا أبا الحكم ما رأينا مثل ما صنعت قال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليَّ بابي حتى سمعت صوته فملئت منه رعباً، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسي فحلاً من الإِبل ما رأيت مثله.
ومن جماعة المستهزئين: أبو لهببن عبد المطلب، عمّ رسول الله كان أشدّ عليه من الأباعد، فكان يرمي القذر على بابه لأنه كان جاراً له، فكان الرسول يطرحه ويقول: «يا بني عبد مناف أيُّ جوار هذا؟» وكانت تشاركه في قبيح عمله زوجه أُمّ جميل بنت حرببن أمية، فكانت كثيراً ما تسبّ رسول الله، وتتكلم فيه بالنمائم، وخصوصاً بعد أن نزل فيها وفي زوجها سورة أبي لهب.

ومن المستهزئين: عُقبةبن أبي مُعيط كان الجار الثاني لرسول الله، وكان يعمل معه كأبي لهب، صنع مرة وليمة ودعا لها كبراء قريش وفيهم رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: «والله لا آكل طعامك حتى تؤمن بالله»، فتشهَّد فبلغ ذلك أُبيّبن خلف الجُمحي القرشي، وكان صديقاً له فقال: ما شيء بلغني عنك؟ قال: لا شيء، دخل منزلي رجل شريف فأبى أن يأكل طعامي حتى أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يَطعم فشهدت له. قال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه، وتبزق في وجهه، وتلطم عينه، فلما رأى عقبة رسول الله فعل به ذلك فأنزل الله فيه في سورة الفرقان:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً(27) ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً(28) لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27-29] ومن أشدّ ما صنعه ذلك الشقي برسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري في “صحيحه” قال بينما النبي يصلّي في حِجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ مِن رَّبّكُمْ} [غافر: 28].
ومن جماعة المستهزئين: العاصبن وائل السهمي القرشي والد عمروبن العاص، كان شديد العداوة لرسول الله، وكان يقول: غرَّ محمد أصحابه أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، فقال الله ردّاً عليه في دعواه في سورة الجاثية: {وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]، وكان عليه دَيْن لخَبَّاب بن الأَرَتِّ، أحد رجال المسلمين، فتقاضاه إياه فقال العاص: أليس يزعم محمد هذا الذي أنت على دينه أن في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب أو فضة، أو ثياب، أو خدم؟ قال خباب: بلى. قال: فأنظرني إلى هذا اليوم فسأُوتي مالاً وولداً وأقضيك دينك فأنزل الله في سورة مريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً(77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً(78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً} [مريم: 77 – 80].

ومن جماعة المستهزئين: الأسودبن عبد يغوث، الزهري، القرشي، من بني زهرة، أخوال رسول الله، كان إذا رأى أصحاب النبي مقبلين يقول: قد جاءكم ملوك الأرض، استهزاءً بهم لأنهم كانوا متقشفين، ثيابهم رثّة، وعيشهم خشن، وكان يقول لرسول الله سخرية: أما كُلِّمْتَ اليوم من السماء؟
ومنهم: الأسودبن عبد المطلب الأسدي، ابنُ عم خديجة، كان هو وشيعته إذا مرّ عليهم المسلمون يتغامزون وفيهم نزل في سورة المطفِّفِيْن: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ(29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ(30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ(31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَآلُّونَ} [المطففين: 29 -32].

ومنهم: الوليدبن المغيرة، عم أبي جهل، كان من عظماء قريش وفي سعة من العيش، سمع القرآن مرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لقومه بني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمُثمر، وإن أسفله لمُغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتصبأنَّ قريش كلها، فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فتوجه وقعد إليه حزيناً وكلّمه بما أحماه، فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يُهوِّس؟ وتقولون: إنه كاهن فهل رأيتموه يتكهن؟ وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قطّ؟ وتزعمون أنه كذَّاب، فهل جرّبتم عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك: اللهمّ لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكَّر قليلاً ثم قال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ فارتجّ النادي فرحاً فأنزل الله في شأن الوليد في سورة المدّثر مخاطباً لرسوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً(11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً(12) وَبَنِينَ شُهُوداً(13) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً(14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ(15) كَلاَّ إِنَّهُ كان لاْيَاتِنَا عَنِيداً(16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً(17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11- 26].

وأنزل فيه أيضاً في سورة ن: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} [القلم: 10] كثير الحلف وكفى بهذا زاجراً لمن اعتاد الحلف {مَهِيْنٍ} [القلم: 10] حقير وأراد به الكذاب لأنه حقير في نفسه {هَمَّازٍ} [القلم: 11] عيّاب طعان {مَشَّاءٍ بنَمِيْمٍ} [القلم: 11] بنقل الأحاديث للإفساد بين الناس {مَنَّاعٍ لِلخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثيْمٍ عُتُلَ} [القلم: 12- 13] غليظ جاف {بَعدَ ذَلك زَنِيْمٍ} [القلم: 13] دخيل {أَنْ كانَ ذَا مَالٍ وَبَنينَ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آيَاتُنا قَالَ أَساطِيْرُ الأَوَّليْنَ، سَنَسِمُهُ على الخُرطُومِ} [القلم: 14-16] كناية عن الإذلال والتحقير لأن الوجه أكرم عضو والأنف أشرف ما فيه، ولذلك اشتقوا منه كلَّ ما يدل على العظمة، كالأنفة وهي: الحمية. فالوسم على أشرف عضو دليل الإذلال والإهانة.

ومن المستهزئين: النضربن الحارث العبدري من بني عبد الداربن قصي. كان إذا جلس رسول الله مجلساً للناس يحدّثهم ويذكرهم ما أصاب مَنْ قبلهم، قال النضر: هلمّوا يا معشر قريش فإني أَحْسَنُ منه حديثاً ثم يحدِّث عن ملوك فارس، وكان يعلم أحاديثهم، ويقول: ما أحاديث محمد إلا أساطير الأوّلين وفيه نزل في سورة لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ(6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6 – 7] وكل هؤلاء انتقم الله منهم كما قال الله تعالى في سورة الحِجر: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ(95) ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 95- 96] وقد وضع الله جل ذكره الوعد في صورة الماضي للتحقق من وقوعه، لأن الآية مكية، وهلاك هذه الفئة كان بعد الهجرة، فمنهم من قُتِل كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط، ومنهم من ابتلاه الله بأمراض شديدة فهلك منها كأبي لهب، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة.