9 هـ
631 م
الأحداث الأخيرة: عام الوفود

عام الوفود: سمى العام التاسع بعام الوفود، حيث ابتدأت وفود القبائل العربية تقدم من أنحاء الجزيرة العربية معلنة دخولها في الإسلام منذ …


رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة في أواخر سنة ثمان، فقد “كانت العرب تلوم بإسلامها الفتح” فلما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، ويعتبر طبقات ابن سعد أوسع المصادر جمعاً لأخبار تلك الوفود، وقد بلغ مجموع ما ذكرته المصادر أكثر من ستين وفداً.
وقد ساقت المصادر أخبار هذه الوفود دون أسانيد في الغالب، وأقدم من تكلم عنها بتفصيل ابن إسحق ولم يبين مصادر معلوماته وأسانيد مروياته إلا نادراً، وهذه الروايات النادرة إنما هي مراسيل الزهري وعبد الله بن أبي بكر والحسن البصري سوى خبر ضمام بن ثعلبة وافدا فقد أسنده إلى ابن عباس وفيه محمد بن الوليد بن نويفع مقبول ولم يتابع فتضعف الرواية لأجله. والوفود التي ساق ابن إسحق أخبارها هي وفد تميم ووفد بني عامر ووفد بني سعد بن بكر ووفد عبد القيس ووفد بني حنيفة ووفد طيء ووفد بني زبيد ووفد كندة ووفد ملوك حمير، ووفد بني الحارث بن كعب ووفد همدان، ووفد عدي بن حاتم ووفد فروة ابن مسيك المرادي، ووفد صرد بن عبد الله الأزدي ووفد فروة بن عمرو الجذامي ويلاحظ أنه يكثر من سرد الأشعار ضمن الأخبار.
وأما ابن سعد فقد فصل كثيراً واستقصى في جمع المعلومات عن الوفود ولكن معظم رواياته من طريق الواقدي وهشام الكلبي وكلاهما متروك وبقيتها إلا القليل جدا من طريق على بن محمد المدائني وهو صدوق، ولكن سائر الأسانيد التي أوردها ابن سعد لا تخلو من مطعن في ضعف الرواة أو الإرسال. والقليل جدا (بضع روايات) عن عفان بن مسلم وعارم بن الفضل الدوسي. وهما ثقتان من شيوخ البخاري.

ورغم عدم ثبوت هذه الأخبار المفصلة التي ساقها المؤرخون عن الوفود بالنقل الصحيح المعتمد عند المحدثين، فإن خبر قدوم بعض هذه الوفود ثابت بالروايات الصحيحة، وكذلك بعض الأخبار المتعلقة بهم، فقد ذكر الإمام البخاري قدوم وفد تميم، كما حكت سورة الحجرات بعض ما صدر منهم من الأعمال المتسمة بجفاء الطبع وقلة الذوق حيث نادوا الرسول عليه الصلاة والسلام بصوت عال من خارج حجرته دون أن يستأذنوا عليه، ولا شك أن سورة الحجرات نزلت لتعليم المسلمين جميعا بهذه المناسبة أدب مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم والاستئذان عليه.

كما ذكر البخاري قدوم وفد عبد القيس، ووفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة الكذاب، وأنه اشترط لإسلامه أن يكون له الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إنه لو سأله قطعة جريد ما أعطاه، وأشار إلى ما سيكون منه من فتنة!!، وذكر وفد نجران وفيهم العاقب والسيد حاكما نجران، وقد دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأبوا فدعاهم إلى المباهلة لما نزلت آية المباهلة {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[ال عمران: 59] {ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن ٱلْمُمْتَرِينَ} [ال عمران: 60] {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَاذِبِينَ} [ال عمران: 61].

فأرادا الاستجابة إلى الملاعنة ثم عدلا عن ذلك خوف أن تصيبهم اللعنة وطلبا منه المصالحة على أن يدفعوا الجزية، فأرسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح لتحصيلها ، ولا شك أن مصالحة أهل نجران على الجزية ربطتهم بدولة الإسلام، وقطعت الأواصر بينهم وبين الروم، فكان ذلك تأميناً لظهر المسلمين وهم يخططون لمواجهة كبيرة مع الروم في الشام.
وقد ذكر البخاري وفد الأشعريين وأهل اليمن كما ذكر وفد دوس ووفد طيء وقدوم عدي بن حاتم الطائي.
وذكر ابن عباس إرسال بني سعد بن بكر لضمام بن ثعلبة إلى المدينة، وكان رجلا جلدا كثير الشعر له غديرتان، فأناخ بعيره على باب المسجد وعقله، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال: أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابن عبد المطلب». قال: محمد؟ قال: «نعم»، قال: يا محمد إني سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن علي في نفسك فأني لا أجد في نفسي، قال: «سل عما بدا لك». قال: أنشدك الله  الله بعثك إلينا رسولا؟ قال: «اللهم نعم»، قال: أنشدك الله  الله أمرك أن نعبده ولا نشرك به شيئا وأن نخلع هذه الأوثان والأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: «اللهم نعم».

ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة وينشده عند كل فريضة حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه ولا أزيد ولا أنقص ثم أنصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يصدق دخل الجنة».

ثم رجع ضمام إلى قومه فاجتمعوا إليه فسب أمامهم اللات والعزى، فقالوا: ياضمام اتق البرص والجذام والجنون!!
فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. وأني قد جئتكم من عنده وبما أمركم به ونهاكم عنه. فوالله ما أمسى ذلك اليوم من حاضرته رجل ولا امرأة إلا مسلما.
فلا شك إذا في قدوم الوفود في العام التاسع إلى المدينة لإعلان إسلام قبائلهم ولكن الأخبار المفصلة تحتاج إلى نقد تاريخي للمتون وقد أدبي للأشعار التي ربما تخضع لمقاييس أدق يمكن عن طريقها تثبيت صحة المعلومات تاريخيا أو نفيها.
وعلى أية حال فإنه في العام التاسع ساد الإسلام الجزيرة العربية التي توحدت سياسيا لأول مرة في تاريخها تحت رايته، فرغم أنها عرفت نشوء الدويلات ونظم السياسة قبل الإسلام، إلا أن أية دويلة من تلك الدويلات مثل (معين وسبأ وحمير وكندة والغساسنة والمناذرة) لم تتمكن من توحيد الجزيرة العربية تحت رايتها، بل إن حضارات تلك الدويلات كانت قد اضمحلت وطغت البداوة على مراكزها قبل الإسلام، وقد تمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من تحقيق وحدة الجزيرة في أقل من عشر سنوات رغم قوة الروح الفردية وتغلغل العصبية القبلية والنزعات الجاهلية ولم تكن وحدة صورية بل كانت تشابكا وثيقا وتجانسا في الروح والعقل والسلوك لذلك صلحت أن تكون لبنة قوية وأساسا متينا قامت عليه الدولة الإسلامية التي بسطت سلطانها على رقعة شاسعة من آسيا وأفريقيا وأوروبا.