12 ق.هـ
610 م
إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ

وَآمَنَتْ بِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ …

وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنَ بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فَخَفّفَ اللهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إلّا فَرّجَ اللهُ عَنْهُ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ رَحِمَهَا الله تَعَالَى.
تبشير الرَّسُول لِخَدِيجَة بِبَيْت من قصب:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَمَرْت أَنْ أُبَشّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ».
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْقَصَبُ هَاهُنَا: اللّؤْلُؤُ المجوف.
جِبْرِيل يقرئ خَدِيجَة السَّلَام:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك»  فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيل السَّلَام.
فَتْرَة الْوَحْي ونزول سُورَة الضُّحَى:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضّحَى، يَقْسِمُ لَهُ رَبّهُ وَهُوَ الّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مَا وَدّعَهُ وَمَا قَلَاهُ فَقَالَ تَعَالَى: {وَٱلضُّحَىٰ (1) وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ} [الضحى: 1-3]. يَقُولُ مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَك، وَمَا أَبْغَضَك مُنْذُ أَحَبّك. {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ} [الضحى: 4] أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ مَرْجِعِك إلَيّ خَيْرٌ لَك مِمّا عَجّلْت لَك مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدّنْيَا. {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ} [الضحى: 5] مِنْ الْفَلْجِ فِي الدّنْيَا، وَالثّوَابِ فِي الْآخِرَةِ {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ} [الضُّحَى: 1-8] يُعَرّفُهُ اللهُ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَمَنّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ وَضَلَالَتِهِ وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُله برحمته.
تَفْسِير ابْن هِشَام لمفردات سُورَة الضُّحَى:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: سَجَى: سَكَنَ. قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ:

إذْ أَتَى مَوْهِنًا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي *** وَسَجَا اللّيْلُ بِالظّلّامِ الْبَهِيمِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرْفُهَا: سَاجِيَةً وَسَجَا طَرْفُهَا.
قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيّ:

وَلَقَدْ رَمَيْنَك – حِينَ رُحْنَ – بِأَعْيُنِ *** يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ السّتُورِ سَوَاجِي

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ:

إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا *** وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ

وَجَمْعُهُ عَالَةٌ وَعَيْلٌ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا – إنْ شَاءَ اللهُ وَالْعَائِلُ أَيْضًا: الّذِي يَعُولُ الْعِيَالَ. وَالْعَائِلُ أَيْضًا: الْخَائِفُ. وَفِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ} [النّسَاءُ: 3] .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:

بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً *** لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا – إنْ شَاءَ اللهُ – فِي مَوْضِعِهَا. وَالْعَائِلُ أَيْضًا:
الشّيْءُ الْمُثْقَلُ الْمُعْيِي. يَقُولُ الرّجُلُ: قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ أَثْقَلَنِي وَأَعْيَانِي، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ *** إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا

وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
{فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} [الضُّحَى: 9-10] أَيْ لَا تَكُنْ جَبّارًا وَلَا مُتَكَبّرًا، وَلَا فَحّاشًا فَظّا عَلَى الضّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللهِ. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضُّحَى: 11] أَيْ بِمَا جَاءَك مِنْ اللهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النّبُوّةِ فَحَدّثْ أَيْ اُذْكُرْهَا، وَادْعُ إلَيْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ


حُبّ الرّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَنَهُ:
بَقِيّةٌ مِنْ حَدِيثِ وَرَقَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ: «أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ؟» فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ «أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ؟» وَالْمَوْضِعُ الدّالّ عَلَى تَحَرّكِ النّفْسِ وَتَحَرّقِهَا إدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسّؤَالِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنّ الْوَاوَ تُرَدّ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدّمِ وَتُشْعِرُ الْمُخَاطَبَ بِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ التّفَجّعِ لِكَلَامِهِ أَوْ التّأَلّمِ مِنْهُ.
ذِكْرُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَسَنٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَوْلُهُ حَدّثَتْنِي أُمّي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أَنّ خَدِيجَةَ أَدَخَلَتْهُ بَيْنَ ثَوْبِهَا. الْحَدِيثَ عَبْدُ اللهِ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أُخْتُ سُكَيْنَةَ وَاسْمُهَا: آمِنَةُ وَسُكَيْنَةُ لَقَبٌ لَهَا الّتِي كَانَتْ ذَاتَ دُعَابَةٍ وَمَزْحٍ وَفِي سُكَيْنَةَ وَأُمّهَا الرّبَابِ يَقُولُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ – رَضِيَ اللهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ:

كَأَنّ اللّيْلَ مَوْصُولٌ بِلَيْلِ *** إذَا زَارَتْ سُكَيْنَةُ وَالرّبَابُ

أَيْ: زَارَتْ قَوْمُهَا، وَهُمْ بَنُو عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ مِنْ كَلْبٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ وَيُعْرَفُ بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ بِبَنِي زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ اسْمُ أُمّهِمْ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ حَسَنٍ هُوَ وَالِدُ الطّالِبِيّيْنِ الْقَائِمَيْنِ عَلَى بَنِي الْعَبّاسِ وَهُمْ مُحَمّدٌ وَيَحْيَى وَإِدْرِيسُ مَاتَ إدْرِيسُ بِإِفْرِيقِيّةَ فَارّا مِنْ الرّشِيدِ وَمَاتَ مَسْمُومًا فِي دُلَاعَةٍ أَكَلَهَا، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِمّا فَضَلّ بِهِ عَلِيّ ابْنَيْ صَاحِبِ الْبَعِيرِ أَنّ زَوْجَهُ كَانَتْ عَوْنًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ أَمْرِ اللهِ وَأَنّ زَوْجِي كَانَتْ عَوْنًا لِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ خَدِيجَةَ:
فَصْلٌ: وَذِكْرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَمَرَ أَنّ يُبَشّرُ خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٍ فِيهِ وَلَا نَصَبٍ. هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتّصِلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا غِرْت عَلَى أَحَدٍ مَا غِرْت عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكْت قَبْلَ أَنْ يَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُبَشّرُهَا بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنّةِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ قَدْ أَبْدَلَك اللهُ خَيْرًا مِنْهَا، فَغَضِبَ وَقَالَ «وَاَللهِ مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْرًا مِنْهَا ; آمَنَتْ بِي حِينَ كَذّبَنِي النّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي النّاسُ وَرُزِقْت الْوَلَدَ مِنْهَا، وَحُرِمْته مِنْ غَيْرِهَا»، وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيّ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو نَجِيحٍ قَالَ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزُورٌ أَوْ لَحْمٌ فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَظْمًا مِنْهَا، فَنَاوَلَهُ الرّسُولُ بِيَدِهِ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ غَمَرْت يَدَك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُغْضَبًا: «إنّ خَدِيجَةَ أَوْصَتْنِي بِهَا»، فَغَارَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ لَكَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُغْضَبًا، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمّ رَجَعَ فَإِذَا أُمّ رُومَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ مَا لَك وَلِعَائِشَةَ؟ إنّهَا حَدَثَةٌ وَإِنّك أَحَقّ مَنْ تَجَاوَزَ عَنْهَا، فَأَخَذَ بِشِدْقِ عَائِشَةَ وَقَالَ أَلَسْت الْقَائِلَةَ «كَأَنّمَا لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةُ وَاَللهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إذْ كَفَرَ قَوْمُك، وَرُزِقْت مِنّي الْوَلَدُ وَحُرِمْتُمُوهُ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «خَيْرُ نِسَائِهَا: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا: خَدِيجَةُ» وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ مَرْيَمَ عَائِدَةً عَلَى السّمَاءِ وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ خَدِيجَةَ عَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ فِي آخَرَيْنِ وَأَشَارَ وَكِيعٌ مِنْ بَيْنَهُمْ حِينَ حَدّثَ بِالْحَدِيثِ بِإِصْبَعِهِ إلَى السّمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ مَرْيَمَ، وَإِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لَيْسَتْ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنّمَا هِيَ زِيَادَةٌ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إشَارَتِهِ إلَى السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا، أَيْ هُمَا خَيْرُ نِسَاءٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدِي بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَلَعَلّنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التّفْضِيلِ بَيْنَ مَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُنّ – وَأَزْوَاجِ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَا نَزَعَ بِهِ كُلّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ.
حَوْلَ مَا بُشّرَتْ بِهِ خَدِيجَةُ:
وَأَمّا قَوْلُهُ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطّابِيّ مُفَسّرًا، وَقَالَ فِيهِ قَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ فِي الْجَنّةِ قَصَبٌ؟ فَقَالَ «إنّهُ قَصَبٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَبّى» قَالَ الْخَطّابِيّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُجَوّبًا مِنْ قَوْلِك: جُبْت الثّوْبَ إذَا خَرَقْته، فَيَكُونُ مِنْ الْمَقْلُوبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُجَبّبًا بِبَاءَيْنِ مِنْ الْجُبّ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ قُطِعَ دَاخِلُهُ وَقُلِبَتْ الْبَاءُ يَاءً كَمَا قَالُوا: تَظَنّيْتُ مِنْ الظّنّ وَتَقَصّيْت أَظْفَارِي، وَتَكَلّمَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا: كَيْفَ لَمْ يُبَشّرْهَا إلّا بِبَيْتِ وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يُعْطَى مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ فِي الْجَنّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ، وَكَيْفَ لَمْ يُنْعِتْ هَذَا الْبَيْتَ بِشَيْءِ مِنْ أَوْصَافِ النّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ الصّخَبِ وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ فَأَمّا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فَقَالَ فِي كِتَابِ فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ لَهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ بُشّرَتْ بِبَيْتِ زَائِدٍ عَلَى مَا أَعَدّ اللهُ لَهَا مِمّا هُوَ ثَوَابٌ لِإِيمَانِهَا وَعَمَلِهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ أَيْ لَمْ تَنْصِبْ فِيهِ وَلَمْ تَصْخَبْ. أَيْ إنّمَا أَعْطَيْته زِيَادَةً عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ الّذِي نَصَبَتْ فِيهِ. قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللهُ لَا أَدْرِي مَا هَذَا التّأْوِيلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يُعَضّدُهُ وَأَمّا الْخَطّابِيّ، فَقَالَ الْبَيْتُ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ قَصْرٍ وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْزِلِ الرّجُلِ بَيْتُهُ وَاَلّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يُقَالُ فِي الْقَوْمِ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ وَبَيْتِ عِزّ وَفِي التّنْزِيلِ: {غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] وَلَكِنْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ هَاهُنَا بِهَذَا اللّفْظِ وَلِقَوْلِهِ بِبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ بِقِصَرِ مَعْنًى لَائِقٍ بِصُورَةِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنّهَا كَانَتْ رَبّةَ بَيْتِ إسْلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ بَيْتُ إسْلَامٍ إلّا بَيْتَهَا حِينَ آمَنَتْ وَأَيْضًا فَإِنّهَا أَوّلُ مَنْ بَنَى بَيْتًا فِي الْإِسْلَامِ بِتَزْوِيجِهَا رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَرَغْبَتِهَا فِيهِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ لِمَا جَاءَ «مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنّةِ وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإِ سَقَاهُ اللهُ مِنْ الرّحِيق» وَمِنْ هَذَا الْبَابُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ «مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنّةِ» لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا، وَلَا فِي صِفّتِهِ وَلَكِنْ قَابِلٌ الْبُنْيَانِ بِالْبُنْيَانِ أَيْ كَمَا بَنَى يُبْنَى لَهُ كَمَا قَابِلُ الْكِسْوَةِ بِالْكِسْوَةِ وَالسّقْيَا بِالسّقْيَا، فَهَاهُنَا وَقَعَتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا فِي ذَاتِ الْمَبْنِيّ أَوْ الْمَكْسُوّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنْ هَاهُنَا اقْتَضَتْ الْفَصَاحَةُ أَنْ يُعَبّرَ لَهَا عَمّا بُشّرَتْ بِهِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَا عَيْنَ رَأَتْهُ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَمِنْ تَسْمِيَةِ الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ فِي عَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التَّوْبَة: 67] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ} [آل عمرَان: 54] .
وَأَمّا قَوْلُهُ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ فَإِنّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ مَا كُنّا بِسَبِيلِهِ لِأَنّهُ – عَلَيْهِ السّلَامُ – دَعَاهَا إلَى الْإِيمَانِ فَأَجَابَتْهُ عَفْوًا، لَمْ تُحْوِجْهُ إلَى أَنْ يَصْخَبَ كَمَا يَصْخَبُ الْبَعْلُ إذَا تَعَصّتْ عَلَيْهِ حَلِيلَتُهُ وَلَا أَنْ يَنْصِبَ بَلْ أَزَالَتْ عَنْهُ كُلّ نَصَبٍ وَآنَسَتْهُ مِنْ كُلّ وَحْشَةٍ وَهَوّنَتْ عَلَيْهِ كُلّ مَكْرُوهٍ وَأَرَاحَتْهُ بِمَا لَهَا مِنْ كُلّ كَدّ وَنَصَبٍ فَوَصَفَ مَنْزِلَهَا الّذِي بُشّرَتْ بِهِ بِالصّفّةِ الْمُقَابِلَةِ لِفَعَالِهَا وَصُورَتِهِ.
وَأَمّا قَوْلُهُ مِنْ قَصَبٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا، وَلَكِنْ فِي اخْتِصَاصِهِ هَذَا اللّفْظِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُقَابِلَةِ بِلَفْظِ الْجَزَاءِ لِلَفْظِ الْعَمَلِ أَنّهَا – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – كَانَتْ قَدْ أَحْرَزَتْ قَصَبَ السّبْقِ إلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسْوَانِ. وَالْعَرَبُ تُسَمّي السّابِقَ مُحْرِزًا لِلْقَصْبِ.
قَالَ الشّاعِرُ:

مَشَى ابْنُ الزّبَيْرِ الْقَهْقَرَى، وَتَقَدّمَتْ *** أُمَيّةُ حَتّى أَحْرَزُوا الْقَصَبَاتِ

فَاقْتَضَتْ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْبُرَ بِالْعِبَارَةِ الْمُشَاكِلَةِ لِعَمَلِهَا فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَتَأَمّلْهُ.
الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهُمَا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَدِيجَةَ: «هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك» الْحَدِيثُ يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد أَنّهُ سُئِلَ أَعَائِشَةُ أَفَضْلُ أَمْ خَدِيجَةَ؟ فَقَالَ “عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَهِيَ أَفَضْلُ، قِيلَ لَهُ فَمَنْ أَفْضَلُ أَخَدِيجَةُ أَمْ فَاطِمَةُ؟ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي فَلَا أَعْدِلُ بِبَضْعَةِ مِنْ رَسُولِ اللهِ أَحَدًا» وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ حَسَنٌ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ ارْتَبَطَ نَفْسُهُ وَحَلَفَ أَلّا يَحِلّهُ إلّا رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ لِتَحِلّهُ فَأَبَى مِنْ أَجْلِ قَسَمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «إنّمَا فَاطِمَةُ مُضْغَةٌ مِنّي» فَحَلّتْهُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى،
وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى تَفْضِيلِ فَاطِمَةَ قَوْلُهُ – عَلَيْهِ السّلَامُ – لَهَا: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ إلّا مَرْيَمَ»؟ فَدَخَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُمّهَا وَأَخَوَاتُهَا، وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي الْمَعْنَى الّذِي سَادَتْ بِهِ فَاطِمَةُ غَيْرَهَا دُونَ أَخَوَاتِهَا، فَقِيلَ إنّهَا وَلَدَتْ سَيّدَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَهُوَ الْحَسَنُ الّذِي يَقُولُ فِيهِ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «إنّ ابْنِي هَذَا سَيّدٌ» وَهُوَ خَلِيفَةٌ بَعْلُهَا خَلِيفَةٌ أَيْضًا، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ سَادَتْ أَخَوَاتُهَا وَأُمّهَا، لِأَنّهُنّ مُتْنَ فِي حَيَاةِ النّبِيّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَكُنّ فِي صَحِيفَتِهِ وَمَاتَ أَبُوهَا وَهُوَ سَيّدُ الْعَالَمِينَ فَكَانَ رُزْؤُهُ فِي صَحِيفَتِهَا وَمِيزَانِهَا، وَقَدْ رَوَى الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَنّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ لِفَاطِمَةَ «هِيَ خَيْرُ بَنَاتِي، إنّهَا أُصِيبَتْ بِي» فَحَقّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يَسُودَ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ سُؤْدُدِهَا أَيْضًا أَنّ الْمَهْدِيّ الْمُبَشّرَ بِهِ آخِرَ الزّمَانِ مِنْ ذُرّيّتِهَا، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَذَا كُلّهِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَمْرِ الْمَهْدِيّ كَثِيرَةٌ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ فَأَكْثَرَ وَمِنْ أَغْرَبِهَا إسْنَادًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مُسْنَدًا إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَذّبَ بِالدّجّالِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ كَذّبَ بِالْمَهْدِيّ فَقَدْ كَفَرَ» وَقَالَ فِي طُلُوعِ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ.
اللهُ السّلَامُ:
وَقَوْلُ خَدِيجَةَ: اللهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ عَلِمَتْ بِفِقْهِهَا أَنّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا يَرِدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنّ السّلَامَ دُعَاءٌ بِالسّلَامَةِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهَا: اللهُ السّلَامُ فَكَيْفَ أَقُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَالسّلَامُ مِنْهُ يُسْأَلُ وَمِنْهُ يَأْتِي؟ وَلَكِنْ عَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ فَاَلّذِي يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّهُ لَا يَلِيقُ بِاَللهِ سُبْحَانَهُ إلّا الثّنَاءُ عَلَيْهِ فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدّ التّحِيّةِ عَلَى اللهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا عَمِلُوا فِي التّشَهّدِ حِينَ قَالُوا: السّلَامُ عَلَى اللهِ مِنْ عِبَادِهِ السّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا هَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا: التّحِيّاتُ لِلّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَوَائِدَ جَمّةً فِي مَعْنَى التّحِيّاتِ إلَى آخِرِ التّشَهّدِ. وَقَوْلُهَا: وَمِنْهُ السّلَامُ إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ التّحِيّةَ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ التّشَكّرُ كَمَا تَقُولُ هَذِهِ النّعْمَةُ مِنْ اللهِ وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ بِالسّلَامَةِ مِنْ سُوءٍ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَقُولُ مِنْهُ يُسْأَلُ الْخَيْرُ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللّغَةِ إلَى أَنّ السّلَامَ وَالسّلَامَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَالرّضَاعِ وَالرّضَاعَةِ وَلَوْ تَأَمّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ وَمَا تُعْطِيهِ هَاءُ التّأْنِيثِ مِنْ التّحْدِيدِ لَرَأَوْا أَنّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا عَظِيمًا، وَأَنّ الْجَلَالَ أَعَمّ مِنْ الْجَلَالَةِ بِكَثِيرِ وَأَنّ اللّذَاذَ أَبْلَغُ مِنْ اللّذَاذَةِ وَأَنّ الرّضَاعَةَ تَقَعُ عَلَى الرّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرّضَاعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ السّلَامُ وَالسّلَامَةُ وَقِسْ عَلَى هَذَا: تَمْرَةً وَتَمْرًا، وَلَقَاةً وَلَقًى، وَضَرْبَةً وَضَرْبًا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَسَمّى سُبْحَانَهُ بِالسّلَامِ لِمَا شَمِلَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ، وَعَمّهُمْ مِنْ السّلَامَةِ مِنْ الِاخْتِلَالِ وَالتّفَاوُتِ إذْ الْكُلّ جَارٍ عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ كَذَلِكَ سَلِمَ الثّقَلَانِ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ فَإِنّمَا الْكُلّ مُدَبّرٌ بِفَضْلِ أَوْ عَدْلٍ أَمّا الْكَافِرُ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إلّا عَدْلُهُ وَأَمّا الْمُؤْمِنُ فَيَغْمُرُهُ فَضْلُهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ سَلَامٌ لَا حَيْفَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا تَفَاوُتَ وَلَا اخْتِلَالَ وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْمُفَسّرِينَ لِهَذَا الِاسْمِ أَنّهُ تَسَمّى بِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَقَدْ أَتَى بِشَنِيعِ مِنْ الْقَوْلِ إنّمَا السّلَامُ مَنْ سُلِمَ مِنْهُ وَالسّالِمُ مَنْ سَلِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً} [الْأَنْبِيَاء: 69] وَإِلَى قَوْلِهِ {سَلاَمٌ هِيَ} [الْقدر: 5] وَلَا يُقَالُ فِي الْحَائِطِ: سَالِمٌ مِنْ الْعَمَى، وَلَا فِي الْحَجَرِ أَنّهُ سَالِمٌ مِنْ الزّكَامِ أَوْ مِنْ السّعَالِ إنّمَا يُقَالُ سَالِمٌ فِيمَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْآفَةُ وَيَتَوَقّعُهَا ثُمّ يَسْلَمُ مِنْهَا، وَالْقُدّوسُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ تَوَقّعِ الْآفَاتِ مُتَنَزّهٍ عَنْ جَوَازِ النّقَائِصِ وَمِنْ هَذِهِ صِفّتُهُ لَا يُقَالُ سَلِمَ وَلَا يَتَسَمّى بِسَالِمِ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا سَلَامًا بِمَعْنَى سَالِمٍ وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوّلَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السّلَفِ وَالسّلَامَةُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ السّلَامِ.
فَتْرَةَ الْوَحْيِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فَتْرَةَ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَ مُدّةِ الْفَتْرَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ أَنّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفِ سَنَةٍ فَمِنْ هُنَا يَتّفِقُ مَا قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ مُكْثَهُ بِمَكّةَ كَانَ عَشَرَ سِنِينَ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ قَدْ اُبْتُدِئَ بِالرّؤْيَا الصّادِقَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ فَمَنْ عَدّ مُدّةَ الْفَتْرَةِ وَأَضَافَ إلَيْهَا الْأَشْهُرَ السّتّةَ كَانَتْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وَمَنْ عَدّهَا مِنْ حِينِ حَمِيَ الْوَحْيِ وَتَتَابَعَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ كَانَتْ عَشْرَ سِنِينَ. وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا، وَهُوَ أَنّ الشّعْبِيّ قَالَ وَكّلَ إسْرَافِيلَ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمّ جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ جِبْرِيلُ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ وَإِذَا صَحّ فَهُوَ أَيْضًا وَجْهٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللهُ أَعْلَمُ.
شَرْحُ شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَالْفَرَزْدَقِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي خِرَاشٍ خُوَيْلِدِ بْنِ مُرّةَ الْهُذَلِيّ:

إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا *** وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ

الضّرِيكُ: الضّعِيفُ الْمُضْطَرّ
وَالْمُسْتَنْبَحُ الّذِي يَضِلّ عَنْ الطّرِيقِ فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ فَيَنْبَحُ لِيَسْمَعَ نُبَاحَ كَلْبٍ وَالدّرِيسُ الثّوْبُ الْخَلَقُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ *** إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ *** كَأَنّهُمْ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالًا

يَعْنِي: سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ، وَيُقَال: إنّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ حَسَدَهُ فَقَالَ لَهُ قُلْ قُعُودًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ يَا أَبَا فِرَاسٍ. فَقَالَ لَهُ الْفَرَزْدَقُ: وَاَللهِ يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إلّا قِيَامًا عَلَى الْأَقْدَامِ. وَذَكَرَ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الضّحَى، وَأَنّ ذَلِكَ لِفَتْرَةِ الْوَحْيِ عَنْهُ وَخَرّجَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى سُورَةَ الضّحَى.
فَرْضُ الصّلَاةِ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنّ الصّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ} [غَافِر: 55] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلّامٍ مِثْلَهُ وَقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفُرِضَ الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَبْلَ الْهُجْرِ بِعَامِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ: فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ أَيْ زِيدَ فِيهَا حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا، فَتَكُونُ الزّيَادَةُ فِي الرّكَعَاتِ وَفِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ وَيَكُونُ قَوْلُهَا: فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْن أَيْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا: فُرِضَتْ الصّلَاةُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ فُرِضَتْ الْخَمْسُ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَنْ بَعْضُ رِوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ وَمَنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحَسَنُ وَالشّعْبِيّ أَنّ الزّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا. هَكَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَهَاهُنَا سُؤَالٌ يُقَالُ هَلْ هَذِهِ الزّيَادَةُ فِي الصّلَاةِ نُسِخَ أَمْ لَا؟ فَيُقَالُ أَمّا زِيَادَةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الرّكُوعِ حَتّى تَكُونَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَنُسِخَ لِأَنّ النّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرّكْعَتَيْنِ وَصَارَ مَنْ سَلّمَ مِنْهُمَا عَامِدًا أَفْسَدَهُمَا، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ صَلَاتَهُ بَعْدَمَا سَلّمَ وَتَحَدّثَ عَامِدًا لَمْ يَجُزْهُ إلّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصّلَاةَ مِنْ أَوّلِهَا، فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِالنّسْخِ وَأَمّا الزّيَادَةُ فِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا بَعْدَمَا كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَيُسَمّى نَسْخًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنّ الزّيَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى النّصّ نَسْخٌ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلّمِينَ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِنَسْخِ وَلِاحْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
الْوُضُوءُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَعْلَى مَكّةَ حِينَ هَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فَأَنْبَعَ الْمَاءَ وَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ فِي السّيرَةِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ أَصْلًا فِي الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَلَكِنّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ – يَرْفَعُهُ – غَيْرَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَقَدْ ضَعُفَ وَلَمْ يُخَرّجْ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَلَا الْبُخَارِيّ ; لِأَنّهُ يُقَالُ إنّ كُتُبَهُ احْتَرَقَتْ فَكَانَ يُحَدّثُ مِنْ حِفْظِهِ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُحْسِنُ فِيهِ الْقَوْلَ وَيُقَالُ إنّهُ الّذِي رُوِيَ عَنْهُ حَدِيثُ بَيْعِ الْعُرْبَانِ فِي الْمُوَطّإِ مَالِكٌ عَنْ الثّقَةِ عِنْدَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، فَيُقَالُ إنّ الثّقَةَ هَاهُنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَيُقَالُ إنّ ابْنَ وَهْبٍ حَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ هَذَا، أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ مُحَمّدُ بْنُ الْعَرَبِيّ قَالَ نَا أَبُو الْمُطّهِرِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الرّجَاءِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ نَا أَبُو بَكْرٍ أَحَمْدُ بْنُ يُوسُفَ الْعَطّارُ قَالَ نَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: نَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَوّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ، عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ عَنْ أَحَمْدَ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ فَالْوُضُوءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَكّيّ بِالْفَرْضِ مَدَنِيّ بِالتّلَاوَةِ لِأَنّ آيَةَ الْوُضُوءِ مَدَنِيّةٌ وَإِنّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَةَ التّيَمّمِ وَلَمْ تَقُلْ آيَةَ الْوُضُوءِ وَهِيَ هِيَ لِأَنّ الْوُضُوءَ قَدْ كَانَ مَفْرُوضًا قَبْلَ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى، حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ.