8 ربيع الأول 1 هـ
19 أيلول 622 م
إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه

قصة سلمان مع أبيه

عن ابن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي من فيه، قال: كنت رجلاً فارسيًاّ من أهل أصبهان من قر ية يقال لها جي وكان أبي دِهْقان قريته، وكنت أحب خلق الله إليه، لم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجار ية، واجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
وكانت لأبي ضيعة عظيمة، فشغل في بنيان له يومًا، فقال لي: يا بني، إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها. وأمرني فيها ببعضما يريد، ثم قال لي: ولا تحتبس عني ؛ فإنك إن احتبست عني كنت أهم إليَّ من ضيعتي، وشغلتني عن كل أمر من أمري، فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته.
فلما سمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الذي نحن عليه. فوالله ما برحتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها، ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام. فرجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي وشغلته عن عمله كله. فلما جئته، قال: أي بني، أين كنت؟ ألم أكن عهدت إليك ما عهدت إليك؟ قلت: يا أبت، مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس. قال: أي بني، ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه. فقلت له: كلا والله إنه لخير من ديننا. قال: فخافني، فجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيته.

تحمله المشقة في طلب الحق

وبعثت إلى النصارى، فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم، فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروني. فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم.

قدومه على أسقف الشام

قال: فلما أرادوا الرجعة أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم قدمت معهم حتى قدمت الشام، فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علماً؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة، فجئته فقلت له: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك فأخدمك في كنيستك، وأتعلم من علمك، وأصلي معك. قال: ادخل. فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه شيئاً منها اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب ووَرِق ، فأبغضته بغضًا شديدًا لما رأيته يصنع، ثم مات واجتمعت النصارى ليدفنوه.
قلت لهم: إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً. فقالوا لي: وما علمك بذلك؟ قلت: أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملؤة ذهباً وورقاً. فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبدًا، فصلبوه ورموه بالحجارة، وجاءوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمسأرى أنه أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا منه، فأحببته حبًاّ لم أحبه شيئاً قبله، فأقمت معه زماناً.

قدومه على أسقف الموصل

ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان: إني قد كنت معك وأحببتك حبًاّ شديدًا لم أحبه شيئاً قبلك، وقد حضرك من الأمر ما ترى، فإلى من توصي بي، وبم تأمرني؟ فقال: أي بني: والله ما أعلم أحدًا على ما كنت عليه، ولقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل، وهو فلان، وهو على ما كنت عليه. فلما مات وغيُبِّ لحقت بصاحب الموصل، فقلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه.

قدومه على أسقف نصيبين

فلم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة، قلت: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك، وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه، إلا رجلاً بنصيبين وهو فلان، فالحق به، فلما مات وغيُبِّ لحقت بصاحب نصيبين، فأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي. فقال: أقم عندي، فأقمت
عنده فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان: إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: يا بني، والله ما أعلم بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً ب عمور ية من أرضالروم، فأته فإنه على مثل ما نحن عليه، فإن أحببته فأته.

قدومه على أسقف عمورية

فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، فأخرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم، واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله. فلما حضر، قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصي بي وبم تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرضبين حرتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، ثم مات وغيب، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.

سلمان يدفع الغالي والرخيص ليصل إلى أرض العرب

ثم مربي نفر من كلب تُجاّر، فقلت لهم: احملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه. فقالوا: نعم، فأعطيتموها وحملوني معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني، فباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده، فرأيت النخل.
فرجوت أن يكون البلدة التي وصف لي صاحبي، ولم يُحقَّ عندي.
فبينا أنا عنده، إذ قدم عليه ابن عم به من بني قر يظة من المدينة، فابتاعني منه فحملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها. وبعُث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بمكة ما أقام، لا أسمع له بذكر مع ما أنا فيه من شغل الرقِّ، ثم هاجر إلى المدينة، فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل له فيه بعضالعمل وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه، قال: يا فلان قاتل الله بني قيلة، والله إنهم الآن مجتمعون بقباء على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي.
فلما سمعتها أخذتني العرُوَاء حتى ظننت أني ساقط على سيدي، فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ذلك: ما تقول؟ فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة، ثم قال: ما لك ولهذا، أقبل على عملك، فقلت: لا شيء، إنما أردت أن أستثبته عما قال، وقد كان عندي شيء جمعته.

سلمان يذهب إلى النبي ليتعرف عليه

فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت عليه، فقلت له: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة.
ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ثم جئته، فقلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي: هاتان اثنتان.
ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ب بقيع الغرقد قد تبع جنازة من أصحابه وعليَّ شملتان لي وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى الرداء عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت عليه أقبله وأبكي.

النبي يأمر سلمان أن يحكي قصته للصحابة

فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: تحول. فتحولت فجلست بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه، ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد، قال سلمان: ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب يا سلمان. فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير وأربعين أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعينوا أخاكم». فأعانوه بالنخل، الرجل بثلاثين وَدِيَةّ والرجل بعشرين ودية، والرجل بخمسة عشر، والرجل بعشر، والرجل بقدر ما عنده، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب يا سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فأتني أكن أنا أضعها بيدي.
ففقرت وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الوديَّ و يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده حتى فرغت، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن، فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ النبي يعين سلمان على التخلصمن الرق فدعيت له، فقال: خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان. قلت: وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: خذها، فإن الله سيؤدي بها عنك. فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ثم لم يفتني معه مشهد.
و عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، أن سلمان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: فاشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوم من اليهود بكذا وكذا درهماً، وعلى أن يغرس لهم كذا وكذا من النخل يعمل فيها سلمان حتى تدُرك فغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل كله إلا نخلة غرسها عمر ، فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة التي غرسها عمر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من غرسها“؟ قالوا: عمر، فقلعها وغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمت من عامها. وذكر البخاري رحمه الله حديث سلمان كما ذكره ابن إسحاق، غير أنه ذكر أن سلمان غرس بيده ودية واحدة وغرس رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرها، فعاشت كلها إلا التي غرس سلمان . هذا معنى حديث البخاري رحمه الله.