3 هـ
624 م
أَمْرُ بَنِي قَيْنُقَاعَ

نَصِيحَةُ الرّسُولِ لَهُمْ وَرَدّهُمْ عَلَيْهِ …


” “قَالَ”: وَقَدْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ ثُمّ قَالَ «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ احْذَرُوا مِنْ اللهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشِ مِنْ النّقْمَةِ وَأَسْلِمُوا، فَإِنّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنّي نَبِيّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللهِ إلَيْكُمْ» قَالُوا: يَا مُحَمّدُ إنّك تَرَى أَنّا
قَوْمُك لَا يَغُرّنّكَ أَنّك لَقِيت قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصْبَحْت مِنْهُمْ فُرْصَةً إنّا وَاَللهِ لَئِنْ حَارَبْنَاك لَتَعْلَمَنّ أَنّا نَحْنُ النّاسَ
مَا نَزَلَ فِيهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إلّا فِيهِمْ {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا} [آل عمرَان:12-13] أَيْ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٌ {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ} [آل عمرَان: 13]
كَانُوا أَوّلَ مَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ:
أَنّ بَنِي قَيْنُقَاع كَانُوا أَوّلَ يَهُودَ نَقَضُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
سَبَبُ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنّ امْرَأَةً مِنْ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبِ لَهَا، فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَجَلَسَتْ إلَى صَائِغٍ بِهَا، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كُشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ فَعَمِدَ الصّائِغُ إلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إلَى ظَهْرِهَا، فَلَمّا قَامَتْ انْكَشَفَتْ سَوْءَتُهَا، فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ. فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصّائِغ فَقَتَلَهُ وَكَانَ يَهُودِيّا، وَشَدّتْ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ فَوَقَعَ الشّرّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ.
مَا كَانَ مِنْ ابْنِ أُبَيّ مَعَ الرّسُولِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَقَامَ إلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ، حِينَ أَمْكَنَهُ اللهُ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَحْسِنْ فِي مُوَالِيّ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ، قَالَ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَحْسِنْ فِي مُوَالِيّ قَالَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ الْفُضُولِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “أَرْسِلْنِي”، وَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا، ثُمّ قَالَ «وَيْحَك أَرْسِلْنِي» ; قَالَ لَا وَاَللهِ لَا أُرْسِلَك حَتّى تُحْسِنَ فِي مُوَالِيّ أَرْبَعِ مِائَةِ حَاسِرٍ وَثَلَاثِ مِائَةِ دَارِعٍ قَدْ مَنَعُونِي مِنْ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ تَحْصُدُهُمْ فِي
غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ إنّي وَاَللهِ امْرِئِ أَخْشَى الدّوَائِرَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هُمْ لَك».
مُدّةَ حِصَارِهِمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُحَاصَرَتِهِ إيّاهُمْ بَشِيرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَكَانَتْ مُحَاصَرَتُهُ إيّاهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
تَبَرّؤُ ابْنِ الصّامِتِ مِنْ حِلْفِهِمْ وَمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي ابْنِ أبَيِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ، قَالَ:
لَمّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَبّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَقَامَ دُونَهُمْ قَالَ وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفٍ لَهُ مِنْ حِلْفِهِ مِثْلَ الّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، فَخَلَعَهُمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرّأَ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِلْفِهِمْ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَتَوَلّى اللهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفّارِ وَوِلَايَتِهِمْ. قَالَ فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ نَزَلَتْ هَذِهِ السّورَةُ مِنْ الْمَائِدَةِ {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} [الْمَائِدَة: 51-52] أَيْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ وَقَوْلُهُ إنّي أَخْشَى الدّائِرَ {يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الْمَائِدَة: 53] ثُمّ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [الْمَائِدَة: 55] وَذَكَرَ لِتَوَلّي عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَاَلّذِينَ آمَنُوا،
وَتَبَرّئِهِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَحِلْفِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ {وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ} [الْمَائِدَة: 56]


خَبَرُ بَنِي قَيْنُقَاعَ
وَقَدْ تَقَدّمَ مِنْهُ طَرَفٌ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَفِيهِ أَنّ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيّ قَالَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسِنْ فِي مُوَالِيّ وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – غَضِبَ حَتّى رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظِلَالًا، هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ مُصَحّحًا عَلَيْهِ وَفِي غَيْرِهَا ظُلَلًا جَمْعُ ظُلّةٍ وَقَدْ تُجْمَعُ فُعْلَة عَلَى فَعَالٍ نَحْوَ بُرْمَةٍ وَبِرَامٍ وَجُفْرَةٍ وَجِفَارٍ فَمَعْنَى الرّوَايَتَيْنِ إِذا وَاحِدٌ وَالظّلّةُ مَا حَجَبَ عَنْك ضَوْءَ الشّمْسِ وَصَحْوَ السّمَاءِ وَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَشْرِقًا بَسّامًا، فَإِذَا غَضِبَ تَلَوّنَ أَلْوَانًا فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَلْوَانُ حَائِلَةً دُونَ الْإِشْرَاقِ وَالطّلَاقَةِ وَالضّيَاءِ الْمُنْشَرِ عِنْدَ تَبَسّمِهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ كَانَ يَسْطَعُ عَلَى الْجِدَارِ نُورٌ مِنْ ثَغْرِهِ إذَا تَبَسّمَ أَوْ قَالَ تَكَلّمَ يُنْظَرُ فِي الشّمَائِلِ لِلتّرْمِذِيّ.
وَذَكَرَ فِيهِ الْآيَةَ الّتِي نَزَلَتْ فِيهِمْ {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمرَان:13] الْفِئَةِ عَلَى وَزْنِ فِعَة مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالْعَصَا إذَا شَقَقْته، أَوْ مِنْ الْفَأْوِ وَهِيَ جِبَالٌ مُجْتَمَعَةٌ وَبَيْنَهُمَا فُسْحَةٌ مِنْ الْأَرْضِ فَحَقِيقَةُ الْفِئَةِ الْفرْقَةُ الّتِي كَانَتْ مُجْتَمَعَةً مَعَ الْأُخْرَى، فَافْتَرَقَتْ.