2 ذو القعدة 5 هـ
28 آذار 627 م
يوميّات غزوة بني قُريظة: اليوم السابع عشر

غزوة بني قُريظة (الحصار – الليلة السابعة عشرة)

وفي ليلته لمّا رجع نبّاش بن قيس إلى اليهود بكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال قائدهم كعب بن أسد: “يا معشر بني قريظة والله إنكم لتعلمون أن محمدًا نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيًا من بني إسرائيل، فهو حيث جعله الله، ولقد كنت كارهًا لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس -يعني حُييّ بن أخطب- علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منّا، لا يستبقي محمد رجلا واحدًا إلا من تبعه، أتذكرون ما قال لكم ابن خِراش حين قدم عليكم؟ فقال لكم: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حي اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تُخدعوا عنه فاتّبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر”، ثم سكت قليلًا وقال: “فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا فنكون بمنزلة من معه”، قالوا: “لا نكون تبعًا لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنّبوة ونكون تبعًا لغيرنا؟”، فأخذ كعب يعيد عليهم النّصيحة حتى قالوا له: “لا نُفارق التّوراة ولا ندع ما كنا عليه من أمر موسى”.

قال كعب: “فهلُمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمد وأصحابه، فإن قتلنا وما وراءنا أمر نهتم به، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء”، فتضاحك حُييّ بن أخطب ثم قال: “ما ذنب هؤلاء المساكين”، وقال الزبير بن باطا ورؤساء اليهود: “ما في العيش خير بعد هؤلاء”، فقال كعب: “فواحدة قد بقيت من الرأي لم يبق غيرها، فإن لم تقبلوها فقد ذللتم وضعفتم”، قالوا: “ما هي؟”، قال: “الليلة السبت ومحمد وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتلهم، فنخرج فلعلنا نصيب منه غِرّة”، قالوا: “نفسد سبتنا؟ وقد عرفت ما أصابنا فيه؟”، قال حُيَيّ: “قد دعوتك إلى هذ وقُريش وغطفان حُضَور، فأبيت أن نكسر السبت، فإن أطاعتني اليهود نجوا”، فصاحت اليهود: “لا نكسر السبت”.

وقال نبّاش بن قيس: “وكيف نصيب منهم غِرّة وأنت ترى أن أمرهم كل يوم يشتد، كانوا أول ما يحاصروننا إنما يقاتلون بالنّهار ويرجعون الليل، فكان هذا لك قولًا: لو بيتناهم، فهم الآن يبيتون الليل، ويظلون النهار فأي غرة نصيب منهم؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا!”، فاختلفوا وندموا على نقضهم العهد وأحسوا بالعجز، وخافوا على النساء والصبيان، فقال لهم ثعلبة وأُسيد ابنا سعيّة، وأسد بن عُبيد من أقاربهم: “يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أنّه رسول الله وأن صفته عندنا، حدث بها علماؤنا وعلماء بني النضير، هذا أولهم -يعني حُيي بن أخطب- مع جُبير بن الهيّبان أصدق الناس عندنا، هو خبرنا بصفته عند موته”، قالوا: “لا نفارق التوراة”.

وقال لهم عمرو بن سُعدى وهو من قادتهم: “يا معشر  اليهود، إنكم قد حالفتم محمدًا على ما حالفتموه عليه ألا تنصروا عليه أحدًا من عدوّه وأن تنصروه ممن دهمه فنقضتم ذلك العهد الذي بينكم وبينه، فلم أدخل فيه ولم أشترك في غدركم، فإن رفضتم أن تدخلوا معه في دينه فاثبتوا على اليهوديّة وأعطوه الجزية، فوالله ما أدري أيقبلها أم لا”، قالوا: “نحن لا  نعطي أحد شيئًا، القتل خير من ذلك”، قال عمرو بن سُعدى القُرظي: “فإني بريء منكم”، فنزل الأربعة -ثعلبة وأُسيد ابنا سعيّة وأسد بن عُبيد وعمرو بن سُعدى- من الحصن وخرجوا، فوجدوا حراسات المسلمين تُحاصر الحصون يقودهم محمد بن مسلمة، وكان المسلمون قد علموا بتبري عمرو بن سُعدى من قومه وما فعلوه من نقض العهد، فعرفه محمد بن مسلمة فقال له: “مُرّ، اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام!”.

وفي صبيحته أرسلت بنو قريظة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولون: “أرسل لنا أبا لبابة بن عبد المنذر نكلمه”، فطلبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان قد جعله قائدًا على مجموعات الهجوم على الحصن، فقال: “اذهب إلى حُلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس”، فدخل عليهم أبا لبابة، فأسرعوا إليه وقالوا: “يا أبا لبابة، نحن مواليك بخلاف بقيّة الناس”، فقام كعب بن أسد فقال: “أبا بشير، قد علمت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق وبُعاث، وكل حرب كنتم فيها، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد يرفض أن يفارق حصننا حتى ننزل على حُكمه، لو زال عنّا لحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نقاتله أو نكثر عليه أبدًا”، قال أبو لبابة: “طالما هذا معكم -وأشار إلى حُيي بن أخطب- فلا يترككم حتى تهلكون” قال كعب: “هو والله ضيعني، ولا يستطيع أن يصلح ما أفسد”، فقال حُيي: “فما أصنع؟ كنت أطمع في نصركم فلمّا أخطأني واسيتك بنفسي، يُصيبني ما أصابك!”، قال كعب: “وما حاجتي أن أُقتل أنا وأنت وتُسبى ذرارينا؟”، قال حُييّ: “ملحمة وبلاء كُتب علينا”.

ثم قال كعب موجهًا كلامه لأبي لبابة: “ما ترى؟ فإنا قد اخترناك على غيرك، إن محمدًا قد رفض إلا أن ننزل على حُكمه، أفننزل؟”، قال أبو لبابة: “نعم، فانزلوا” -وأشار إلى رقبته بإصبعه بعلامة الذبح-، ثم ندم أبا لبابة فقال: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، قال كعب: “ما لك يا أبا لبابة؟”، قال أبو لبابة: “خُنت الله ورسوله!”، فنزل أبو لبابة ولحيته مبتلّة بالدموع، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون ينتظرون رجوعهم إليه، فذهب من طريق آخر من خلف الحصن فسار وحوالي 7 كم في ساعة ونصف تقريبًا حتى وصل #~~~المسجد النبوي الشريف~~~# فربط بنفسه في اسطوانة أمام باب بيت السيدة أم سلمة رضي الله عنها، وبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل أبا لبابة وذهابه للمسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دعوه حتى يُحدث الله فيه ما يشاء، لو كان جائني استغفرت له، فأما إذ لم يأتني وذهب فدعوه»، وغربت الشمس وهم بانتظار بني قُريظة يشاورون بعضهم. وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُسيد بن حُضير رضي الله عنه أن يتولى قيادة المُقاتلين بدلًا من أبي لبابة.

[^1]: وهذا بالمُصطلح القانوني الحديث يعني أنّه لا تفاوض بيننا والمسألة تم تحويلها للقضاء، وستُعرض على القاضي للبت في مسألة الخيانة التي قمتم بها، فالحُكم هنا مقصود به القضاء.