6 شوال 8 هـ
30 كانون الثاني 630 م
يوميات غزوة حُنين: اليوم الثاني

وفي ليلته أمسى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه اثنا عشر ألفًا من المسلمين قد خرجوا من مكّة بعد فتحها لصدّ الهجوم المتوقع …

من قبيلة هوازن ومن معها من قبائل العرب وعسكروا في #~~~حُنَيْن~~~#، وقد جاءتهم الأخبار بوصول جيوش هوازن وعلى رأسها مالك بن عوف الذي جمعهم وجمع قبائل ثقيف لقتال المسلمين.
وبعث مالك بن عوف -قائد هوازن- ثلاثة رجال لاستطلاع جيش المسلمين، وأمرهم أن يتفرقوا بين العسكر، فرجعوا إليه وقد أصابهم رُعب شديد جعلهم ينتفضون، فقال: “ما شأنكم ويلكم!؟”، قالوا: “رأينا رجالًا بيض على خيل بُلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، وقالوا له: “ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلا أهل السموات!، وإن أطعتنا رجعت بقومك، فإن الناس إن رأوا مثل ما رأينا أصابهم مثل الذي أصابنا. قال: “أف لكم، بل أنتم أجبن الجيش!”، وحبسهم عنده خوفًا أن ينشروا الرعب في باقي الجيش، ثم قال: “دلوني على رجل شجاع”، فأجمعوا على رجل، فأخرجه للاستطلاع أيضًا، ثم رجع إليه وقد أصابه مثل ما أصاب من ذهب قبله من الرعب الشديد، فقال مالك: “ما رأيت؟”، قال: “رأيت رجالًا بيض على خيل بُلق، ما يُطاق النظر إليهم فوالله ما تماسكت أن أصابني ما ترى”، ولم يثن هذا مالك عن الحرب.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وقال له: «انطلق فادخل في النّاس -جيش المشركين- حتى تأتي بخبر منهم وما يقول مَالِك -قائدهم-»، فخرج عبد الله بن أبي حدرد وطاف في جيش هوازن حتى وصل عند مالك بن عوف وعنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لهم: “إن محمدًا لم يُقاتل قط قبل هذه المرّة، وإنما كان يلقى أغمارًا -ليسوا أهل خبرة- لا علم لهم بالحرب، فيُنصر عليهم، فإذا كان وقت السّحَر -قبل الفجر- فصُفُّوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم ثم صُفُّوا صفوفكم، ثم تكون الحملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسور الجفن -والجفن هو جراب السيف، والمقصود أنّهم لن يتوقفوا عن القتال ولن يُدخِلوا سيوفهم في جراباتها إلا بعد الإجهاز على جميع المسلمين-، واحملوا حملة رجل واحد -اهجموا مرة واحدة-، واعلموا أن الغلبة لمن حمل -هاجم- أولًا”، فلمّا سمع ذلك عبد الله بن أبي حدرد رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بكل ما سمع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عُمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره بما قال ابن أبي حدرد، قال عُمر: “كذب ابن أبي حدرد!”، فقال ابن أبي حدرد: “لئن كذبتني لربما كذبت بالحق!”، قال عُمر: “يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد؟!”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «صدق، كنت ضالًّا فهداك الله».
واستراح الجيش وأقام أوّل الليل، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ألا فارس يحرسنا الليلة؟»، فتقدم أنيس بن أبي مرثد الغنوي على فرسه وقال: “أنا يا رسول الله”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «انطلق حتى تقف على جبل كذا وكذا، فلا تنزلن إلا مُصليًا -يعني لصلاة الصبح- أو قاضي حاجة، ولا تغُرّن من خلفك-يعني لا يخدعك العدو فيهاجمنا-».
وعبّأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيش المسلمين وصفهم صفوفًا وقت السّحر قُبيل الفجر ورتّب الرايات والألوية في الجيش كالتالي:

كتيبة المهاجرين
▪ اللواء (لونه أبيض) : علي بن أبي طالب
▪ راية (لونها أسود) : عمر بن الخطاب
▪ راية (لونها أسود) : سعد بن أبي وقاص
كتيبتا الأنصار (ورايات الخزرج حمراء ورايات الأوس خضراء).
▪ لواء الخزرج : سعد بن عُبادة -وقيل الحباب بن المنذر-.
▪ راية بني عمرو بن عوف : أبو لبابة بن عبد المنذر.
▪ راية بني ساعدة : أبو أسيد الساعدي.
▪ راية بني مالك بن النجار : عمارة بن حزم.
▪ راية بني عدي بن النجار : أبو سليط.
▪ راية بني مازن : سليط بن قيس.
▪ لواء الأوس : أُسيد بن حُضير.
▪ راية بني عبد الأشهل : أبو نائلة.
▪ راية بني حارثة : أبو بردة بن نيار.
▪ راية بني ظفر : قتادة بن النعمان.
▪ راية بني معاوية : جبر بن عتيك.
▪ راية بني واقف : هلال بن أمية.
كتائب قبائل العرب المسلمين
▪ رايات أَسْلَم
▪ الأولى : بُريدة بن الحُصيب.
▪ الثانية : جُندب بن الأعجم.
▪ راية بني غفار : أبو ذر الغفاري.
▪ راية بني ليث : أبو واقد الليثي الحارث بن مالك.
▪ رايات بني كعب بن عمرو
▪ الأولى : بشر بن سفيان.
▪ الثانية : أبو شريح.
▪ رايات بني مزينة
▪ الأولى : بلال ابن الحارث.
▪ الثانية : النعمان بن مقرن.
▪ الثالثة : عبد الله بن عمرو بن عوف.
▪ رايات جُهينة
▪ الأولى : رافع بن مكيث.
▪ الثانية : عبد الله بن يزيد.
▪ الثالثة : أبو زرعة معبد بن خالد.
▪ الرابعة : سويد بن صخر.
▪ رايات بني أشجع
▪ الأولى : نُعيم بن مسعود.
▪ الثانية : معقل بن سنان.
▪ رايات بني سُليْم (وهم على مقدّمة الجيش يقودهم خالد بن الوليد)
▪ الأولى : العباس بن مرداس.
▪ الثانية : خفاف بن ندبة.
▪ الثالثة : الحجاج بن علاط.

وعبَّأ مالك بن عوف جيوشه في وادي حُنين وفرّقهم في شِعَابِه ومَضَايِقِه -طرقه الجانبية الصغيرة-، وأمرهم أن يهجموا على المسلمين ما رأوهم دخلوا الوادي دفعة واحدة فيهزمونهم ويستفيدوا من عُنصر المفاجأة.\
ولمّا أضاء الفجر، وحضر وقت الصلاة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أأحسستم فارسكم الليلة؟»، فقالوا: “لا والله”، فأقيمت الصلاة وصلى بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلمّا سلّم، نظر صلى الله عليه وآله وسلم خلال الشجر وقال: «أبشروا، قد جاء فارسكم»، فقال: “يا رسول الله إني وقفت على الجبل كما أمرتني، فلم أنزل إلا مُصلّيًا أو قاضي حاجة حتى أصبحت، فلم أُحس أحدًا -يعني كان الجو هادئًا ولم أر تحركًا للعدو-“، قال صلى الله عليه وآله وسلم: “انطلق فانزل عن فرسك، وأقبل علينا -تعال إلى هنا-“، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: “ما على هذا أن يعمل بعد هذا عملًا -يعني قد أدى واجبه على أتم وجه-“.

وتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجيش بعد صلاة الصبح في وادي حُنين -وهو وادي منحدر- وسار الجيش على تنظيمه، وركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلته البيضاء -دُلدُل- وقد لبس درعين، ومغفر -نسيج من الدروع يلبس على الرأس-، وبيضة -الخوذة-، واستقبل الصفوف وطاف عليها وهم يتقدمون في الوادي، وحضّهم على القتال وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا ولم تشرق الشمس بعد.

وكان قد خرج من مكة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض النّاس لم يُسلموا بعد أو حدثان عهد بإسلام ولم يحسن بعد إسلامهم، ركبانًا ومُشاة يترقبون لمن يكون النصر في المعركة ويأخذون من الغنيمة ولا يكرهون أن ينتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فخرج أبو سفيان بن حرب خلف الجيش كُلّما مرّ بشيء من أدوات الحرب ساقط أخذه، والأزلام في كنانته -أحجار يحملها المشركون يقلبونها عشوئيًا قبل اتخاذ القرارات- حتى حمّل جمله بالأشياء الكثيرة، وخرج صفوان بن أميّة وهو في المهلة التي أمهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إياها أن يفكر في الإسلام، وخرج حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العُزّى، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعبد الله بن أبي ربيعة.

وسار المسلمون بقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتجاه الشَمَال داخل وادي حُنين، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: “فاستقبلنا من هوازن شيء لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط من السواد والكثرة قد ساقوا نساءهم وأموالهم وأبناءهم وذراريهم ثم صفوا صفوفًا، فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا -كما يزعمون-، فلمّا رأينا ذلك السواد حسبناه رجالًا كلهم فلمّا تحدرنا في الوادي، فبينا نحن فيه ولم تشرق الشمس كاملة، لم نشعر إلا وكتائب العدو قد هجموا علينا دفعة واحدة من مضايق وشعاب الوادي، فانكشف أوّل الخيل -وكان في مقدمة الجيش خيّالة بنو سُلَيْم- فهربوا لمّا فاجأهم العدو بالهجوم، وهرب من خرج معهم من مشركي مكّة خلف الجيش، وتبعهم أكثر المسلمين منهزمين لا يلوون على شيء -لا يلتفتون لشيء- وقد أفرغوا ميدان المعركة هاربين إلى مكّة، والتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه ويساره والناس منهزمون وهو يقول: «يا أنصار الله، وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله صابر»، ثم تقدم صلى الله عليه وآله وسلم بحربته أمام الناس، وأبو سُفيان بن الحارث -بن عمّه- معه يقف بجانب بغلته من خلفها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ثابت يتقدم نحو المشركين، فأتاه العبّاس بن عبد المطّلب -عمّه- حتى أخذ بحكمة بغلته -اللجام من ناحية الفمّ- فضربها بلجامها يهدئها ويثبتها، فلمّا رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون يهربون من الميدان قال: «لا يلوون على شيء-يعني لا يلتفتون لشيء-»، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم ملتجئًا إلى ربه سبحانه وتعالى: «اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان»، فقال له جبريل عليه السلام: “لقد لُقنت الكلمات التي لقن الله موسى يوم فلق البحر أمامه وفرعون خلفه”، ونزل عن بغلته صلى الله عليه وآله وسلم ووقف يقول:

أنا النّبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب

ثم ركب بغلته مرّة أخرى.
ولمّا هُزم المسلمون في الجولة الأولى وكرّ منهم العدد الكثير عائدين لمكّة، ظهرت ضغائن من خرج معهم على كفره ومن لم يحسن إسلامه بعد، فقال أبو سفيان بن حرب: “لا تنتهي هزيمتهم دون البحر! -يعني سيهرب المسلمون من حُنين حتى الساحل منهزمين!-“، فقال له رجل مُسلم من قبيلة أسلم اسمه أبو مقيت لأبي سفيان : “أم والله لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن قتلك لقتلتك!”[^1]، وصرخ كَلَدَة بن الحنبل -وهو أخو صفوان بن أميّة من أُمّه، أسود من سودان مكّة ما يزال على شِرْكِه- فقال: “ألا بطل السِّحْر اليوم -يقصد بهزيمة المسلمين-“، فقال له صفوان -أخوه-: “أُسكُت، فضّ الله فاك، لأن يُربّني ربّ من قُريش أحبّ إلي من أن يُربّني ربّ من هوازن -يقصد أن يحكمني محمد القُرشي خير من أن تحكمني قبيلة هوازن إن كانت الهزيمة-“، وقال سُهيل بن عمرو: “لا يجتبرها محمدٌ وأصحابه -أي ضربة قاضية لهم لا يتعافون منها أبدًا-“، فقال له عكرمة -بن أبي جهل- رضي الله عنه: “ليس بقول!، وإنما الأمر بيد الله وليس إلى محمد من الأمر شيء، إن أُديل عليه اليوم فله العاقبة غدًا!”، قال سُهيل: “إن عهدك بخلافه حديث! -يعني كلامك تغيّر يا عكرمة ولم يكن كذلك-“، قال عكرمة: “يا أبا يزيد إنّا كنّا والله نوضع في غير شيء وعقولنا عقولنا، نعبد الحجر لا ينفع ولا يضر!”.

وكانت أمّ عمارة وأم سُلَيْم بنت ملحان -أم أنس بن مالك- رضي الله عنهم في خمس نسوة والنّاس تفرّ منهزمة وهنّ واقفات يقاتلن بين يديّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي يد أمّ عمارة سيف صارم، ومع أم سُلَيْم خِنْجَر وضعته داخل حزام ربطت به وسطها -وهي حامل يومئذ بعبد الله بن أبي طلحة-، وأمّ سليط وأم الحارث رضي الله عنهن، ولمّا رأت أم عمارة هروب الناس شدّت سيفها وهي تصيح بالأنصار: “أية عادة هذه؟ مالكم وللفرار؟!”، ثم نظرت فوجدت رجل من هوازن -العدو- على جمل معه لواء يجري خلف المسلمين، فاعترضته وضربت عُرقوب الجمل -ركبته الخلفيّة- وكان جملًا عاليًا، فوقع الرجل على مؤخّرته وهرولت أم عمارة ناحيته فضربته بسيفها حتى أجهزت عليه، وجمله يخرخر يتقلب وأخذت سيفه وابتعدت عنه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يُنادي في النّاس وقد سلّ سيفه وألقى غِمدَه : «يا أصحاب سورة البقرة»، وبدأ المُسلمون يكرّون عائدون ينادون على بعضهم قائلين: “يا بني عبد الرحمن، يا بني عبيد الله، يا خيل الله!”، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمّى كتيبة الفرسان التي معه: “خيل الله”، وجعل شعار المهاجرين -كلمة السر وقت المعركة حتى يجدوا بعضهم-: “بني عبد الرحمن”، وجعل شعار الأوس: “بني عُبيد الله”، وعاد الأنصار للقتال والصابرون حول النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيهم أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : العبّاس، وعليّ والفضل بن العبّاس، وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وطائفة من المهاجرين والأنصار فيهم أيمن بن عبيد الخزرجي، وأسامة بن زيد وأبو بكر وعمر، والخمس نسوة المذكورات، وحارثة بن النّعمان رضي الله عنهم أجمعين، وهم المائة الصابرة في حُنين.

وكانت أم الحارث الأنصارية رضي الله عنها أيضًا قد أخذت جمل أبو الحارث زوجها، وكان هذا الجمل يُسمى المجسار، والجمل يريد أن يجري هاربًا في اتجاه من يهرب من ميدان المعركة فقالت: “يا حائر تترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!”، وأخذت بخطامه -مقود الجمل-، والمسلمون يولون منهزمين، وهي ممسكة بالجمل لا تفارقه، فمرّ بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالت: “يا عُمر ما هذا؟؟”، فقال عُمر: “أمر الله!”، وجعلت تقول: “يا رسول الله من جاوز بعيري فاقتله، والله ما رأيت كاليوم!، ما صنع هؤلاء القوم بنا؟! -تعني بنو سُليْم وأهل مكة الذين انهزموا وهربوا من ميدان المعركة فتبعهم الناس-“.

وكان صوت العبّاس رضي الله عنه جهوريًا، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عبّاس أُصرُخ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرة» [^2]، فصرخ العبّاس بأعلى صوته: “يا معشر الأنصار، يا أصحاب السَّمُرَة”، فأقبلوا كأنهم الإبل حنت إلى أولادها، يقولون: “يا لبيك يا لبيك، الكرة بعد الفرة”، ويحاول الرجل منهم أن يعود ببعيره فلا يستطيع -إذ الحيوانات تجري ما رأت غيرها يجري في اتجاه معيّن، والأكثرية تجري خارجة من المعركة فلا تريد الجِمَال العودة-، فيأخذ درعه ويضعه عند عُنق البعير وكذلك ترسه وسيفه حتّى يوجّه نظر البعير بهم ولا يجعله يلتفت لما حوله ويقتحم الطريق بسرعة، فينطلق عائدًا ناحية صوت العبّاس رضي الله عنه، وهو يُنادي: “يا معشر الأنصار، يا للخزرج”، وكان الخزرج مشهورين بالشجاعة والفروسيّة، حتى اجتمع عند النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يُقارب المائة، وهم يقاتلون من حوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو صلى الله عليه وآله وسلم يتضرع إلى ربه قائلًا: «اللهم إني أسألك وعدك، لا ينبغي لهم أن يظهروا»، ثم وقف صلى الله عليه وآله وسلم قليلًا في ركابه حتّى يتطلع إلى من تجمع حوله من المسلمين ويرى عددهم وهم يقاتلون من حوله، ثم قال: «الآن حَمِيَ الوطيس»، وتقدّم المشركون يشقون الصفوف والمسلمون يفرّون من الميدان حتى وصلوا عند النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أحاطت به الملائكة عليهم السلام كما وصف ذلك مقاتلي هوازن اللذين أسلموا بعد ذلك، قالوا: “حملنا عليهم حتى انتهينا إلى صاحب بغلة شهباء وحوله رجال بيض حسان الوجوه”.

وكان عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبو دجانة وأيمن بن عُبيد يُقاتلون بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رجل من هوازن -من المشركين- على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح طويل في مقدمة صفوفهم، إذا أدرك أحد من المسلمين طعنه، وكان قد أكثر القتل في المسلمين، فصمد له أبو دُجانة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فضرب أبو دُجانة جمله في رجله فوقع على الأرض، فلمّا وقع هجم عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقطع يده اليمنى وقطع أبو دجانة يده الأخرى وهما يضربانه من الجهتين حتى التقى سيفيهما فتوقفا وأجهز أحدهما عليه، فقال أحدهما للآخر: “امض ولا تعرج على سلبه -لا تضيع الوقت في أخذ ما معه من غنيمة الآن”، وهما يقاتلان ببسالة أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فاعترضهم فارس من هوازن فضرب أحدهم يد الفرس فوقع على وجهه، ثم أجهزا عليه بأسيافهما، ومرّ أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأخذ ما كان مع الأول والآخر من أسياف ودروع وغير ذلك.
ورأى أبو قتادة رجلان يقتتلان؛ مسلم ومشرك، وقد غلب المشرك المسلم وكاد يقتله، فاستدار له أبو قتادة وضرب المشرك على كتفه من الخلف، فأسرع المشرك ناحية أبو قتادة وضمّه حتى كاد يخنقه، لولا أن جُرحه من ضربة أبي قتادة نزف فسقط على الأرض، فأجهز عليه أبو قتادة وتركه لم يأخذ سلبه -سلاحه وعدته-، فلقي عُمر بن الخطاب فقال: “ما بال الناس؟ -يعني مالهم يهربون؟-“، قال عُمر: “امر الله!”.
ونظر صلى الله عليه وآله وسلم عن جانبه فوجد أبا سفيان بن الحارث رضي الله عنه -بن عمّه- يلبس خوذته كاملة لا يظهر منها إلا عينيه، فيقول له: “من أنت؟”، قال أبو سفيان: “أخوك -فداك أبي وأمي- يا رسول الله أبو سفيان بن الحارث”، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «نعم أخي، ناولني حصيات من الأرض»، فناوله أبو سفيان حفنة من حصى الأرض فأمسكها ووجه ناحية المشركين وقال: «شاهت الوجوه»، ثم رمى بها صلى الله عليه وآله وسلم في وجوه المشركين وقال: «ارجعوا…انهَزِمُوا وربَ الكعبة»، فانهزموا، ونظر صلى الله عليه وآله وسلم فوجد حارثة بن النّعمان يقاتل بين يديه فقال: «يا حارثة، كم ترى الذين ثبتوا؟»، فالتفت حارثة ورائه تحرّجًا لقلة عدد من ثبت منهم ونظر عن يمينه وشماله -حتى يقدر عددهم-، وقال: “يا رسول الله هم مائة!”، وقيل ثلاثة وثلاثون من المهاجرين وسبعة وستون من الأنصار رضي الله عنهم جميعًا [^3].

وكان شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وصفوان بن أميّة -من أهل مكة لا يزالون على الشرك- قد تعاهدا حين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حُنين أن إذا رأيا الهزيمة قد لحقت بالمسلمين أن يقتلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقامًا لمقتل أبويهما، إذ قد قتل المسلمون أبو صفوان -أمية بن خلف- في معركة بدر، وقُتِلَ عثمان بن أبي طلحة -أبو شيبة- في معركة أُحُد على يد حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه، وكذلك أخوه قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ذات المعركة.
يقول شيبة بن عثمان بن أبي طلحة يحكي عن نفسه : “قُلت: أخرج لعلي أُدرك ثأري، فلمّا انهزم أصحابه جئته عن يمينه -يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، فإذا العبّاس قائم عليه درع بيضاء كالفضّة يتطاير من حولها غبار المعركة، فقُلت: عمّه لن يخذُله!، ثم جئته عن يساره فإذا بأبي سفيان بن الحارث -ابن عمّه-، فقلت: ابن عمّه لن يخذله!، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أضربه بالسيف، إذ رُفع ما بيني وبينه نار لا دخان لها كأنها برق، وخفت أن تحرقني، فوضعت يدي على بصري ورجعت خطوات للخلف” فالتفت إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: «يا شيب… اُدنُ مني -اقترب مني-، فوضع يده على صدره، وقال: اللهم أذهب عنه الشيطان»، يقول شيبة: “فرفعت إليه رأسي وهو أحب إليّ من سمعي وبصري وقلبي!”، ثم قال: «يا شيب…قاتل الكفار»، قال شيبة: “فتقدمت بين يديه أحب والله أقيه بنفسي وبكل شيء!”.
وشاهد الصحابة الكرام سواد كثيف مثل المظلَّة أو السجّادة كأنه يهبط من السماء، فإذا هو نمل كثير نفضوه عن ثيابهم وأيقنوا أنّها آية أيدهم الله تعالى بها، وعرف المسلمون الملائكة عليهم السلام بينهم في الصفوف، رجال بيض، على خيل بُلق -جمع أبلق وهو اجتماع لوني السواد والبياض كأنّه رماديّ فاتح به بقع غامقة-، يلبسون عمائم حُمرًا قد أرخوا طرفها بين أكتافهم -ولم تقاتل الملائكة في المعركة وإنما كانت تأييدًا للمسلمين ورُعبًا للمشركين-، ولم يمض كثيرًا بعد أن ألقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجههم الحصى حتى أصابهم الرُّعب، ودخل الحصى في أجوافهم فكأنّه يرنّ كأنّه وقع في صحن من المعدن يدور فيه، فتخفق صدورهم خفقانًا شديدًا وما يستطيعون تهدئة أنفسهم من الرعب، وما فيهم من أحد إلا يشتكي التراب في عينيه -هكذا وصفوه بعد إسلامهم كما سيأتي-، وما هي إلا دقائق معدودة حتى انهزموا وهربوا وتفرَّقوا في كل وجه، ورجع كثير من المسلمين بأسرى من هوازن قد ربطوهم وكتّفوهم، وكان ممن عاد بالأسرى حبيب وعبد الله ابنا زيد، أبنا أم عمارة رضي الله عنها، فغاظها ذلك جدًا حيث أن العدو لم يألو جهدًا في قتل المسلمين والمسلمون يأسرونهم إن قدروا عليهم ولا يقتلونهم!، فقامت إلى أسير ممن أسر أولادها فقتلته، ثم وَجَدَت المسلمين يأتون بالأسارى تباعًا كثيرًا.
ولمّا انهزمت هوازن ومن معها تبعهم المسلمون يقتلون على من قدروا عليهم منهم، فنادت بنو سُليم  -وهم مسلمون- وكانوا في مقدّمة جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقودهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وكانت من جدَّات بني سُلَيْم امرأة اسمها بُكمة وهي من جدَّات هوازن أيضًا، فقالوا لبعضهم: “ارفعوا عن بني أمّكم القتل”، فكفّوا عن قتلهم ومطاردتهم بغير استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان الحرب بعد أن أخطئوا خطئًا فادحًا بالهروب من ميدان المعركة، فقال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا وصله ما فعلوا: «اللهم عليك ببني بُكمة -وبعضهم لا يعرف أن جدّتهم هذه اسمها بُكمة-، أما في قومي فوضعوا السلاح وضعًا -يعني قتالهم قريش يوم الفتح مع تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكف عن القتال حينها- وأمّا عن قومهم فرفعوا رفعًا -يعني لم يقاتلوا أقاربهم-»، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجيش بملاحقة هوازن وقال لهم: «إن قدرتم على بجاد فلا يفلتنّ منكم»، وبجاد هذا من بني سعد من قبيلة هوازن وهو مجرم حرب، فقد أتاه مرّة رجل مُسلم فأخذه بجاد فقطعه عضوًا عضوًا ثم حرّقه بالنّار، وكان قد أدرك أنه إن قُبض عليه من المسلمين فستكون عاقبته القتل، فهرب من المعركة لمّا كانت الهزيمة.
ولمّا خرج فرسان المسلمين في ملاحقة هوازن أمسكوا بِجَاد هذا والشيّماء بنت الحارث -أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة- وكانت خرجت مع بني سعد في الحرب، فلمّا أخذها الأنصار رضي الله عنهم مع الأسرى والسبايا صارت تقول لهم: «إنّي والله أخت صاحبكم!»، ولا يصدّقونها، حتى وصلوا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: “يا محمد إنّي أختك”، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وما علامة ذلك؟»، فأرته عضّة، وقالت: “عضضتنيها وأنا أحملك بوادي السرر، ونحن يومئذ نرعى ماشيتنا، أبوك أبي وأمّك أمّي، قد رضعت معي من أمّي”، فتذكّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العلامة والواقعة ووثب من مجلسه فبسط رداءه، ثم قال: «اجلسي عليه»، ورحّب بها، ودمعت عيناه وسألها عن أمّه -مرضعته حليمة السعديّة- وأبيه من الرضاعة فأخبرته بموتهما من زمن. ثم قال: «إن أحببت فأقيمي عندنا محبّة مكرمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصِلَتُك رجعت إلى قومك»، قالت: “أرجع إلى قومي”، وأسلمت، فأعطاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة عبيد وجارية.
ولمّا خرجت الشيماء من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كلمها بعض النسوة من قومها في أن تطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم العفو عن بجاد مجرم الحرب هذا، فرجعت إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: “يا رسول الله هبه لي واعف عنه”، فعفى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاها بعيرين هديّة، وسألها : «من بقي من أهلك؟»، فأخبرته بأختها وأخيها وعمّها أبو برقان، وأخبرته ببعض أقاربهم سأل عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال لها: «ارجعي إلى #~~~الجعرانة~~~# تكونين مع قومك، فإني أمضي إلى #~~~الطائف~~~#».
وكان بعض المسلمين ممن هرب من ميدان المعركة قد وصل إلى #~~~مكّة~~~#، ثم انتبهوا فعادوا بسُرعة، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم جميعًا أسهمهم من الغنيمة كمن قاتل إذ رجعوا لميدان المعركة، فقالت أم سُليم بنت ملحان -أم أنس بن مالك- رضي الله عنها وعنه:” يا رسول الله، أرأيت هؤلاء الذين أسلموك وفروا عنك وخذلوك لا تعف عنهم، إذا أمكنك الله منهم فاقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم -الذي هو رحمة الله للعالمين-: «يا أم سُلَيْم، قد كفى الله، عافية الله أوسع»، صلى الله عليه وآله وسلم.
وكانت أم سُليم بنت ملحان قد أخذت جمل زوجها أبو طلحة رضي الله عنهما، وهي تقوده من خطامه -الحبل الموضوع في فمه لقيادته- وقد جذبت رأس الجمل لأسفل ليكون قريبًا منها حتى لا يغلبها، إذ كان جملًا شديدًا، وقد شدّت وسطها ببُرد لها -مثل الحزام العريض-، ومعها خنجر في يدها، وهي هيئة المحاربة الشديدة، فلمّا رآها زوجها أبو طلحة قال: “ما هذا معك يا أم سُليم؟”، قالت: “خنجر أخذته معي، إن اقترب مني أحد من المشركين بعجته به -شققت بطنه به- [^4]، فقال أبو طلحة متعجّبًا: “ما تسمع يا رسول الله ما تقول أم سُلَيْم!”.
ولمّا عاد المسلمون لميدان المعركة وأراد بعضهم الانتقام للهزيمة التي لحقت بهم وغاظهم ما فعلته قبائل هوازن فيهم فقتلوا الرجال ووقع في أيديهم من الذريّة -الأطفال- فقتلوهم غيظًا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذريّة؟!، ألا لا تُقتل الذُريَّة، ألا لا تُقتَل الذُريَّة،  ألا لا تُقتَل الذُريَّة»، فقال أسيد بن حُضير رضي الله عنه: “يا رسول الله…أليس إنما هم أولاد المشركين؟؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أوليس خياركم أولاد المشركين؟…كل نسمة تولد على الفطرة حتى يُعرِب عنها لسانها، فأبواها يهودانها أو ينصرانها» [^5].
ولمّا انقضت المعركة، كان المسلمون يتفقدون القتلى، وكان أبو طلحة الأنصاري -زوج أم أنس بن مالك- رضي الله عنهم يجمع العتاد والسلاح من قتلى المشركين وغيرها من الغنائم، وكان من كبار قبيلة ثقيف -من المشركين- عثمان بن عبد الله، وقد حضر الحرب بعدد من الأفراس والعبيد والأموال فقتل وقُتل معه غُلام له نصراني وقد تكشَّف، فلمّا مرّ به أبو طلحة فرآه غير مختتن فصاح: “يا معشر الأنصار، أحلف بالله أن ثقيفا غُرل -لا يختتنون-“، فسمعه المغيرة بن شُعبة رضي الله عنه وكان من قبيلة ثقيف، فخاف المغيرة أن تنتشر تلك الإشاعة عن ثقيف، وكانت تلك سُبّة عند العرب إذ كانوا يختتنون متوارثين ذلك عن إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام، فأسرع إليه المُغيرة بن شُعبة وقال: “لا تفعل فداك أبي وأمي، إنما هو غلام لنا نصراني”، وأخذ المُغيرة يكشف له عن قتلى ثقيف وهو يقول: “أُريك يا أبا طلحة…ألا تراهم مختتنين؟” وأتى إلى سيد هذا العبد وكان في القتلى وكشفه فإذا هو مختتن أيضًا، فسكتوا من حينها.
وكان عبد الله بن أبي أمية رضي الله عنه هو الذي قتل عثمان بن عبد الله بن ربيعة سيد ثقيف المذكور هذا، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «يرحم الله عبد الله بن أبي أميّة، وأبعد الله عثمان بن عبد الله بن ربيعة، فإنه كان يبغض قريشًا»، وكانوا يعرفون دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحدهم بالرحمة نيله الشهادة في سبيل الله، فلمّا سمع بذلك عبد الله بن أبي أميّة قال: “إنّي لأرجو أن يرزقني الله الشهادة في وجهي هذا” [^6].
ومرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ميدان المعركة بعد انتهائها يتفقده، فوجد امرأة مقتولة والناس حولها، فقال: «ما هذا؟»، قالوا: “امرأة قتلها خالد بن الوليد -وكان في مُقدّمة الجيش ومعه بنو سُلَيْم”، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلحق بخالد بن الوليد ويخبره: “إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهاك أن تقتل امرأة أو عسيفًا -شيخًا عجوزًا-“، ورأى صلى الله عليه وآله وسلم امرأة أخرى مقتولة أيضًا فسأل عنها، فقال رجل: “أنا قتلتها يا رسول الله، أردفتها ورائي فأرادت قتلي فقتلتها”، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تُدفن.
ولمّا انهزمت هوازن وانتهت المعركة، رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيمته فدخل عليه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة -وكان قد حاول قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة، ثم هداه الله ببركة وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره ودعاءه له-، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الحمد لله الذي أراد بك خيرًا مما أردت»، وأخبره بما كان قد دّبر لقتله صلى الله عليه وآله وسلم، حسُن إسلام شيبة رضي الله عنه، وقد تولى شيبة سدانة الكعبة المشرّفة وحمل مفتاحها بعد ابن عمّه عثمان بن أبي طلحة، وما تزال سدانة الكعبة المشرّفة في أسرته إلى يوم الناس هذا وهم عائلة “الشَّيْبِي”، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيأتي في حجّة الوداع: «لا ينزعها عنكم إلا ظالم»، فلم تُنزع منهم حتى اليوم والحمد لله، وهم يفتحون الكعبة في المواسم للنظافة والزيارة.
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغنائم أن تُجمع، وأرسل من ينادي في الجيش: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغل -يأخذ ما ليس له بحق-»، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المغانم أمناء يجمعونها ويحرسونها حتى تقسيمها، وكان عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قد أخذ إبرة من الغنائم  دخل بها على امرأته فقالت: “ماذا أصبت من غنائم المشركين؟”، فقال: “هذه الإبرة، تخيطين بها ثيابك”، فأعطاها لها، فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «من أخذ شيئًا من المغنم فليردّه»، فأخذها عقيل منها وقال: “ما أرى إبرتك إلا ذهبت..”، وألقاها مع الغنائم، وكان عبد الله بن زيد المُزني قد أخذ قوسًا حارب بها المشركين، فألقاها في الغنائم أيضًا، وجعل المسلمون يأتون بما عندهم، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكُرة خيط من شَعْر، فقال: “يا رسول الله، دع هذه لي”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك»، وجاء آخر فقال: “يا رسول الله هذا الحبل وجدته حين انهزم العدو فأشدّ به على رحلي-أستخدمه لربط الأمتعة على الدابّة-؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «نصيبي منه لك، وكيف تصنع بأنصباء المسلمين؟»، ومرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبائل المقاتلين -وكانت كل قبيلة في كتيبة كما ذكرنا-، وكانوا قد وجدوا مع أحد أفرادهم برذعة -ما يوضع على الحمار للركوب- أخذها غلولًا -ليست من حقه- من الغنائم ولم يردّها، فبكّته النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ولامه ولم يعاقبه، وكبّر عليهم كما يُكبّر على الميت في صلاة الجنازة -إظهارًا للجُرم الذي ارتكبه-.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من قتل قتيلًا له عليه بيّنة-من يشهد له- فله سلبه-سلاحه وعتاده-»، فقام أبو قتادة فذكر قتيله الذي تركه في الميدان ولم يأخذ سلبه، فقام عبد الله بن أنيس فشهد له، ثم قام الأسود بن الخزاعي فشهد هل، وإذا الذي أخذ السلاح والعتاد من قتيل أبي قتادة لا ينكر أنّه قتله وكان أبو قتادة قصّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة هذا القتيل في المعركة، فقال الرجل -الذي أخذ السلاح والعتاد ولم يكن هذا قتيله-: “يا رسول الله سلب هذا القتيل عندي فأرضه مني -ائذن لي بأخذه-“، فقال أبو بكر رضي الله عنه: “لاها الله إذا!، لا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله، وعن رسوله يعطيك سلبه!”، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صدق، فأعطه إيّاه»، فأعطى الرجل السلاح والعتاد لأبي قتادة رضي الله عنه، فقال له حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: “يا أبا قتادة أتبيع السلاح؟”، فباعه أبو قتادة بسبع أواق -حوالي 120 جرام من الفضّة- [^7].
وذُكر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل في جيش المسلمين قاتل قتالًا شديدًا حتى اشتد به الجراح، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «هو من أهل النار»، فارتاب المسلمون في ذلك ووقع في أنفسهم من الخوف والقلق، فذهبوا وقد وجدوه لم يصبر على وجعه فأخذ نصلًا من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالًا ينادي: «ألا لا دخل الجنّة إلا مؤمن، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر».
ولمّا توجّه بعض هوازن وثقيف نحو #~~~نخلة اليمانيّة~~~#، وأغلبهم من بني عنزة من ثقيف، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الفرسان يلاحقونهم، فوجد أحد شباب بنو سُليْم واسمه ربيعة بن رفيع جملًا عليه إنسان في هودج مفتوح، ظنَّه امرأة فأناخ الجمل فوجده دُريد بن الصمّة وكان قد قارب عمره المائة وستين عامًا وكان من أفرس وأشجع وأشعر العرب في الجاهليّة، وكان مالك بن عوف -رئيس هوازن- قد أخرجه معهم ليحضر غزوة حُنين فانتقده دُريد انتقادًا لاذعًا كما ذكرنا، فأعرض عنه مالك بن عوف، فلمّا أناخ جمله ربيعة بن رفيع -ولا يعرف من هو ولا شأنه-، قال له دُريد: “ما تريد منّي؟”، قال ربيعة -ولم يبلغه نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الشيخ الفاني مثله-: “القتل!”، قال دُريد: “من أنت؟”، قال: “ربيعة بن رفيع السلمي”، وضربه بسيفه فلم يصبه،  قال دريد: “بئس ما سلحتك أمّك!، خذ سيفي من وراء الرحل في الهودج، فاضرب به، وارفع عن الطعام واخفض عن الدماغ، فإني كنت كذلك أقتل الرجال، ثم إذا أتيت أمّك، فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمّة، فرب يوم قد منعت فيه نساءك”، فلمّا قتله ربيعة كما وصف له دُريد، انكشف بطنه وفخذيه، فيقال أنّ عضلاته كانت كالقراطيس [^8] من ركوب الخيل، ولمّا رجع ربيعة إلى أمّه أخبرها بقتله إيّاه فقالت: “والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثًا وجزّ ناصية أبيك”، قال ربيعة: “لم أعرف!”.
وكان ممن توجّه إلى نخلة هاربًا: مالك بن عوف رئيس هوازن، فوقف على ثنيّة -طريق مرتفع بين الجبال- من الثنايا معه فرسان من أصحابه، فقال: “قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم ويحتشد آخركم”، وأشار بعيدًا لمن يستطيع منهم تمييز القادم من بعيد قال: “انظروا ماذا ترون؟”، قالوا: “نرى قومًا على خيولهم واضعين رماحهم على آذان خيولهم”، قال: “أولئك إخوانكم بنو سُليم، لا تخافوا منهم، انظروا ماذا ترون؟”، قالوا: “نرى رجالًا وضعوا رماحهم على مؤخرة خيولهم”، قال: “تلك الخزرج، ولا خوف منهم أيضًا، وهم سالكون طريق إخوانهم، انظروا ماذا ترون؟”، قالوا: “نرى أقوامًا كأنهم الأصنام على الخيل”، قال: “تلك كعب بن لؤي، وهم مقاتلوكم، انظروا ماذا ترون؟”، قالوا: “نرى رجلًا بين رجلين، معلمًا بعصابة صفراء يخبط برجليه في الأرض واضعًا رمحه على عاتقه”، قال: “ذلك ابن صفيّة الزبير، وأيم الله ليزيلنكم عن مكانكم!”، فلمّا اقتربت الخيل، ورآهم الزبير بن العوام رضي الله عنه ناوشهم حتى نزلوا من فوق الثنيَّة، وهرب مالك بن عوف بين الشجر فصعد جبل بأعلى نخلة حتى خرج على الطائف ليتحصن في قصر قُربها عند #~~~وادي لية~~~#.

[^1]: وهذا يؤكد على ما وُفقنا إليه في هامش يوميّة الاثنين 17 رمضان 8 هـ السابقة إلى أنّ النهي عن القتل يشمل أبا سفيان بن الحارث وأبا سفيان بن حرب، فالحمد لله رب العالمين.

[^2] : السَّمُرة؛ هي شجرة السَّمُر التي كانت عندها بيعة الرضوان في صُلح الحُديبيَّة والمذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18]، فذكَّرهم حين ناداهم بعهدهم وميثاقهم لله ورسوله على القتال وعلى الموت في سبيل الله، وقد ذكرناها بحمد الله في يوميّات صُلح الحُديبيّة.

[^3] : وعن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أن حارثة بن النّعمان رضي الله عنه مرّ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومًا وهو واقف عند المسجد يتكلم مع جبريل عليه السلام، فقال جبريل عليه السلام: “من هذا يا محمد؟”، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «حارثة بن النّعمان»، قال جبريل: “هذا أحد المائة الصابرة يوم حنين، وقد تكفل الله لهم بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنَّة، لو سلَّم لرددت عليه السلام”، فلمّا مضى جبريل عليه السلام، أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حارثة بن النعمان بكلام جبريل عليه السلام، فقال حارثة: “ما كنت أظنّه إلا دحية الكلبي واقف معك”،  ودحية الكلبي أحد الصحابة الكرام وكان جبريل يأتي على هيئته أو صورته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرًا، وهذه منقبة لدحية فقد كان جميل الطلعة رضي الله عنه، وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: “وكان أبو سفيان بن الحارث من الذين تكفل الله بأرزاقهم وأرزاق عيالهم في الجنة”.

[^4] : وهذا مشهد من مشاهد مشاركة الصحابيّات رضي الله عنهن في الحرب وحملهنّ السلاح دفاعًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن المسلمين، وقوّتهن وشجاعتهنّ في الدفاع عن أنفسهن، وبالعاميّة المصريّة يقولون في نفس معنى “بعجته”: “أجيب كِرْشُه” والمعنى واحد وما يزال هذا المصطلح سائدًا في الدفاع عن النفس إلى اليوم.

[^5] : وهذا نص على هديه الشريف بعدم قتل الأطفال في الحرب مهما كانت الحُجّة، وسيأتي نهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المرأة والشيخ الفاني -العجوز كبير السن-، وفيه أيضًا لفتة إلى أصل خلقة الإنسان على الفطرة النقيّة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أوليس خياركم بأولاد المشركين» في غاية البلاغة ويستوجب كثير تأمل، فدلنا على أن الهداية بيد الله وأن أصل الخيريّة في باطن الإنسان والذي قد يؤدي به لقوة الإيمان قد لا يرتبط مباشرة بالاعتقاد الأول الذي غيّر الفطرة، فخيار الصحابة كان آباؤهم مشركين.

[^6] : وسيأتي أنّه استشهد في حصار الطائف رضي الله عنه بعد ذلك بأيّام.

[^7] : روي أنّ أبا قتادة رضي الله عنه اشترى بهذا المال -120 جرام فضّة- حديقة نخل مثمرة في بني سلمة اسمها الرّديني، وكان هذا أوّل مال يستثمره ومازال يعيش منه حتى توفّي رضي الله عنه.

[^8] : المقصود أنّها ذات شكل اسطواني من تحديدها وقوّتها، وهي في عصرنا الحاضر ما زال هذا معتبرًا من مظاهر اللياقة والقوّة وتسمّى: “تقسيمة عضلات البطن” أو بالإنجليزيّة Six Packs.