وأما عظيم قدره بالنبوة، وشريف منزلته بالرسالة، …
وأنافة رتبته بالاصطفاء والكرامة في الدنيا فأمر هو مبلغ النهاية، ثم هو في الاخرة سيد ولد ادم.
وأما ما تختلف فيه الحالات في التمدح به، والتفاخر بسببه، والتفضيل لأجله، ككثرة المال. فصاحبه على الجملة معظّم عند العامة، لاعتقادها توصّله به إلى حاجاته، وتمكّنه في أغراضه، وإلّا فليس فضيلة في نفسه، فمتى كان بهذه الصورة، وصاحبه منفقا له في مهماته، ومهمات من قصده وأمّله، تصريفه في مواضعه، مشتريا به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة من القلوب. كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا. وإذا صرفه في وجوه البّر، وأنفقه في سبيل الخير، وقصد بذلك الله تعالى والدار الاخرة، كان فضيلة عند الكل بكل حال، ومتى كان صاحبه ممسكا له، غير موجّهه وجوهه، حريصا على جمعه، عاد كثره كالعدم، وكان منقصة في صاحبه، ولم يقف به على جدد السلامة؛ بل أوقعه في هوّة رذيلة البخل، ومذمّة النذلة، فالتمدح بالمال ليس لذاته، بل للتوصّل به إلى غيره، وتصريفه في متصرفاته، ونبينا صلّى الله عليه وسلّم أوتي خزائن الأرض، ومفاتيح البلاد، وأحلّت له الغنائم، ولم تحلّ النبي قبله، وفتح عليه في حياته بلاد الحجاز واليمن، وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجلب إليه كثير من أخماسها وجزيتها وصدقاتها، وهاداه جماعة من ملوك الأقاليم، فما استأثر بشيء منه، ولا أمسك منه درهما بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوّى به المسلمين، وقال: “ما يسرني أنّ لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار إلّا دينارا أرصده لديني“.
وأتته دنانير مرة فقسّمها، وبقيت منها بقية فدفعها لبعض نسائه فلم يأخذه نوم حتى قام وقسمها، وقال: “الان استرحت” ومات ودرعه مرهونة في نفقة عياله. واقتصر في نفقته وملبسه ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان يلبس ما وجده، فيلبس في الغالب الشّملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوّصة بالذهب، ويرفع لمن لم يحضره، فأنت ترى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاز فضيلة المال بالزهد فيه، وإنفاقه على مستحقيه