لقد ارتكبت قريش خطأ فادحاً عندما أعانت بالخيل والسلاح والرجال حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين، فأوقعوا بها الخسائر …
على ماء بأرض خزاعة يدعى الوتير، فاستنجدت خزاعة بالمسلمين، وقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة فأنشد أبياتا من الشعر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم».
ويذكر ابن إسحاق أن بني بكر ألجأوا خزاعة إلى الحرم وقاتلوها فيه ، ويذكر الواقدي أن قتلى خزاعة بلغوا عشرين رجلا . وقد أوضح موسى بن عقبة أن الذين أعانوا بكرا على خزاعة من زعماء قريش فيهم صفوان بن أمية، وشيبة بن عثمان، وسهيل بن عمرو، ويذكر أن الإعانة كانت بالسلاح والرقيق.
وتصرف قريش هذا نقض صريح لمعاهدة الحديبية، وعدوان سافر على حلفاء المسلمين، وقد أدركت قريش خطورة الموقف، وتشير بعض الروايات إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى قريش يخيرهم بين دفع دية قتلى خزاعة أو البراءة من حلف بكر أو القتال فاختارت القتال، ثم ندمت وأرسلت أبا سفيان إلى المدينة يطلب تجديد المعاهدة، لكنه فشل في الحصول على وعد بتجديد المعاهدة.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهز للغزو ولم يعلمهم بوجهته وحرص على السرية لئلا تستعد قريش للقتال. وقد استنفر القبائل التي حول المدينة: أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق، وقد بلغ عدد جيش المسلمين عشرة آلاف مقاتل . “وأوعب مع رسول الله المهاجرون والأنصار فلم يتخلف عنه منهم أحد”مما يدل على طاقة المسلمين العليا في حشد الجيوش في هذه المرحلة. وكان في الجيش ألف من مزينة وألف من سليم (أو سبعمائة).
وهذا العدد الكبير يدل على تعاظم قوة المسلمين ما بين صلح الحديبية وفتح مكة.
وقد أرسل حاطب بن أبي بلتعة – وهو صحابي بدري- كتابا إلى قريش يخبرها بأن المسلمين يريدون غزوها، وحملت الكتاب امرأة عجوز، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والزبير والمقداد، فأمسكوا المرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلا من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب، فسلمته لهم “فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا حاطب ما هذا؟» قال: يا رسول الله، لا تعجل علي، إني كنت امراً ملصقاً في قريش، يقول: كنت حليفاً، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين، من لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً، يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنه قد صدقكم.» فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله السورة {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] إلى آخر قوله {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ} [الممتحنة: 1]. وبذلك شرع الله عداوة الكفار ومصارحتهم ومنع موالاتهم وصداقتهم.
وفي حادثة حاطب هذه تظهر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بأمر المرأة وكتاب حاطب الذي أرسله معها. وفيها حكم الجاسوس وجواز هتك ستره، وأنه بارتكابه هذه الكبيرة لا يكفر.
وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الدينة في رمضان سنة ثمان للهجرة، وكان المسلمون صياما حتى بلغوا كديدا – وهي عين جارية تبعد عن مكة 86 كيلا، وبينهما وبين المدينة 301 كيل – فأفطروا .
وقد استخلف على المدينة أبارهم كلثوم بن حصين الغفاري .
وقد وصل الجيش الإسلامي إلى مر الظهران دون أن تعلم قريش بتحركه، وكان خروجه من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخوله لتسع عشرة خلت منه وهو المشهور في كتب المغازي. وقد وقع اختلاف في تاريخ الفتح ما بين ثلاث عشرة وست عشرة وسبع عشرة وثماني عشرة من رمضان واتفقوا أنه في رمضان سنة ثمان .
وفي طريق المسلمين إلى مكة قدم بعض زعماء المشركين، فأعلنوا إسلامهم، ففي الأبواء قدم أبو سفيان بن الحارث أخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فأسلما. وكانا شديدين في معاداة الإسلام، فكان أبو سفيان بن الحارث يهجو المسلمين ويقاتلهم في سائر الحروب عشرين سنة حتى قذف الله في قلبه الإسلام، وحسن إسلامه فكان أحد الذين صمدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين حين فر الناس . وكان عبد الله بن أبي أمية شديد العداوة للمسلمين وهو أخو أم سلمة -أم المؤمنين- لأبيها، وقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم بين السقيا والعرج على طريق (المدينة – مكة)، فأسلم وحسن إسلامه فشهد فتح مكة واستشهد في حصار الطائف.
وفي الجحفة – قرب رابغ الآن- قدم العباس بن عبد الطلب على الرسول صلى الله عليه وسلم مهاجرا ، وكان العباس قد أسلم قبل فتح خيبر، وقد وردت روايات ضعيفة تبين إسلامه قبل بدر. بل قبل الهجرة إلى المدينة . ويردُّ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم طالبه بأن يفتدي عندما أسر ببدر ولا شك أن العباس قدم خدمات جليلة للإسلام قبل دخوله فيه فقد كان يوافي الرسول صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، وكان ملاذاً للمسلمين المستضعفين بمكة.
وفي مر الظهران عسكر المسلمون وعميت أخبارهم عن قريش فخرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء الخزاعي يتحسسون الأخبار، فالتقى بهم العباس بن عبد المطلب، وكان يريد أن يرسل إلى قريش رسولاً يطلب منهم أن يخرجوا أن يخرجوا لمصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل عليهم مكة، وكان أبو سفيان وصاحباه يتناقشون بينهم في أمر الجيش المعسكر بمر الظهران وقد ظنه بعضهم “خزاعة” مما يدل على نجاح المسلمين في كتمان خبر تقدمهم إلى مكة، فلما أخبرهم العباس بأنه جيش المسلمين، سألوه عن رأيه، فطلب من أبي سفيان أن يمضي معه وبجواره إلى معسكر المسلمين، فوافق، وقابل الاثنان الرسول صلى الله عليه وسلم، فدعا أبا سفيان للإسلام فتلطف في الكلام وتردد في الإسلام فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم العباس بأن يأخذه إلى خيمته ويحضره في صباح اليوم التالي، ففعل وأسلم أبو سفيان في اليوم التالي، وأطلعه العباس على قوة المسلمين حيث استعرض الجيش أمامه، فأدرك أبو سفيان قوة المسلمين وأنه لا قبل لقريش بهم، حتى إذا مرت به كتيبة المهاجرين والأنصار وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذاً.
ومضى أبو سفيان إلى مكة فأخبر قريشا بقوة المسلمين ونهاهم عن المقاومة .
وكان سعد بن عبادة يحمل راية الأنصار عند استعراض الجيش فقال لما مر بأبي سفيان: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، فاشتكى أبو سفيان للرسول صلى الله عليه وسلم من قولة سعد فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تُكسى فيه الكعبة» . وأخذ الراية من سعد بن عبادة فدفعها إلى ابنه قيس ثم كلم سعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الراية من ابنه قيس مخافة أن يقع في خطأ، فأخذها منه.
وفي مر الظهران قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف على مكة، فعين القادة وقسم الجيش إلى ميمنة وميسرة وقلب، فكان خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى والزبير بن العوام على المجبنة اليسرى، وأبو عبيدة على الرجالة، وكانت راية الرسول صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض.
وقد فصَّل الواقدي الكلام عن توزيع الرايات وحملتها، وذكر أن عدد المقاتلين من المهاجرين سبعمائة ومن الانصار أربعة آلاف ومن سليم أربعمائة ومن جهينة ثمانمائة ومن بني كعب بن عمرو خمسمائة ومجموع هؤلاء سبعة آلاف وأربعمائة مقاتل، وأن خيل هؤلاء المقاتلين بلغت تسعمائة وثمانين . وما ذكره من العدد يخالف الروايات الصحيحة والواقدي متروك فلا يعول عليه خاصة إذا خالف غيره.
وقد جمعت قريش جموعاً من قبائل شتى ومن أتباعها لحرب المسلمين، وقصدت من ذلك أن تحمي أنفسها فإن أحرزوا نصراً أعانتهم وإلا صالحت المسلمين. فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتالهم ودخلت جيوشه حتى انتهت إلى الصفا ما يعرض لهم أحد إلا قتلوه ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها من جهة كداء ودخل خالد بن الوليد من أسفلها . وكانت مقاومة القرشيين يسيرة، حيث ذكر ابن إسحق أن عدد قتلى المسلمين في الخندمة حيث التحم خالد بن الوليد مع بعض المشركين في قتال بلغ ثلاثة من الفرسان في حين قتل من المشركين اثنا عشر رجلا . وذكر موسى بن عقبة أن قتلى المشركين بلغوا قريبا من أربعة وعشرين وقال الواقدي إنهم بلغوا ثمانية وعشرين . وقد ذكرت رواية ضعيفة أوردها الطبراني أن قتلى المشركين بلغوا سبعين قتلا .
وأقوى هذه الروايات ما ذكره ابن إسحق وموسى بن عقبة فهما أوثق كتاب المغازي، ومغازي ابن عقبة أوثق بالجملة من سيرة ابن إسحق كما أن أبا سفيان أشار إلى كثرة القتلى من قريش فربما ترجِّحُ هذه القرائن رواية موسى بن عقبة. فقد قال أبو سفيان للرسول صلى الله عليه وسلم:”يا رسول الله، أبيحت خضراء قريش، لا قريش بعد اليوم” مما يشير إلى كثرة القتلى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»فأقبل الناس إلى دار أبي سفيان وأغلق آخرون أبوابهم.
وقد خشى الأنصار أن يكون الأمان الذي أعطي لقريش دليلاً على رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بقومه ورغبة في البقاء بمكة فطمأنهم الرسول بقوله:«المحيا محياكم والممات مماتكم».
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم، وأعلن الأمان للناس سوى أربعة رجال وامرأتين أباح دماءهم ولو كانوا متعلقين بأستار الكعبة وهم: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح، وقد قتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وقتل مقيس بن صبابة في سوق مكة، وتمكن عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلنا إسلامهما وحقنا بذلك دمهما.
وقد جمع الحافظ ابن حجر أسماء الذين أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم من مفرقات الأخبار فبلغ عدد الرجال تسعة وعدد النساء ثماني . وهؤلاء الذين أهدرت دماؤهم كانوا ممن ألحق الأذى الشديد بالمسلمين، فكان في إهدار دمهم عبرة لم تسول له نفسه الظلم والطغيان على أمل أن ينجو من العقاب طمعا في رحمة الإسلام وطيبة أتباعه.
وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة أن تثأر من بني بكر في اليوم الأول من فتح مكة حتى العصر، وذلك لما كان من غدر بني بكر بخزاعة قبل الفتح رغم دخولها في صلح الحديبية.
فلما كان العصر أعلن وقف أي قتال بمكة وأوضح حرمتها فلما قتلت خزاعة رجلا تطلبه بثأر وداه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن من قتل بعد ذلك قتيلا فأهل القتيل بالخيار بين القصاص والدية
وأما عامة أهل مكة فقد نالهم عفو عام رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فقالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم. فقال:«لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم» . وقد نزلت الآية الكريمة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} [النحل: 126].
فاختار الرسول – صلى الله عليه وسلم – أن يعفو عنهم ويصبر على ما كان منهم ويدع عقوبتهم تفضلاً منه واحتسابًا فقال: «نصبر ولا نعاقب».
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى، لذلك ذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف إلى أنه لا يجوز بيع أراضي مكة ولا إجارة بيوتها ! فهي مناخ لمن سبق، يسكن أهلها فيما يحتاجون إلى سكناه من دورها وما فضل عن حاجتهم فهو لإقامة الحجاج والمعتمرين والعباد القاصدين، وذهب آخرون إلى جواز بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها، وأدلتهم قوية في حين ان أدلة المانعين مرسلة وموقوفة .
ولم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته بمكة بل ضربت له قبة في الحجون – في المكان الذي تعاقدت فيه قريش على مقاطعة بني هاشم والمسلمين- وقال عندما سأله أسامة بن زيد إن كان سينزل في بيته: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» مبينا أنه لا يرث المسلم الكافر ، وكان عقيل قد ورث أبا طالب هو وطالب أخوه وباع الدور كلها. وأما علي وجعفر فلم يرثاه لأنهما مسلمان وأبو طالب مات كافراً .
ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، بل كان خاشعا لله شاكرا لأنعمه يقرأ سورة الفتح ويرجِّع في قرائتها وهو على راحلته، بل إنه لما طاف بالكعبة استلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين وتعليماً لأمته.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حرمة مكة وأنها لا تغزى بعد الفتح ، كما أعلى من مكانة قريش فأعلن أنه لا يقتل قرشي صبراً بعد يوم الفتح إلى يوم القيامة.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحطيم الأصنام وتطهير البيت الحرام منها، وشارك في ذلك بيده فكان يهوي بقوسه إليها فتساقط وهو يقرأ {وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الاسراء: 81]. وكانت ستين وثلاثمائة من الأنصاب، ولطخ بالزعفران صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام وكانت هذه الصور داخل الكعبة، وقال: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام . وفي رواية أن صورة مريم كانت داخل الكعبة أيضاً . ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة إلى بعد أن محيت هذه الصور منها . ثم دخلها فصلى فيها ركعتين، وذلك بين العمودين المقدمين منها، وكانت مبنية على ستة أعمدة متوازية، وقد جعل باب الكعبة خلف ظهره، وترك عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة وراءه . ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة، وكانت الحجابة في بني شيبة في الجاهلية فأبقايا بأيديهم . ثم استلم الرسول صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود وطاف بالبيت مهللا مكبرا ذاكرا شاكرا، وكان غير محرم وعلى رأسه المغفر ثم لبس عمامة سوداء مما يدل على جواز دخول مكة بغير إحرام لمن لم يرد حجا ولا عمرة .
وهكذا تم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية ليعود كما أراد له الله تعالى وكما قصد ببنائه إبراهيم وإسماعيل مكانا لعبادة الله وتوحيده.
ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها، وما أن تم فتح مكة وطُهرت الكعبة حتى أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى نخلة لهدم العزى التي كانت مضر جميعا تعظمها فهدمها. وأرسل عمرو بن العاص إلى سواع صنم هذيل فهدمه . وأرسل سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة بالمشلل (ناحية قديد على طريق مكة – المدينة) فهدمها وبذلك أزيلت أكبر مراكز الوثنية حيث ذكرها القرآن الكريم {أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ} [النجم: 19] {وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ} [النجم: 19].
وفي فتح مكة نزلت سورة النصر {إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ} [النصر:1] {وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1] فقد كان العرب تنتظر نهاية الصراع بين المسلمين وقريش فلما كان الفتح أقبلت بمجموعها وبادرت لإعلان إسلامها . قال عمرو بن سلمة الجرمي: “وكانت العرب تلوّم بإسلامها الفتح يقولون: انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم” وعقب ابن إسحق على حادثة الفتح بقوله: “وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت الحرام، وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش، ودوخها الإسلام، وعرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كام قال الله عز وجل أفواجاً يضربون إليه من وكل وجه”.
وقد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة عدة خطب بيَّن في الخطبة الأولى- وكانت على باب الكعبة- دية الخطأ شبه العمد، وألغي مآثر الجاهلية وثأراتها واستثنى سقاية الحاج وسدنة البيت فاستبقاهما. وأعلن في الخطبة الثانية إبطال أحلاف الجاهلية إلا ما كان من المعاقدة على الخير ونصرة الحق وصلة الأرحام .
ثم أعلن في الخطبة الثالثة تحريم مكة وتحريم صيدها وخلاها وشجرها ولقطتها وتحريم القتال فيها وبين أن الله تعالى أحلها له ساعة وقت الفتح ،وأوضح أن لا هجرة بعد فتح مكة ولكن جهاد ونية، فلم تعد الهجرة من مكة إلى المدينة واجبا، وإن بقي حكمها من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام إلى يوم القيامة. فقد شرعت الهجرة إلى المدينة ليعبد المسلمون ربهم بأمان، وليقوى كيان الإسلام بالمدينة أمام خصومه، وليتمكنوا من حماية الدولة ثم توسيع رقعتها عن طريق الجهاد، والهجرة بعد فتح مكة لم تعد ضرورة فقد قوي كيان الإسلام وصار وجود المسلمين في ديارهم أجدى لإقامة شعائر الإسلام ونشر هداه في سائر الأرجاء، وأما الجهاد فباق إلى يوم القيامة. ولذلك بايع النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد الفتح على الإسلام والإيمان والجهاد ولم يبايعهم على الهجرة. وقد بين ابن عمر رضي الله عنه ذلك بقوله (انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار) أي ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة على من أسلم وخشى أن يفتن عن دينه.
وأوضح في الخطبة الرابعة أن من قتل له قتيل فيخير بين أخذ الدية أو القصاص.
وقد اتضحت بعض الأحكام الشرعية خلال فتح مكة، من ذلك جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية حيث صام الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيرة الجيش من المدينة حتى بلغ كديدا فأفطر.
ومن ذلك صلاته عليه الصلاة والسلام صلاة الضحى ثماني ركعات خفيفة. فهي سنة مؤكدة.
ومن ذلك أن أحق المصلين بالإمامة أكثرهم حفظاً للقرآن
ومن ذلك تحديد مدة قصر الصلاة للمسافر، حيث أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما يقصر الصلاة.
ومن ذلك إقرار أمان النساء وجوارهن حيث أجازت أم هاني رجلين من أحمائها، فأمضى الرسول صلى الله عليه وسلم جوارها. وقد أجمع أهل العلم على أن أمان المرأة جائز.
ومن ذلك تحريم نكاح المتعة بعد إجازته ثلاثة أيام فقط ثم صار حراماً إلى الأبد. وكان تحريم المتعة وإباحتها مرتين، فكانت حلالاً قبيل خيبر ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريماً مؤبداً إلى يوم القيامة واستمر التحريم.
ومن ذلك بيان حكم أن (الولد للفراش وللعاهر الحجر) وذلك من خلال قصة ابن وليدة زمعة. حيث تنازع فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة، فحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد بن زمعة لأنه ولد على فراش أبيه .
وحكم نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله كما حدث لصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وقد اعتبر عقد النكاح قائما بينهما وبين زوجتيهما لأنهما أسلما قبل انقضاء عدة الزوجتين.
ومنها حكم الوصية وأنها لا تجوز في أكثر من ثلث المال، كما تدل قصة سعد ابن أبي وقاص حين مرضه حيث نهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوصي بأكثر من الثلث.
ومنها أن للمرأة أن تأخذ من مال زوجها لنفقتها ونفقة أولادها بالمعروف دون علمه إذا امتنع عن النفقة كما في قصة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان حيث استفتت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
ومنها تحريم بيع الخمر والميتة والأصنام.
ومنها بيان حكم خضاب الشيب بالحناء أو الصفرة كما في قصة أبي قحافة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير شيبه.
ومنها تحريم الشفاعة في حدود الله عز وجل بعد بلوغها للإمام كما حدث في قصة المرأة المخزومية التي سرقت فقطعت يدها، وغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أسامة بن زيد لأنه شفع لها وقوله؛ «إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها».
وفي هذا الحديث إقرارا لمبدأ المساواة بين الناس أمام أحكام الشريعة وتحذير للحكام من أن يقيموا الحدود على الضعفاء دون الأقوياء الذين يحاولون بالوساطات والضغوط تخطي الأحكام .. ولا شك أن بقاء الدول واستقرار المجتمعات منوط بالدرجة الاولى بإقرار العدالة وإنما يجد خصوم الدولة السبيل إلى هدمها من خلال الظلم الذي يقع منها فهو مبرر لاجتماع المظلومين وحافز للتضحية من أجل إسقاطها.
ونتيجة لفتح مكة تحول ثقل معسكر الشرك من قريش إلى قبيلتي هوازن وثقيف اللتين سارعتا لملء الفراغ وقيادة المشركين لحرب الإسلام فكانت غزوة حنين وحصار الطائف.
ويؤرخ ابن إسحاق سرية الطفيل بن عمرو الدوسي في أعقاب فتح مكة، حيث أحرق ذا الكفين صنم عمرو بن حُمَمَة.