شوال 8 هـ
شباط 630 م
غَزْوَة حنين

فَلَمَّا بلغ هوازنَ فَتْحُ مَكَّة جَمَعَهُمْ مَالك بْن عَوْف النصري من بني نصر بْن مُعَاوِيَة، فَاجْتمع إِلَيْهِ قومه: بَنو نصر وَبَنُو جشم وَبَنُو سعد بْن بكر، …

وَثَقِيف، وَطَائِفَة من بني هِلَال بْن عَامر. وَلم يشهدها من قيس غير هَؤُلَاءِ. وغابث عَن ذَلِك عقيل، وقشير ابْنا كَعْب بْن ربيعَة بْن عَامر. وَبَنُو كلاب بْن ربيعَة بْن عَامر وَسَائِر إِخْوَتهم، فَلم يحضرهم من كَعْب وقشير وكلاب أحد يذكر. وحملت بَنو جشم مَعَ أنفسهم شيخهم وَكَبِيرهمْ: دُرَيْد بْن الصمَّة، وَهُوَ يَوْمئِذٍ شيخ كَبِير لَا ينْتَفع بِهِ فِي غير رَأْيه، حملوه فِي هودج لضعف جِسْمه. وَكَانَ فِي ثَقِيف سيدان لَهُم فِي الأحلاف أَحدهمَا قَارب بْن الْأسود بْن مَسْعُود بْن معتب، وَالْآخر ذُو الْخمار سبيع بْن الْحَارِث بْن مَالك. وَكَانَت الرياسة فِي جَمِيع الْعَسْكَر إِلَى مَالك بْن عَوْف النصري، فَحَشَدَ مَنْ ذَكَرْنَا، وسَاق مَعَ الْكفَّار أَمْوَالهم، وماشيتهم ونساءهم وَأَوْلَادهمْ، وَزعم أَن ذَلِك لتحمى بِهِ نُفُوسهم وتشتد فِي الْقِتَال عَن ذَلِك شوكتهم.
ونزلوا بأوطاس، فَقَالَ لَهُم دُرَيْد بن الصمَّة: مَالِي أسمع رُغَاء الْبَعِير ونهاق الْحمير وبكاء الصَّغِير ويعار الشَّاء؟ قَالُوا: سَاق مَالك مَعَ النَّاس أَمْوَالهم وعيالهم قَالَ: أَيْن مَالك؟ قيل: هَذَا مَالك، فَسَأَلَهُ: لم فعلت ذَلِك؟ فَقَالَ مَالك: لِيُقَاتِلُوا عَن أَهْليهمْ وَأَمْوَالهمْ فَقَالَ دُرَيْد: راعي ضَأْن وَالله، وَهل يرد المنهزم شَيْء؟ إِنَّهَا إِن كَانَت لَك لم ينفعك إِلَّا رجل بسلاحه، وَإِن كَانَت عَلَيْك فضحت فِي أهلك وَمَالك. ثمَّ قَالَ: مَا فعلت كَعْب وكلاب؟ قَالُوا: لم يشهدها مِنْهُم أحد، قَالَ دُرَيْد: غَابَ الْحَد وَالْجد، لَو كَانَ يَوْم عَلَاء ورفعة لم تغب عَنهُ كَعْب وكلاب ولوددت أَنكُمْ فَعلْتُمْ مَا فعلت كلاب وَكَعب، فَمن شَهِدَهَا [من بني عَامر؟] قَالُوا: عَمْرو بْن عَامر، وعَوْف بْن عَامر، قَالَ: ذَانك الجذعان من عَامر لَا ينفعان وَلَا يضران، يَا مَالك إِنَّك لم تصنع بِتَقْدِيم بَيْضَة هوَازن إِلَى نحور الْخَيل شَيْئا، ارفعهم إِلَى مُمْتَنع بِلَادهمْ وعليا قَومهمْ، ثمَّ الْقَ الصُّبَاةَ على متون الْخَيل، فَإِن كَانَت لَك لحق بك من وَرَاءَك، وَإِن كَانَت عَلَيْك كنت قد أحرزت أهلك وَمَالك. فَأبى ذَلِك مَالك وخالفت هوَازن دريدا واتبعوه، فَقَالَ دُرَيْد: هَذَا يَوْم لم أشهده وَلم يغب عني:

يَا لَيْتَني فِيهَا جَذَعْ  أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ

وَبعث إِلَيْهِم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّهِ بْن أبي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ عشَاء، فَأتى بعد أَن عرف مذاهبهم، وَأخْبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا شَاهده مِنْهُم.
فعزم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قصدهم، واستعار من صَفْوَان بن أُميَّة بن خلف الجُمَحِي دروعا، قيل: مائَة درع، وَقيل: أَرْبَعمِائَة. وَخرج النَّبِي – عَلَيْهِ السَّلَام – فِي اثنى عشر ألفا من الْمُسلمين، مِنْهُم عشرَة آلَاف صحبوه من الْمَدِينَة، وَأَلْفَانِ من مسلمة الْفَتْح، إِلَى مَا انضاف إِلَيْهِ من الْأَعْرَاب: من سليم وَبني كلاب وَعَبس وذبيان وَاسْتعْمل على مَكَّة عتاب بْن أسيد بْن أبي الْعيص بْن أُميَّة. ونهض -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مقدمته مزينة، وَفِي الميمنة بَنو أَسد، وَفِي الميسرة بَنو سليم وَعَبس وذبيان. وَفِي مخرجه هَذَا رأى جهال الْأَعْرَاب شَجَرَة خضراء، وَكَانَ لَهُم فِي الْجَاهِلِيَّة شَجَرَة مَعْرُوفَة تسمى ذَات أنواط يخرج إِلَيْهَا الْكفَّار يَوْمًا مَعْلُوما فِي السّنة يعظمونها، فَقَالُوا يَا رَسُول اللَّه اجْعَل لنا ذَات أنواط/ كَمَا لَهُم ذَات أنواط، فَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام: «اللَّه أكبر، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قوم مُوسَى: {ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] لتركبن سنَن من [كَانَ] قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة، حَتَّى إِنَّهُم لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه».

ثمَّ نَهَضَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَتَى وَادي حنين وَهُوَ وَاد من أَوديَة تهَامَة، وَكَانَ هوَازن قد كمنت فِي جَنْبي الْوَادي، وَذَلِكَ فِي غبش الصُّبْح، فَحملت على الْمُسلمين حَملَة رجل وَاحِد، فَانْهَزَمَ جُمْهُور الْمُسلمين، وَلم يلو أحد على أحد، وَثَبت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بكر وَعمر، وَمن أهل بَيته عَليّ وَالْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان بن الْحَارِث ابْن عَبْد الْمطلب، وَابْنه جَعْفَر، وَأُسَامَة بْن زيد، وأيمن بْن عبيد وَهُوَ أَيمن بْن أم أَيمن قتل يَوْمئِذٍ بحنين، وَالْفضل بْن الْعَبَّاس. وَقيل فِي مَوضِع جَعْفَر بن أبي سُفْيَان قثم من الْعَبَّاس. وَلم ينهزم رَسُول اللَّه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلَا أحد من هَؤُلَاءِ. وَكَانَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على بغلته الشَّهْبَاء وَاسْمهَا دندل وَالْعَبَّاس آخذ بحكمتها، وَرَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: «أَيهَا النَّاس، إِلَى أَيْن أَيهَا النَّاس؟! أَنا رَسُول اللَّه، وَأَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ». وَأمر الْعَبَّاس وَكَانَ جهير الصَّوْت أَن يُنَادي: «يَا معشر الْأَنْصَار، يَا أَصْحَاب الشَّجَرَة»، وَبَعْضهمْ يرويهِ: «يَا أَصْحَاب السَّمُرَةِ». وَقد قيل إِنَّه نَادَى يَوْمئِذٍ: «يَا معشر الْمُهَاجِرين»، كَمَا نَادَى: «يَا معشر الْأَنْصَار». فَلَمَّا سمعُوا الصَّوْت أجابوا: لبيْك، لبيْك. وَكَانَت الدعْوَة أَولا يَا للْأَنْصَار، ثمَّ خصصت بِأَخَرَةٍ يَا للخزرج. قَالَ ابْن شهَاب: وَكَانُوا أَصْبِر عِنْد الحروب. فَلَمَّا ذَهَبُوا ليرجعوا كَانَ الرجل مِنْهُم لَا يَسْتَطِيع أَن ينفذ ببعيره لِكَثْرَة الْأَعْرَاب المنهزمين، فَكَانَ يَأْخُذ درعه فيلبسها، وَيَأْخُذ سَيْفه ومجنه، ويقتحم عَن بعيره ويخلي سَبيله ويكر رَاجعا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذا اجْتمع حواليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائَة رجل أَو نحوهم استقبلوا هوَازن بِالضَّرْبِ.
واشتدت الْحَرْب وَكثر الطعْن والجلاد، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ركائبه، فَنظر إِلَى مجتلد الْقَوْم، فَقَالَ: «الْآن حمي الْوَطِيس». وَضرب عليُّ بْن أبي طَالب عرقوب جمل صَاحب الرَّايَة أَو فرسه فصرعه، وَلحق بِهِ رجل من الْأَنْصَار، فاشتركا فِي قَتله. وَأخذ عَليّ الرَّايَة، وَقذف اللَّه عز وَجل فِي قُلُوب هوَازن الرعب حِين وصلوا إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ واجههم وواجهوه صَاح بهم صَيْحَة وَرمى فِي وُجُوههم بالحصا، فَلم يملكُوا أنفسهم، وَفِي ذَلِك يَقُول اللَّه عز وَجل: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال:17]. و روينَا من وُجُوه عَن بعض من أسلم من الْمُشْركين مِمَّن شهد حنينا قَالَ: وَقد سُئِلَ عَن يَوْم حنين: لَقينَا الْمُسلمين فَمَا لبثنا أَن هزمناهم وأتبعناهم حَتَّى وصلنا إِلَى رجل رَاكب على بغلة بَيْضَاء، فَلَمَّا رآنا زجرنا زَجْرَة وانتهرنا، وَأخذ بكفه حصا أَو تُرَابا، فرمانا بِهِ، وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه شَاهَت الْوُجُوه فَلم تبْق عين إِلَّا دَخلهَا من ذَلِك. فَمَا ملكنا أَنْفُسنَا أَن رَجعْنَا على أعقابنا.
وَمَا استوفى رُجُوع الْمُسلمين إِلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَأسرى هوَازن بَين يَدَيْهِ، وَثبتت أم سليم فِي جملَة من ثَبت أول الْأَمر محتزمة ممسكة بَعِيرًا لأبي طَلْحَة وَفِي يَدهَا خنجر. وانهزمت هوَازن. وَملك الْعِيَال وَالْأَمْوَال. واستحر الْقَتْل فِي بني مَالك من ثَقِيف فَقتل مِنْهُم خَاصَّة يَوْمئِذٍ سَبْعُونَ رجلا مِنْهُم رئيساهم: ذُو الْخمار وَأَخُوهُ عُثْمَان ابْنا عَبْد اللَّهِ بْن ربيعَة، وَلم يقتل من الأحلاف إِلَّا رجلَانِ، لِأَن قَارب بْن الْأسود – وَكَانَ سيدهم يَوْمئِذٍ – فر بهم حِين اشْتَدَّ أول الْقِتَال. واستحر الْقَتْل فِي بني نصر بْن مُعَاوِيَة. وهرب مَالك بْن عَوْف النصري فِي جمَاعَة من قومه، وَدخل الطَّائِف مَعَ ثَقِيف. وانحازت طوائف من هوَازن إِلَى أَوْطَاس. وَأدْركَ ربيعةُ بْنُ رفيع بْن أهبان السّلمِيّ من بني سليم دُرَيْدَ بْن الصمَّة، فَقتله، وَقد قيل إِن قَاتل دُرَيْد هُوَ عَبْد اللَّهِ بْن قنيع بْن أهبان من بني سليم، وَقد قيل إِن دريدا أسر يَوْمئِذٍ وَأمر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتْله لمشاهدته الْحَرْب وَمَوْضِع رَأْيه فِيهَا. وَلما انْقَضى الصدام نَادَى منادى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قتل قَتِيلا عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه».
وَبعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عَامر الْأَشْعَرِيّ واسْمه عبيد وَهُوَ عَم أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي طَائِفَة من الْمُسلمين مِنْهُم أَبُو مُوسَى إِلَى من اجْتمع من هوَازن بأوطاس. فَشد على أبي عَامر أحد بني دُرَيْد بْن الصمَّة فَقتله، قيل: رَمَاه سَلمَة بْن دُرَيْد بْن الصمَّة بِسَهْم فَقتله. وَأخذ أَبُو مُوسَى الرَّايَة، وَشد على قَاتل عَمه فَقتله. وَقيل: بل رمى أَبَا عَامر رجلَانِ من بني جشم، وهما: الْعَلَاء وأوفى ابْنا الْحَارِث، أصَاب أَحدهمَا قلبه وَالْآخر ركبته، ثمَّ قَتلهمَا أَبُو مُوسَى، وَقيل: بل قتل أَبُو عَامر تِسْعَة إخْوَة من الْمُشْركين مبارزة، يَدْعُو كل وَاحِد مِنْهُم إِلَى الْإِسْلَام ثمَّ يحمل عَلَيْهِ فيقتله، ثمَّ حمل عَلَيْهِ عاشرهم فَقتله. ثمَّ أسلم ذَلِك الْعَاشِر بعد ذَلِك.

تَسْمِيَة من اسْتشْهد من الْمُسلمين يَوْم حنين
وَاسْتشْهدَ من الْمُسلمين يَوْم حنين أَرْبَعَة رجال: أَيمن بْن عبيد، وَهُوَ أَيمن بْن أم أَيمن أَخُو أُسَامَة بْن زيد لأمه. وَيزِيد بْن زَمعَة بْن الْأسود بْن الْمطلب بْن أَسد، جَمَحَ بِهِ فرسه، فَقتل. وسراقة بْن الْحَارِث بْن عدي من بني العجلان من الْأَنْصَار. وَأَبُو عَامر الْأَشْعَرِيّ.
وَكَانَت وقْعَة هوَازن «وَهِي» يَوْم حنين فِي أول شَوَّال من السّنة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة وَترك رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم الْغَنَائِم من الْأَمْوَال وَالنِّسَاء والذراري، فَلم يقسمها حَتَّى أَتَى الطَّائِف.