بعد أن شتت المسلمون هوازن وتعقبوها في نخلة وأوطاس اتجهوا إلى مدينة الطائف التي تحصنت فيها ثقيف ومعهم مالك بن عوف النصري …
قائد هوازن.
وكانت الطائف تمتاز بموقعها الجبلي وبأسوارها القوية وحصونها الدفاعية، وليس إليها منفذ سوى الأبواب التي أغلقتها ثقيف بعد أن أدخلت من الأقوات ما يكفي لسنة كاملة، وهيأت من وسائل الحرب ما يكفل لها الصمود طويلاً، وكان وصول المسلمين إلى الطائف في حدود العشرين من شوال دون أن يستجم الجيش طويلاً من غزوة حنين وسرايا نخلة وأوطاس التي بدأت في العاشر من شوال واستغرقت أكثر من أسبوع.
وقد حاصر المسلمون الطائف بضع عشرة ليلة في رواية عروة بن الزبير وموسى بن عقبة، وحدَّدت رواية عن عروة أيضاً المدة بنصف شهر، ورغم أن سائر هذه الروايات مراسيل لا تقوم بها حجة فإن عروة وموسى من أجلّ كتاب المغازي وأوثقهم، وروايتهما تتفق مع تواريخ الأحداث وسياقها، وزعمت روايات أخرى أن الحصار استمر خمسة وعشرين يوماً أو شهراً أو أربعين يوماً ، والقول بهذا لا يتفق مع تواريخ الأحداث الأخرى وسياقها، وخاصة إذا قلنا أن الحصار دام أربعين يوماً. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم وصل إلى المدينة لست ليال بقين من ذي القعدة بعد أن مكث بضع عشرة ليلة في الجعرانة ثم قام بالعمرة ثم عاد إلى المدينة ويحتاج ذلك إلى ثمانية عشر يوماً على الأقل بعد فك الحصار عن الطائف.
وقد سلك المسلمون في تقدمهم نحو الطائف الطريق القديم الذي يدخل الطائف من ناحية الجنوب. فمروا على نخلة اليمانية ثم قرن المنازل – على بعد 80 كيلاً عن مكة و 53 كيلاً جنوب الطائف – ثم المليح من وديان الطائف ثم بحرة الرغاء على بعد 15 كيلاً جنوب الطائف وهي طريق طويلة إذا قورنت بالطريق المسفلت بين مكة والطائف وطوله 90كيلاً لكن الطائف يستحيل اقتحامها من ناحية الشمال حيث التضاريس الجبلية المعقدة التي تعطيها تحصيناً طبيعياً، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يحول بين ثقيف وبين أمدادها من هوازن شرق وجنوب الطائف.
وقد نزل المسلمون قريباً من حصون الطائف فكانوا في متناول سهام ثقيف فأصيب بعضهم فتحولوا بعسكرهم إلى الموضع الذي بنى فيه مسجدهوهو المعروف اليوم بمسجد عبد الله بن عباس، والطائف قديماً كانت إلى الجنوب الغربي من المسجد وكان القتال تراشقاً بالسهام على بعد، وقد استخدم المسلمون آلة من الخشب الثخين المغلف بالجلود مركبة على عجلات مستديرة احتموا بها من السهام حتى وصلوا إلى الأسوار ليثقبوها، فألقت ثقيف عليهم قطع حديد محماة فأحرقت “الدبابة” – وهو اسم الآلة – وخرج المقاتلون من تحتها فأصابتهم السهام وهذه هي أول غزوة يستخدم فيها المسلمون آلات لضرب الحصون، وقد اشتهرت جرش اليمانية – التي لا تزال أطلالها قائمة أعلى وادي بيشة – بصناعة الدبابات والمجانيق والضبور. ويذكر ابن إسحق أن اثنين من وجوه ثقيف كانا يتعلمان في جرش صنعة هذه الآلات للاستفادة منها في الدفاع عن الطائف.
أما عن حصول المسلمين على آلات الحرب هذه حيث ضربوا الحصون بالمنجنيق فقد ذكر أن خالد بن سعيد بن العاص جاء بمنجنيق ودبابتين من جرش في حين تفيد رواية أخرى أن سلمان الفارسي عمل المنجنيق بيده.
ومن الواضح أن آلات فك الحصار لم تكن متوافرة للمسلمين بالقدر الكافي.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريق بساتين العنب والنخيل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف التي ناشدته ألا يفعل فتركها بعد أن أحدثت المحاولة أثرها في إضعاف معنوياتهم.
وكذلك وجه نداء لعبيد الطائف أن من ينزل منهم من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامها.
ورغم ما واجهته ثقيف من وابل السهام التي أمطرها بها المسلمون لينالوا درجة في الجنة وعدهم بها رسول الله، فإنها صمدت أمام الحصار بكبرياء وإصرار.
وقد كثرت الجراحات في المسلمين. واستشهد منهم اثنا عشر رجلا. في حين لم يقتل من المشركين سوى ثلاثة بسبب امتناعهم بالحصون والأسوار.
وتدل رواية صحيحة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد بحصار الطائف فتحها، بل كسر شوكة ثقيف وتعريفها بأن بلدها في قبضة المسلمين، وأنهم متى شاءوا دخلوها. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم ليشق على المسلمين ويكثر من تقديم الشهداء لفتح بلد حصين يحيط به الإسلام من كل مكان وليس له إلا الإسلام أو الاستسلام طال الوقت أم قصر، كما أنه كان يحرص على ثقيف حرصه على قريش من قبل، فهم إن تحولوا إلى الإسلام كانوا مادة له، فهم أهل فطنة وذكاء، وكان يطمح لإسلامهم وقد سعى لنشر الدعوة فيهم منذ المرحلة المكية ودعا لهم بالهداية بعد أن رفضوا دعوته وآذوه، وقد سأله بعض الصحابة أثناء حصار الطائف أن يدعو على ثقيف فدعا لهم بقوله: «اللهم إهد ثقيف».
لا غرابة إذاً في أن يدعو الرسول أصحابه إلى فك الحصار، فلما رأى حرصهم على القتال في أوله سمح لهم ببعض المناوشات التي أثبتت لهم أن لا جدوى من القتال، عندئذ أعاد عليهم الرسول فكرة فك الحصار فأظهروا الرضا بهذا القرار الحكيم. وعادوا إلى الجعرانة، فوصلوها في اليوم الخامس من ذي القعدة.
وفي الجعرانة كانت تقبع غنائم حنين الجليلة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخَّر قسمتها، ولم يعجل بالقسمة حتى بعد عودته من حصار الطائف – سوى بعض الفضة التي قسمها إثر العودة من حصار الطائف-، بل انتظر بضع عشرة ليلة متطلعاً إلى قدوم هوازن عليه ودخولها في الإسلام، لكنها أبطأت عليه، فقسم الغنائم. والأصل أن الغنيمة يؤخذ منها الخمس يتصرف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وفقاً للتوجيه القرآني{وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} [الأنفال: 41].
وأما الأربعة الأخماس الأخرى فهي حصة المقاتلين الذين شهدوا القتال، توزع بينهم بالتساوي للرجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه. هذا في غنيمة الأموال المنقولة، وأما الأموال غير المنقولة فالإمام مخير فيها بين قسمتها أو وقفها واعتبارها ملكاً عاماً للدولة. والأموال التي يحوزها المسلمون في القتال هي الغنيمة التي تقسم كما ذكرت، وأما الأموال التي يحوزونها دون قتال فتسمى بالفيء ويصرف في المصالح العامة وفقاً لاجتهاد الحاكم، وقد يعطي الحاكم النفل لبعض المقاتلين المبرزين من الغنيمة قبل إخراج الخمس منها أو بعده، كما يجوز أن يعطيهم من الخمس، وكذلك يأذن لهم بأخذ سلب من قتلوه من المشركين.
قال أنس بن مالك: “إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها”.
وقد عبر بعض المؤلفة قلوبهم عن أثر ذلك فقال صفوان بن أمية “لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما ربح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي”.
لقد كان صفوان بن أمية من المؤلفة قلوبهم، وكان يحب أن يناله من أعطيات الرسول صلى الله عليه وسلم فكلما أعطاه سأله المزيد، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم نظرة الإسلام إلى المال ووعظه، فإذا به يرغب حتى عن أخذ عطائه السنوي من بيت المال! مما يوضح ما حدث من تحول عظيم في نفوس المؤلفة قلوبهم التي تشبعت بمعاني الإسلام على مر الأيام.
وقد تأثر بعض المسلمين في بداية الأمر لعدم شمولهم بالأعطيات فكان لابد من بيان الحكمة لهم في ذلك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم موضحا:«والله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليَّ من الذي أعطي، ولكن أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير».
وقال: «إني لأعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتألفهم».
وقال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار».
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار وجدوا في أنفسهم لعدم أخذهم شيئاً من الأعطيات، وأن بعض أحداثهم قالوا: “إذا كانت الشدة فنحن ندعي، وتعطى الغنائم غيرنا”. وقالوا: “يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم”. فجمعهم في قبة من أدم وقال: «إن قريشاً حديث عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم، لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار» فلما وضحت لهم الحكمة من التوزيع، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وكلهم إلى إيمانهم، فهم مثال للتضحية والتجرد في سبيل العقيدة، يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع، ولم تكن الدنيا همهم ولا المال مقصدهم، فلما عرفوا سبب منع الأعطيات عنهم أعلنوا رضاهم بذلك ما دام فيه إعزاز الإسلام ومصلحة العقيدة التي يفتدونها بكل عزيز وغال من نفس ومال. وكيف لا يرضون وقد أدركوا أن الرسول القائد قدمهم على سواهم، واعتمد على إخلاصهم للعقيدة ووكلهم إلى إيمانهم فكانوا عند حسن ظنه بهم، فقد بكوا بعد سماع كلامه وقالوا: “رضينا برسول الله قسماً وحظاً”.
وقد أظهر بعض الأعراب المشتركين في غزوة حنين جفاءً وغلظة عند قسمة الغنائم بالجعرانة، فقال أحدهم مخاطباً الرسول عليه الصلاة والسلام: “اعدل، فقال: «شقيت إن لم أعدل». وقد غضب عمر بن الخطاب من كلام الأعرابي فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بقتله، فأبى عليه وقال: «معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي».
ولا غرابة في موقف الأعراب وهم إنما خرج معظمهم طلباً للغنائم، وقد ازدحموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم غنائم حنين حتى علق رداؤه بغصن شجرة، فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان عدد هذه العضاة – شجر الشوك وكان يملأ المكان – نعماً لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً». ثم أخذ وبرة من سنام بعير وقال: «والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم» ثم ذكر لهم تحريم أخذ شيء من الغنائم قبل قسمتها فجاء رجل أنصاري بخيوط شعر مكببة كان قد أخذها من الغنائم فألقاها. ولما مات كركرة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «هو في النار» ففتشوا في متاعه فوجدوا عباءة قد غلَّها.
وهكذا كانت تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة لحماية الأموال العامة، وموقف الأنصاري يدل على الورع والالتزام بأوامر الرسول حتى في المال اليسير الذي لا قيمة له مثل خيوط الشعر التي أعادها.
وقد ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الصبر على جفاء الأعراب وطمعهم في الأموال وحرصهم على المكاسب، فكان مثالاً للمربي الذي يدرك أحوالهم وما جبلتهم عليه بيئتهم وطبيعة حياتهم من القساوة والفظاظة والروح الفردية، فكان يبين لهم خلقه ويطمئنهم على مصالحهم ويعاملهم على قدر عقولهم، فكان بهم رحيماً، ولهم مربياً ومصلحاً، فلم يسلك معهم مسلك ملوك عصره مع رعاياهم الذين كانوا ينحنون أمامهم أو يسجدون وكانوا دونهم محجوبين، وإذا خاطبوهم التزموا بعبارات التعظيم والإجلال كما يفعل العبد مع ربه. أما الرسول عليه الصلاة والسلام فكان كأحدهم يخاطبونه ويعاتبونه، ولا يحتجب عنهم قط،وكان الصحابة، رضوان الله عليهم، يراعون التأدب بحضرته ويخاطبونه بصوت خفيض، ويكنون له في أنفسهم المحبة العظيمة. وأما جفاة الأعراب فقد عنفهم القرآن الكريم على سوء أدبهم وجفائهم وارتفاع أصواتهم وجرأتهم في طبيعة مخاطبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد قسمة الغنائم، قدم وفد من هوازن يعلن إسلامها، ويطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم رد الأموال والسبي عليهم، فخيَّرهم بين السبي والمال، فاختاروا السبي، فخطب الرسول في المؤمنين فقال: «إن إخوانكم هؤلاء جاءونا تائبين، وإني أردت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب أن يكون على حظه نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل». فقال الناس: طيبنا يا رسول الله لهم. فقال لهم: «إنا لا ندري من أذن منكم فيه ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم»، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم طيبوا وأذنوا.
ويلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يعود السبي إلى هوازن عن طيب نفس المقاتلين، لأن الغنيمة من حقهم، فلا بد أن يتنازلوا عنها برضاهم ووعد من لا يرضى بتعويضه عن السبي، وتأكد من ذلك عن طريق العرفاء المسئولين عن الجند. وقد تنازل معظم الجند عن السبي سوى الأقرع بن حابس وتكلم باسم قبيلة تميم كلها وعيينة بن حصن وتكلم باسم قبيلة فزارة، فوعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعويضهم عنها وهذا يدل على أن قدوم وفد هوازن كان بعد تقسيم الأموال والسبي وليس قبل ذلك كما تشير رواية لابن إسحق.
وقد سر الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف النصري، فأخبروه أنه بالطائف مع ثقيف، فوعدهم برد أهله وأمواله عليه وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلماً، فجاءه مالك مسلماً فأكرمه وأمَّره على قومه وبعض القبائل المجاورة الأخرى.
وقد حسن إسلام مالك، فكان يقاتل ثقيفاً في الطائف حتى ضيَّق عليهم. وفكر زعماؤهم في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركاً ولا تجارة، ومال بعض زعمائها إلى الإسلام مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه، وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوباً عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذَّن في أعلى منزله فرماه بعضهم بسهام فأصابوه، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف.
ولكن زعماء ثقيف كانوا يحسون بحراجة موقفها، ويسعون لتأمين أنفسهم وأموالهم، فأرسلوا في رمضان من العام التاسع – بعد عودته صلى الله عليه وسلم من تبوك – وفداً منهم برئاسة عبد ياليل بن عمرو ومعه ثلاثة من بني مالك واثنين من الأحلاف، وقد لقيهم المغيرة بن شعبة في وادي قناة شمال المدينة بيسير، فأخبر بقدومهم أبا بكر الذي سارع لتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علمهم المغيرة تحية الإسلام وأدب مخاطبة الرسول وقد أنزلهم الرسول في قبة في ناحية مسجده ليستمعوا القرآن ويشاهدوا صلاة المسلمين فيه، وقد أعلنوا إسلامهم، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، وقد طلبوا من الرسول أن يؤخر هدم اللات ثلاث سنين – خوفا من غضب قومهم – فأبى إلا أن يهدمها، ولكنه أعفاهم من القيام بذلك وأرسل أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمها، كما طلبوا إعفاءهم من الصلاة لأنهم يرون فيها دناءة!! لما فيها من انحناء وسجود لله تعالى، وكأنهم نسوا أنهم يفعلون ذلك للات وغيرها من الأصنام والأحجار!! فأبى عليهم قائلا: «لا خير في دين ليس فيه ركوع». واشترطوا إعفاءهم من الزكاة والجهاد، وقد وافقهم، وسمعه جابر بن عبد الله يقول «سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا». وسألوه أن يسمح لهم بترك الوضوء بحجة أن بلادهم باردة، وأن ينتبذوا في الدباء (القرع)، وأن يعيد لهم أبا بكرة الثقفي فأبى عليهم ذلك كله.
وكان عثمان بن أبي العاص أحرصهم على تعلم القرآن والتفقه في الدين فأمره الرسول على الطائف، وكان أصغرهم سناً .
وبعد إسلام وفد ثقيف سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة كثيرة تتعلق بأمور دينهم، حتى سألوا الصحابة عن كيفية تقسيم القرآن إلى أحزاب فقالوا: “كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصل من قاف حتى يختم”. وهو نفس ترتيب القرآن المعروف الآن، ويبدوا أن الوفد تأثر بمقابلاته مع الرسول صلى الله عليه وسلم وباختلاطه مع الصحابة وما جرى من حوار بينهم وبين المسلمين حتى أنهم صاموا ما بقي عليهم من شهر رمضان.
وقد مكث الوفد خمسة عشرة يوما في المدينة ثم عادوا إلى الطائف ومعهم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة الثقفي ليهدما اللات، وقد حكى ابن إسحق وصفا لحادثة هدم اللات واجتماع النساء الثقفيات حولها يبكين حتى أتم المغيرة هدمها وأخذ مالها من الذهب والجزع. وأهل الطائف يظنون أنها ستثأر لنفسها وقد سخر منهم المغيرة فرمى معوله وركض فقالوا: ثأرت الربة! فضحك ونصحهم بتوحيد الله وعاد فأنجز عمله. وبذلك زالت أسطورة اللات التي عبدت طويلا من دون الله.
وفيما يلي بيان أهم الأحكام المستنبطة من هذه الغزوة، لما في بيان تواريخ التشريعات من فوائد عظيمة فبها يعرف الناسخ والمنسوخ فيمكن الترجيح عند التعارض، وتبين علل الأحكام بمعرفة الظروف والملابسات التي أحاطت بتشريعها.
الأحكام المستنبطة من غزوة حنين والطائف:
1 – نزول الآية الكريمة {وَٱلْمُحْصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَٰنُكُمْ} [النساء: 24] في يوم أوطاس لبيان حكم المسبيات المتزوجات، وقد فرق السبي بينهن وبين أزواجهن، فأوضحت الآية جواز وطئهن إذا انقضت عدتهن، لأن الفرقة تقع بينهن وبين أزواجهن الكفار بالسبي وتنقضي العدة بالوضع للحامل وبالحيض لغير الحامل.
2 – منع المخنثين خلقة من الدخول على النساء الأجنبيات، وكان ذلك مباحاً إذ لا حاجة للمخنث بالنساء، وكان سبب المنع سماع الرسول صلى الله عليه وسلم أحد المخنثين يصف بادية بنت غيلان الثقفي قبيل حصار الطائف. وفي المنع حيطة لأخلاق المجتمع الإسلامي.
3 – النهي عن قصد قتل النساء والأطفال والشيوخ والأجراء ممن لا يشتركون في القتال ضد المسلمين.
4 – إقامة الحد في دار الحرب، حيث فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بشارب الخمر في يوم حنين.
5 – جواز الاستعانة بالمشركين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم باستعارة الدروع من صفوان ابن أمية مع ضمانه صلى الله عليه وسلم لها، ولا تكون الاستعانة بهم إلا بشرط الوثوق بهم، وألا يغلبوا على المعركة ويصبغوها بصبغتهم، بل يكون حكم الإسلام هو الغالب.
6 – جواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من الغنيمة، إذا رأى الإمام أن ذلك يعين على دخولهم في الإسلام أو دفع أذاهم عن المسلمين، أو جلب نفع للمسلمين. قال أنس بن مالك: “إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها”.
7 – تشريع العمرة من الجعرانة.