5 هـ
627 م
غزوة الخندق (الأحزاب)

وقد جرت غزوة الأحزاب في شوال سنة خمس، وهو قول جمهور العلماء ومنهم ابن إسحق والواقدي ومن تابعهم ، ونقل عن الزهري ومالك …

بن أنس وموسى بن عقبة أنها سنة أربع، ولا اختلاف بين القولين في الحقيقة، لأن القائلين أنها سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول، فتكون غزوة بدر عندهم في السنة الأولى وأحد في الثانية والخندق في الرابعة، وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة . فإذاً لا اختلاف بين المؤرخين في أن الخندق في السنة الخامسة. وقد شذ ابن حزم بقوله أنه لم يكن بين أحد والخندق سوى سنة واحدة، وبني رأيه على ظاهر حديث عبد الله بن عمر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رده يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة . ولكن البيهقي وابن القيم والذهبي وابن حجر فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة. وهو الموافق لقول جمهور علماء السيرة.
وتعتبر غزوة الأحزاب للمدينة حلقة من حلقات الصراع العسكري بين المسلمين وقريش فالحرب معلنة بين الطرفين، ولا حاجة لتلمس الأسباب الرئيسية لوقوع القتال، ولكن ثمة عوامل مباشرة في التأثير يمكن بيانها، فغزوة الأحزاب جاءت على أثر إخفاق قريش في تحرير طرق تجارتها إلى الشام في غزوة أحد، فقد أوقع المشركون خسائر بالمسلمين في أحد، لكنهم عجزوا عن القضاء عليهم أو دخول بلدتهم، وظلت طرق التجارة القرشية مهددة، ونشطت سرايا المسلمين وغزواتهم بعد أحد حتى محت آثار أحد في المدينة والبوادي معاً، فكانت قريش تفكر بالقيام بعمل عسكري يحسم الموقف لصالحها بالقضاء على المسلمين في المدينة قضاء مبرماً، ونظراً إلى أن قوة قريش وحدها لا تكفي لإنجاز المهمة، فقد سعت قريش إلى التحالف مع الآخرين لحرب المسلمين، وجاءت الفرصة المواتية عندما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة، فذهب عدد من زعمائهم الموتورين إلى خيبر، ومن هناك بدأوا اتصالاتهم بقريش والقبائل الأخرى للثأر لأنفسهم والعودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة، وهكذا خرج وفد منهم إلى مكة فيهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشاً إلى حرب المسلمين ووعدوهم أن يقاتلوا معهم وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزلت في ذلك الآية {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطفان الكبيرة على حرب المسلمين وهكذا تحالف الأحزاب بجهود من يهود بني النضير . ويذكر موسى بن عقبة أن وفد اليهود وعد غطفان بنصف ثمر خيبر لإغرائها بالمشاركة في التحالف .
وكان مكان تجمع جيش قريش وحلفائها في مر الظهران التي تبعد أربعين كيلاً عن مكة، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم  وكنانة وأهل تهامة والأحابيش، ثم تحركوا نحو المدينة حتى نزلوا بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة. أما غطفان وبنو أسد فنزلوا بذنب نقمي إلى جانب أحد وقد سمى السيوطي القبائل النجدية المشاركة – ومعظمها فروع من غطفان – وهي: غطفان وبنو سليم وبنو أسد وفزارة وأشجع وبنو مرة .
وما أن علم المسلمون بخبر تجمع الأحزاب لغزوهم حتى بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم باستشارتهم فيما ينبغي عمله لمواجهة الموقف، وكان هذا دأبه في المواقف كلها تأليفاً لقلوب أصحابه ويقتدي به من بعده وليستخرج منهم الرأي فيما لم ينزل فيه وحي من أمر الحرب والأمور الجزئية الأخرى ، وتدريباً لهم على التفكير بالمشاكل التي تواجه المجتمع والدولة فيظهر فيهم القادة النابهون والساسة المتمرسون، وليشعروا بمسئوليتهم تجاه القضايا العامة ومشاركتهم فيها.
وقد أشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق في المنطقة الشمالية من المدينة ليربط بين طرفي حرة واقم وحرة الوبرة، وهي المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة، أما الجهات الأخرى فكانت كالحصن تتشابك فيها الأبنية وأشجار النخيل وتحيطها الحرات التي يصعب على الإبل والمشاة السير فيها .
ولم يعترض أحد على خطة الدفاع عن المدينة، فقد كانت جموع الأحزاب كبيرة، وكانت دروس أحد ماثلة قريبة، والخندق يشكل حاجزاً يمنع الالتحام المباشر بين الغزاة والمسلمين، ويمنع اقتحام المدينة، ويوفر للمسلمين موقعاً دفاعياً جيداً، فيكبدون الغزاة الخسائر برشقهم بالسهام من رواء الخندق.

وشرع المسلمون بحفر الخندق، وكان يمتد من أم الشيخين طرف بني حارثة شرقاً حتى المذاذ غرباً ، وكان طوله خمسة آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة. وكان على كل عشرة من المسلمين حفر أربعين ذراعاً . وقد تولى المهاجرين الحفر من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصار من حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب .

وقد تم الحرف بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المدينة في ذلك الوقت . فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يخلط بدهن سنخ (متغير الرائحة لقدمه) ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع .
وأحياناً لا يجدون سوى التمر ، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعاماً.
ولكن حرارة الإيمان طغت على آثار البرد والجوع القارصين، فكان المسلمون يعملون بقوة ويحملون التراب على أكتافهم، وفيهم من كان لا يخدم نفسه من التجار والزعماء، وقد استووا جميعاً في الحفر وحمل الأتربة وهم في غاية الحماس يرددون الأهازيج، والرسول صلى الله عليه وسلم يحفر معهم وينقل التراب حتى اغبرَّ بطنه ووارى التراب جلده، وقد شدَّ على بطنه حجراَّ لفرط الجوع ، وكان الصحابة يلجأون إليه إذا عرضت لهم الصخرة الكبيرة فيأخذ المعول ويفتت الصخرة .

وكان يردد معهم الأهازيج والأرجاز مشاركة لهم وتواضعاً، ويقول:

اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا  ***  وثبت الأقدام إن لا قينا
إن الألى قد بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

وكان يمد صوته بآخرها .
وكان المسلمون يقولون وهم يحفرون وينقلون التراب:

نحن الذين بايعوا محمداً *** على الإسلام ما بقينا أبَدَاً

فكان يجيبهم بقوله:
«اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فبارك في الأنصار والمهاجرة» ، وربما يبدؤهم بقوله فيردون عليه بقولهم .
وكان لمشاركته صلى الله عليه وسلم بصورة فعلية – وليست رمزية – أثر كبير في الروح التي سادت موقع العمل، وقد تمكن المسلمون من إنجاز الخندق في ستة أيام فقط . وبذلك نفذوا متطلبات خطة الدفاع عن المدينة قبل وصول الأحزاب.
وقد حدثت عدة معجزات للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حفر الخندق، منها تكثير الطعام، فقد لاحظ الصحابي جابر بن عبد الله ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد فطلب من زوجته أن تصنع له طعاماً، فذبح معزى له، وطحنت زوجته صاعاً من شعير، وصنعت برمة، وذهب جابر فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطعام، وساره بكمية الطعام، فصاح النبي بالمسلمين ودعاهم إلى طعام جابر، فحضر منهم ألف، وأسقط في يد جابر وأهله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بارك في البرمة فأكل منها الجميع حتى شبعوا وتركوا فيها الكثير، فأكل منه أهل جابر وأهدوا منه .

ومن معجزاته إخباره لعمار بن ياسر وهو يحفر بأمر غيبي حيث قال له: «تقتلك الفئة الباغية» فكان أن قتل في صفين .
وعندما واجهت الصحابة صخرة عجزوا عن كسرها أثناء الحفر ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات ففتتها وقال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة»، ثم ضربها الثانية، فقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض»، ثم ضرب الثالثة، وقال: «الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة» .
وهكذا بشرهم بما سيكون من فتوح لهذه البلدان وهم محصورون في خندق يقرصهم البرد والجوع! فقال المؤمنون: {هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الاحزاب: 22] وأما المنافقون فقد سخروا من هذه البشارة وقالوا: {مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [الاحزاب: 12]. وموقف المنافقين كان يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإرجاف والتخذيل، ولكن القرآن الكريم يتكفل بتصوير ذلك أدق تصوير والآيات هي: {وَإِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [الاحزاب: 12].
{وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً}[الاحزاب: 13].
{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً}[الاحزاب: 13].
{وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً}[الاحزاب: 15].
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ ٱلْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ ٱلْمَوْتِ أَوِ ٱلْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}[الاحزاب: 16].
{قُلْ مَن ذَا ٱلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوۤءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [الاحزاب: 17].
{قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَٱلْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ ٱلْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الاحزاب: 18].
{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ ٱلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَٱلَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ ٱلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى ٱلْخَيْرِ أوْلَـٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً}[الاحزاب: 19].
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} [الاحزاب: 20].

والآيات تشير إلى حالة النفاق وما تولده من القلق في النفوس والجبن في القلوب وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الامتحان، ولا يقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول صلى الله عليه وسلم للانصراف عن ميدان العمل والقتال بحجج واهية زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للأعداء، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك مواقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام.
ورغم كل تخذيل المنافقين وإرجافهم وظروف المجاعة وشدة البرد، فقد مضى المسلمون في تنفيذ مهامهم وإكمال خطة الدفاع عن المدينة، فلما أنجز الخندق، وضع الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال في حصن فارع وهو أقوى حصون المسلمين وهو لبني حارثة.
وقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم جيشه، فأسند ظهرهم إلى جبل سلع داخل المدينة، ووجوهم إلى الخندق الذي يفصل بينهم وبين المشركين الذين نزلوا رومة بني الجرف والغابة ونقمى.

كان تفوق المشركين العددي كبيراً فقد بلغوا عشرة آلاف مقاتل، وذكر ابن سعد أن قريشاً وأحابيشها ومن قدم معها من العرب كانوا أربعة آلاف ومعهم ثلثمائة فرس وألف وخمسمائة بعير ثم التحق بهم بنو سليم بمر الظهران وهم سبعمائة .
وأضاف ابن الجوزي أن فزارة كانوا ألف رجل، وأشجع كانوا أربعمائة رجل وبنو مرة كانوا أربعمائة. وبذلك يكون جملة العدد ستة آلاف وخمسمائة مقاتل، وتكون بقية العشرة آلاف مقاتل من بني أسد وبقية غطفان.
وأما جيش المسلمين فقد ذكر ابن إسحق أنهم ثلاثة آلاف مقاتل. وتابعه جمهور علماء السيرة. وجزم ابن حزم أنهم سبعمائة فقط ، وقد بنى ذلك على أساس أن المسلمين كانوا سبعمائة بأحد وبينها وبين الخندق في رأيه سنة واحدة فمن أين صار للمسلمين ثلاثة آلاف مقاتل!!.
ورأي ابن حزم الذي جزم بصحته لا يصح، فالذين شهدوا الوليمة وحدهم في بيت جابر بن عبد الله كانوا ألفاً كما في الحديث الصحيح. والذين كانوا يقومون بالدوريات لحراسة المدينة كانوا خمسمائة ، فكيف يكون سائر الجيش تسعمائة!!. وما بين أحد والخندق سنتان وقد كبر من الصبيان عدد ممن لم يشهدوا أحداً لصغر سنهم، وقام المسلمون بنشاط كبير في الدعوة إلى الإسلام رغم الأخطار، وكانت الهجرة إلى المدينة تعقب دخول الإسلام، فلا غرابة إذا ما زاد عدد جيش المسلمين.

ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم كثرة الأحزاب، رأى أن يخفف الضغط على المدينة، وأن يصالح غطفان بأن يعطيهم ثلث ثمار المدينة لعام، لكنه لما شاور سعد بن معاذ زعيم الأوس وسعد بن عبادة زعيم الخزرج قالا: “لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية فكيف وقد جاء الله بالإسلام”. وفي رواية الطبراني أنهما قالا: يا رسول الله أوحي من السماء فالتسليم لأمر الله أو عن رأيك أو هواك؟ فرأينا تبع هواك ورأيك فإن كنت إنما تريد الإبقاء علينا، فوالله لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا ثمرة إلا شراء أو قرى. فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاوضة مع الأعراب. وكان يمثلهم الحارث الغطفاني قائد بني مرة .

وقد اشتد الخطب على المسلمين عندما بلغهم أن حلفاءهم يهود بني قريظة قد نكثوا العهد وغدروا بهم، وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور، فكان موقعهم يمكنهم من إيقاع ضربة بالمسلمين من الخلف. وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام إلى بني قريظة للاستطلاع، فلما رجع قال له: فداك أبي وأمي، وقال: «إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير». ثم أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فمضيا إلى بني قريظة فوجداها قد نقضت العهد ومزقت الصحيفة إلا بني سعنة فإنهم خرجوا من الحصون إلى المسلمين وفاء بالعهد. وكان ذلك على أثر سفارة حيي بن أخطب النضري الذي أقنع كعب بن أسد القرظي بنقض العهد مع المسلمين مبيناً له قوة الأحزاب وأنهم قادرون على القضاء على المسلمين مواعداً له إن رجع الأحزاب عن المدينة أن يدخل معه حصنه، فأعلنت قريظة نقض العهد، وشاع الخبر بين المسلمين، فخافوا على نسائهم وأطفالهم من بني قريظة .

وقد وصف القرآن الكريم البلاء الذي أصاب المسلمين في الآية {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَاْ} [الاحزاب: 10] {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الاحزاب: 10].
فالأحزاب جاءوا فوقهم وبنو قريظة من أسفل منهم والمنافقون ظنوا بالله الظنونا. فأصاب المسلمين زلزال شديد وبلاء عظيم، ولكن الإيمان العميق والتربية الدقيقة جعلت المسلمين يصمدون أمام سائر هذه الأخطار.
وقد نظمت الدوريات لحراسة المدينة فكان سلمة بن أسلم الأوسي يقود مائتي رجل وزيد بن حارثة يقود ثلثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير لإشعار بني قريظة بيقظتهم ووجودهم خوفاً منها على النساء والأطفال في الحصون .
وقد فوجئت قريش برؤية الخندق، واحتاروا في كيفية اقتحامه، إذا كلما هموا بذلك أمطرهم المسلمون بالسهام، واشتد الحصار وطال أربعا وعشرين ليلة . لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبال، وقال قتادة إن الحصار دام شهراً ، وقال موسى بن عقبة دام عشرين ليلة.

وقد أورد ابن إسحق وابن سعد روايات دون أسانيد تفيد أن بعض المشركين اقتحموا الخندق وذكرا أسماء خمسة منهم، وأن علياً بارز عمرو بن عبد ود فارس قريش وقتله، وأن الزبير قتل نوفل المخزومي وأن الثلاثة الآخرين فروا إلى معسكرهم. ولكن هجمات المشركين لم تنقطع حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يتمكنوا من أداء صلاة العصر – في أحد الأيام – في وقتها بل صلوها بعدما غربت الشمس. ولم تكن صلاة الخوف قد شرعت بعد لأنها إنما شرعت بعد ذلك في غزوة ذات الرقاع.

ورغم طول مدة الحصار فقد استشهد من المسلمين ثمانية ، منهم سعد بن معاذ زعيم الأوس، أصيب في أكحله ، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، ثم مات بعد غزوة بني قريظة، حيث انتقض جرحه. وكان من خيرة الصحابة وله مناقب كثيرة وتضحيات عظيمة من أجل قضية الإسلام . وقتل من المشركين أربعة، فكانت غزوة الخندق أقل الغزوات قتلى رغم كثرة أعداد المشتركين فيها من الجانبين إذ لم يقع التحام مباشر بينهم حيث حال الخندق دون ذلك.

وكان طول الحصار سبباً في إضعاف معنوية الأحزاب، خاصة إن أهدافهم لم تكن واحدة، فقريش تريد القضاء على المسلمين لتحرير طرق تجارتها وللانتصار لوثنيتها، والأعراب يريدون نصراً سريعاً لنهب المدينة، ويهود مترددة بحيث لم تدخل القتال رغم نقضها للعهد خوفاً من ترك الأحزاب للحصار وجعلها تقف وحدها وجهاً لوجه أمام المسلمين فهي تريد رهائن قبل اشتراكها في القتال.

وقد ساق ابن إسحق وموسى بن عقبة والواقدي أخباراً وحكايات حول دور نعيم بن مسعود الغطفاني، وأنه كان مسلماً جديداً لا تعرف قريش ويهود والأعراب بإسلامه، فقام بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن يهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنا لعودتها إلى صلحهم، وهذه الروايات لا تثبت من الناحية الحديثية، ولكنها اشتهرت في كتب السيرة. وهي لا تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة .
وأياً كان فإن معنوية الأحزاب انهارت لطول الحصار من ناحية ولهبوب العواصف الشديدة الباردة فقد نصر الله المسلمين بريح الصبا. فاقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ودفنت رجالهم، فنادى فيهم أبو سفيان بالرحيل. وما نالهم من الغزوة سوى التعب وخسارة النفقات. وقد ثبت ذلك بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الاحزاب: 9].

ولنترك الحديث لشاهد عيان هو حذيفة بن اليمان الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لاستطلاع حال الأحزاب قال: “لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذننا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة»؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد” ثم كرر قوله مرتين فلم يجبه أحد، فقال: «قم يا حذيفة، فأتتا بخبر القوم». فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم. قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم على»، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فرأيت أبا سفيان يصلى ظهره بالنار فوضعت سهماً في كبد القوس، فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولا تذعرهم علي» ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت ، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان» .

وفي رواية البزار لما رجع حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “يا رسول الله تفرق الناس عن أبي سفيان، فلم يبق إلاّ في عصبة يوقد النار وقد صب الله عليهم من البرد مثل الذي صب علينا ولكنا نرجو من الله مالا يرجون”.
وهكذا انفض الأحزاب عن المدينة فتنفس المسلمون الصعداء {وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الاحزاب: 25].

واستجاب الله لدعاء نبيه خلال الحصار «أللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم» . وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الآثار الخطيرة التي ترتبت على فشل الأحزاب في غزوة المدينة رغم ما حشدوه من طاقاتهم- وهو أقصى ما يستطيعون- بقوله «الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم»  مما يدل على تغير الاستراتيجية الإسلامية من مرحلة الدفاع عن المدينة إلى مرحلة الهجوم ومما يوضح ذلك أن مسرح الأحداث انتقل من المدينة وما حولها إلى مكة والطائف ثم تبوك بعيداً عن عاصمة الإسلام “المدينة المنورة”.