التاريخ غير متوفر لهذا الحدث [شرف نسبه، وكرم بلده صلى الله عليه وسلم]

وأما شرف نسبه، وكرم بلده ومنشئه،…
فمما لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، ولا بيان مشكل، ولا خفي منه. فإنه نخبة بني هاشم، وسلالة قريش وصميمها، وأشرف العرب، وأعزّهم نفرا من قبل أبيه وأمه، ومن أهل مكّة، من أكرم بلاد الله على الله، وعلى عباده. وقد قدّمنا لك في أول الكتاب ما فيه الكفاية في هذا المقام.
وأما ما تدعو إليه ضرورة الحياة فمنه ما الفضل في قلته، ومنه ما الفضل في كثرته، ومنه ما تختلف الأحوال فيه، فالأول كالغذاء والنوم، ولم تزل العرب والحكماء قديما تتمادح بقلّتهما، وتذمّ بكثرتهما، لأنّ كثرة الأكل والشرب دليل على النّهم والحرص، والشّره، وغلبة الشهوة، مسبّب لمضار الدنيا والاخرة، جالب لأدواء الجسد، وخثارة النفس، وامتلاء الدماغ. وقلته دليل على القناعة، وملك النفس، وقمع الشهوة، مسبّب للصحة، وصفاء الخاطر، وحدّة الذّهن، كما أن كثرة النوم دليل على الفسولة والضعف، وعدم الذكاء، والفطنة، مسبّب للكسل، وعادة العجز، وتضييع العمر في غير نفع، وقساوة القلب، وغفلته، وموته. وكان عليه الصلاة والسلام قد أخذ من الأكل والنوم بالأقل، وحضّ عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: “ما ملأ ابن ادم وعاء شرا من بطنه! حسب ابن ادم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة. فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه“. ولأنّ كثرة النوم من كثرة الأكل والشرب. وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يمتلىء جوف النبي صلّى الله عليه وسلّم شبعا قطّ. وإنه كان في أهله لا يسألهم طعاما ولا يتشهّاه، إن أطعموه أكل، وما أطعموه قبل، وما سقوه شرب. وفي صحيح الحديث: “أما أنا فلا اكل متكئا” والإتّكاء: هو التّمكن للأكل، والتقعدد في الجلوس له كالمتربّع، وشبهه من تمكّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته، والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه. والنبي عليه الصلاة والسلام إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعيا. ويقول: “إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد” وكذلك نومه كان قليلا ومع ذلك فقد قال: “إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي“.
وأما ما الفضل في كثرته فكالجاه وهو محمود عند العقلاء عادة، وبقدر جاهه عظمه في القلوب. وقد قال تعالى في صفة عيسى عليه السلام {وجيها في الدّنيا والاخرة} [آل عمران: 45] وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رزق الحشمة، والمكانة في القلوب، والعظمة قبل النبوة عند الجاهلية وبعدها، وهم يكذبونه ويؤذون أصحابه، ويقصدون أذاه في نفسه خفية، حتى إذا واجههم أعظموا أمره، وقضوا حاجته. كما ذكرنا ذلك مرارا، وقد كان يبهت ويفرق لرؤيته من لم يره، كما روي عن قيلة: إنها لما رأته أرعدت من الفرق فقال: “يا مسكينة عليك السكينة“. وفي حديث أبي مسعود: أنّ رجلا قام بين يديه، فأرعد، فقال له عليه الصلاة والسلام: “هون عليك فإني لست بملك“.