320 هـ
932 م
سنه عشرين وثلاثمائة (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

مخالفة مؤنس المظفر على المقتدر، فيها خالف مؤنس المظفر على المقتدر، وخرج من بغداد الى الموصل، ثم خلعه بعد ذلك وقتله، وكان …

السبب في ذلك ان مؤنسا لما ابعد ياقوتا وولده عن الحجابه، وأخرجهما عن مدينه السلام، واختار ابنى رائق لملازمه المقتدر وحجابته، ورجا طوعهما له وقله مخالفتهما اياه، وكان مؤنس عليلا من النقرس قاعدا في منزله كالمقعد، وكان يلبق غلامه الذى صيره مقام نفسه وعقد له الجيش، وضمه اليه ينوب عنه في لقاء الخليفة واقامه اسباب الجند والأمر والنهى، فقوى امر ابنى رائق وتمكنا من الخليفة لقربهما منه، وقيل لهما: ان مؤنسا يريد ان يصير الحجابه الى يلبق، فالتاثا على مؤنس واستوحشا منه، وباطنا عليه من كان بحضره الخليفة مثل مفلح والوزير ابن القاسم وغيرهما، وراسلا ياقوتا وولده وابن الخال وغيرهم واتصل ذلك بمؤنس وصح عنده، فاوحشه ذلك من المقتدر وممن كان معه، ثم سالت الحجريه والساجيه المقتدر بما احكمه لها ابنا رائق، بان يصلوا اليه كلما جلس للسلام، واستعفوه من يلبق، وطعنوا على مؤنس في ضمهم اليه.
فلما كان يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم جلس المقتدر أيضا للسلام، ووصل اليه الناس، ووصلت اليه الحجريه والساجيه وصرف عنهم يلبق ولم يخلع عليه، واظهر المقتدر الانفراد بامره والاستبداد برايه، فانكشف لمؤنس الأمر، وصح عنده ما دبر عليه، وعلم انه مطلوب.
ولما كان يوم الخميس لثمان خلون من الشهر جلس المقتدر أيضا للسلام، فخرج مؤنس الى باب الشماسيه وعسكر بها ونهب اصحابه دار الوزير الحسين بن القاسم.
وبلغ ذلك المقتدر، فامر بشحن القصر بالرجال ونودى فيمن سخط عليه من الرجاله بالرضا عنهم، فظفروا ووعدوا بزيادة دينار على النوبه، ووعد الفرسان بزيادة خمسه دنانير على الرزق، فظهر الرجاله، وقوى امر الخليفة واستتر اصحاب مؤنس ولحق به خاصته وخرج اليه يلبق.
فلما كان يوم الجمعه لتسع خلون من الشهر، وتمت صلاه الناس في الجامع، ركب المقتدر بين الظهر والعصر في قباء تاختج وعمامة سوداء وعلى راسه شمسه تظله وبين يديه اولاده الكبار ركبانا، وهم سبعه وجميع الأمراء والقواد معه وبين يديه، فسار من باب الخاصة الى المجلس الذى في طرف الميدان، وقد ضرب له قبة شراع ديباج فدخلها، ثم انصرف وظهر للعامه ودعا الناس له، وبعث مؤنس بشرى خليفته الى المقتدر يوم السبت مترضيا له، ومعتذرا اليه بانه لم يخرج خالعا ولا عاصيا، وانما خرج فارا من المطالبه له فقبض على بشرى وصفع وقيد، فلما اتصل الخبر بمؤنس زاد في ايحاشه ونفاره، وامر بوضع العطاء في اصحابه، ودخلوا السوق ليبتاعوا السلاح وما يحتاجون اليه، فمنعوا من ذلك حتى وجه مؤنس من قواده الى المدينة من حضر ابتياعهم لما أرادوا، ثم انتقل مؤنس الى البردان، وزال عنه كثير من جيشه الى دار السلطان وكان ممن رجع عنه ابو دلف القاسم بن دلف ومحمد بن القاسم بن سيما وغيرهم من قواده، ودخل هارون بن غريب الخال الى بغداد للنصف من المحرم، ونزل في النجمى، ودخل ابن عمرويه قافلا من البصره، ودخل نسيم الشرابي من الثغر، وخلع على سرور، وجمعت له الشرطتان ثم دخل محمد بن ياقوت لثمان بقين من المحرم، فتجمع للمقتدر قواده وقوى امره وخلع على الوزير ابى الجمال، ولقب عميد الدولة، وكنى ونفذت الكتب بذلك الى العمال من الوزير ابى على عميد الدولة بن ولى الدولة القاسم بن عبيد الله، وكتب اسمه على السكك، وخلع على ابته لكتابه الأمير ابى العباس بن المقتدر، وهو الراضي ولما اجتمع الجيش ببغداد، واتفقت كلمه اصحاب المقتدر وانتقل عن مؤنس كثير من اصحابه الى دار السلطان، قلع مؤنس عن البردان في الماء مضطرا ومعه نحو مائه غلام اكابر واصاغر من غلمانه وأربعمائة غلام سودان، كانوا له وسار يلبق وابنه وباقى غلمان مؤنس على الظهر في نحو الف وخمسمائة رجل، وكان معه من وجوه القرامطة نحو سبعين رجلا، منهم خطا أخو هند وزيد بن صدام واسد بن جهور، وكلهم انجاد مبرزون في الباس لا يرد احدهم وجها عن عدو، فسار مؤنس الى سر من راى، وعسكر بالجانب الشرقى.
واجتمع الناس بقصر الجص الى مؤنس فكلمهم ووعدهم، وقال لهم: ما انا بعاص لمولاي، ولا هارب عنه، وانما هذه طبقه عادتنى، وغلبت على مولاى، فأثرت التباعد الى ان يفيقوا من سكرتهم، واتامل امرى معهم، ولست مع هذا اتجاوز الموصل اللهم الا ان يختار مولاى مسيرى الى الشام، فاسير إليها وقال لهم في خلال ذلك: من اراد الرجوع الى باب الخليفة فليرجع، ومن اراد المسير معى فليسر، فردوا عليه احسن مرد وقالوا له: نحن في طاعتك، ان سرت سرنا، وان عدت عدنا.

وبعث مؤنس أبا على المعروف بزعفران مع عشره من القرامطة في مال كان له مودعا عند بعض وكلائه بعكبراء، فأتاه منها بخمسين الف دينار، فدفع منها مؤنس ارزاق من كان معه، وزادهم خمسه دنانير واقام مؤنس يومه ذلك بقصر الحص، فاحترق سقف من سقوف القصر، فشق ذلك على مؤنس، واجتهد في إطفاء النار فتعذر ذلك عليه، ثم سار وهو مغموم لما دار من الحريق في القصر، يريد الموصل.
ونفذت كتب الوزير ابن القاسم من المقتدر الى جميع من في الغرب من القواد كبني حمدان وابن طغج صاحب دمشق، والى تكين صاحب مصر، والى ولاه ديار ربيعه والجزيرة وآذربيجان وملوك أرمينية والثغور الجزرية والشامية يأمرهم، بأخذ الطرق على مؤنس ويلبق وولده وزعفران، ومن كان معهم ومحاربتهم والقبض عليهم.
وبلغ ذلك مؤنسا، فغمه الأمر، وكتمه عن جميع من كان معه وسار الى تكريت، وقد انصرف عنه اكثر من كان معه ثم ان مؤنسا فكر في امره والى اين يكون توجهه، فلم يجد في نفسه اوثق عنده ولا اشكر ليده من بنى حمدان فانه كان عند ذكره إياهم يقول: هم أولادي، وانا أظهرتهم وكانت له عند حسين بن حمدان وديعة، فاراد ان يجتاز به ويأخذها ويسير بها الى الرقة، وقد كان بلغه تجمع بنى حمدان وحشدهم لمحاربته، فلم يصدق ذلك، ثقه منه بهم، فرحل عن تكريت الى بنى حمدان، بعد ان شاور من حضره في الطرق التي يأخذ عليها، فأشارت عليه طائفه بقطع البريه والخروج الى هيت ثم المسير الى شط الفرات وقال يلبق وزعفران لمؤنس: الصواب مسيرك الى الموصل كيف تصرفت الحال لوجوه من المصالح، اما واحده فلعجزك عن ركوب البريه فتتعجل الرفاهية في الماء، واخرى لئلا يقال: جزع لما بلغه خبر بنى حمدان وتجمعهم، وثالثه انك ان بليت بقتالهم كانوا اسهل عليك من غيرهم، فوقع هذا الرأي من مؤنس بالموافقة، وسار يريد بنى حمدان فلم يلق لهم في طريقه رسولا، ولا سمع لهم خبرا الى ان وافى عليه بشرى النصراني كاتب ابى سليمان داود بن حمدان، فاستأذن عليه يوم السبت لليلة بقيت من المحرم، وخلا بمؤنس وادى اليه رساله صاحبه ورساله الحسين بن حمدان وابى العلاء وابى السرايا بأنهم على شكره ومعرفه حق يده، ولكنهم لا يدرون كيف الخلاص مما وقعوا فيه، فان أطاعوا سلطانهم كانوا قد كفروا نعمه مؤنس اليهم، وان أطاعوا مؤنسا وعصوا سلطانهم، نسبوا الى الخلعان، وسألوه ان يعدل عن بلدهم لئلا يلتقوا به ولا يمتحنوا بحربه فقال له مؤنس: قل لهم عنى: قد كنت ظننت بكم غير هذا، وما أخذت نحوكم الا لثقتي بكم، وطمعي في شكركم، فإذا خالفتم الظن فليس الى العدول عنكم سبيل، ونحن سائرون نحوكم بالغد، كائنا ما كان منكم وأرجو ان إحساني إليكم سيكون من انصارى عليكم، وخذلانكم لي غير صارف لفضل الله عنى وبات مؤنس بقصور مرج جهينة، وكان عسكر بنى حمدان بحصباء الموصل، وبات المحسن زعفران في الطلائع على المضيق الذى منه المدخل الى الموصل، وباكر مؤنس المسير في الماء على رسمه قبل ذلك.
وسار اهل العسكر على الظهر، ووقع ابو على المحسن زعفران في آخر الليل على مقدمه بنى حمدان التي كانوا أنفذوها نحو المضيق، فقتل منهم جماعه واسر نحو ثلاثين رجلا، وملك المضيق وامده يلبق برجال زياده على من كان معه وصبح الناس القتال يوم الأحد لثلاث خلون من صفر، وما كان جميع من يضمه عسكر مؤنس الا ثمانمائه وثلاثة واربعين فارسا، وستمائه وثلاثين راجلا بين اسود وابيض.
هكذا حكى الفرغاني عن احمد بن المحسن زعفران وكان شاهدا مع ابيه في عسكر مؤنس، وعنه ينقل اكثر الحكايات وكان بنو حمدان في عساكر عظيمه قد حشدوها من العرب والعجم وقبائل الاعراب وغيرهم، فتلاقى الفريقان على تعبئه، وأخذ مؤنس ويلبق وابنه ومن كان معهم من القواد في حربهم احزم ماخذ، وتوزعوا على مقدمه وميمنه وميسره وقلب، وجعلوا في كل مصاف منها ثقاتهم واكابر قوادهم ثم حملت مقدمتهم على مقدمه بنى حمدان، فضرب داود بن حمدان بنبله دخلت من كم درعه، فصرعته وحملت ميمنه يلبق على ميسره بنى حمدان فقلعتها وطحنتها وغرق اكثرهم في دجلة.
ثم حمل يلبق بنفسه ورجاله الذين كانوا في القلب على قلب عسكر بنى حمدان، فهزموا من كان فيه، واتصل القتل فيهم، واسر ابن لأبي السرايا ابن حمدان وغنم عسكرهم وتفرق جميعهم، ودخل مؤنس الموصل لاربع خلون من صفر واعطى اصحابه الصلات التي كان وعدهم بها مع الزيادة، وصار في عسكره خلق كثير من غلمان ابن حمدان ورجاله، وتوجه ابو العلاء بن حمدان وابو السرايا الى بغداد مستنجدين للسلطان، وانحاز الحسين بن عبد الله بن حمدان الى جبال معلثايا واجتمع اليه بها بعض غلمانه وغلمان اهله، فسار اليه يلبق فهزمه وفرق جمعه، وعبر الحسين الى الجانب الغربي هاربا مفلولا، وقلد يلبق ابنه نصيبين وما والاها، وانصرف هو الى موضع يلبق وقلدها يمنا الأعور، وقلد يأنسا جزيرة بنى عمر، وأبا عبيد الله بن خفيف الحديثه.
وبلغ اهل بغداد اخبار مؤنس وغلبته وفتوحاته، فاخذ كل من زال عنه في الرجوع اليه واتصل بمؤنس ان جيوشا اجتمعت للروم، وفيها بنو ابن نفيس وكانوا قد هربوا الى بلاد الروم عند خلع المقتدر أولا، وانهم قاصدون ملطيه للغارة على المسلمين، فكتب مؤنس الى بلد الروم يستدعى بنى ابن نفيس ويعده ويمنيه، ويسأله صرف الروم عن ملطيه، فاقبل بنى الى الموصل وصرف الجيش عن ملطيه، فسر به مؤنس سرورا شديدا، وخلع عليه، واكرمه وانس به، فكان يعاشره ويشاربه.
ووافاه أيضا بدر الخرشنى من ارزن في نحو ثلاثمائة رجل، فسر به مؤنس ويلبق ومن كان معهما، وقدم عليهم طريف السبكرى من حلب في نحو أربعمائة فارس، فسروا به أيضا، وتوالت الفتوحات على مؤنس ويلبق، فلما طال مقام مؤنس بالموصل، ودامت فتوحه وعظمت هيبته، ابتدأ رجال السلطان الذين كانوا بالحضرة بالهرب اليه، وتاكدت محبتهم له، فكان احد من جاءه بالدوا غلام ابن ابى الساج- وكان بطلا شجاعا- في نحو مائتي فارس، ولقى بالدوا في طريقه عسكرا للسلطان فكسره، وأخذ احمال مال كانت معهم يريدون بها بغداد فجاء بها بالدوا الى مؤنس ووهبها له ولرجاله، ثم استامنه الحسين بن عبد الله بن حمدان لما ضاقت به الارض، وانقطع رجاؤه من امداد السلطان، وامنه مؤنس، وقدم عليه، ففرح مؤنس بقدومه، وقال له: نحن في ضيافتك منذ سبعه اشهر على كره لك، فشكره الحسين ولم يزل يخدم واقفا بين يدي مؤنس في دراعه وعمامة بغير سيف مده مقام مؤنس بالموصل.

ذكر عزل الوزير الحسن بن القاسم وتقديم الفضل بن جعفر مكانه والتياث الاحوال ببغداد
ولما ظن الوزير ابو الجمال الحسين بن القاسم ان الأمر قد صفا له بخروج مؤنس من بغداد، وان قد تم له ما اراد، وقع فيما تكره، فكثر عليه الشغب، واشتدت مطالبه الجند له بالأموال، وخيب الله ظنه فيما اراد، ولازمه الحشم في دار الخليفة ملازمه قبيحه، وأهانوه وأهانوا الخليفة بسببه، فثقل على قلب المقتدر، ولم يزل يقاسى منه كل صعب وذلول، فامر بالقبض عليه في عقب ربيع الآخر، وولى الفضل بن جعفر ابن الفرات مكانه، وقد كان مشهورا عند الخاص والعام بالفضل والعلم والكتابه وترك الهزل واللهو، وكان هو وابو الخطاب من خيار آل الفرات فلما صارت اليه الوزارة اظهر الحب له والرغبة فيها، فعجب الناس من ذلك، وقال فيه بعض الشعراء:

اتطمع في الذى أعيا ابن مقله *** وقد أعيا على الوزراء قبله
وادبر امر من ولاك حتى *** لما نرجو مع الادبار مهله
كأنك بالحوادث قد توالت *** عليك وجاءك المكروه جمله

ولما خلع على الفضل بن جعفر سار في خلعه الى الدار التي بسوق العطش، فعطش في الطريق، واستسقى ماء، فشربه فأنكر ذلك عليه، إذ لم يكن في رسم من تقدمه .

وفي مستهل جمادى الاولى اجتمع اهل الثغور والجبال الى دار السلطان، واستنفروا الناس ببغداد، وذكروا ما ينالهم من الديلم والروم وان الخراج انما يؤخذ منهم ومن غيرهم ليصان به عامه الناس، ويدفع عدوهم عنهم، وانهم قد ضاعوا وضاعت ثغورهم، واستطال عليهم عدوهم ورققوا القلوب بهذا وأشباهه، فثار الناس معهم وساروا الى الجامع بمدينه المنصور وكسروا درابزين المقصورة واعواد المنبر، ومنعوا من الخطبه، ووثبوا بحمزه الخطيب، ورجموه حتى ادموه، وسلخوا وجهه، وجروا برجله، وقالوا له: يا فاجر، تدعو لرجل لا ينظر في امور المسلمين، قد اشتعل بالغناء والزنا عن النظر في امور الحرمين والثغور يفرق مال الله في أعداء الله، ولا يخاف عقابا، ولا ينتظر معادا فلم يزالوا في هذه الحال الى وقت صلاه العصر، وفعلوا بعد ذلك مثل فعلهم الاول في أول جمادى الآخرة ونهضوا الى باب الوزير الفضل بن جعفر وراموا كسره، فرموا بالسهام اعلى الدار، وقتل منهم نفر، فركب احمد بن خاقان وتوسط امرهم، وضمن لهم ما يصلحهم.
وفي ثمان خلون من رجب نقب الحسين بن القاسم في دار الحاجبين نقبا اخرج منه غلمانه، واراد الخروج بنفسه ففطن به وقبض عليه، وحدر الى البصره.

ذكر مسير مؤنس الى بغداد وقتل المقتدر
ولما كثر عند مؤنس من استامن اليه من قواد العراق ورجال الخليفة وبلغه الاضطراب بها، وانس الى الوزير الفضل بن جعفر، لما كان عليه من ترك المطالبه للناس، ودارت بين مؤنس وبين الوزير مكاتبات، ورجا الوزير ان تصلح الاحوال بمجيء مؤنس ويتأيد به على قمع المفسدين، ويتمكن بحضوره من صلاح امور الخليفة التي قد اضطربت، فراسل مؤنسا في القدوم ورغبه في الصلاح، وجنح مؤنس الى ذلك ورغب فيه، ورجا ما لم يعنه المقدار عليه فخرج مؤنس من الموصل يوم الأحد لثلاث عشره ليله بقيت من شوال بعد ان ضم الى نفسه قواده ورجاله، وقلد من وثق به الموصل ونصيبين وبعربايا وسائر الاعمال في تلك الناحية، فلما انتهى مؤنس الى البردان، خرج اليه القواد وغيرهم مستأمنين اليه، مثل مفلح وبدر الحمال وابو على كاتب بشر الافشينى وابن هود وجماعه وبقي الغلمان الحجريه على الوزير وابن الخال في الشعيبي يطالبونهما بالمال والزيادة لما علموا به من اقبال مؤنس.
وكتب مؤنس الى المقتدر كتبا يقول فيها: لست بعاص لأمير المؤمنين ولا شققت عصاه، وانما تنحيت عنه لمطالبه أعدائي لي عنده، وقد جئت الى بابه برجاله، وليسن مذهبي الفتن ولا اراقه الدماء، وقد بلغنى ان مولاى يحمل على محاربتى، ولا حظ في ذلك للفريقين، بل فيه الشتات والفرقة وذهاب العدد وحدوث البلاء، وفناء الرجال، فيأمر مولاى للجند الذين معى بأرزاقهم فندفع اليهم، ثم يصيرون اليه وتطيب نفوسهم عليه.
فاصغى المقتدر الى قوله وسربه، وقيل انه اصطبح مفلح وابن الخال في دورهما سرورا بذلك ثم قال للمقتدر ابنا رائق وياقوت ومفلح وغيرهم، ممن كان يكره مؤنسا، ولا يريد رجوعه: هذا عجز منك، ونقص بك، ولعلها حيله عليك وخدعه لك، وحمل على اخراج مضاربه الى باب الشماسيه والعزم على قتاله، وقالوا له: لو قد رآك كل من مع مؤنس لانصرفوا عنه، وتركوه وحده، واخذوه في ذلك بالوعيد والترهيب، فاخرج المقتدر مضاربه الى الشماسيه يوم الثلاثاء لاربع بقين من شوال وخرج بنفسه يوم الأربعاء لثلاث بقين منه بعد ان توضأ للصلاة، وبرز الى دار العامه، فصلى بها، وكان كارها للخروج ومتثبطا فيه، وانما خرج مكرها حتى لقد حدثت بأنهم قالوا له: ان خرجت معنا الى حرب مؤنس والا تقربنا بك اليه.
وحدث ذكى عن المقتدر انه راى في الليلة التي خرج في صبيحتها الى مؤنس كان النبي ص كان يقول له: يا جعفر، اجعل إفطارك الليلة عندي، ففزع له وحدث به والدته، فجهدت به الا يخرج، وكشفت عن ثدييها، وبكت، فغلب القضاء ونزل البلاء.
قال: فحدثني احد خلفاء الحجاب ممن أثق به، قال: رايت المقتدر قبل خروجه الى مؤنس في دار العامه وابن رائق يستحثه ويقول له: عجل يا سيدي ليراك الناس، فقال له: الى اين اعجل يا وجه الشؤم! قال: وحدثنى ابن زعفران عن تكين الخادم ان المقتدر لما عمل على الخروج الى مؤنس لبس ثيابه، وجلس على مسوره وقال لامه: يا أمه استودعك الله هذا يوم الحسين بن على، ثم تمثل بقول على بن الرومي:

طامن حشاك فان دهرك موقع *** بك ما تحب من الأمور وتكره
وإذا حذرت من الأمور مقدرا *** فهربت منه فنحوه تتوجه

قال: وأخبرني جماعه من اهل بغداد ممن عاين المقتدر خارجا من داره وقد شق المدينة يريد رقه الشماسيه، فقالوا: كان عليه خفتان ديباج فضى تسترى، وعليه عمامة سوداء مصمت والبرده التي كانت للنبي ص على كتفيه وصدره وظهره، وهو متقلد بذى الفقار سيف رسول الله ص، وحمائله ادم احمر، وفي يده اليمنى الخاتم والقضيب، وتحته الفرس المعروف بالاقبال ويعرف بالقابوس، لان أبا قابوس اهداه اليه، وعلى الفرس سرج مغربى احمر، بحليه جديده، وتحت فخذه الأيسر سيف للركاب وبين يديه ابنه ابو احمد عبد الواحد عليه خفتان ديباج رومي منقوش، وعمامة بيضاء، وخلفه وزيره الفضل بن جعفر بن الفرات، وقدامه لواء ابيض ورايه سوداء يحملها ابن نصر اللابى، واللواء يحمله احمد بن خفيف السمرقندي، وعلمان أبيضان وعلمان اصفران، يحملها الانصار ومعهم رماح في رؤوسها مصاحف، وسار المقتدر على حاله هذه حتى وافى الرقة بالشماسيه، وقد وقعت الحرب بين العسكرين، وكان الظهور أول النهار لعسكر المقتدر ثم عادت بعد ساعه لأصحاب مؤنس عليهم، فاسر ابو الوليد بن حمدان واحمد بن كيغلغ وكانا في ميمنه المقتدر في جماعه من قواد بغداد، فثبتا بأنفسهما لما خان المقتدر من كان حوله، حتى أخذا اسيرين، وكانا في القلب من عسكر مؤنس بدر الخرشنى وعلى بن يلبق ويمن الأعور وبازائهم المقتدر وعبد الواحد ابنه ومفلح الأسود، وشفيع المقتدرى، وابنا رائق، وهارون بن غريب الخال ومحمد بن ياقوت والحجريه، وكان في ميمنه مؤنس يلبق ويانس المونسي وغلمان يلبق ومن استامن اليهم من عسكر بغداد.
فلما اشتدت الحرب انكشف ابن يلبق قليلا، فراسله أبوه بالتوقف والانحياز اليه، وارسل الى ميمنته بان يحملوا، فحملوا وأخذوا على شط دجلة ليخرجوا في ظهر عسكر المقتدر، فتشوش العسكر، وحمل يلبق وابنه ومن كان معهما حمله واحده، فانهزم جميع من كان مع المقتدر حتى لم يبق الا هو وحده، ولم يقتل بين يديه من غلمانه واوليائه احد الا رجل من خلفاء الحجاب، يقال له رشيق الهروي وقد كان المقتدر لما راى الحرب قد وقعت بين على بن يلبق وبين ابن الخال وابن ياقوت اراد العدول الى المضرب، او الى الحراقة فلقيه سعيد بن حمدان، فقال له: يا امير المؤمنين، قد وقعت العين على العين، فان رآك من حولك قد زلت انهزموا وانفلوا فرجع الى المصاف وذلك وقت صلاه الظهر ولم يكن في موكبه احد من اهله الا هارون بن عبد العزيز بن المعتمد على الله وعبد العزيز بن على بن المنتصر بالله وابراهيم بن قصى بن المؤيد بالله وابراهيم بن عيسى بن موسى بن المتوكل على الله.
وكان أول من انهزم من اصحابه الحجريه ثم سائر الناس، وحمل عبد الواحد بن المقتدر في جماعه من الرجاله عده حملات، فاسر من رجال مؤنس يلبق النعماني الصفعان، وكان فارسا جيدا، فأرادوا قتله فنهاهم المقتدر عنه، ولم يزل ابن ياقوت في ذلك اليوم ثابتا بعد ان انهزم ابن الخال، وابلى بلاء حسنا فلما لم يجد ابن ياقوت مساعدا انهزم وانهزم عبد الواحد بن المقتدر، وبقي المقتدر وحده وحوله جماعه من العامه وهو يحض الناس على القتال، ويسألهم الثبات معه، ويتوسل اليهم بالله وبنبيه وببردته، ويمسح المصحف على وجهه الى ان اقبل موكب على بن يلبق- وكان قد اصابته جراح في الحرب فلم يهن لها- واقبل معه فارس تحته فرس ادهم، وعليه درع على راسه زرديه، فضرب المقتدر ضربه بالسيف في عاتقه الأيمن، فقطعت الضربه طاقا من حمائل السيف، وأثخنته الضربه، وكان السيف بيد المقتدر مجردا وقد كان نافع صاحب ركاب مؤنس ضرب بيده الى عنان دابه المقتدر ليسير به الى مؤنس، فلما ضربه الفارس خلى نافع عنانه، ومضى الفارس بعد ان ضربه ولم يقف عليه، ووافى بعد هذا الفارس ثلاثة فوارس، يقال لأحدهم: بهلول، وللثاني: سيمجور ورفيق لهما لم احفظ اسمه، فوقفوا بالمقتدر يخاطبونه ويسمعون منه، فاخذ احدهم السيف من يده وانتزع الآخر البرده والخفتان منه، وطالب الثالث بخاتمه فدفعه اليه، وكان الخاتم ياقوتا احمر مربعا، فضربه احد الثلاثة بالسيف على جبينه فألمه فاخرج المقتدر كم قميصه ليمسح الدم عن وجهه، فضربه الآخر ضربه ثالثه، فتلقاها المقتدر بيده اليسرى، فقطعت ابهامه وانقلبت ابهامه وانقلبت الابهام الى ذراعه، وسقط الى الارض، واجتمعت عليه جماعه رجاله فاحتزوا راسه، وحمل الى مؤنس وذلك يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شوال سنه عشرين وثلاثمائة، وكان الذى حمله سراج البكتمرى، فلما نظر اليه مؤنس اشتد جزعه، وغمه وناله عليه امر عظيم.
وقيل: ان الذى قتل المقتدر نقيط غلام مؤنس، وان جثته بقيت مجرده، فطرح بعض المطوعة على سوءته خرقه ثم أخذها رجل من العجم، والقى عليها حشيشا، الى ان حملت الجثة الى مؤنس، فاضاف إليها الراس وسلمه الى ابن ابى الشوارب القاضى ليتولى امره، فقيل انه دفن مع ابيه، وقيل انه دفن في رقه الشماسيه، وقيل أيضا انه طرح في دجلة، ولم تزل الرعية يصلون في مصرعه ويدعون على قاتله وبنى في الموضع مسجد وحظيرة كبيره، وكان عمر المقتدر يوم قتل ثمانية وثلاثين سنه وشهر وسته ايام وكانت ولايته الخلافه أربعا وعشرين سنه واحد عشر شهرا.وولد أبا العباس الراضي محمدا والعباس أبا احمد، وهارون أبا عبد الله، وعبد الواحد أبا على وابراهيم أبا إسحاق المتقى، والفضل أبا القاسم المطيع، وعليا أبا الحسن، وإسحاق أبا يعقوب وعبد الملك أبا محمد وعبد الصمد ولم يذكر الفرغاني جميعهم وانما ذكر سته منهم.وبقي مؤنس في مضاربه بباب الشماسيه، ولم يدخل بغداد حتى اقام القاهر للخلافة.واستامن اليه القواد المنهزمون عن المقتدر، فامنهم وانقطع الطلب عن جميعهم وسكن الناس، وهدنهم واظهر الأسف، لما دار في امر المقتدر وجمع القواد للمشورة في الخليفة بعده، ودار الرأي بينهم في ذلك.
وامر مؤنس باحضار بلال بواب دار ابن طاهر التي كان فيها اولاد الخلفاء، وساله عمن فيها من اولاد الخلفاء، فذكر جماعه فيهم محمد القاهر، فمال هواهم اليه- وكان مؤنس قد كرهه ونهاهم عنه- فقالوا: هو كهل، ولا أم له، ونرجو ان تستقيم أمورنا معه، فاطاعهم فيه، وأجابهم اليه واحضروه على ما سيقع بعد هذا ذكره.
قال: وحدثنى ابو الفهم ذكى ان رشيقا الأيسر وكان الذى اقبل بالقاهر من دار ابن طاهر لولاية الخلافه، وكان مقدما على الحرم، حكى له بان رأيهم اجتمع بعد مفاوضه طويله على القاهر وعلى ابى احمد بن المكتفي.
قال ذكى: ووجهونى فيهما ليتكلم مؤنس مع كل واحد منهما خاليا، فمن ظهر لهم تقديمه منهما قدم، فتوجه ذكى فيهما، فلما صار بهما في بعض الطريق قال القاهر لأبي احمد بن المكتفي: لست اشك في انا انما دعينا لتعرض على كل واحد منا الخلافه، فعرفني بما عندك، فان كنت راغبا فيها أبيت انا منها، إذا دعيت إليها ثم كنت أول من يبايعك، فقال له ابو احمد: ما كنت بالذي اتقدمك، وأنت عمى وكبيرى وشيخي، بل انا أول من يبايعك.
فلما تحقق عند القاهر مذهبه بنى امره عليه، ثم لما صار الى مؤنس وحاشيته بدءوا بمخاطبه ابى احمد لفضل كان فيه، وعرضوا الأمر عليه فأبى من تقلده، ولم تكن رغبتهم فيه ثابته إذ كانت له والده، وقد علموا ما كانت تحدثه والده المقتدر في الخلافه.
فعقدوا الأمر للقاهر بالله.
قال: وذكر لي ابن زعفران انه حضر ذلك، وان القاهر اجلس في خيمه بإزاء خيمه مؤنس، ولم تزل المراسلات بينهما الشروط متخذه على القاهر الى ان أجاب الى جميعها الا النفقة التي كلفوه للجند على البيعه فانه ذكر الا مال له فعذروه.
قال: ولم يكن عليه يوم احضر للبيعه الا قميصان ورداء، فطلب ما يلبس من الثياب التي تشاركه للجلوس للعامه، وسيف ومنطقه، فلم يوجد ما يصلح لذلك، فنزع جعفر بن ورقاء ثيابه التي كان يلبسها، ولبسها القاهر، وهي عطاف وعمامة ومنطقه وسيف بحمائل، ثم قعد في الخيمة وسلموا عليه بالخلافة، وبويع له على ما سيأتي ذكره.

ذكر البيعه لمحمد القاهر بالله
وهو محمد بن احمد المعتضد بن طلحه الموفق بن جعفر المتوكل، وكنيه محمد القاهر ابو منصور، وكانت أمه تسمى بقبول، وبويع بالخلافة يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال سنه عشرين وثلاثمائة، وهو ابن خمس وثلاثين سنه، وذلك انه لما احضر من دار عبد الله بن طاهر التي كان فيها مع اولاد الخلفاء، ودار بينه وبين مؤنس المظفر ما تقدم ذكره من الشروط، وتم الأمر بينهم، انحدروا به الى دار الخلافه، في اليوم المؤرخ، فلما دخلها دعا بحصير فصلى اربع ركعات، وجلس على سرير الملك، ولقب القاهر بالله.وحضر عبيد الله بن محمد الكلواذى فاستخلفه على الوزارة لمحمد بن على بن مقله إذ كان غائبا بفارس وامر بان تكتب الكتب الى العمال باسم ابن مقله، وولى الحجابه على بن يلبق، ولم يمكنه الحضور لجراح كانت به، فخلف على الحجابه بدر الخرشنى، وقلد احمد بن خاقان شرطه الجانبين.ولما كان يوم الاثنين لليلتين خلتا من ذي القعده، بعث القاهر في اولاد المتوكل على الله وغيرهم من أبناء الخلفاء وأبناء ابنائهم، فاوصلهم اليه واستدناهم، وامرهم بالجلوس، وأخذ عليهم الكلواذى البيعه، وخاطبه هارون بن عبد العزيز بن المعتمد بعد ان صافحه وهناه ودعا له، فقال: قد نالت يا امير المؤمنين اهلك جفوه اضرت بهم واثرت في أحوالهم، وليس يسألون اقطاعا ورد ضيعه، وأحوالهم تصلح بادرار أرزاقهم، فقال: انا آمر بادرارها، ولا اقنع لكم بها، وقد كان يتصل بي من امركم ما يغمنى، فشكرته العامه على هذا القول، وتكلم منهم ابو عبد الله محمد بن المنتصر ودعوا له جميعا.ثم ان القاهر اظهر في أول قعوده في الخلافه من الجد وبعد الهمه والاختصار والقناعه ما هابه به الناس، واراد قطع ثوب يلبسه، فحمل اليه من داره، فقيل له:لو اخذلك ثوب من خزانه الكسوة، فقال: لا تمسوا لهم شيئا، وعرضت عليه صنوف الألوان والحلواء والفواكه التي كانت توضع بين أيدي الخلفاء في كل يوم فاستكثرها، وقال في الفاكهة: بكم تبتاع هذه كل يوم؟ فقيل له: بثلاثين دينارا، فقال: نقتصر من ذلك على دينار واحد ومن الطعام على اثنى عشر لونا، وكان يصلح لغيره كل يوم ثلاثون لونا من حلواء، فاقتصر على الكافى له.

وفي يوم الخميس لخمس خلون من ذي القعده حمل ابو العباس وابو عبد الله ابنا المقتدر مع أمهما الى دار عبد الله بن طاهر بعد عتمه.
وفيه طولبت أم المقتدر بالأموال وضربت وعلقت، قال الفرغاني: حدثنى ابو الحسين ابن العجمي قال حدثتنا ذلفاء المنجمه التي كانت مع المقتدر، قالت: لما اراد المقتدر الخروج لمحاربه مؤنس قال لامه: قد ترين ما وقعت فيه وليس معى دينار ولا درهم، ولا بد من مال يكون معى، فاعينينى بما معك، فقالت له: قد أخذت منى يوم سار القرمطى الى بغداد ثلاثة آلاف الف دينار، وما بقيت لي بعدها ذخيره الا ما ترى، واحضرته خمسين الف دينار، فقال المقتدر: واى شيء تغنى عنى هذه الدنانير؟
واى مقام تقوم لي في عظيم ما استقبله؟ ثم قال لها: اما انا فخارج كيف كنت وعلى ما استطعت، ولعلى اقتل فاستريح، ولكن الشان فيمن يبقى بعدي، ويقبض عليها ويعذب ويعلق في هذه الشجرة دراجيه فقالت ذلفاء: وكانت في بعض دور الخلافه شجره فو الله لقد قبض على أم المقتدر وعلقت في تلك الشجرة بعينها وفيه ضرب شفيع وطولب بمال، وصير بيع املاكه الى بشرى الخادم، فضاع اكثر ذلك، وقبض أيضا على اسباب خاله المقتدر، وقبض على شفيع المقتدرى، وسلم المطبخ والبساتين الى رشيق الأيسر الحرمي، وسلم البريد والاصطبل الى على بن يلبق، وصرف احمد بن خاقان عن الشرطه في الجانبين وقلدها يمن الأعور وقبض الأعور، وقبض على يانس الخادم، ولم تزل الأمور مضطربه بقله المال ومطالبه الجند بالارزاق ومطالبتهم بمال البيعه حتى انهم شغبوا واجتمعوا الى باب الخليفة، ودخلوا الى الدهليز الشعيبي من باب العامه وفتح السجن وحورب الموكلون عليه، وأيدتهم العامه على ذلك، فخرج يمن الأعور وأخذ رجلا من العامه وضربه بالسياط وصلبه، فتفرق العوام، وزاد امر الجند شغبا وجدا فأرسل القاهر اليهم: ليس عندي مال، والمال عند يلبق، واوصى القاهر الى مؤنس اما ان يرضى يلبق الرجال ويكفهم عنى والا اعتزلت، فليس على هذا الشرط تقلدت.
وقدم ابن مقله بغداد لتسع خلون من ذي الحجه وخلع عليه وقعد ودفع الى الجيش الذى بالحضرة عن البيعه لكل واحد منهم رزقا واحدا، وللجند اصحاب مؤنس ثلاثة ارزاق لكل واحد ثم ان ابن مقله بسط يده على الناس فاخذ أموالهم، وقبض على عيسى الطبيب، فاخذ املاكه، ثم بدا في بيع املاك السلطان وأخذ المال من حيث لاح له، وابتدأ بإنشاء داره، وادخل فيها من بستان الزاهر نحو عشرين جريبا، ونقض دور بنى المقتدر، واستولى ابن يلبق وحاشيه مؤنس على القاهر، حتى صار لا يجوز له امر ولا نهى الا على اهل بيته، واولاد المقتدر المحبوسين عنده.
قال: وكان القاهر مستهترا بالشراب لا يكاد يفيق منه، فإذا شرب اقبل الى اولاد المقتدر والى الراضي واخوته، وكان قد اخذهم وضمهم الى دار تعرف بالفاخر، واحضر أبا احمد بن المكتفي واعتقله معهم، فكان القاهر يدخل عليهم بالليل ويتخلق لأولاد المقتدر ولأبي احمد بن المكتفي، ويسقيهم بيده، وكان يقول للراضى: أنت المرشح للامر، والمسمى له، ثم يومى اليه بحربه كانت في يده، وبما قفع أصابعه بقضيب كان معه، والراضي في كل ذلك لا يخضع له ولا يقبل يده، والمقادير تدفعه عنه، واقام على بن يلبق وهو الحاجب يفتش جميع ما يدخل الدار على القاهر ويضيق عليه، والقاهر في ذلك يزداد غضبا وكمدا ثم ان الراضي دس الى يلبق وابنه واهدى إليهما جوهرا وعرفهما انه واخوته خائفون على انفسهم من القاهر، وسألهما تخليص هؤلاء المحبوسين من يده فاجمع راى يلبق وابنه على تخليصهم، وقعد يلبق في بعض العشايا في بعض مجالس الدار واخرجهم على غيبه، واخرج الجده معهم، وكان القاهر قد سامها سوء العذاب، وطالبها بالأموال، فوجه بهم الى داره، وافرد لهم موضعا في دار حرمه، وماتت الجده بها، فكفنها في احسن كفن، ودفنها بشارع الرصافه.
وفيها صرف ابو عثمان احمد بن ابراهيم بن حماد عن القضاء بمصر.
وقلد القضاء بها عبد الله بن احمد بن زيد.
وفي ذي القعده من هذه السنه ورد الخبر بمصر بقتل المقتدر، فاضطربت الاحوال بها، وشغب الجند، ووكل التجار وطولبوا بالأموال، وشغب الجند على تكين وطالبوه بمال البيعه، فجمع التجار بمصر واستسلف منهم الأموال بسبب البيعه على ان يطالب بدم المقتدر.
وحج بالناس في هذه السنه ابو حفص عمر بن حسن الهاشمى.