356 هـ
966 م
سنه ست وخمسين وثلاثمائة

[أخبار]
فيها قصد معز الدولة عمران بن شاهين، وابى ان يقبل منه مالا، والا يقنع الا بحضور بساطه فاعتل من ضرب ذرب لحقه، واستخلف على عسكره …

سبكتكين، ورجع الى بغداد، وعهد الى ابنه عز الدولة، واظهر التوبة، واحضر أبا عبد الله البصرى، وتاب على يده.
وكان مع ابى عبد الله صاحبه ابو القاسم الواسطي، فكانا إذا حضر وقت الصلاة خرجا من الدار، وصليا في مسجد على بابها، فسألهما عن السبب في خروجها، فقال ابو عبد الله: ان الصلاة في الدار المغصوبه عندي لا تصح، وساله عن عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه وعن الصحابه رضوان الله عنهم، فذكر ابو عبد الله سابقتهم، وان عليا زوج عمر ابنته أم كلثوم رضى الله عنهم، فاستعظم ذلك وقال: ما سمعت هذا قط! وتصدق معز الدولة باكثر ماله، واعتق مماليكه، ورد شيئا كثيرا من المظالم، وتوفى في شهر ربيع الآخر.
قال ابو الحسين بن الشيبه العلوي: بينما انا في دارى على دجلة بمشرعه القصب، وكانت ليله مظلمه، والسماء متغيمه، وقد اشتد الرعد القاصف، ولمعان البرق الخاطف، ولم تمض ساعه الليل، حتى هطلت السماء بعظيم السيل، فخرجت الى الروشن لانظر الى السماء، واسمع وقع المطر على الماء، فانى لواقف إذ سمعت صوت الهاتف يقول:

لما بلغت أبا الحسين *** مراد نفسك في الطلب
وامنت من حدث الليالى *** واحتجبت عن النوب
مدت إليك يد الردى *** فأخذت من بين الذهب

فأرخت الوقت، وكان لاربع ساعات مضت من ليله الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الاول.
ثم اتصل الوابل فحبس الناس أياما في المنازل، فلما انقشع الغمام وانتشر الناس، شاع الخبر بان معز الدولة توفى تلك الساعة، في تلك الليلة ومولد معز الدولة سنه ثلاث وثلاثمائة.
ومن آثاره سد بثق الرومانيه، وعمل المعيض بالسندية، وسد البثق بالنهروان.
واسقط المواريث الحشريه، وامر بردها الى ذوى الارحام، وتسليم مالا مستحق له الى القضاه ليصرفوه في مصالح المسلمين.
وكان قد سال المطيع لله ان يطوف في دار الخلافه، فشرط عليه الا يخترق الدار الا في نفسين، وتقدم الى شاهد خادمه، وابن ابى عمرو حاجبه، ان يمشيا بين يديه.
فدخل معز الدولة ومعه الصيمرى وحاجبه ابو الحسن الخراسانى، فقال له الصيمرى بالفارسيه- واصحاب الخليفة لا يعرفونها: في اى موضع أنت حتى تسترسل؟ اما تعلم انه قد فتك في هذه الدار بألف امير ووزير! اليس لو وقف لنا عشره من الخدم في هذه الممرات الضيقه لأخذونا! فقال: صدقت، وان رجعنا الساعة، علم اننا قد فزعنا وخفنا، وضعفت هيبتنا، فقال الصيمرى: ادن منى، فان مائه من الخدم لا يقاوموننى.
فانتهوا الى دار فيها صنم من صخر، على صوره امراه، وبين يديها أصنام صغار، فسال عنها، فقيل: هذا حمل من بلدان الهند، وقد فتح في ايام المقتدر رحمه الله، وكان يعبد هناك، فقال: لو كان مكانه جاريه لاشتريتها بمائه الف دينار على قله رغبتي في الجوارى، واريد ان اطلبه من الخليفة فمنعه الصيمرى.
وما رجع الى معز الدولة عقله، حتى رجع الى طيارة، وقال: قد رايت محبتي للخليفة وثقتي به، ولو اراد بنا سوءا لكنا اليوم في قبضته، وتصدق بعشره آلاف درهم، شكرا لله على سلامته.
وفي هذه السنه قتل ابو الطيب المتنبى، وكان عند عضد الدولة بشيراز، فودعه بقصيدته التي نعى فيها نفسه، وقال فيها أشياء لم يقل في عقبها ان شاء الله، منها:

إذا التوديع اعرض قال قلبي *** عليك الصمت لا صاحبت فاكا
وكم دون الثوية من حزين *** يقول له قدومى ذا بذاكا
فلو سرنا وفي تشرين خمس *** راونى قبل ان يرووا السماكا

– قال ابن جنى: بالغ وبغى في ذكر السرعة، لان السماك يطلع لخمس خلون من تشرين الاول، اى كنت اسبقه الى الكوفه بالطلوع عليهم-

وما انا غير سهم في هواء *** يعود ولم يجد فيه امتساكا

يعنى في سرعه الأوبة.
ولما قال:

وأيا شئت يا طرقي فكونى *** أذاه او نجاه او هلاكا

قال عضد الدولة: يوشك ان تكون منيته في طريقه، وعاد وقد اوقره مالا، ولما بلغ همانيا مقابل دير العاقول، خرج عليه فاتك بن ابى الجهل الأسدي، فقاتل المتنى قتالا شديدا وقتل واصحابه وأخذ ماله:
وقال ابو احمد العسكرى يجيب ابن هارون، وقد رثى المتنبى:

يا شقوه المتنبى ما اتيح له *** بعد الكرامه من ذل ومن هون
تقضى منيته في ارض مضيعه *** ويستباح ويرثيه ابن هارون
انى لارثى له مما رثاه به *** قول ركيك وشعر غير موزون
لو كان يسمع شعرا قد رثاه به *** لقام من قبره في زي مجنون

وقال ابو الحسن محمد بن يحيى الزيدي العلوي- واقام بعسكر مكرم: كان المتنبى ينزل في جواري بالكوفه، وهو صبى وأبوه يسمى عبدون السقاء، يستقى لأهل المحله، ونشا هو محبا للعلم والأدب، وصحبه الاعراب بالبادية، فجاءنا بعد سنين بدويا، وكان لا يعترف بنسبه ويقول: متى انتسبت لم آمن ان يأخذني بعض العرب بطائله بينه وبين قبيلته، وكان اخوه ضريرا يتصدق ببغداد، وادعى انه حسينى، ثم ادعى بكلب انه نبى، فأشرف على القتل ثم استتابوه قال التنوخي: كنت أحب ان اسال المتنبى عن سبب لقبه، فكنت استحى لكثرة من يحضر مجلسه ببغداد، فلما جاء الاهواز ماضيا الى فارس، قلت: في نفسي شيء: أحب ان اسالك عنه، فقال: عن لقبى؟ قلت: نعم، فقال:
هذا شيء كان في الحداثة اوجبته ضرورة قال التنوخي: فما رايت في دهشه الف منها، لأنه يحمل المعنى انه كان نبيا إذا عمد الكذب، او ان عنده انه كان صادقا، الا انه اعرف بذلك.

اماره عز الدولة ابى منصور بختيار بن معز الدولة
كانت امارته احدى عشره سنه وشهورا.
وكان عز الدولة من احسن الناس واشدهم قوه، كان يصرع الثور الجلد بيديه من غير حبال ولا اعوان، يقبض على قوائمه ويطرحه الى الارض حتى يذبح، وكان يقبض على رقبتي غلامين بيده، وهو قائم وهما قائمان، ويرفعهما من الارض وهما يصيحان ويضطربان ولا يمكنهما الخلاص.
وكان من قوه القلب على امر عظيم، وبارز في متصيداته غير اسد، وطرقه اسد على غفله وثب على كفل فرسه، فضربه بخشبه وقتله.
وخلع عليه الخليفة، وطوقه وسوره وكتب عهده.
وفي هذه السنه، لحق أبا على بن الياس عله الفالج، وخلفه اولاده.
فملك عضد الدولة كرمان.
ومضى ابو على الى خراسان، فنادم صاحبها، واطمعه في ملك الديلم، فانفذ صاحبه محمد بن سمحور ومعه هدايا الى الحسين بن الفيروزان، والى وشمكير، وجعل الى وشمكير تدبير الحبس.
وكاتب ركن الدولة عضد الدولة يستمده، وكفى وشمكير بالموت، فانه ركب فرسا ادهم حسن الصورة، ونهاه منجمه على الركوب، فعارضه خنزير قد افلت من حربه رمى بها، فشب الفرس ووشمكير غافل، فسقط على دماغه، فخرج من انفه دم وحمل ميتا، وكتب ابن العميد في ذلك كتابا اوله: الحمد لله الذى اغنى بالوحوش عن الجيوش، وقال: أخذت هذا من كتاب كتبه صبى بين يدي عمرو بن مسعده، وقد ولدت بقره آدميا، فقال له عمرو: اكتب في ذلك، فكتب كتابا اوله:
الحمد لله خالق الأنام في بطون الانعام، فحسد عمرو الصبى، وخاف ان يتمم فسير بلاغته، فاخذ الدرج من يده.
واجتهد عز الدولة بسبكتكين، ان يخرج الى الجيش لمساعده عمه ركن الدولة، فلم يفعل، فانفذ الفتكين، ووصل الى الري وقد وقع الغناء عنه.
وفي شعبان خلع على القاضى ابى محمد بن معروف، وولى القضاء بالجانب الغربي.
وخلع على ابن سيار، وقلد القضاء بالجانب الشرقى.
وفيه توفى ابو جعفر هارون بن المعتضد بالله.
وفي ذي الحجه توفى مفلح الأسود، خادم المقتدر بمصر.
وفيه قبض ابو تغلب بن حمدان على ابيه ناصر الدولة، حين كبر وساء خلقه.
فانفذ اليه الخلع واللواء من الحضره.
وفي هذه السنه توفى كافور الإخشيدي صاحب مصر.
قال ابو جعفر مسلم بن طاهر العلوي: ما رايت اكرم من كافور، كنت اسايره يوما، وهو في موكب خفيف مؤيد متنزها، وبين يديه غلمانه، وعده جنائب بمركب ذهب ومراكب فضه، وخلفه بغال الموكب والفرش كما تكون الملوك، فسقطت مقرعته من يده، ولم يرها ركابيه فنزلت من دابتى، وأخذتها من الارض ودفعتها اليه، فقال: يا أبا جعفر، اعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت ان الزمان يبلغني الى ان تفعل هذا، ثم ودعني، فلما سرت التفت، فإذا خلفي البغال كلها والجنائب، فقلت: ما هذا؟
فقالوا: امر الأستاذ ان يحمل هذا إليك، فادخلته دارى، وكانت قيمته زياده على خمسه عشر الف دينار، وحكاياته عن المتنبى مشهوره.
وفي هذه السنه هلك سيف الدولة، ونصب غلمانه ابنه أبا المعالى بحلب وغزا سيف الدولة الروم اربعين غزوه، له وعليه.
ومن شعره:

تجنى على الذنب والذنب ذنبه *** وعاتبنى ظلما وفي جنبه العنب
واعرض لما صار قلبي بكفه *** فهلا جفاني حين كان لي القلب
إذا برم المولى بخدمه عبده *** تجنى له ذنبا وان لم يكن ذنب

وكان قد ترك الشرب لمواصله الحرب، فوردت مغنيه من بغداد، ولم يمكن أبا فراس ان يدعوها قبله فكتب اليه:

محلك الجوزاء او ارفع *** وصدرك الدهناء او اوسع
وقلبك الرحب الذى لم يزل *** للجد والهزل به موضع
رفه بصرع العود سمعا غدا *** قرع العوالي جل ما يسمع

فامر بعمل المجلس، واستدعى بها والجماعه، وبلغت الأبيات المهلبى، فامر ان يصاغ لها لحن.
وحكى ان سيف الدولة، لما ورد الى بغداد وقت تووزن، اجتاز وهو راكب فرسه، وبيده رمحه، وبين يديه عبد له صغير، وقصد الفرجه، والا يعرف، فاجتاز بشارع دار الرقيق، على دور بنى خاقان وفيها فتيان، فدخل وسمع وشرب معهم وهم لا يعرفونه وخدموه، ثم استدعى عند خروجه الدواءه، فكتب رقعه وتركها فيها، ثم انصرف ففتحوا الدواءه، فإذا في الرقعة الف دينار على بعض الصيارف، فتعجبوا وحملوا الرقعة، وهم يظنونها ساذجه، فأعطاهم الصيرفى الدنانير في الحال والوقت، فسألوه عن الرجل فقال: ذاك سيف الدولة بن حمدان.

وقال الببغاء يرثيه بقصيده، منها:

خلف المدائح بعدك التابين *** عن اى حادثه يعزى الدين
ما كان في الدنيا كيومك مشهد *** بهر العقول ولا نراه يكون
لم يبق محذورا فكل مصيبه *** جلل لديه وكل خطب دون
هب للهدى من بعد فقدك سلوه *** فحراكه مذ غبت عنه سكون
ابقى نعيك في القبائل لوعة *** فيها لمنسرب الدموع معين
اربيعه الفرس استجدى نجده *** فسهول عزك بالمصاب حزون
كن كانت اسى ولكن بالحجى *** يتفاضل المحزون والمحزون
ولى بسيف الدولة العز الذى *** كانت عليه به الخطوب تهون