296 هـ
908 م
سنه ست وتسعين ومائتين (ذكر ما دار في هذه السنه من اخبار بنى العباس)

[أخبار متفرقة]
فمن ذلك ما كان من اجتماع جماعه من القواد والكتاب والقضاه على خلع جعفر المقتدر، وكانوا قد تناظروا وتأمروا عند موت المكتفي على من …


يقدمونه للخلافة، واجمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، فاحضروه وناظروه في تقلدها، فأجابهمالى تولى الأمر، على الا يكون في ذلك سفك دماء ولا حرب، فاخبروه ان الأمر يسلم اليه عفوا، وان من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا به، فبايعهم على ذلك سرا، وكان الراس في هذا الأمر العباس بن الحسن الوزير، ومحمد بن داود ابن الجراح، وابو المثنى احمد بن يعقوب القاضى وغيرهم، فخالفهم على ذلك العباس، ونقض ما كان عقده معهم في امر ابن المعتز، وأحب ان يختبر امر المقتدر، وان كان فيه محمل للقيام بالخلافة مع حداثة سنه، وكيف يكون حاله معه، وعلم ان تحكمه عليه سيكون فوق تحكمه على غيره، فصدهم عن ابن المعتز، وانفذ عقد البيعه للمقتدر على ما تقدم ذكره.
ثم ان المقتدر اجرى الأمور مجراها في حياه المكتفي، وقلد العباس جميعها، وزاده في المنزله والحظوة وصير اليه الأمر والنهى، فتغير العباس على القواد، واستخف بهم واشتد كبره على الناس واحتجابه عنهم واستخفافه بكل صنف منهم، وكان قبل ذلك صافى النيه لعامه القواد والخدم منصفا لهم في اذنه لهم ولقائه ثم تجبر عليهم، وكانوا يمشون بين يديه فلا يأمرهم بالركوب، وترك الوقوف على المتظلمين، والسماع منهم، فاستثقله الخاصة والعامه، وكثر الطعن عليه، والانكار لفعله والهجاء له، فقال بعض شعراء بغداد فيه:

يا أبا احمد لا تحسن بأيامك ظنا *** واحذر الدهر فكم اهلك املاكا وافنى
كم رأينا من وزير صار في الأجداث رهنا 

اين من كنت تراهم درجوا قرنا فقرنا *** فتجنب مركب الكبر وقل للناس حسنا
ربما امسى بعزل من باصباح يهنأ *** وقبيح بمطاع الأمر الا يتأنى
اترك الناس وأيامك فيهم تتمنى

وكان مما يشنع به الحسين بن حمدان على العباس، انه شرب يوما عنده، فلما سكر الحسين، استخرج العباس خاتمه من اصبعه، وانفذه الى جاريته مع فتى له، وقال لها: يقول لك مولاك: اشتهى الوزير سماع غنائك، فاحضرى الساعة ولا تتاخرى، فهذا خاتمي علامه إليك قال الحسين: وقد كنت خفت منه شيئا من هذا لبلاغات بلغتني عنه، وكتب رايت له إليها بخطه، فحفظت الجاريه وحذرتها، فلم تصغ الى قول الفتى ولا اجابته.
وكان الحسين يحلف مجتهدا انه سمعه يكفر ويستخف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وانه قال في بعض ما جرى من القول: قد كان أجيرا لخديجة، ثم جاء منه ما رايت قال: فاعتقدت قتله من ذلك الوقت، واعتقد غيره من القواد فيه مثل ذلك، واجتمعت القلوب على بغضته، فحينئذ وثب به القوم فقتلوه، وكان الذى تولى قتله بدر الأعجمي والحسين بن حمدان ووصيف بن سوارتكين وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الاول من العام المؤرخ.

ذكر البيعه لابن المعتز
وفي غد هذا اليوم خلع المقتدر، خلعه القواد والكتاب وقضاه بغداد، ثم وجهوا في عبد الله بن المعتز، وادخل دار ابراهيم بن احمد الماذرائى التي على دجلة والصراة ثم حمل منها الى دار المكتفي بظهر المخرم، واحضر القضاه، وبايعوا عبد الله بن المعتز فحضرهم ولقبوه المنتصف بالله، وهو لقب اختاره لنفسه.
واستوزر محمد بن داود بن الجراح، واستحلفه على الجيش، وكان الناس يحلفون بحضره القضاه، وكان الذى يأخذ البيعه على الناس وعلى القواد ويتولى استحلافهم والدعاء باسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، واحضر عبد الله بن على بن ابى الشوارب القاضى وطولب بالبيعه لابن المعتز فلجلج، وقال: ما فعل جعفر المقتدر! فدفع في صدره وقتل ابو المثنى لما توقف عن البيعه، ولم يشك الناس ان الأمر تام له إذ اجتمع اهل الدولة عليه، وكان اجل من تخلف عن سوسن الحاجب، فانه بقي بدار المقتدر مثبتا لأمره وحاميا له.
وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار التي كان بها المقتدر حرب شديده من غدوه الى انتصاف النهار، وثبت سوسن الحاجب به وحامى عنه، واحضر الغلمان ووعدهم الزيادة، وقوى نفس صافى ونفس مؤنس الخادم ومؤنس الخازن، فكلهم حماه ودافع عنه، حتى انفضت الجموع التي كان محمد بن داود جمعها لبيعه ابن المعتز، وذلك ان مؤنسا الخادم حمل غلمانا من غلمان الدار الى الشذوات، فصاعد بها في دجلة فلما جازوا الدار التي كان فيها ابن المعتز ومحمد ابن داود صاحوا بهم، ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب، وهرب ابن المعتز ومن كان معه، ولحق بعض الذين كانوا بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا اليه بأنهم منعوا من المصير نحوه، واختفى بعضهم، فأخذوا وقتلوا وانتهبت العامه دور محمد بن داود والعباس بن الحسن، وأخذ ابن المعتز فقتل وقتل معه جماعه، منهم احمد بن يعقوب القاضى، ذبح ذبحا، وقالوا له: تبايع للمقتدر! فقال: هو صبى ولا يجوز المبايعة له.
وقال الطبرى، ولم ير الناس اعجب من امر ابن المعتز والمقتدر، فان الخاصة والعامه اجتمعت على الرضا بابن المعتز وتقديمه، وخلع المقتدر لصغر سنه، فكان امر الله قدرا مقدورا، ولقد تحير الناس في امر دوله المقتدر وطول أيامها على وهي أصلها وضعف ابتنائها ثم لم ير الناس ولم يسمعوا بمثل سيرته وايامه وطول خلافته.
وقال محمد بن يحيى الصولي: وفي يوم الاثنين لتسع ليال بقين من ربيع الاول خلع المقتدر على على بن محمد بن الفرات للوزارة، وركب الناس معه الى داره بسوق العطش، وتكلم في اطلاق جماعه ممن كان بايع ابن المعتز، فاذن له المقتدر في ذلك، فخلى سبيل طاهر بن على ونزار بن محمد وابراهيم بن احمد الماذرائى والحسين بن عبد الله الجوهري المعروف بابن الجصاص، ووضع العطاء للغلمان والأولياء الذين بقوا مع المقتدر صله ثانيه للفرسان ثلاثة اشهر وللرجاله ست نوائب، وولى مؤنسا الخادم شرطه جانبي بغداد وما يليها، وتقدم اليه بالنداء على محمد بن داود ويمن ومحمد الرقاص، وان يبذل لمن جاء بمحمد بن داود عشره آلاف دينار، وخلع على عبد الله بن على بن محمد بن ابى الشوارب لقضاء جانبي بغداد، وقلد الوزير على بن محمد أخاه جعفر بن محمد ديوان المشرق والمغرب، واشاع انه يخلفه عليهم وقلد نزارا الكوفه وطساسيجها، وعزل عنها المسمعي، ثم عزل نزارا وولى الكوفه نجحا الطولونى، وخلع على ابى الأغر خليفه بن المبارك السلمى لغزاه الصائفه وعظم امر سوسن الحاجب وتجبر وطغى، فاتهمه المقتدر ولم يأمنه، وادار الرأي في امره مع ابن الفرات، فاوصى اليه المقتدر: خذ من الرجال من شئت ومن المال والسلاح ما شئت، وتول من الاعمال ما احببت، وخل عن الدار أولها من اريد فأبى عليه، وقال: امر أخذته بالسيف لا اتركه الا بالسيف فاحكم المقتدر الرأي مع ابن الفرات في قتله فلما دخل معه الميدان في بعض الأيام اظهر صافى الحرمي العله، وجلس في بعض طرق الميدان متعاللا فنزل سوسن ليعوده، فوثب اليه جماعه فيهم تكين الخاصة وغيره من القواد، فأخذوا سيفه، وادخلوه بيتا، فلما سمع من كان معه بذلك من غلمانه واصحابه تفرقوا، ومات سوسن بعد ايام في الحبس.
وقلد الحجابه نصرا الحاجب المعروف بالقشورى، وكان موصوفا بعقل وفضل.
وكان النصارى في آخر ايام العباس بن الحسن قد علا امرهم، وغلب عليهم الكتاب منهم، فرفع في امرهم الى المقتدر، فعهد فيهم بنحو ما كان عهد به المتوكل من رفضهم واطراحهم واسقاطهم عن الخدمه، ثم لم يدم ذلك فيهم.
وفي يوم السبت لاربع بقين من ربيع الاول سقط ببغداد الثلج من غدوه الى العصر، حتى صار في السطوح والدور منه نحو من اربعه أصابع، وذلك امر لم ير مثله ببغداد.
وفي يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الاول سلم محمد بن يوسف القاضى ومحمد ابن عمرويه وابن الجصاص والأزرق كاتب الجيش في جماعه غيرهم الى مؤنس الخازن، فقتل بعضهم، وشفع في بعض فاطلق.
وفيها وجه القاسم بن سما في جماعه من القواد والجند في طلب الحسين بن حمدان، فشخص لذلك حتى صار الى قرقيسيا والرحبه، وكتب الى ابى الهيجاء عبد الله بن حمدان بان يطلب أخاه ويتبعه، فخرج في اثره، والتقى بأخيه بين تكريت والسودقانيه، بموضع يعرف بالأعمى، فانهزم عبد الله عن أخيه الحسين ثم بعث الحسين الى السلطان يطلب الامان لنفسه فاعطى ذلك.
ولسبع بقين من جمادى الآخرة خلع على ابن دليل النصراني كاتب ابن ابى الساج ورسوله، وعقد ليوسف على اذربيجان والمراغه وحملت اليه الخلع، وامر بالشخوص الى عمله وللنصف من شعبان خلع على مؤنس الخادم، وامر بالشخوص الى طرسوس لغزو الروم، فخرج في عسكر كثيف وجماعه من القواد وكان مؤنس قد ثقل على صافى الحرمي، وأحب الا يجاوره ببغداد، فيسعى مع الوزير ابن الفرات في ابعاده، فاغزى في الصائفه، وضم اليه ابو الأغر خليفه بن المبارك فلم يرضه مؤنس، وكتب الى المقتدر يذمه، فكتب اليه في الانصراف فانصرف، وحبس واجتمع قول الناس بلا اختلاف بينهم، انه لم يكن في زمن ابى الأغر فارس للعرب ولا للعجم اشجع منه ولا اعظم ايدا وجلدا.
وحج بالناس في هذه السنة الفضل بْن عبد الملك.