10 رجب 77 هـ
16 تشرين الاول 696 م
سنه سبع وسبعين

محاربه شبيب عتاب بن ورقاء وزهره بن حوية وقتلهما ، ففي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية …

ذكر الخبر عن سبب مقتلهما:
وكان سبب ذلك فِيمَا ذكر هِشَامٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابن جندب وفروة بن لقيط، أن شبيبا لما هزم الجيش الذي كان الحجاج وجهه مع عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث إليه، وقتل عثمان ابن قطن، وذلك في صيف وحر شديد، اشتد الحر عليه وعلى أصحابه، فأتى ماه بهزاذان فتصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا فلحقوا به، وناس ممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تباعات، كان منهم رجل من الحي يقال له الحر بن عبد الله بن عوف، وكان دهقانان من أهل نهر درقيط قد أساءا إليه وضيقا عليه، فشد عليهما فقتلهما، ثم لحق بشبيب فكان معه بماه، وشهد معه مواطنه حتى قتل، فلما آمن الحجاج كل من كان خرج إلى شبيب من أصحاب المال والتباعات- وذلك بعد يوم السبخة- خرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج، فأتي به فدخل، وقد أوصى ويئس من نفسه، فقال له الحجاج يا عدو الله، قتلت رجلين من أهل الخراج! فقال له: قد كان أصلحك الله ما هو أعظم من هذا، فقال:
وما هو؟ قال: خروجي من الطاعة وفراق الجماعة، ثم آمنت كل من خرج إليك، فهذا أماني وكتابك لي فقال له الحجاج: أولى لك! قد لعمري فعلت، وخلى سبيله قال: ولما انفسخ الحر عن شبيب خرج من ماه في نحو من ثمانمائه رجل، فأقبل نحو المدائن وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب ماذرواسب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج:
أما بعد: فإني أخبر الأمير أصلحه الله أن شبيبا قد أقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ولا أدري أين يريد! فلما قرأ الحجاج كتابه قام فِي الناس فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والغيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيئكم فقام إليه الناس من كل جانب، فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره وقام إليه زهرة بن حوية وهو شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال له: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة فلينفروا إليهم كافة، وابعث عليهم رجلا ثبتا شجاعا مجربا للحرب ممن يرى الفرار هضما وعارا والصبر مجدا وكرما فقال الحجاج: فأنت ذاك فاخرج، فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح للناس في هذا رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئا، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي فقال له الحجاج: جزاك الله عن الإسلام وأهله في أول الإسلام خيرا، وجزاك الله عن الإسلام في آخر الإسلام خيرا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة ألا فسيروا أيها الناس فانصرف الناس فجعلوا يسيرون وليس يدرون من أميرهم! وكتب الحجاج إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
أَمَّا بَعْدُ، فإني أخبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أكرمه الله أن شبيبا قد شارف المدائن وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها يقتل أمراءهم، ويفل جنودهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى أهل الشام فيقاتلوا عدوهم ويأكلوا بلادهم فليفعل، والسلام.
فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين فسرحهم حين أتاه الكتاب إلى الحجاج، وجعل أهل الكوفة يتجهزون إلى شبيب ولا يدرون من أميرهم! وهم يقولون: يبعث فلانا أو فلانا، وقد بعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء ليأتيه وهو على خيل الكوفة مع المهلب، وقد كان ذلك الجيش من أهل الكوفة هم الذين كان بشر بن مروان بعث عبد الرحمن بن مخنف عليهم إلى قطري، فلم يلبث عبد الرحمن بن مخنف إلا نحوا من شهرين حتى قدم الحجاج على العراق، فلم يلبث عليهم عبد الرحمن بن مخنف بعد قدوم الحجاج الا رجب وشعبان.
وقتل قطري عبد الرحمن في آخر رمضان فبعث الحجاج عتاب بن ورقاء على ذلك الجيش من أهل الكوفة الذين أصيب فيهم عبد الرحمن ابن مخنف، وأمر الحجاج عتابا بطاعة المهلب فكان ذلك قد كبر على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك الجيش ويضمه إليه، فلما أن جاءه كتاب الحجاج بإتيانه سر بذلك.
قال: ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة، فيهم زهرة بن حوية السعدي من بني الأعرج، وقبيصة بن والق التغلبي، فقال لهم: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ فقالوا: رأيك أيها الأمير أفضل، قال:
فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة، فيكون هو الذي يسير في الناس، قال زهرة بن حوية: اصلح الله الأمير! رمتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل.
وقال له قبيصة بن والق: انى مشير عليك برأيي، فانى يكن خطأ فبعد اجتهادي في النصيحة لأمير المؤمنين وللأمير ولعامة المسلمين، وإن يك صوابا فالله سددني له، إنا قد تحدثنا وتحدث الناس أن جيشا قد فصل إليك من قبل الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وفلوا واستخفوا بالصبر، وهان عليهم عار الفرار فقلوبهم كأنها ليست فيهم، كأنما هي في قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى جيشك الذي أمددت به من أهل الشام فيأخذوا حذرهم، ولا يبيتوا إلا وهم يرون أنهم مبيتون فعلت، فإنك تحارب حولا قلبا، ظعانا رحالا، وقد جهزت إليه أهل الكوفة ولست واثقا بهم كل الثقة، وإنما إخوانهم هؤلاء القوم الذين بعثوا إليك من الشام.
أن شبيبا بينا هو في أرض إذ هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق فقال: لله أنت! ما أحسن ما رأيت! وما أحسن ما أشرت به علي! قال: فبعث عبد الرحمن بن الغرق مولى عقيل الى من اقبل من أهل الشام، فأتاهم وقد نزلوا هيت بكتاب من الحجاج:
أما بعد، فإذا حاذيتم هيت فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله، وخذوا حذركم، وعجلوا السير والسلام.
فأقبل القوم سراعا قال: وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه قادم عليكم فيها، فأمره الحجاج فخرج بالناس فعسكر بهم بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذا فقطع منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف بن المغيره ابن شعبة جسر دجلة.
فلما نزل شبيب مدينة بهرسير قطع مطرف الجسر، وبعث إلى شبيب: أن ابعث إلي رجالا من وجوه أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر فيما تدعو إليه فبعث إليه شبيب رجالا من وجوه أصحابه، فيهم قعنب وسويد والمحلل، فلما أرادوا أن ينزلوا في السفينة بعث اليهم شبيب الا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، فرجع الرسول.
وبعث إلى مطرف أن ابعث إلي من أصحابك بعدد أصحابي يكونوا رهنا في يدي حتى ترد علي أصحابي فقال مطرف ! فرجع الرسول إلى شبيب فأبلغه، فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم تفعلونه وتستحلونه، فبعث إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني ويزيد بن أبي زياد مولاه وصاحب حرسه، فلما صاروا في يدي شبيب سرح إليه أصحابه، فأتوا مطرفا فمكثوا أربعة أيام يتراسلون، ثم لم يتفقوا على شيء، فلما تبين لشبيب أن مطرفا غير تابعه ولا داخل معه تهيأ للمسير إلى عتاب بن ورقاء وإلى أهل الشام قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط أن شبيبا دعا رءوس أصحابه فقال لهم: إنه لم يثبطني على رأي قد كنت رأيته إلا هذا الثقفي منذ أربعة أيام، قد كنت حدثت نفسي أن أخرج في جريدة خيل حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام رجاء أن أصادف غرتهم أو يحذروا فلا أبالي كنت ألقاهم منقطعين من المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه ولا مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءتني عيوني اليوم فخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وجاءتني عيوني من نحو عتاب بن ورقاء فحدثوني أنه قد نزل بجماعة أهل الكوفة الصراة، فما أقرب ما بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب بن ورقاء.
قال: وخاف مطرف أن يبلغ خبره وما كان من إرساله إلى شبيب الحجاج، فخرج نحو الجبال، وقد كان أراد أن يقيم حتى ينظر ما يكون بين شبيب وعتاب، فأرسل إليه شبيب: أما إذ لم تبايعني فقد نبذت إليك على سواء، فقال مطرف لأصحابه: اخرجوا بنا وافرين فإن الحجاج سيقاتلنا، فيقاتلنا وبنا قوة أمثل فخرج ونزل المدائن، فعقد شبيب الجسر، وبعث إلى المدائن أخاه مصادا، وأقبل إليه عتاب حتى نزل بسوق حكمة، وقد أخرج الحجاج جماعة أهل الكوفة مقاتلتهم، ومن نشط إلى الخروج من شبابهم، وكانت مقاتلتهم أربعين ألفا سوى الشباب، ووافى مع عتاب يومئذ أربعون ألفا من المقاتلة وعشرة آلاف من الشباب بسوق حكمة، فكانوا خمسين ألفا، ولم يدع الحجاج قرشيا ولا رجلا من بيوتات العرب إلا أخرجه.
قال أبو مخنف: فحدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعت الحجاج وهو على المنبر حين وجه عتابا إلى شبيب في الناس وهو يقول:
يا أهل الكوفة، اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلا قد وليناه من أعمالنا ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة، ألا وإن للناكل الهارب الهوان والجفوة.
والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن كفعلكم في المواطن التي كانت لأولينكم كنفا خشنا، ولأعركنكم بكلكل ثقيل ثم نزل، وتوافى الناس مع عتاب بسوق حكمة قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: عرضنا شبيب بالمدائن فكنا ألف رجل، فقام فينا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
يَا معشر المسلمين، إن الله قد كان ينصركم عليهم وأنتم مائة ومائتان وأكثر من ذلك قليلا، وأنقص منه قليلا، فأنتم اليوم مئون ومئون، الا انى مصل الظهر ثم سائر بكم فصلى الظهر ثم نودي في الناس: يا خيل الله اركبي وأبشري، فخرج في أصحابه، فأخذوا يتخلفون ويتأخرون، فلما جاوزنا ساباط ونزلنا معه قص علينا وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة ساعة طويلة، ثم أمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف بنا على عتاب بن ورقاء وأصحابه، فلما أن رآهم من ساعته نزل وأمر مؤذنه فأذن، ثم تقدم فصلى بنا المغرب، وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني، وكانت عيون عتاب بن ورقاء قد جاءوه فأخبروه أنه قد أقبل إليه، فخرج بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق أول يوم نزل، وكان يظهر كل يوم أنه يريد أن يسير إلى شبيب بالمدائن، فبلغ ذلك شبيبا، فقال: أسير إليه أحب إلي من أن يسير إلي، فأتاه، فلما صف عتاب الناس بعث على ميمنته مُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا بن أخي، إنك شريف فاصبر وصابر، فقال: أما انا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان وقال لقبيصة بن والق- وكان يومئذ على ثلث بني تغلب: أكفني الميسرة، فقال: أنا شيخ كبير، كثير منى ان اثبت تحت رايتي، قد انبت مني القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس ونعيم بن عليم التغلبيان- وكان كل واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب- فقال: ابعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء.
فبعث نعيم بن عليم على ميسرته، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي- وهو ابن عم عتاب شيخ أهل بيته- على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف:
صف فيهم الرجال معهم السيوف، وصف وهم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية، ثم سار فيما بين الميمنة إلى الميسرة يمر بأهل راية راية، فيحثهم على تقوى الله، ويأمرهم بالصبر ويقص عليهم.
قال أبو مخنف: فحدثني حصيرة بن عبد الله أن تميم بن الحارث الأزدي قال: وقف علينا فقص علينا قصصا كثيرا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات، قال: يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبا في الجنة الشهداء، وليس الله لأحد من خلقه بأحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: {وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ! فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك لهم قربة عند الله! فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار، أين القصاص؟ قال ذلك فلم يجبه والله أحد منا، فلما رأى ذلك، قال: أين من يروي شعر عنترة؟ قال: فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة فقال: إنا لله! كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح.
ثم أقبل حتى جلس في القلب معه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن ابن مُحَمَّد بن الأشعث وأبو بكر بن مُحَمَّد بن أبي جهم العدوي وأقبل شبيب وهو في ستمائه وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟
قالوا: رايات ربيعة فقال: شبيب: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل نصيب، والله لأجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدلة، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم ثم حمل عليهم وهو على مسناة أمام الخندق ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم، فقتلوا، وانهزمت الميسرة كلها وتنادى أناس من بني تغلب: قتل قبيصة بن والق فقال شبيب: قتلتم قبيصة بن والق التغلبي يا معشر المسلمين! قال الله:
{وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، هذا مثل ابن عمكم قبيصة بن والق، اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الكافرين! ثم وقف عليه فقال: ويحك! لو ثبت على إسلامك الأول سعدت، ثم حمل من الميسرة على عتاب بن ورقاء، وحمل سويد بن سليم على الميمنة وعليها مُحَمَّد بن عبد الرحمن، فقاتل في الميمنة في رجال من بني تميم وهمدان، فأحسنوا القتال، فما زالوا كذلك حتى أتوا فقيل لهم: قتل عتاب بن ورقاء، فانفضوا، ولم يزل عتاب جالسا على طنفسة في القلب وزهرة بن حوية معه، إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: يا زهرة بن حوية، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، والهفى على خمسمائة فارس من نحو رجال تميم معي من جميع الناس! ألا صابر لعدوه! ألا مؤاس بنفسه! فانفضوا عنه وتركوه، فقال له زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا، فقال له: جزاك الله خيرا ما جزى آمرا بمعروف وحاثا على تقوى.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة صبرت معه قليلة، وقد ذهب الناس يمينا وشمالا، فقال له عمار بن يزيد الكلبي من بني المدينة: أصلحك الله! إن عبد الرحمن بن مُحَمَّد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير، فقال له: قد فر قبل اليوم، وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبتل بمثله قط أقل مقاتلا ولا أكثر هاربا خاذلا، فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب من بني زيد بن عمرو يقال له عامر بن عمرو بن عبد عمرو، وكان قد أصاب دما في قومه، فلحق بشبيب، وكان من الفرسان، فقال لشبيب: والله إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء! فحمل عليه فطعنه، فوقع فكان هو ولي قتله ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟
فقال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهره حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد ذعرتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين! قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط قال: رأيناه والله توجع له، فقال رجل من شبان بكر بن وائل: والله إن أمير المؤمنين منذ الليلة ليتوجع لرجل من الكافرين! قال: إنك لست بأعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه كانوا إخوانا وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي، وقتل أبو خيثمة بن عبد الله يومئذ، واستمكن شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعا إلى البيعة، فبايعه الناس من ساعتهم، وهربوا من تحت ليلتهم، وأخذ شبيب يبايعهم، ويقول: إلى ساعة يهربون وحوى شبيب على ما في العسكر، وبعث إلى أخيه، فأتاه من المدائن، فلما وافاه بالعسكر أقبل إلى الكوفة وقد أقام بعسكره ببيت قرة يومين، ثم توجه نحو وجه أهل الكوفة وقد دخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج فيمن معهما من أهل الشام الكوفة، فشدوا للحجاج ظهره، فاستغنى بهما عن أهل الكوفة، فقام على منبر الكوفة فحمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يا أهل الكوفة، فلا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا، ولا تشهدوا معنا قتال عدونا، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود والنصارى، ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: والله لخرجنا نتبع آثار الناس، فانتهي إِلَى عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّدِ بْنِ الأشعث ومُحَمَّد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وهما يمشيان كأني أنظر إلى رأس عبد الرحمن قد امتلأ طينا، فصددت عنهما، وكرهت أن أذعرهما، ولو أني أوذن بهما أصحاب شبيب لقتلا مكانهما، وقلت في نفسي: لئن سقت إلى مثلكما من قومي القتل ما أنا برشيد الرأي، وأقبل شبيب حتى نزل الصراة قال أبو مخنف: فحدثني موسى بن سوار أن شبيبا خرج يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا، فندب الناس، فقال: أيكم يأتيني برأس عامل سورا؟ فانتدب له بطين وقعنب وسويد ورجلان من أصحابه، فساروا مغذين حتى انتهوا إلى دار الخراج والعمال في سمرجة فدخلوا الدار وقد كادوا الناس بأن قالوا: أجيبوا الأمير، فقالوا: أي الأمراء؟
قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر بذلك العامل منهم ثم إنهم شهروا السيوف وحكموا حين وصلوا إليه فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين، هلم الحربة يا غلام، فخرق بها البدور، وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء ثم خرج إليه سفيان بن الأبرد مع الحجاج، وكان أتاه قبل خروجه معه، فقال:
ابعثني أستقبله قبل أن يأتيك، فقال: ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم والكوفة في ظهورنا والحصن في أيدينا

ذكر الخبر عن دخول شبيب الكوفه مره ثانيه
وفي هذه السنة دخل شبيب الكوفة دخلته الثانية.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من حربه بها الحجاج:
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن موسى بن سوار، قال: قدم سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف من الدسكرة الكوفة بعد ما قدم جيش الشام الكوفة، وكان مطرف بن المغيرة كتب إلى الحجاج: أن شبيبا قد أطل علي، فابعث إلي المدائن بعثا فبعث إليه سبرة بن عبد الرحمن ابن مخنف في مائتي فارس، فلما خرج مطرف يريد الجبل خرج بأصحابه معه وقد أعلمهم ما يريد، وكتم ذلك سبرة، فلما انتهى إلى دسكرة الملك دعا سبرة فأعلمه ما يريد، ودعاه إلى أمره، فقال له: نعم أنا معك، فلما خرج من عنده بعث إلى أصحابه فجمعهم، وأقبل بهم فصادف عتاب ابن ورقاء قد قتل وشبيبا قد مضى إلى الكوفة، فأقبل حتى انتهى إلى قرية يقال لها بيطرى، وقد نزل شبيب حمام عمر، فخرج سبرة حتى يعبر الفرات في معبر قرية شاهي، ثم أخذ الظهر حتى قدم على الحجاج، فوجد أهل الكوفة مسخوطا عليهم، فدخل على سفيان بن الأبرد فقص قصته عليه وأخبره بطاعته وفراقه مطرفا، وأنه لم يشهد عتابا ولم يشهد هزيمة في موطن من مواطن أهل الكوفة، ولم أزل للأمير عاملا، ومعي مائتا رجل لم يشهدوا معي هزيمة قط، وهم على طاعتهم ولم يدخلوا في فتنة.
فدخل سفيان إلى الحجاج فخبره بخبر ما قص عليه سبرة بن عبد الرحمن، فقال: صدق وبر! قل له: فليشهد معنا لقاء عدونا، فخرج إليه فأعلمه ذلك وأقبل شبيب حتى نزل موضع حمام أعين، ودعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يكونوا شهدوا يوم عتاب، ورجالا كانوا عمالا في نحو من مائتي رجل من أهل الشام، فخرج في نحو من ألف، فنزل زرارة، وبلغ ذلك شبيبا، فتعجل إليه في أصحابه، فلما انتهى اليه حمل عليه فقتله، وهزم أصحابه، وجاءت المنهزمة فدخلوا الكوفة وجاء شبيب حتى قطع الجسر، وعسكر دونه إلى الكوفة، وأقام شبيب في عسكره ثلاثة أيام، فلم يكن في أول يوم إلا قتل الحارث بن معاوية، فلما كان في اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه وغلمانه عليهم السلاح، فأخذوا بأفواه السكك مما يلي الكوفة، وخرج أهل الكوفة فأخذوا بأفواه سككهم، وخشوا إن لم يخرجوا موجدة الحجاج وعبد الملك بن مروان وجاء شبيب حتى ابتنى مسجدا في أقصى السبخة مما يلي موقف أصحاب القت عند الإيوان، وهو قائم حتى الساعة، فلما كان اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولى له عليه تجفاف، وأخرج مجففة كثيرة وغلمانا له، وقالوا:
هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم إن الحجاج أخرج له غلامه طهمان في مثل تلك العدة على مثل تلك الهيئة، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم إن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فقال: ائتوني ببغل أركبه ما بيني وبين السبخة، فأتي ببغل محجل، فقيل له: إن الأعاجم أصلحك الله تطير أن تركب في مثل هذا اليوم مثل هذا البغل، فقال:
ادنوه مني، فإن اليوم يوم أغر محجل، فركبه ثم خرج في أهل الشام حتى أخذ في سكة البريد، ثم خرج في أعلى السبخة، فلما نظر الحجاج إلى شبيب واصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائه فارس، فلما رأى الحجاج قد خرج إليه أقبل بأصحابه، وجاء سبرة بن عبد الرحمن إلى الحجاج فقال: أين يأمرني الأمير أن أقف؟ فقال: قف على أفواه السكك، فإن جاءوكم فكان فيكم قتال فقاتلوا، فانطلق حتى وقف في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل إليهم شبيب حتى إذا دنا منهم عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم، وكتيبة مع المحلل بن وائل، فقال لسويد:
احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قدما حتى انصرف، وصاح الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا قدم كرسي يا غلام، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم، ففعلوا به مثل ما فعلوا بسويد، فناداهم الحجاج: يا أهل السمع والطاعة، هكذا فافعلوا، قدم كرسي يا غلام ثم إن شبيبا حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الرماح وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا ثم إن أهل الشام طعنوه قدما حتى ألحقوه بأصحابه، فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد، احمل في خيلك على أهل هذه السكة- يعني سكة لحام جرير- لعلك تزيل أهلها عنها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه فانفرد سويد بن سليم فحمل على أهل تلك السكة، فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك، فانصرف، وقد كان الحجاج جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في نحو من ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءا له ولأصحابه لئلا يؤتوا من ورائه قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط: أن شبيبا قال لنا يومئذ: يا أهل الإسلام إنما شرينا لله، ومن شرى لله لم يكبر عليه ما أصابه من الأذى والألم في جنب الله الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة.
ثم جمع أصحابه، فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه:
يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح فجثوا على الركب، وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس، فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون قدما ويدفعون شبيبا وأصحابه وهو يقاتلهم حتى بلغوا موضع بستان زائدة، فلما بلغ ذلك المكان نادى شبيب أصحابه: يا أولياء الله، الأرض الأرض، ثم نزل وأمر أصحابه فنزل نصفهم وترك نصفهم مع سويد بن سليم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب، ثم قال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، هذا أول الفتح والذي نفس الحجاج بيده! وصعد المسجد معه نحو من عشرين رجلا معهم النبل، فقال: إن دنوا منا فارشقوهم، فاقتتلوا عامة النهار من أشد قتال في الأرض، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، وأنا ممن لا يتهم في نصيحة، قال: فإني قد أذنت لك، قال: فإني آتيهم من ورائهم حتى أغير على عسكرهم، فقال له: افعل ما بدا لك، قال:
فخرج معه بعصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم، فقتل مصادا أخا شبيب، وقتل غزالة امرأته، قتلها فروة بن الدفان الكلبي، وحرق في عسكره، وأتي ذلك الخبر الحجاج وشبيبا، فأما الحجاج وأصحابه فكبروا تكبيرة واحدة، وأما شبيب فوثب هو وكل راجل معه على خيولهم، وقال الحجاج لأهل الشام: شدوا عليهم فإنه قد أتاهم ما أرعب قلوبهم فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس.
قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب قال: لما انهزم الناس فخرج من الجسر تبعه خيل الحجاج، قال:
فجعل يخفق برأسه، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك، قال: فالتفت غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، قال: ودنوا منا، فقلنا: يا أمير المؤمنين، قد دنوا منك، قال: فالتفت والله غير مكترث، ثم جعل يخفق برأسه قال: فبعث الحجاج إلى خيله أن دعوه في حرق الله وناره، فتركوه ورجعوا.
قَالَ هِشَام: قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي أَبُو عمرو العذري، قال:
قطع شبيب الجسر حين عبر قال: وقال لي فروة: كنت معه حين انهزمنا فما حرك الجسر، ولا اتبعونا حتى قطعنا الجسر ودخل الحجاج الكوفة، ثم صعد المنبر فحمد الله، ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب.
وقد قيل في قتال الحجاج شبيبا بالكوفة ما ذكره عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن المغيرة بن عطية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مزاحم بن زفر بن جساس التيمي، قال: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه وهو على سرير عليه لحاف، فقال: إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشيروا علي، إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم، ودخل حريمكم، وقتل مقاتلتكم، فأشيروا علي، فأطرقوا وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: إن أذن لي الأمير تكلمت، فقال، تكلم، فقال: إن الأمير والله ما راقب الله، ولا حفظ أمير المؤمنين، ولا نصح للرعية، ثم جلس بكرسيه في الصف.
قال: وإذا هو قتيبة، قال: فغضب الحجاج وألقى اللحاف، ودلى قدميه من السرير كأني أنظر إليهما، فقال: من المتكلم؟ قال: فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال: فما الرأي؟ قال: أن تخرج إليه فتحاكمه، قال: فارتد لي معسكرا ثم اغد إلي، قال:
فخرجنا نلعن عنبسة بن سعيد، وكان كلم الحجاج في قتيبة، فجعله من أصحابه، فلما أصبحنا وقد أوصينا جميعا، غدونا في السلاح، فصلى الحجاج الصبح ثم دخل، فجعل رسوله يخرج ساعة بعد ساعة فيقول:
أجاء بعد؟ أجاء بعد؟ ولا ندري من يريد! وقد أفعمت المقصورة بالناس، فخرج الرسول فقال: أجاء بعد؟ وإذا قتيبة يمشي في المسجد عليه قباء هروي أصفر، وعمامة خز أحمر، متقلدا سيفا عريضا قصير الحمائل كأنه في إبطه، قد أدخل بركة قبائه في منطقته، والدرع يصفق ساقيه ففتح له الباب فدخل ولم يحجب، فلبث طويلا ثم خرج، وأخرج معه لواء منشورا، فصلى الحجاج ركعتين، ثم قام فتكلم، وأخرج اللواء من باب الفيل، وخرج الحجاج يتبعه، فإذا بالباب بغلة شقراء غراء محجلة فركبها، وعارضه الوصفاء بالدواب، فأبى غيرها، وركب الناس، وركب قتيبة فرسا أغر محجلا كميتا كأنه في سرجه رمانة من عظم السرج، فأخذ في طريق دار السقاية حتى خرج إلى السبخة وبها عسكر شبيب، وذلك يوم الأربعاء فتواقفوا، ثم غدوا يوم الخميس للقتال، ثم غادوهم يوم الجمعة، فلما كان وقت الصلاة انهزمت الخوارج قال أبو زيد: حدثني خلاد بن يزيد، قال: حدثنا الحجاج بن قتيبة، قال: جاء شبيب وقد بعث إليه الحجاج أميرا فقتله، ثم آخر فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، قال: فجاء حتى دخل الكوفة ومعه غزالة، وقد كانت نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران قال: ففعلت قال: واتخذ شبيب في عسكره أخصاصا، فقام الحجاج فقال: لا أراكم تناصحون في قتال هؤلاء القوم يا أهل العراق! وأنا كاتب إلى أمير المؤمنين ليمدني بأهل الشام قال:
فقام قتيبة فقال: إنك لم تنصح لله ولا لأمير المؤمنين في قتالهم.
قال عمر بن شبة: قال خلاد: فحدثني مُحَمَّد بن حفص بن موسى ابن عبيد الله بن معمر بن عثمان التميمي أن الحجاج خنق قتيبة بعمامته خنقا شديدا.
ثم رجع الحديث إلى حديث الحجاج وقتيبة قال: فقال:
وكيف ذاك؟ قال: تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعا من الناس فينهزمون عنه، ويستحيى فيقاتل حتى يقتل، قال:
فما الرأي؟ قال: أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيؤاسونك بانفسهم قال: فلعنه من ثم وقال الحجاج: والله لأبرزن له غدا، فلما كان الغد حضر الناس، فقال قتيبة: اذكر يمينك أصلح الله الأمير! فلعنوه أيضا وقال الحجاج: اخرج فارتد لي معسكرا، فذهب وتهيأ هو وأصحابه فخرجوا، فأتى على موضع فيه بعض القذر، موضع كناسه، فقال: القوا لي هاهنا فقيل: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعونني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقه طيبة قال: فنزل وصف الناس وخالد بن عتاب بن ورقاء مسخوط عليه فليس في القوم، وجاء شبيب وأصحابه فقربوا دوابهم، وخرجوا يمشون، فقال لهم شبيب: الهوا عن رميكم، ودبوا تحت تراسكم، حتى إذا كانت أسنتهم فوقها، فأزلقوها صعدا، ثم ادخلوا تحتها لتستقلوا فتقطعوا أقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله فأقبلوا يدبون إليهم وجاء خالد بن عتاب في شاكريته، فدار من وراء عسكرهم، فأضرم أخصاصهم بالنار، فلما رأوا ضوء النار وسمعوا معمعتها التفتوا فرأوها في بيوتهم، فولوا إلى خيلهم وتبعهم الناس، وكانت الهزيمة ورضي الحجاج عن خالد، وعقد له على قتالهم.
قال: ولما قتل شبيب عتابا أراد دخول الكوفة ثانية، فأقبل حتى شارفها فوجه إليه الحجاج سيف بن هانئ ورجلا معه ليأتياه بخبر شبيب، فأتيا عسكره، ففطن بهما، فقتل الرجل، وأفلت سيف، وتبعه رجل من الخوارج، فأوثب سيف فرسه ساقية، ثم سأل الرجل الأمان على أن يصدقه، فآمنه، فأخبره أن الحجاج بعثه وصاحبه ليأتياه بخبر شبيب.
قال: فأخبره أنا نأتيه يوم الاثنين فأتى سيف الحجاج فأخبره، فقال:
كذب وماق، فلما كان يوم الاثنين توجهوا يريدون الكوفة، فوجه إليهم الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي، فلقيه شبيب بزرارة فقتله، وهزم أصحابه ودنا من الكوفة فبعث البطين في عشرة فوارس يرتاد له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق، فأقبل البطين وقد وجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس، فعقروا فرس حوشب وهزموه ونجا، ومضى البطين إلى دار الرزق، وعسكر على شاطئ الفرات، وأقبل شبيب فنزل دون الجسر، فلم يوجه إليه الحجاج أحدا، فمضى فنزل السبخة بين الكوفة والفرات، فأقام ثلاثا لا يوجه إليه الحجاج أحدا، فأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه، فوجه قتيبة بن مسلم، فهيأ له عسكرا ثم رجع، فقال: وجدت المأتي سهلا، فسر على الطائر الميمون، فنادى في أهل الكوفة فخرجوا، وخرج معه الوجوه حتى نزلوا في ذلك العسكر وتواقفوا، وعلى ميمنة شبيب البطين، وعلى ميسرته قعنب مولى بني أبي ربيعة بن ذهل، وهو في زهاء مائتين، وجعل الحجاج على ميمنته مطر بن ناجية الرياحي، وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي في زهاء أربعة آلاف، وقيل له: لا تعرفه موضعك، فتنكر وأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب، فحمل عليه، فضربه بعمود وزنه خمسة عشر رطلا فقتله، وشبه له أعين صاحب حمام أعين بالكوفة، وهو مولى لبكر بن وائل فقتله، فركب الحجاج بغلة غراء محجلة، وقال: إن الدين أغر محجل، وقال لأبي كعب: قدم لواءك، أنا ابن أبي عقيل وحمل شبيب على خالد بن عتاب وأصحابه، فبلغ بهم الرحبة، وحملوا على مطر بن ناجية فكشفوه، فنزل عند ذلك الحجاج وأمر أصحابه فنزلوا، فجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب، فقال: ما تقول في صالح بن مسرح؟ وبم تشهد عليه؟ قال: أعلى هذه الحال، وفي هذه الحزة! والحجاج ينظر، قال: فبرئ من صالح، فقال مصقلة: برئ الله منك، وفارقوه إلا أربعين فارسا هم أشد أصحابه، وانحاز الآخرون إلى دار الرزق، وقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتاهم فقاتلهم، فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج فارس فعرفه شبيب، فأمر علوان فشد على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ودفنه وقال: هي أقرب إليكم رحما- يعني غزالة.
ومضى القوم على حاميتهم، ورجع خالد إلى الحجاج فأخبره بانصراف القوم، فأمره أن يحمل على شبيب فحمل عليهم، وأتبعه ثمانية، منهم قعنب والبطين وعلوان وعيسى والمهذب وابن عويمر وسنان، حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب في موقفه بخوط بن عمير السدوسي، فقال له شبيب: يا خوط، لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ، * فقال شبيب: خوط من أصحابكم، ولكنه كان يخاف، فأطلقه وأتي بعمير بن القعقاع فقال له: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* يا عمير، فجعل لا يفقه عنه، ويقول:
في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إِلَّا لِلَّهِ* ليتخلصه، فلم يفقه فأمر بقتله، وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر النفر الذين تبعوا خالدا فأبطئوا، ونعس شبيب فأيقظه حبيب بن خدرة، وجعل أصحاب الحجاج لا يقدمون عليه هيبة له، وسار إلى دار الرزق، فجمع رثة من قتل من أصحابه، وأقبل الثمانية إلى موضع شبيب فلم يجدوه، فظنوا أنهم قتلوه، ورجع مطر وخالد الى الحجاج فامر هما فأتبعا الرهط الثمانية، وأتبع الرهط شبيبا، فمضوا جميعا حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هنالك وخالد يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرجوا عليه فهزموه نحوا من فرسخين حتى ألقوا أنفسهم في دجلة بخيلهم، وألقى خالد نفسه بفرسه فمر به ولواؤه في يده، فقال شبيب: قاتله الله فارسا وفرسه! هذا أشد الناس، وفرسه أقوى فرس في الأرض، فقيل له: هذا خالد بن عتاب، فقال: معرق له في الشجاعة، والله لو علمت لأقحمت خلفه ولو دخل النار رجع الحديث إِلَى حديث أبي مخنف عَنْ أبي عمرو العذري، أن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب، ثم صعد المنبر، فقال: والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها، ولى والله هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، فقال له الحجاج: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله قد فل حده، وقصم نابه فخرج حبيب بن عبد الرحمن في أثر شبيب حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب أن من جاءنا منهم فهو آمن، فكان كل من ليست له تلك البصيرة ممن قد هده القتال يجيء فيؤمن، وقبل ذلك ما قد نادى فيهم الحجاج يوم هزموا: أن من جاءنا منكم فهو آمن، فتفرق عنه ناس كثير من أصحابه، وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن الأنبار، فأقبل بأصحابه حتى إذا دنا من عسكرهم نزل فصلى بهم المغرب.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: أنا والله في أهل الشام ليلة جاءنا شبيب فبيتنا قال: فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن فجعلنا أرباعا، وقال لكل ربع منا: ليجزى كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يغثهم هذا الربع الآخر، فإنه قد بلغني أن هذه الخوارج منا قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون، فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب فبيتنا، فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري فضاربهم طويلا، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر، وقد جعل عليهم سعد بن بجل العامري فقاتلهم، فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الآخر وعليهم النعمان بن سعد الحميري فما قدر منهم على شيء، ثم أقبل على الربع الآخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشيء، ثم أطاف بنا يحمل علينا حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، وألز بنا حتى قلنا، لا يفارقنا، ثم نازلنا راجلا طويلا، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، قتلنا منهم نحوا من ثلاثين، وقتلوا منا نحوا من مائة، والله لو كانوا فيما نرى يزيدون على مائة رجل لأهلكونا، وايم الله على ذلك ما فارقونا حتى مللناهم وملونا، وكرهونا وكرهناهم، ولقد رأيت الرجل منا يضرب بسيفه الرجل منهم فما يضره شيء من الأعياء والضعف، ولقد رايت الرجل منا يقاتل جالسا ينفح بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء، فلما يئسوا منا ركب شبيب ثم قال لمن كان نزل من أصحابه: اركبوا، فلما استووا على متون خيولهم وجه منصرفا عنا.
قال أبو مخنف: حدثني فروة بن لقيط، عن شبيب، قال: لما انصرفنا عنهم وبنا كآبة شديدة، وجراحة ظاهرة، قال لنا: ما أشد هذا الذي بنا لو كنا إنما نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في ثواب الله! فقال أصحابه:
صدقت يا أمير المؤمنين، قال: فما أنسى منه إقباله على سويد بن سليم ولا مقالته له: قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، والآخر أجبن الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، ثم خرج قبل أصحابه وخرجت معه، فقال: كأنك لم تشتر علفا، فقلت:
إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، فقلت له: أين ترى عدونا هذا نزل؟
قال: بلغني أنه قد نزل منا قريبا، وايم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا، قلت: فتحب ذلك؟ قال: نعم، قلت له: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت سيفي، فخر والله ميتا، فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو قد مات، فانصرفت راجعا، فأستقبل الآخر خارجا من القرية، فقال: أين تذهب هذه الساعة؟ وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم! فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، وأتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه فقلت له: مالك؟ فقال: أنت والله من عدونا؟ فقلت: أجل والله، فقال: والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك، فحملت عليه وحمل علي، فاضطربنا بسيفينا ساعه، فو الله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه، فقتلته، قال: فمضينا حتى قطعنا دجلة، ثم أخذنا في أرض جوخى حتى قطعنا دجلة مرة أخرى من عند واسط، ثم أخذنا إلى الأهواز ثم الى فارس، ثم ارتفعنا الى كرمان. 1

ذكر الخبر عن مهلك شبيب
وفي هذه السنة هلك شبيب في قول هشام بن مُحَمَّد، وفي قول غيره كان هلاكه سنة ثمان وسبعين.
ذكر سبب هلاكه:
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ: قَالَ: حَدَّثَنِي أبو يزيد السكسكي، قال: أقفلنا الحجاج إليه- يعني إلى شبيب- فقسم فينا مالا عظيما، وأعطى كل جريح منا وكل ذي بلاء، ثم أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إلى شبيب، فتجهز سفيان، فشق ذلك على حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته وقتلت فرسان أصحابه! فأمضى سفيان بعد شهرين، وأقام شبيب بكرمان، حتى إذا انجبر واستراش هو وأصحابه أقبل راجعا، فيستقبله سفيان بجسر دجيل الأهواز، وقد كان الحجاج كتب إلى الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل، وهو زوج ابنة الحجاج وعامله على البصرة.
أما بعد، فابعث رجلا شجاعا شريفا من أهل البصرة في أربعة آلاف إلى شبيب، ومره فليلحق بسفيان بن الأبرد، وليسمع له وليطع.
فبعث إليه زياد بن عمرو العتكي في أربعة آلاف، فلم ينته إلى سفيان حتى التقى سفيان وشبيب، ولما أن التقيا بجسر دجيل عبر شبيب إلى سفيان فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وبعث مهاصر بن صيفي العذري على الخيل، وبعث على ميمنته بشر بن حسان الفهري، وبعث على ميسرته عمر بن هبيرة الفزاري، فأقبل شبيب في ثلاثة كراديس من أصحابه، هو في كتيبة وسويد في كتيبة، وقعنب المحلمي في كتيبة، وخلف المحلل بن وائل في عسكره قال: فلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان، وقعنب وهو في ميسرته على ميمنته حمل هو على سفيان، فاضطربنا طويلا من النهار، حتى انحازوا فرجعوا إلى المكان الذي كانوا فيه، فكر علينا هو وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، كل ذلك لا نزول من صفنا وقال لنا سفيان بن الأبرد: لا تتفرقوا، ولكن لتزحف الرجال اليهم زحفا، فو الله ما زلنا نطاعنهم ونضاربهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو من مائة رجل، فقاتلناهم حتى المساء أشد قتال قاتله قوم قط، فما هو إلا أن نزلوا فأوقعوا لنا من الطعن والضرب شيئا ما رأينا مثله من قوم قط فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن مع ذلك ظفرهم، دعا الرماة فقال:
ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان التقاؤهم نصف النهار، فرماهم أصحاب النبل بالنبل، عند المساء، وقد صفهم سفيان بن الأبرد على حدة، وبعث على المرامية رجلا، فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم، فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم، فشغلناهم عنهم، فلما رموا بالنبل ساعة ركب شبيب وأصحابه ثم كروا على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلا، ثم عطف بخيله علينا، فمشى عامدا نحونا، فطاعناه حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال سفيان لأصحابه:
أيها الناس، دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة قال: فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا.
قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط، قال: فما هو إلا أن انتهينا إلى الجسر، فقال: اعبروا معاشر المسلمين، فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله، فعبرنا أمامه، وتخلف في أخرانا، فأقبل على فرسه، وكانت بين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الماذيانة، ونزل حافر رجل فرس شبيب على حرف السفينة، فسقط في الماء، فلما سقط قال: {لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] فارتمس في الماء، ثم ارتفع فقال: {ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]
قال أبو مخنف: فحدثني أبو يزيد السكسكي بهذا الحديث- وكان ممن يقاتله من أهل الشام، وحدثني فروة بن لقيط، وكان ممن شهد مواطنه- فأما رجل من رهطه من بني مرة بن همام فإنه حدثني أنه كان معه قوم يقاتلون من عشيرته، ولم يكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالا كثيرا، فكأن ذلك قد أوجع قلوبهم، وأوغر صدورهم، وكان رجل يقال له مقاتل من بني تيم بن شيبان من أصحاب شبيب، فلما قتل شبيب رجالا من بني تيم بن شيبان أغار هو على بني مرة بن همام فأصاب منهم رجلا، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهم بغير أمري! فقال له: أصلحك الله! قتلت كفار قومي، وقتلت كفار قومك، قال: وأنت الوالي علي حتى تقطع الأمور دوني! فقال: أصلحك الله! أليس من ديننا قتل من كان على غير رأينا، منا كان أو من غيرنا! قال: بلى، قال:
فإنما فعلت ما كان ينبغى، ولا والله يا أمير المؤمنين ما أصبت من رهطك عشر ما أصبت من رهطي، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد من قتل الكافرين، قال: إني لا أجد من ذلك وكان معه رجال كثير قد أصاب من عشائرهم، فزعموا أنه لما تخلف في أخريات أصحابه قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر فندرك ثأرنا الساعة! فقطعوا الجسر، فمالت السفن، ففزع الفرس ونفر، ووقع في الماء فغرق قال أبو مخنف: فحدثني ذلك المري بهذا الحديث، وناس من رهط شبيب يذكرون هذا أيضا، وأما حديث العامة فالحديث الأول.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو يزيد السكسكي، قال: إنا والله لنتهيأ للانصراف إذ جاء صاحب الجسر فقال: أين أميركم؟ قلنا: هو هذا، فجاءه فقال: أصلحك الله! إن رجلا منهم وقع في الماء، فتنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين، وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبرنا، ثم أقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث مهاصر بن صيفي فعبر إلى عسكرهم، فإذا ليس فيه منهم صافر ولا آثر فنزل فيه، فإذا أكثر عسكر خلق الله خيرا، وأصبحنا فطلبنا شبيبا حتى استخرجناه وعليه الدرع، فسمعت الناس يزعمون أنه شق بطنه فأخرج قلبه، فكان مجتمعا صلبا كأنه صخرة، وإنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان، فقال سفيان: احمدوا الله الذي أعانكم فأصبح عسكرهم في أيدينا.
قال أبو زيد عمر بن شبة: حدثني خلاد بن يزيد الأرقط، قال:
كان شبيب ينعى لأمه فيقال: قتل فلا تقبل قال: فقيل لها: إنه غرق، فقبلت، وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء.
قال هشام عن ابى مخنف: حدثنى فروه بن لقيط الأزدي ثم الغامرى أن يزيد بن نعيم أبا شبيب كان ممن دخل في جيش سلمان بن ربيعة إذ بعث به وبمن معه الوليد بن عقبة عن أمر عثمان إياه بذلك مددا لأهل الشام أرض الروم، فلما قفل المسلمون اقيم السبى للبيع، فراى يزيد ابن نعيم أبو شبيب جارية حمراء، لا شهلاء ولا زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، فابتاعها ثم أقبل بها، وذلك سنة خمس وعشرين أول السنة، فلما أدخلها الكوفة قال: أسلمي، فأبت عليه فضربها فلم تزدد إلا عصيانا، فلما رأى ذلك أمر بها فأصلحت، ثم دعا بها فأدخلت عليه، فلما تغشاها تلقت منه بحمل فولدت شبيبا، وذلك سنة خمس وعشرين في ذي الحجة في يوم النحر يوم السبت وأحبت مولاها حبا شديدا- وكانت حدثة- وقالت: إن شئت أجبتك إلى ما سألتني من الاسلام، فقال لها: شئت، فأسلمت، وولدت شبيبا وهي مسلمة، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قبلي شهاب فثقب يسطع حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينا هو كذلك إذ وقع في ماء كثير جار فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي هذا غلاما، أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعا قال: فكان أبوه يختلف به وبأمه إلى البادية إلى أرض قومه على ماء يدعى اللصف.
قال أبو مخنف: وحدثني موسى بن أبي سويد بن رادي أن جند أهل الشام الذين جاءوا حملوا معهم الحجر فقالوا: لا نفر من شبيب حتى يفر هذا الحجر، فبلغ شبيبا أمرهم، فأراد أن يكيدهم، فدعا بأفراس أربعة، فربط في أذنابها ترسة في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب معه ثمانية نفر من أصحابه، ومعه غلام له يقال له حيان، وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار حتى يأتي ناحية من العسكر، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر، وأن يجعلوا مع كل رجلين فرسا، ثم يمسوها الحديد حتى تجد حرة ويخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، فقال: من نجا منكم فإن موعده هذه التلعة، وكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم به، فنزل حيث رأى ذلك منهم حتى صنع بالخيل مثل الذي أمرهم، ثم وغلت في العسكر، ودخل يتلوها محكما فضرب الناس بعضهم بعضا، فقام صاحبهم الذي كان عليهم، وهو حبيب بن عبد الرحمن الحكمي، فنادى: أيها الناس، إن هذه مكيدة، فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر، ففعلوا وبقي شبيب في عسكرهم، فلزم الأرض حيث رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنته، فلما أن هدأ الناس ورجعوا إلى أبنيتهم خرج في غمارهم حتى أتى التلعة، فإذا هو بحيان، فقال: أفرغ يا حيان على رأسي من الماء، فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان أن يضرب عنقه، فقال لنفسه: لا أجد لي مكرمة ولا ذكرا أرفع من قتلي هذا، وهو امانى عند الحجاج، فاستقبلته الرعده حيث هم بما هم به، فلما أبطأ بحل الإداوة قال: ما يبطئك بحلها! فتناول السكين من موزجه فخرقها به، ثم ناولها إياه، فأفرغ عليه من الماء فقال حيان: منعني والله الجبن وما أخذني من الرعدة أن أضرب عنقه بعد ما هممت به ثم لحق شبيب بأصحابه في عسكره.

خروج مطرف بن المغيره على الحجاج وعبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة خرج مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج، وخلع عبد الملك بن مروان ولحق بالجبال فقتل.
ذكر السبب الذي كان عند خروجه وخلعه عبد الملك بن مروان:
قَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يوسف بن يزيد بن بكر الأزدي أن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء نبلاء، أشرافا بأبدانهم سوى شرف أبيهم ومنزلتهم في قومهم قال: فلما قدم الحجاج فلقوه وشافههم علم أنهم رجال قومه وبنو أبيه، فاستعمل عروة بن المغيرة على الكوفة، ومطرف بن المغيرة على المدائن، وحمزة بن المغيرة على همدان.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يَزِيدَ بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سعد بن نفيل الأزدي، قال: قدم علينا مطرف بن المغيرة بن شعبة المدائن فصعد الْمِنْبَر فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الأمير الحجاج أصلحه الله قد ولاني عليكم، وأمرني بالحكم بالحق، والعدل في السيرة، فإن عملت بما أمرني به فأنا أسعد الناس، وان لم افعل فنفسي او بقت، وحظ نفسي ضيعت، ألا إني جالس لكم العصرين، فارفعوا إلي حوائجكم، وأشيروا علي بما يصلحكم ويصلح بلادكم، فإني لن آلوكم خيرا ما استطعت ثم نزل.
وكان بالمدائن إذ ذاك رجال من أشراف أهل المصر وبيوتات الناس، وبها مقاتلة لا تسعها عدة، إن كان كون بأرض جوخى أو بأرض الأنبار فأقبل مطرف حين نزل حتى جلس للناس في الإيوان، وجاء حكيم بن الحارث الأزدي يمشي نحوه، وكان من وجوه الأزد وأشرافهم، وكان الحجاج قد استعمله بعد ذلك على بيت المال- فقال له: أصلحك الله! إني كنت منك نائيا حين تكلمت، وإني أقبلت نحوك لأجيبك، فوافق ذلك نزولك، إنا قد فهمنا ما ذكرت لنا، أنه عهد إليك، فأرشد الله العاهد والمعهود إليه، وقد منيت من نفسك العدل، وسألت المعونة على الحق، فأعانك الله على ما نويت، إنك تشبه أباك في سيرته برضا الله والناس، فقال له مطرف:
هاهنا إلي، فأوسع له فجلس إلى جنبه.
قال أبو مخنف: فحدثني الحصين بن يزيد أنه كان من خير عامل قدم عليهم قط، أقمعه لمريب، وأشده إنكارا للظلم، فقدم عليه بشر بن الأجدع الهمداني، ثم الثوري، وكان شاعرا فقال:

اتى كلفت بخود غير فاحشة *** غراء وهنانة حسانة الجيد
كأنها الشمس يوم الدجن إذ برزت *** تمشي مع الآنس الهيف الأماليد
سل الهوى بعلنداة مذكرة *** عنها إلى المجتدى ذي العرف والجود
إلى الفتى الماجد الفياض نعرفه *** في الناس ساعة يحلى كل مردود
من الأكارم أنسابا إذا نسبوا *** والحامل الثقل يوم المغرم الصيد
إني أعيذك بالرحمن من نفر *** حمر السبال كأسد الغابة السود
فرسان شيبان لم نسمع بمثلهمُ *** أبناء كل كريم النجل صنديد
شدوا على ابن حصين في كتيبته *** فغادروه صريعا ليلة العيد
وابن المجالد أردته رماحهمُ *** كأنما زل عن خوصاء صيخود
وكل جمع بروذابار كان لهم *** قد فض بالطعن بين النخل والبيد

فقال له: ويحك! ما جئت الا لترغبنا وقد كان شبيب أقبل من ساتيدما، فكتب مطرف إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أكرمه الله أن شبيبا قد أقبل نحونا، فإن رأى الأمير أن يمدني برجال أضبط بهم المدائن فعل، فإن المدائن باب الكوفة وحصنها فبعث إليه الحجاج بن يوسف سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف في مائتين وعبد الله بن كناز في مائتين، وجاء شبيب فاقبل حتى نزل قناطر حذيفة، ثم جاء حتى انتهى إلى كلواذا، فعبر منها دجلة، ثم أقبل حتى نزل مدينة بهرسير ومطرف بن المغيرة في المدينة العتيقة التي فيها منزل كسرى والقصر الأبيض، فلما نزل شبيب بهرسير قطع مطرف الجسر فيما بينه وبين شبيب، وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالا من صلحاء أصحابك ادار سهم القرآن، وأنظر ما تدعون إليه، فبعث إليه رجالا، منهم سويد بن سليم وقعنب والمحلل بن وائل، فلما أدني منهم المعبر وأرادوا ان ينزلوا فيه ارسل اليهم شبيب الا تدخلوا السفينة حتى يرجع إلي رسولي من عند مطرف، وبعث إلى مطرف: أن ابعث إلي بعدة من أصحابك حتى ترد علي أصحابي، فقال لرسوله: القه فقل له: فكيف آمنك على أصحابي إذا بعثتهم الآن إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأرسل إليه شبيب: إنك قد علمت أنا لا نستحل في ديننا الغدر، وأنتم تفعلونه وتهونونه فسرح إليه مطرف الربيع بن يزيد الأسدي، وسُلَيْمَان بن حذيفة بن هلال بن مالك المزني، ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة- وكان على حرس مطرف- فلما وقعوا في يديه بعث أصحابه إليه.
قَالَ أَبُو مخنف:
حَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: كنت عند مطرف ابن المغيرة بن شعبة فما أدري أقال: أني كنت في الجند الذين كانوا معه، أو قال: كنت بإزائه حيث دخلت عليه رسل شبيب! وكان لي ولأخي ودا مكرما، ولم يكن ليستر منا شيئا، فدخلوا عليه وما عنده أحد من الناس غيري وغير أخي حلام بن صالح، وهم ستة ونحن ثلاثة، وهم شاكون في السلاح، ونحن ليس علينا إلا سيوفنا، فلما دنوا قال سويد: السلام على من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله، فقال له مطرف: أجل، فسلم الله على أولئك، ثم جلس القوم، فقال لهم مطرف: قصوا علي أمركم، وخبروني ما الذي تطلبون؟ والام تدعون؟
فحمد الله سويد بن سليم وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الذي ندعو اليه كتاب الله وسنه محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الذي نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، ولا نقمتم إلا جورا ظاهرا، أنا لكم على هذا متابع، فتابعوني إلى ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم، وتكون يدي وأيديكم واحدة، فقالوا: هات، اذكر ما تريد أن تذكر، فإن يكن ما تدعونا إليه حقا نجبك، قال: فإني أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة العاصين على إحداثهم الذي أحدثوا، وأن ندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين، يؤمرون عليهم من يرضون لأنفسهم على مثل الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت ان ما يراد بالشورى الرضا من قريش رضوا، وكثر تبعكم منهم وأعوانكم على عدوكم، وتم لكم هذا الأمر الذي تريدون.
قال: فوثبوا من عنده، وقالوا: هذا ما لا نجيبك إليه أبدا، فلما مضوا فكادوا أن يخرجوا من صفة البيت التفت إليه سويد بن سليم، فقال:
يا بن المغيرة، لو كان القوم عداة غدرا كنت قد أمكنتهم من نفسك، ففزع لها مطرف، وقال: صدقت وإله موسى وعيسى.
قال: ورجعوا إلى شبيب فأخبروه بمقالته، فطمع فيه، وقال لهم:
ان أصبحتم فليأته أحدكم، فلما أصبحوا بعث إليه سويد وأمره بأمره، فجاء سويد حتى انتهى إلى باب مطرف، فكنت أنا المستأذن له، فلما دخل وجلس أردت أن أنصرف، فقال لي مطرف: اجلس فليس دونك ستر، فجلست وأنا يومئذ شاب أغيد، فقال له سويد: من هذا الذى ليس لك دونه ستر؟ فقال له: هذا الشريف الحسيب، هذا ابن مالك بن زهير بن جذيمة، فقال له: بخ أكرمت فارتبط، إن كان دينه على قدر حسبه فهو الكامل، ثم أقبل عليه فقال: إنا لقينا أمير المؤمنين بالذي ذكرت لنا، فقال لنا: القوه فقولوا له: ألست تعلم أن اختيار المسلمين منهم خيرهم لهم فيما يرون رأي رشيد! فقد مضت به السنه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال لكم: نعم، فقولوا له: فإنا قد اخترنا لأنفسنا أرضانا فينا، وأشدنا اضطلاعا لما حمل، فما لم يغير ولم يبدل فهو ولي أمرنا وقال لنا: قولوا له فيما ذكرت لنا من الشورى حين قلت: أن العرب إذا علمت أنكم إنما تريدون بهذا الأمر قريشا كان أكثر لتبعكم منهم، فإن أهل الحق لا ينقصهم عند الله أن يقلوا، ولا يزيد الظالمين خيرا أن يكثروا، وإن تركنا حقنا الذي خرجنا له، ودخولنا فيما دعوتنا إليه من الشورى خطيئة وعجز ورخصة إلى نصر الظالمين ووهن، لأنا لا نرى أن قريشا أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب وقال: فإن زعم أنهم أحق بهذا الأمر من غيرها من العرب فقولوا له: ولم ذاك؟ فان قال:
لقرابه محمد صلى الله عليه وسلم بهم فقولوا له: فو الله ما كان ينبغي إذا لأسلافنا الصالحين من المهاجرين الأولين أن يتولوا على أسرة مُحَمَّد، ولا على ولد أبي لهب لو لم يبق غيرهم، ولولا أنهم علموا أن خير الناس عند الله أتقاهم، وأن أولاهم بهذا الأمر أتقاهم وأفضلهم فيهم، وأشدهم اضطلاعا بحمل أمورهم ما تولوا أمور الناس، ونحن أول من أنكر الظلم وغير الجور وقاتل الأحزاب، فإن اتبعنا فله ما لنا وعليه ما علينا، وهو رجل من المسلمين، وإلا يفعل فهو كبعض من نعادي ونقاتل من المشركين.
فقال له مطرف: قد فهمت ما ذكرت، ارجع يومك هذا حتى تنظر في أمرنا.
فرجع، ودعا مطرف رجالا من أهل ثقاته واهل نصائحه، منهم سُلَيْمَان بن حذيفة المزني والربيع بن يزيد الأسدي قال النضر بن صالح: وكنت أنا ويزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة قائمين على رأسه بالسيف، وكان على حرسه، فقال لهم مطرف: يا هؤلاء، إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، والله ما زلت لأعمال هؤلاء الظلمة كارها، أنكرها بقلبي، وأغيرها ما استطعت بفعلي وأمري، فلما عظمت خطيئتهم، ومر بي هؤلاء القوم يجاهدونهم، لم أر أنه يسعني إلا مناهضتهم وخلافهم إن وجدت أعوانا عليهم، وإني دعوت هؤلاء القوم فقلت لهم كيت وكيت، وقالوا لي كيت وكيت، فلست أرى القتال معهم، ولو تابعوني على رأيي وعلى ما وصفت لهم لخلعت عبد الملك والحجاج، ولسرت إليهم أجاهدهم فقال له المزني: إنهم لن يتابعوك، وإنك لن تتابعهم فأخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد، وقال له الأسدي مثل ذلك، فجثا مولاه ابن أبي زياد على ركبتيه ثم قال: والله لا يخفى مما كان بينك وبينهم على الحجاج كلمة واحدة، وليزادن على كل كلمة عشرة أمثالها، والله إن لو كنت في السحاب هاربا من الحجاج ليلتمسن أن يصل إليك حتى يهلكك أنت ومن معك، فالنجاء النجاء من مكانك هذا، فإن أهل المدائن من هذا الجانب ومن ذاك الجانب، وأهل عسكر شبيب يتحدثون بما كان بينك وبين شبيب، ولا تمس من يومك هذا حتى يبلغ الخبر الحجاج، فاطلب دارا غير المدائن فقال له صاحباه: ما نرى الرأي إلا كما ذكر لك، قال لهما مطرف: فما عند كما؟ قالا: الإجابة إلى ما دعوتنا إليه والمؤاساة لك بأنفسنا على الحجاج وغيره قال: ثم نظر إلي، فقال:
ما عندك؟ فقلت: قتال عدوك، والصبر معك ما صبرت، فقال لي:
ذاك الظن بك.
قال: ومكث حتى إذا كان في اليوم الثالث أتاه قعنب فقال له:
إن تابعتنا فأنت منا، وإن أبيت فقد نابذناك، فقال: لا تعجلوا اليوم فإنا ننظر.
قال: وبعث إلى أصحابه أن ارحلوا الليلة من عند آخركم حتى توفوا الدسكرة معي لحدث حدث هنالك ثم أدلج وخرج أصحابه معه حتى مر بدير يزدجرد فنزله، فلقيه قبيصة بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ القحافي من خثعم، فدعاه إلى صحبته، فصحبه فكساه وحمله، وأمر له بنفقة، ثم سار حتى نزل الدسكرة، فلما أراد أن يرتحل منها لم يجد بدا من أن يعلم أصحابه ما يريد، فجمع إليه رءوس أصحابه، فذكر الله بما هو أهله وصلى على رسوله، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَمَّا بَعْدُ، فإن اللَّه كتب الجهاد على خلقه، وأمر بالعدل والإحسان، وقال فيما أنزل علينا: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ} [المائدة: 2] وإني أشهد الله أني قد خلعت عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف، فمن أحب منكم صحبتي وكان على مثل رأيي فليتابعني، فإن له الأسوة وحسن الصحبة، ومن أبى فليذهب حيث شاء، فإني لست أحب أن يتبعني من ليست له نية في جهاد أهل الجور، أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى قتال الظلمة، فإذا جمع الله لنا أمرنا كان هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوا قال: فوثب إليه أصحابه فبايعوه، ثم إنه دخل رحله وبعث إلى سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وإلى عبد الله بن كناز النهدي فاستخلاهما، ودعاهما إلى مثل ما دعا إليه عامة أصحابه، فأعطياه الرضا، فلما ارتحل انصرفا بمن معهما من أصحابه حتى أتيا الحجاج فوجداه قد نازل شبيبا، فشهدا معه وقعة شبيب قال: وخرج مطرف بأصحابه من الدسكرة موجها نحو حلوان، وقد كان الحجاج بعث في تلك السنة سويد بن عبد الرحمن السعدي على حلوان وماسبذان، فلما بلغه أن مطرف بن المغيرة قد أقبل نحو أرضه عرف أنه إن رفق في أمره أو داهن لا يقبل ذلك منه الحجاج، فجمع له سويد أهل البلد والأكراد، فأما الأكراد فأخذوا عليه ثنية حلوان، وخرج إليه سويد وهو يحب أن يسلم من قتاله، وأن يعافى من الحجاج، فكان خروجه كالتعذير.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة الخثعمي أن الحجاج بن جارية الخثعمي حين سمع بخروج مطرف من المدائن نحو الجبل أتبعه في نحو من ثلاثين رجلا من قومه وغيرهم قال: وكنت فيهم فلحقناه بحلوان، فكنا ممن شهد معه قتال سويد بن عبد الرحمن.
قال أبو مخنف: وحدثني بذلك أيضا النضر قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة قال: ما هو إلا أن قدمنا على مطرف بن المغيرة، فسر بمقدمنا عليه، واجلس الحجاج ابن جارية معه على مجلسه.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح، وعبد الله بن علقمه، ان سويدا لما خرج اليهم بمن معه وقف في الرجال ولم يخرج بهم من البيوت، وقدم ابنه القعقاع في الخيل، وما خيله يومئذ بكثير.
قَالَ أَبُو مخنف: قَالَ النضر بن صالح: أراهم كانوا مائتين، وقال ابن ابن علقمه: اراهم كانوا ينقصون عن الثلاثمائة قال: فدعا مطرف الحجاج بن جارية فسرحه إليهم في نحو من عدتهم، فأقبلوا نحو القعقاع وهم جادون في قتاله، وهم فرسان متعالمون، فلما رآهم سويد قد تيسروا نحو ابنه أرسل إليهم غلاما له يقال له رستم- قتل معه بعد ذلك بدير الجماجم- وفي يده راية بني سعد، فانطلق غلامه حتى انتهى إلى الحجاج بن جارية، فأسر إليه: إن كنتم تريدون الخروج من بلادنا هذه إلى غيرها فاخرجوا عنا، فإنا لا نريد قتالكم، وإن كنتم إيانا تريدون فلا بد من منع ما في أيدينا فلما جاءه بذلك قال له الحجاج بن جارية: ائت أميرنا فاذكر له ما ذكرت لي، فخرج حتى أتى مطرفا فذكر له مثل الذي ذكر للحجاج بن جارية، فقال له مطرف:
ما أريدكم ولا بلادكم، فقال له: فالزم هذا الطريق حتى تخرج من بلادنا، فإنا لا نجد بدا من أن يرى الناس وتسمع بذلك إنا قد خرجنا إليك قال: فبعث مطرف إلى الحجاج فأتاه، ولزموا الطريق حتى مروا بالثنية فإذا الأكراد بها، فنزل مطرف ونزل معه عامة أصحابه وصعد إليهم في الجانب الأيمن الحجاج بن جارية، وفي الجانب الأيسر سُلَيْمَان بن حذيفة، فهزماهم وقتلاهم، وَسَلَّمَ مطرف وأصحابه فمضوا حتى دنوا من همذان، فتركها وأخذ ذات اليسار إلى ماه دينار، وكان أخوه حمزة بن المغيرة على همذان، فكره أن يدخلها فيتهم أخوه عند الحجاج، فلما دخل مطرف أرض ماه دينار كتب إلى أخيه حمزة:
أما بعد، فإن النفقة قد كثرت والمؤنة قد اشتدت، فأمدد أخاك بما قدرت عليه من مال وسلاح.
وبعث إليه يزيد بن أبي زياد مولى المغيرة بن شعبة، فجاء حتى دخل على حمزة بكتاب مطرف ليلا، فلما رآه قال له: ثكلتك أمك! أنت قتلت مطرفا؟ فقال له: ما أنا قتلته جعلت فداك! ولكن مطرفا قتل نفسه وقتلني، وليته لا يقتلك، فقال له: ويحك! من سول له هذا الأمر! فقال: نفسه سولت هذا له ثم جلس إليه فقص عليه القصص، وأخبره بالخبر، ودفع كتاب مطرف إليه، فقرأه ثم قال: نعم، وأنا باعث إليه بمال وسلاح، ولكن أخبرني ترى ذلك يخفى لي؟
قال: ما أظن أن يخفى، فقال له حمزه: فو الله لئن أنا خذلته في أنفع النصرين له نصر العلانية، لا أخذله في أيسر النصرين نصر السريرة.
قال: فسرح إليه مع يزيد بن أبي زياد بمال وسلاح، فأقبل به حتى أتى مطرفا ونحن نزول في رستاق من رساتيق ماه دينار، يقال له: سامان متاخم ارض أصبهان، وهو رستاق كانت الحمراء تنزله.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، قال: والله ما هو إلا أن مضى يزيد بن أبي زياد، فسمعت أهل العسكر يتحدثون أن الأمير بعث إلى أخيه يسأله النفقة والسلاح، فأتيت مطرفا فحدثته بذلك، فضرب بيده على جبهته ثم قال: سبحان الله!، قال الأول: ما يخفى الا مالا يكون، قال: وما هو إلا أن قدم يزيد بن أبي زياد علينا، فسار مطرف بأصحابه حتى نزل قم وقاشان وأصبهان.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن مطرفا حين نزل قم وقاشان واطمأن، دعا الحجاج بن جارية فقال له: حدثني عن هزيمة شبيب يوم السبخة أكانت وأنت شاهدها، أم كنت خرجت قبل الوقعة؟
قال: لا، بل شهدتها، قال: فحدثني حديثهم كيف كان؟ فحدثه، فقال: إني كنت أحب أن يظفر شبيب وإن كان ضالا.
فيقتل ضالا قال: فظننت أنه تمنى ذلك لأنه كان يرجو أن يتم له الذي يطلب لو هلك الحجاج قال: ثم إن مطرفا بعث عماله.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح أن مطرفا عمل عملا حازما لولا أن الأقدار غالبة قال: كتب مع الربيع بن يزيد الى سويد ابن سرحان الثقفي، وإلى بكير بن هارون البجلي:
أما بعد، فإنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وإلى جهاد من عند عن الحق، واستأثر بالفيء، وترك حكم الكتاب، فإذا ظهر الحق ودمغ الباطل، وكانت كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، جعلنا هذا الأمر شورى بين الأمة يرتضي المسلمون لأنفسهم الرضا، فمن قبل هذا منا كان أخانا في ديننا، وولينا في محيانا ومماتنا، ومن رد ذلك علينا جاهدناه واستنصرنا الله عليه فكفى بنا عليه حجة، وكفى بتركه الجهاد في سبيل الله غبنا، وبمداهنة الظالمين في أمر الله وهنا! إن الله كتب القتال على المسلمين وسماه كرها، ولن ينال رضوان الله إلا بالصبر على أمر الله، وجهاد أعداء الله، فأجيبوا رحمكم الله إلى الحق، وادعوا إليه من ترجون اجابته، وعرفوه مالا يعرفه، وليقبل إلي كل من رأى رأينا، وأجاب دعوتنا، ورأى عدوه عدونا.
أرشدنا الله وإياكم، وتاب علينا وعليكم، إنه هو التواب الرحيم والسلام فلما قدم الكتاب على ذينك الرجلين دبا في رجال من أهل الري ودعوا من تابعهما، ثم خرجا في نحو من مائة من أهل الري سرا لا يفطن بهم، فجاءوا حتى وافوا مطرفا وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان: أما بعد، فإن كان للأمير أصلحه الله حاجة في أصبهان فليبعث إلى مطرف جيشا كثيفا يستأصله ومن معه، فإنه لا تزال عصابة قد انتفحت له من بلدة من البلدان حتى توافيه بمكانه الذي هو به، فإنه قد استكثف وكثر تبعه، والسلام.
فكتب إليه الحجاج:
أما بعد، إذا أتاك رسولي فعسكر بمن معك، فإذا مر بك عدى ابن وتاد فاخرج معه في أصحابك، واسمع له وأطع والسلام.
فلما قرأ كتابه خرج فعسكر، وجعل الحجاج بن يوسف يسرح إلى البراء بن قبيصة الرجال على دواب البريد عشرين عشرين، وخمسة عشر خمسة عشر، وعشرة عشرة، حتى سرح اليه نحوا من خمسمائة، وكان في ألفين.
وكان الأسود بن سعد الهمذاني أتى الري في فتح الله على الحجاج يوم لقي شبيبا بالسبخة، فمر بهمذان والجبال، ودخل على حمزة فاعتذر إليه، فقال الأسود: فأبلغت الحجاج عن حمزة، فقال: قد بلغني ذاك، وأراد عزله، فخشي أن يمكر به، وأن يمتنع منه، فبعث إلى قيس بن سعد العجلي- وهو يومئذ على شرطة حمزة بن المغيرة ولبني عجل وربيعة عدد بهمذان- فبعث إلى قيس بن سعد بعهده على همذان، وكتب اليه ان اوثق حمزه ابن المغيرة في الحديد، واحبسه قبلك حتى يأتيك أمري.
فلما أتاه عهده وأمره أقبل ومعه ناس من عشيرته كثير، فلما دخل المسجد وافق الإقامة لصلاة العصر، فصلى حمزة، فلما انصرف حمزة انصرف معه قيس بن سعد العجلي صاحب شرطه، فأقرأه كتاب الحجاج إليه، وأراه عهده، فقال حمزة سمعا وطاعة، فأوثقه وحبسه في السجن، وتولى أمر همذان، وبعث عماله عليها، وجعل عماله كلهم من قومه، وكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أني قد شددت حمزة بن المغيرة في الحديد، وحبسته في السجن، وبعثت عمالي على الخراج، ووضعت يدي في الجباية، فإن رأى الأمير أبقاه الله أن يأذن لي في المسير إلى مطرف أذن لي حتى أجاهده في قومي، ومن أطاعني من أهل بلادي، فإني أرجو أن يكون الجهاد أعظم أجرا من جباية الخراج والسلام.
فلما قرأ الحجاج كتابه ضحك ثم قال: هذا جانب آثرا ما قد أمناه.
وقد كان حمزة بهمذان أثقل ما خلق الله على الحجاج مخافة أن يمد أخاه بالسلاح والمال، ولا يدري لعله يبدو له فيعق، فلم يزل يكيده حتى عزله، فاطمان وقصد قصد مطرف.
قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة أن الحجاج لما قرأ كتاب قيس بن سعد العجلي وسمع قوله: إن أحب الأمير سرت إليه حتى أجاهده في قومي، قال: ما أبغض إلي أن تكثر العرب في أرض الخراج.
قال: فقال لي ابن الغرق: ما هو إلا أن سمعتها من الحجاج فعلمت أنه لو قد فرغ له قد عزله.
قال: وحدثني النضر بن صالح أن الحجاج كتب إلى عدي بن وتاد الإيادي وهو على الري يأمره بالمسير إلى مطرف بن المغيرة وبالممر على البراء ابن قبيصة، فإذا اجتمعوا فهو أمير الناس.
قال أبو مخنف: وحدثني أبي عن عبد الله بن زهير،، عن عبد الله بن سليم الأزدي قال: إني لجالس مع عدي بن وتاد على مجلسه بالري إذ أتاه كتاب الحجاج، فقرأه ثم دفعه إلي، فقرأته فإذا فيه:
أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فانهض بثلاثة أرباع من معك من أهل الري، ثم أقبل حتى تمر بالبراء بن قبيصة بجى، ثم سيرا جميعا، فإذا لقيتهما فأنت أمير الناس حتى يقتل الله مطرفا، فإذا كفى الله المؤمنين مؤنته فانصرف إلى عملك في كنف من الله وكلاءته وستره فلما قرأته قال لي: قم وتجهز.
قال: وخرج فعسكر، ودعا الكتاب فضربوا البعث على ثلاثة أرباع الناس، فما مضت جمعة حتى سرنا فانتهينا إلى جي، ويوافينا بها قبيصة القحافى في تسعمائة من أهل الشام، فيهم عمر بن هبيرة، قال: ولم نلبث بجي إلا يومين حتى نهض عدي بن وتاد بمن أطاعه من الناس ومعه ثلاثة آلاف مقاتل من أهل الري وألف مقاتل مع البراء بن قبيصة بعثهم اليه الحجاج من الكوفه، وسبعمائة من أهل الشام، ونحو ألف رجل من أهل أصبهان والأكراد، فكان في قريب من ستة آلاف مقاتل، ثم أقبل حتى دخل على مطرف بن المغيرة.
قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح، عن عبد الله بن علقمة، أن مطرفا لما بلغه مسيرهم اليه خندق على اصحابه خندقا، فلم يزالوا فيه حتى قدموا عليه.
قال أبو مخنف: وحدثني يزيد مولى عبد الله بن زهير، قال: كنت مع مولاي إذ ذاك، قال: خرج عدي بن وتاد فعبى الناس، فجعل على ميمنته عبد الله بن زهير، ثم قال للبراء بن قبيصة: قم في الميسرة، فغضب البراء، وقال: تأمرني بالوقوف في الميسرة وأنا أمير مثلك! تلك خيلي في الميسرة، وقد بعثت عليها فارس مضر الطفيل بن عامر بن وائلة، قال: فأنهي ذلك إلى عدي بن وتاد، فقال لابن أقيصر الخثعمي: انطلق فأنت على الخيل، وانطلق إلى البراء بن قبيصة فقل له: إنك قد أمرت بطاعتي، ولست من الميمنة والميسرة والخيل والرجالة في شيء، إنما عليك أن تؤمر فتطيع، ولا تعرض لي في شيء أكرهه فأتنكر لك- وقد كان له مكرما.
ثم إن عديا بعث على الميسرة عمر بن هبيرة، وبعثه في مائة من أهل الشام، فجاء حتى وقف برايته، فقال رجل من أصحابه للطفيل بن عامر:
خل رايتك وتنح عنا، فإنما نحن أصحاب هذا الموقف، فقال الطفيل:
إني لا أخاصمكم، إنما عقد لي هذه الراية البراء بن قبيصة، وهو أميرنا، وقد علمنا أن صاحبكم على جماعة الناس، فإن كان قد عقد لصاحبكم هذا فبارك الله له، ما أسمعنا وأطوعنا! فقال لهم عمر بن هبيرة: مهلا، كفوا عن أخيكم وابن عمكم، رايتنا رايتك، فإن شئت آثرناك بها قال: فما رأينا رجلين كانا أحلم منهما في موقفهما ذلك قال: ونزل عدي بن وتاد ثم زحف نحو مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح وعبد الله بن علقمة أن مطرفا بعث على ميمنته الحجاج بن جارية، وعلى ميسرته الربيع بن يزيد الأسدي، وعلى الحامية سليمان بن صخر المزنى، ونزل هو يمشي في الرجال، ورايته مع يزيد بن أبي زياد مولى أبيه المغيرة بن شعبة قال: فلما زحف القوم بعضهم إلى بعض وتدانوا قال لبكير بن هارون البجلي: اخرج إليهم فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، وبكتهم بأعمالهم الخبيثة فخرج إليهم بكير بن هارون على فرس له أدهم أقرح ذنوب عليه الدرع والمغفر والساعدان، في يده الرمح، وقد شد درعه بعصابة حمراء من حواشي البرود، فنادى بصوت له عال رفيع: يا أهل قبلتنا، وأهل ملتنا، وأهل دعوتنا، إنا نسألكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي علمه بما تسرون مثل علمه بما تعلنون لما أنصفتمونا وصدقتمونا، وكانت نصيحتكم لله لا لخلقه، وكنتم شهداء لله على عباده بما يعلمه الله من عباده خبروني عن عبد الملك بن مروان، وعن الحجاج بن يوسف، ألستم تعلمونهما جبارين مستأثرين يتبعان الهوى، فيأخذان بالظنة، ويقتلان على الغضب قال: فتنادوا من كل جانب:
يا عدو الله كذبت، ليسا كذلك، فقال لهم: وَيْلَكُمْ {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ} [طه: 61] ويلكم، أوتعلمون من الله ما لا يعلم، إني قد استشهدتكم وقد قال الله في الشهاده: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، فخرج إليه صارم مولى عدي بن وتاد وصاحب رايته، فحمل على بكير ابن هارون البجلي، فاضطربا بسيفيهما، فلم تعمل ضربة مولى عدي شيئا، وضربه بكير بالسيف فقتله، ثم استقدم، فقال: فارس لفارس، فلم يخرج إليه أحد، فجعل يقول:

صارم قد لاقيت سيفا صارما *** وأسدا ذا لبده ضبار ما

قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسره، وفيها الطفيل بن عامر بن وائله، فالتقى هو والطفيل- وكانا صديقين متؤاخيين- فتعارفا، وقد رفع كل واحد منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلا ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشفت ميسره مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالا طويلا، ثم إنه حذره حتى انتهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سُلَيْمَان بن صخر المزني فقتله، وانكشفت خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف قَالَ أَبُو مخنف: فَحَدَّثَنِي النضر بن صالح انه جعل يناديهم يومئذ: {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده به عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنا.
قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحا ناسكا عفيفا.
أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسه مع ابن أقيصر الخثعمي فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله لقد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرا قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ما له؟ قال: فأخبره بمقالتي، فقال: إنه ضعيف العقل، قال: ثم انصرفنا إلى الري مع عدي بن وتاد قال: وبعث رجالا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال من أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا.
فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسا كثيرا فخلى عنهم.
قال أبو مخنف: وحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة.
قَالَ أَبُو مخنف: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلي فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير قال كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف:
أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدا له فذاك ما أهوى وأحب، وإن كان حيا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلي إن شاء الله والسلام.
قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولا بد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه وقمنا من عنده.
قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنه وقال حبيب بن خدرة مولى لبني هلال بن عامر:

هل أتى فائد عن أيسارنا *** إذ خشينا من عدو خرقا
إذ أتانا الخوف من مأمننا *** فطوينا في سواد أفقا
وسلي هدية يوما هل رأت *** بشرا أكرم منا خلقا!
وسليها أعلى العهد لنا *** أو يصرون علينا حنقا!
ولكم من خلة من قبلها *** قد صرمنا حبلها فانطلقا
قد أصبنا العيش عيشا ناعما *** وأصبنا العيش عيشا رنقا
وأصبت الدهر دهرا أشتهي *** طبقا منه وألوي طبقا
وشهدت الخيل في ملمومة *** ما ترى منهن إلا الحدقا
يتساقون بأطراف القنا *** من نجيع الموت كأسا دهقا
فطراد الخيل قد يؤنقني *** ويرد اللهو عني الأنقا
بمشيح البيض حتى يتركوا *** لسيوف الهند فيها طرقا
فكأني من غد وافقتها *** مثل ما وافق شن طبقا

ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الازارقه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري.
ذكر الخبر عن ذلك، وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك:
ذكر هشام عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَزِيدَ، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريا وأصحابه من الأزارقة بعد ما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوا من سنة ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالا شديدا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت- وجيرفت مدينة كرمان- فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالا شديدا، وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يدي المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إلى الحجاج:
أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فسا ودرابجرد، وكورة إصطخر.
فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول شاعر الأزد وهو يعاتب المهلب:

نقاتل عن قصور درابجرد *** ونجبي للمغيرة والرقاد

وكان الرقاد بن زياد بن همام- رجل من العتيك- كريما على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة، وكتب إلى المهلب:
أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما ارى لقد اصطلمت هذه الخارجه المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك، وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، ثم جاهدهم أشد الجهاد، وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة، والسلام.
فأخرج المهلب بينه، كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم واخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا.
فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة.
قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم، وقال هؤلاء: نحن من بني تميم، فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء:
كيف رأيت؟ قال: رأيت قوما والله ما يعينك عليهم إلا الله فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه، وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصرف إلى الحجاج فأتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج:
أما بعد، فقد أتاني كتاب الأمير أصلحه الله، واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فاما انا فو الله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير- أصلحه الله- فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام.
ثم إن المهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرا لا يستقل منهم شيئا، ولا يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يرد عونهم به ويكفونهم عنهم ثم إن رجلا منهم كان عاملا لقطري على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بنى ضبة، فقتل رجلا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطري، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم:
ما أرى أن أفعل، رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى، قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد رب الكبير، وخلعوا قطريا، وبايع قطريا منهم عصابة نحوا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوا من شهر غدوة وعشية.
فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج:
أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضا غدو وعشيا، وقد رجوت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله، والسلام.
فكتب إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا أتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مئونتهم عليك أشد، والسلام فكتب إليه:
أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضا، فأناهضهم على تفيئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام.
فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرا لا يحركهم.
ثم إن قطريا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالا شديدا ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين وقال كعب الأشقري- والأشقر بطن من الأزد- يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور، وأيام جيرفت.

يا حفص إني عداني عنكمُ السفر *** وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية *** والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت *** أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر
علقت خودا بأعلى الطف منزلها *** في غرفة دونها الأبواب والحجر
درما مناكبها ريا مآكمها *** تكاد إذ نهضت للمشي تنبتر
وقد تركت بشط الزابيين لها *** دارا بها يسعد البادون والحضر
واخترت دارا بها حي أسر بهم *** ما زال فيهم لمن نختارهم خير
لما نبت بي بلادي سرت متجعا *** وطالب الخير مرتاد ومنتظر
أبا سعيد فإني جئت منتجعا *** أرجو نوالك لما مسني الضرر
لولا المهلب ما زرنا بلادهمُ *** ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
فما من الناس من حي علمتهمُ *** إلا يرى فيهمُ من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من نداك كما *** تحيا البلاد إذا ما مسها المطر.
إني لأرجو إذا ما فاقة نزلت *** فضلا من الله في كفيك يبتدر
فاجبر اخالك او هي الفقر قوته *** لعله بعد وهي العظم ينجبر
جفا ذوو نسبي عني وأخلفني *** ظني فلله دري كيف آتمر
يا واهب القينة الحسناء سنتها *** كالشمس هركولة في طرفها فتر
وما تزال بدور منك رائحة *** وآخرون لهم من سيبك الغرر
نماك للمجد أملاك ورثتهمُ *** شم العرانين في أخلاقهم يسر
ثاروا بقتلى وأوتار تعددها *** في حين لا حدث في الحرب يتئر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم *** فما لأمرهمُ ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من احد و *** عضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على *** مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا *** أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم *** فشمر الشيخ لما اعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهمُ *** حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا *** واستنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته *** عنه وليس به في مثله قصر
أفشى هنالك مما كان مذ عصروا *** فيهم صنائع مما كان يدخر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها *** فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت *** وتحتهن ليوث في الوغى وقر
حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا *** برامهرمز وافاهم بها الخبر
نعي بشر فجال القوم وانصدعوا *** إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا
ثم استمر بنا راض ببيعته *** ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا.
حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد *** شبت لنا ولهم نار لها شرر
نلقى مساعير أبطالا كأنهم *** جن نقارعهم ما مثلهم بشر
نسقى ونسقيهمُ سما على حنق *** مستأنفي الليل حتى أسفر السحر
قتلى هنالك لا عقل ولا قود *** منا ومنهم دماء سفكها هدر
حتى تنحوا لنا عنها تسوقهمُ *** منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا
لم يغن عنهم غداة التل كيدهمُ *** عند الطعان ولا المكر الذي مكروا
باتت كتائبنا تردي مسومة *** حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا حزانا بعد ما فرحوا *** وحال دونهمُ الأنهار والجدر
عبوا جنودهمُ بالسفح إذ نزلوا *** بكازرون فما عزوا ولا ظفروا
وقد لقوا مصدقا منا بمنزلة *** ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا
بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت *** أسد بسفك دماء الناس قد زئروا
لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهمُ *** فيهم على من يقاسي حربهم صعر
المقدمين إذ ما خيلهم وردت *** والعاطفين إذا ما ضيع الدبر
وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهمُ *** ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا
والله ما نزلوا يوما بساحتنا *** إلا أصابهمُ من حربنا ظفر
ننفيهمُ بالقنا عن كل منزلة *** تروح منا مساعير وتبتكر
ولوا حذارا وقد هزوا أسنتنا *** نحو الحروب فما نجاهم الحذر
صلت الجبين طويل الباع ذو فرح *** ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر
مجرب الحرب ميمون نقيبته *** لا يستخف ولا من رأيه البطر
وفي ثلاث سنين يستديم بنا *** يقارع الحرب أطوارا ويأتمر.
يقول إن غدا مبد لناظره *** وفي الليالي وفي الأيام معتبر
دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا *** ان المحارب يستأني وينتظر
حتى أتته أمور عندها فرج *** وقد تبين ما يأتي وما يذر
لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا *** وقد تقاربت الآجال والقدر
سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا *** وقبل ذلك كانت بيننا مئر
وزادنا حنقا قتلى نذكرها *** لا تستفيق عيون كلما ذكروا
إذا ذكرنا جروزا والذين بها *** قتلى مضى لهمُ حولان ما قبروا
تأتي علينا حزازات النفوس فما *** نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا *** ولا نقيلهمُ يوما إذا عثروا
لا عذر يقبل منا دون أنفسنا *** ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما *** كالبرق يلمع حتى يشخص البصر
على بصائر كل غير تاركها *** كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا *** مشي الزوامل تهدي صفهم زمر
وشيخنا حوله منا ململمة *** حي من الأزد فيما نابهم صبر
في موطن يقطع الأبطال منظره *** تشاط فيه نفوس حين تبتكر
ما زال منا رجال ثم نضربهم *** بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به *** في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة *** وبيننا ثَم من صم القنا كسر
يغشين قتلى وعقرى ما بها رمق *** كأنما فوقها الجادي يعتصر
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها *** تشفي صدور رجال طالما وتروا
مجاورين بها خيلا معقرة *** للطير فيها وفي أجسادهم جزر
في معرك تحسب القتلى بساحته *** أعجاز نخل زفته الريح ينعقر
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت *** قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقي الأزد مفظعة *** يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علموا *** إذا قرومهمُ يوم الوغى خطروا
فيهم معاقل من عز يلاذ بها *** يوما إذا شمرت حرب لها درر
حي بأسيافهم يبغون مجدهمُ *** إن المكارم في المكروه تبتدر
لولا المهلب للجيش الذي وردوا *** أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا *** بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا *** دينا يخالف ما جاءت به النذر

وقال الطفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه، وذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم:

لقد مس منا عبد رب وجنده *** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهمُ بالجيش حتى أزاحهم *** بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة *** طريد يدوي ليلة غير نائم
إذا فر منا هاربا كان وجهه *** طريقا سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت *** به الفلك في لج من البحر دائم

ذكر الخبر عن هلاك قطري واصحابه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلاف الذى حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه- فِيمَا ذكر هِشَام عن أبي مخنف، عن يونس بن يزيد- سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشا من أهل الشام عظيما في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم وكتب الحجاج إلى إسحاق بن مُحَمَّد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطع لسفيان فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازه وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي، فقطعت المغفر، وقطعت جلدة من حلقي، وأختلج السيف فأضرب به وجهها، فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتة، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز، وقال: ما أردت الى قتل هذه أخزاها الله- فقلت: او ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله.
إن كادت لتقتلني، قال: قد رايت، فو الله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري:
اسقني من الماء- وقد كان اشتد عطشه- فقال: أعطني شيئا حتى أسقيك، فقال: ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيتني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتى بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرا عظيما من فوقه دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سوره بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن مُحَمَّد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارا مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله، فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي- وكلهم يزعم أنه قاتله- فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه.
فأقبل به إلى إسحاق بن مُحَمَّد- وهو على أهل الكوفة- ولم يأته جعفر لشيء كان بينه وبينه قبل ذلك- وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق، وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج، فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا فيه إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما- يعني أنه يفرض للصغار في الديوان- وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره، فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربه فصرعته، ثم جاءوني بعد، فأقبلوا يضربونه بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه قال: جئت الآن وقد سرحنا بالراس فانصرف عنه فقال له اصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أياما ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن، فقال عبيدة بن هلال:

لعمري لقد قام الأصم بخطبة *** لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي *** وفارقت ديني إنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا *** تساوك هزلي مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانب *** بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما *** تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كن مما أن يقدن على الوجى *** لهن بأبواب القباب صهيل

فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برءوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم

ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ
قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه.
وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بْن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد- أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام فلما ولاه غزو ما وراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على خراسان ابنه زيادا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أياما، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: اقطع يا بكير، فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! اعبر ثم يعبر الناس بعدك فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت الا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلي مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى اميه الى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إنا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: احرق هذه السفن، وامض إلى مرو فاخلع أمية، وتقيم بمرو تأكلها إلى يوم ما، قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي ما رأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك من هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلمون، قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع، قال: فيهلك أمية ومن معه، قال:
ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكي منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحدا من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فأعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابا، فقال عتاب في ذلك:

إن الحواضن تلقاها مجففة *** غلب الرقاب على المنسوبة النجب
تركت أمرك من جبن ومن خور *** وجئتنا حمقا يا ألأم العرب
لما رأيت جبال السغد معرضة *** وليت موسى ونوحا عكوة الذنب
وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا *** وطرت من سعف البحرين كالخرب
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني *** تحت الخوافق دون العارض اللجب
يخب بي مشرف عار نواهقه *** يغشى الكتيبة بين العدو والخبب

قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه.
فقال شماس بن دثار- وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله فقدمه اميه في ثمانمائه، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأمية ولم تشكر له صنيعه بك، قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك.
قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية في الناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة- وعارمة جارية بكير- فأحجم، فقال له بكير: لا أبا لك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارمة فحلا يمنعها، فقدم لواءك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم:
لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس قال:
ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش، فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يوما آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيرا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة.
قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح، وأحب ذلك أيضا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه- وكان أمية يحب العافيه- فصالحه على ان يقضى عنه أربعمائة الف، ويصل اصحابه ويوليه أيضا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج عن مرو، فأخذ الأمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابا على باب سنجان، ودخل أمية المدينة قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة، فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي، قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فأستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفا، قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك فأدى عنه عشرين ألفا، وكان أمية سهلا لينا سخيا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه، قال: وكان مع ذلك ثقيلا عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي وعزل أمية بحيرا عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب، وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه، فضرب عبد الملك بعثا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليك الأسدي جعالته رجلا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير يوما في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا:
سلط علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاحم بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحما فسأله فقال: انما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل، فآمنته ووصلته.
قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وان تركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز، وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذا دخل بكير، وبدل وشمردل بنا أخيه، فنهضت فخدوهم.
وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام اميه عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع.
فلما كان من الغد أخرج بكيرا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعه والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة- وهو رأس أهل العالية- ولابن والان العدوي- وهو يومئذ من رؤساء بنى تميم- ليعقوب بن خالد الذهلي:
اتقتلونه؟ فلم يجيبوه، فقال لبحير: اتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه، فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه- وكان صديقا لبكير- فاحتضن اميه، وقال: اذكرك الله ايها امير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: يا يعقوب ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير، قال:
لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك، قال: يا يعقوب، ما أعطيته ذمة ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من إسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد، فقال بحير: لا والله يا بن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة.
وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت ممن أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء قال: ثم وجه أمية رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه، فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم الى اميه.

[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:

ألا أبلغ أمية أن سيجزى *** ثواب الشر إن له ثوابا
ومن ينظر عتابك أو يرده *** فلست بناظر منك العتابا
محا المعروف منك خلال سوء *** منحت صنيعها بابا فبابا
ومن سماك إذ قسم الأسامي *** أمية إذ ولدت فقد أصابا

قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان اميه ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بن ثَابِت، عمن حدثه، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين.
وسنة سبع وسبعين وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير.
وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد.