335 هـ
946 م
سنه خمس وثلاثين وثلاثمائة

توفى هذه السنه على بن عيسى بن داود بن الجراح، وزير المقتدر بالله رحمهما الله، وهو من دورقنى، قال ابو سهل بن زياد القطان: كنت معه …
لما نفى الى مكة، فدخلناها في حر شديد، وقد كاد يتلف، فطاف وسعى، وجاء فالقى نفسه، وهو كالميت من الحر والتعب، تلق قلقا شديدا، وقال: اشتهى على الله شربه ماء مثلوج، فقلت: سيدنا ايده الله، يعلم ان هذا مما لا يوجد بهذا المكان، فقال: هو كما قلت، ولكن نفسي ضاقت عن ستر هذا القول فاسترحت الى المنى.
قال: وخرجت من عنده، فرجعت الى المسجد الحرام، فما استقررت فيه حتى نشأت سحابه وكثفت ورعدت رعدا شديدا متصلا، ثم جاء مطر شديد وبرد كثير، فبادرت الى الغلمان، وقلت: اجمعوا، فجمعنا شيئا كثيرا وملانا منه جرارا.
فلما كان وقت المغرب وقد حان إفطاره، جئته بذلك، وقلت: أنت مقبل والنكبه ستزول، ومن علامات الاقبال انك طلبت ماء ثلج وهذا ما طلبته.
فاخذ يسقى كل من في المسجد من المجاورين والصوفية السويق بالسكر والبلح، ولم يشرب حتى مضى قطعه من الليل وقد شربوا اجمع، فقال: الحمد لله، ليتنى كنت تمنيت المغفره، بدلا من الثلج، فلعلى كنت أجاب.
ولم أزل به حتى شرب، ومدحه بعض الشعراء فقال فيه:

بحسبك انى لا ارى لك عائبا *** سوى حاسد والحاسدون كثير
وانك مثل الغيث اما سحابه *** فمزن واما ماؤه فطهور

قال ابن كامل القاضى: سمعت على بن عيسى يقول: كسبت سبعمائة الف دينار، اخرجت منها في وجوه البر ستمائه وثمانين ألفا.
وحكى هلال بن المحسن، قال: قال ابو على بن محفوظ: لما ورد معز الدولة وابو جعفر الصيمرى معه الى بغداد، اراد ابو الحسن على بن عيسى الركوب اليه، وقضاء حقه، فاتفق انه نزل الى داره ليجلس في سميريه، وابو جعفر مجتاز في طيارة، وانا وأخي وابو الحسن طازاذ بن عيسى معه، فقال لنا: من هذا؟ فقلنا: الوزير ابو الحسن على بن عيسى، فقال لأبي الحسن طازاذ: قدم بنا اليه فاساله ان ينزل معنا في الطيار، فقربنا منه وسلمنا عليه، فقال له ابو الحسن طازاد: الى اين توجه سيدنا؟ فقال: اشار فتياننا بلقاء الأمير الوارد، وقضاء حقه، فعملت على ذلك، فقال له: فينتقل سيدنا الى الطيار فانه اولى، فامتنع ولم يزل يراجعه، وكان معه ابنه ابو نصر، فخاطبه حتى فعل وسهل عليه ذلك، ونزل، فقام له ابو جعفر الصيمرى عن موضعه، وقد وصانا الا نعرفه اياه وكان ابو نصر عرفه، واراد ان يشعر أباه، فلم يدعه طاعه لأبي جعفر وسرنا مصعدين، ووصلنا الى معسكر معز الدولة بباب الشماسيه، وقدم الطيار الى المشرعه، فقال ابو جعفر لأبي الحسن: تجلس يا سيدنا بمكانك، حتى اصعد الى الأمير واعرفه خبرك، واوذنه بحضورك، فقال له: لك- اطال الله بقاءك- عند الأمير اثره وبه انسه؟ قال: نعم، وصعد، فلما صعد قال ابو نصر لأبيه: هذا الأستاذ ابو جعفر الصيمرى، فارتاع وقال له: الا أعلمتني ذلك لاوفى للرجل حقه! قال: منعني أصحابنا، واقبل على طازاذ فقال له: لا احسن الله جزاءك، كذا يفعل الناس، فقال: والله يا سيدنا ما فعلت ما فعلته، الا لان الأستاذ أمرني به، ولم تمكنى المخالفه لَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ووجم وجوما شديدا، ثم قال: من هذان أعزهما الله! واشار الى والى أخي، فقال طازاذ أبناء محفوظ، فاستثبته، وقال: الذى كان يصحب جعفر بن الفرات؟ قال نعم، فقال: قد كان جعفر من العمال الظلمه.

ولما صعد الصيمرى الى معز الدولة، وجده على شراب، فلم يقل له شيئا، وعاد الى على بن عيسى، فنهض له واعظمه، وقال له: قد جنى على أصحابنا في كتمانى موضع الأستاذ، حتى كان من تقصيري في قضاء حقه ما لم اعتمده، وانا اعتذر اليه ادام الله عزه من ذلك، فقال: فعل الله بك يا سيدنا وصنع، واى تقصير جرى؟ فالتفت الى طازاذ فقال: الم اوصك بترك اعلامه امرى! فقال ابو نصر ولده: اعلمه، وقد حصلت بين العتب ايها الأستاذ منك ومنه، وقال له ابو جعفر: الأمير على حال لا يجوز لقاء مثلك عليها، وهو يعتذر من تأخر الاجتماع باعتراض ما اعترض منها، وإذا تكلف سيدنا العود في غداه غد، لقيه ووفاه من الحق ما يجب ان يوفيه اياه، والطيار يباكر بابه وانصرف ابو الحسن.
وعاد ابو جعفر الى معز الدولة، فقال له: وافى على بن عيسى للقائك وخدمتك، فاعتذرت اليه عنك بانك على نبيذ، ولم يجز ان يراك عليه، فقال: من؟ على بن عيسى فقال: وزير المقتدر بالله، قال: ذلك العظيم! قال: نعم، قال: ما وجب ان ترده، فانى كنت اقوم الى مجلس آخر والقاه فيه، فقال: ما كان يحسن ان يشم منك رائحه شراب، وفي غد يباكرك، فقال معز الدولة: فكيف اعامله؟ وما الذى اقول له؟ فقال له الصيمرى: تنزعج له بعض الانزعاج، وترفع مجلسه، وتعطيه مخده من مخادك وتقول له: ما زلت مشتاقا الى لقائك، ومتشوقا للاجتماع معك، واريد ان تشير على في تدبير الأمور، وعماره البلاد بما يكون الصواب فيه عندك.
وجاء ابو الحسن على بن عيسى من غد، ودخل معز الدولة، فوفاه من الإجلال والاكرام اكثر مما وافقه عليه ابو جعفر، واعطاه مخده من دسته، فقبلها ابو الحسن وقال له ما يقال لمثله، فقال له معز الدولة: كنا نسمع بك، فيعظم عندنا امرك، ويكثر في نفوسنا ذكرك، وقد شاهدت منك الان ما كنت مؤثرا واليه متطلعا، والدنيا خراب، والأمور على ما تراه من الانتشار، فأشر على بما عندك في اصلاح ذلك.
فقال له ابو الحسن: هذه النيه منك ايها الأمير داعيه الى الخير، ومسهله للنجح، وطريق العمارة ودرور المادة، واستقامه امر الجند والرعية والعدل، والذى اهلك الدنيا، واذهب الأموال، واخرج الممالك عن يد السلطان خلافه، وانما يتأتى الصلاح وتطرد الأغراض بالولاة الموفقين، والأعوان الناصحين.
وحدثنا عمر بن شبه قال: حدثنا فلان-[وذكر الاسناد عن النبي ص- انه قال: إذا اراد الله بوال خيرا قيض له وزير صدق، ان غفل اذكره، وان رقد أيقظه،] وقد وفق الله للأمير من هذا الأستاذ، – واشار لأبي جعفر- من تمت فيه اسباب الكفاية، وبانت فيه شواهد المخالصة، ويوشك ان يجرى الخير على يده ويتأتى المراد بحسن تدبيره فتراجع ابو جعفر عن موضعه، وتوقف عن تفسير هذا القول لمعز الدولة، وفطن معز الدولة ان توقفه لامر كره ذكره، فقال لأبي سهل العارض: انظر ما يقول، ففسر له تفسيرا لم يفهم عنه، ولا استوفى القول فيه، وتلجلج في ذكر رجال الحديث حتى استفهم معز الدولة اسماءهم، وقال: هؤلاء أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال ابو الحسن: لا، هؤلاء رجال نقلوا لنا الحديث عنه.
ثم عاد ابو جعفر الى الترجمه بينهما، وقال ابو الحسن: ومن اولى ما نظر فيه الأمير وقدمه، سد هذه البثوق التي هي اصل الفساد وخراب السواد، فقال: وقد نذرت لله عند حضورى في هذه الحضره، الا اقدم شيئا على ذلك، ولو انفقت فيه جميع ما املك، قال: اذن يحسن الله عونك، ويذلل لك كل صعب، ويسهل كل مراد بين يديك.
فلما انقضى القول بينهما في ذاك، قال معز الدولة، اذكر حوائجك، لأتقدم فيها بما اقضى به حقك، قال: الحاجة الحاضره هي الى الله تعالى في ان يطيل بقاءك ويديم علاك، ومتى عرضت من بعد حاجه إليك، كان المعول فيها عليك، قال: لا بد من ان تذكر شيئا، قال: حراسه منازلي، فإنها تشتمل على عدد كثير من بنين وبنات وعجائز واهل واقارب واتباع واصحاب، قال: هذا اقل ما افعله.

ونهض ابو الحسن، وشيعه ابو جعفر ومشى الغلمان بين يديه.
وتوفى ابو الحسن بعد عبور معز الدولة، وهزيمته ناصر الدولة بيوم، فمضى ابو عمران موسى بن قتادة، وكان معه مائتا رجل من الديلم، فنزل داره، وركب الصيمرى إليها، وقد فرغ من تجهيزه، ووضع في تابوته فصلى عليه، وقال لموسى: اخرج من هذه الدار، فما يجوز نزولك فيها، فقال: لا اخرج، فقال: لا لا امكنك منها، فقال: لا اقبل منك، قال: إذا لم تقبل اكرهتك، وتنابذا بالقول تنابذا تولدت منه فتنه، واجتمع الى موسى اصحابه، والى ابى جعفر آخرون.
وعرف معز الدولة ذاك، فبادر لإطفاء النائرة، وقال للصيمرى: ليس هذا وقت ذاك، قال: بلى ايها الأمير، هذا وقته، ومتى افتتحنا امرنا بسقوط هيبتنا استمر ذلك وبعد تلافيه، وازداد الأمر من بعد وهنا، والطمع استحكاما فاخذ معز الدولة بيد موسى بن قتادة فاخرجه معه، وقال له: يكون نزولك في الدار التي أنزلها، ولا تفتتح امرا بما يقبح من انزعاج اولاد هذا الشيخ المشهور ذكره في الدنيا وعياله عن منازلهم وأوطانهم.
وبقيت دور ابى الحسن على ولده ودور ابن أخيه ابى على بن عبد الرحمن عليه في حياته بفعل ابى جعفر ما فعله.
وكان على بن عيسى لا يخل بالجمع، ولما حبس كان يلبس ثيابه ويتوضأ ويقوم ليخرج، فيرده الموكلون فيرفع يديه الى السماء ويقول: اللهم اشهد وكان لا يفارق الدراعه ولا يترك الوقار في خلواته.
وحكى ابنه ابو القاسم: انه كان يرتفع لأبيه من ضياعه في كل سنه عند الاعتزال والعطله بعد ما ينصرف في نفقاته، وما كان يصرفه الى بنى هاشم، واولاد المهاجرين والانصار، فان رسومهم عليه، كانت نيفا واربعين الف دينار، فكان الحاصل بعد هذا كله، وهو يلزم منزله، ثلاثين الف دينار.
وكان حاصل ابن الفرات من ضياعه إذا تعطل الف الف دينار، وإذا وزر اضعفت.
وفي هذه السنه تمت اماره معز الدولة ابى الحسين، فكانت امارته ببغداد احدى وعشرين سنه واحد عشر شهرا ويومين، وذلك لما بعد ناصر الدولة والاتراك وابن شيرزاد الى الموصل، واستخلف المطيع لله، ومضى الى دار الخلافه، وتقلد ابو احمد الشيرازى كتابته.
وتسلم الخليفة من معز الدولة اقطاعا بمائتي الف دينار.
وكان ابو الحسين على بن محمد بن مقله يواصل معز الدولة في ايام الحصار بالهدايا والاخبار، فلما عبر الى الجانب الشرقى حمى داره بها، واستخدمه، فاخذ في المصادرات للتجار والشهود فصادف احد العامه معز الدولة منصرفا منفردا نصف النهار، فعرفه ما الناس فيه من الجزف، فتقدم بصرف ابن مقله.
واحترقت دور ابن شيرزاد، ودور أسبابه وأخيه، وصودر على مائه وثمانين الف الف درهم.
وقلد معز الدولة الشرطه أبا العباس بن خاقان وورد الخبر باستيلاء ركن الدولة ابى على على الري والجبل.
واجتمع راى الاتراك على الإيقاع بناصر الدولة، فاستجار بام ملهم حتى امرت ولدها بتسييره، فسار ومعه ابن شيرزاد الى مرج جهينة، فلما امن سمل ابن شيرزاد.
وامرت الاتراك على نفوسها تكين الشيرزاذى، وانفرد عنهم ينال كوساه ولؤلؤ، واستامنا الى معز الدولة.
وغلب تكين والاتراك على الموصل، ومضى الى سنجار، وراى ناصر الدولة، فانجد معز الدولة باسفهدوست والصيمرى، والتقيا بتكين بالحديثه في جمادى الآخرة واستؤسر تكين، وانهزم اصحابه، وسار الصيمرى مع ناصر الدولة الى الموصل، ودخل على الصيمرى خيمته ولم يعد اليه، قال: لما دخلتها عليه علمت انى قد أخطأت فبادرت بالانصراف وندم الصيمرى عند خروج ناصر الدولة على ترك القبض عليه.
وسلم الى الصيمرى ابن شيرزاد.
وضمن له طازاذ وابو سعيد بن وهب النصراني الكاتب- وهو الكاتب الذى مدحه ابن نباته- خمسين الف دينار على ان يطلقهما فلم يفعل، وسلمهما الى الصيمرى، وكان الصيمرى مراعيا لطازاذ، وانفذ معهم تكين الشيرزادى مسمولا، وانفذ ابنه هبه الله بن ناصر الدولة رهينه.
فلما وصلوا اطلق معز الدولة تكينا، واقطعه اقطاعا بأربعين الف درهم.
وكتب ابو عبد الله بن ثوابه عن المطيع لله كتابا بالفتح الى عماد الدولة منه.
فلم يسفر العجاج الا عن قتيل مرسل، او غريق معجل، او جريح معطل، او اسير مكبل، او مستأمن محصل، او حقيبه ملاها الله بلا تعب، او غنيمه أفاءها الله بلا نصب.
وكان مع ناصر الدولة قائد يقال له ابراهيم بن احمد، واخوه صاحب خراسان، فقتل ابن أخيه نوح بن نصر بن احمد بعض اقارب ابى على بن محتاج، فكاتبه ابو على بن محتاج، واستعانه على محاربه ابن أخيه.
ففارق ناصر الدولة بتكريت في سبعين غلاما، فانفذ اليه ناصر الدولة خلع الخليفة ولواءها مع جوجوخ التركى المسمول ولقبه ومضى ابراهيم مع ابن محتاج، فهزما نوحا، وملك ابراهيم، ثم وقعت الوحشة بين ابى على، فمضى ابراهيم مستأمنا الى ابن أخيه، ومضى ابو على الى بلاد الصغد.

وانتبهت رجال ابن شيرزاد، لان الصيمرى صرفه وطالبه بالأموال.
فاستخلف الصيمرى بالحضرة طازاذ، وانحدر فواقع اصحاب ابى القاسم البريدى، فاسر خلقا منهم.
وفي هذه السنه، صرف ابو الحسن بن ابى الشوارب عن القضاء بالجانب الغربي.
واضيف الى عمل القاضى ابى الحسن محمد بن صالح الهاشمى.
وفي النصف من شعبان من هذه السنه، خرجت العامه لزيارة قبر الحسين عليه السلام وعقدت القباب بباب الطاق.
وورد الخبر ان سيف الدولة، قبض على القراريطى، واستكتب بعبده أبا عبد الله ابن فهد الموصلى.
وفي هذه السنه انقطعت قنطره دهما بأسرها.