348 هـ
959 م
سنه ثمان واربعين وثلاثمائة

في هذه السنه، وافى ابو إسحاق القراريطى مصر مع الحاج في شهر ربيع الاول، توفى ابو بكر محمد بن جعفر الادمى القارئ …

قال دره الصوفى: كنت بائتا بكلواذى على سطح عال، فلما هدئ الليل قمت لأصلي، فسمعت صوتا ضعيفا يجيء من بعد، فأصغيت اليه وتاملته شديدا، فإذا صوت ابى بكر الادمى، فقدرته منحدرا في دجلة، فلم أجد الصوت يقرب، ولا يزيد على ذلك القدر ساعه ثم انقطع، فشككت في الأمر وصليت ونمت.
فبكرت فدخلت بغداد بعد ساعتين من النهار، وكنت مجتازا في السميريه، فإذا بابى بكر الادمى ينزل الى الشط، من دار ابى عبد الله الموسوى العلوي، التي بقرب فرضه جعفر على دجلة، فصعدت اليه وسألته عن خبره، فأخبرني بسلامته، فقلت: اين بت البارحه؟ فقال: في هذه الدار، فقلت: قرات النوبه الفلانية؟
قال: نعم قبل نصف الليل، فعلمت انه الوقت الذى سمعت فيه صوته بكلواذى، فعجبت من ذلك عجبا شديدا بان ما في له، فقال: مالك؟ فاخبرته، قال: فاحكها للناس عنى، فانا احكيها دائما.
وقال ابو جعفر عبد الله بن اسماعيل الامام: رايت أبا بكر الادمى في النوم بعد مديده من وفاته، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقاسيت شديدا وأمورا صعبه، قلت له: فتلك الليالى والمواقف والقرآن؟ فقال: ما كان شيء أضر على منها، لأنها كانت للدنيا، قلت له: فالى اى شيء انتهى امرك؟
قال: قال لي الله تعالى: آليت على نفسي الا اعذب أبناء اليثانين وكان ابو بكر محبوبا الى الناس، قال: كسبت بالقرآن ثلاثمائة الف دينار.
وحكى قال: لما ولد ابنى ابو عبد الله، قال: جئت الى مؤنس المظفر وحدثته الحديث، فوهب لي دنانير كثيره، فلما كان بعد مده سألني، فقال: يا أبا بكر ايش خبر الصبى المولود؟ فقلت: قد احتاج الى القميص ايها الأستاذ وهو عريان، فاستدعى الخازن وقال: احضر ما عندك من الخرق، فجاء باكثر من عشرين كاره من القصب والدبيقى والديباج والعتابى، فقال للخازن: أعطه من كل شيء الربع، فأعطاني ما حمله جماعه من الحمالين، وبعت الباقى عن كسوه ابنى واهلى بتسعه آلاف درهم.
وقبر ابى بكر عند قبر ابى عمر الزاهد في الضفة التي تقابل قبر معروف الكرخي رحمه الله.

وفي هذه السنه كثر موت الفجأة بالطاعون، فجلس احد القضاه بسواده في الجامع ليحكم فمات.
وافتض رجل بكرا فمات على صدرها.
وكان كافور الإخشيدي، قد ولى شبيب بن جرير العقيلي عمان والبلقاء، فعلت منزلته، واشتدت شوكته، وغزا العرب وتجمعت عليه، فعصى على كافور وأخذ دمشق وسار إليها في عشره آلاف، فخر عن فرسه ميتا، ففي ذلك يقول المتنبى يمدح كافورا:

عدوك مذموم بكل لسان *** ولو كان من اعدائك القمران

قال ابن جنى: هذا مدح ويحتمل ان يكون هجاء، بان يجعله مستخلفا ساقطا والساقط لا يعاديه الا مثله، وخرج عن ذلك يقول:

ولله سر في علاك وانما *** كلام العدا ضرب من الهذيان

يقول فيها:

برغم شبيب فارق السيف كفه *** وكانا على العلات يصطحبان
اتته المنايا في طريق خفيه *** على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردها *** بطول يمين واتساع جنان
تقصده المقدار بين صحابه *** على ثقه من دره وأمان
وهل ينفع الجيش الكثير التفافه *** على غير منصور وغير معان

وفي هذه السنه خلع المطيع لله على بختيار، وقلده امره الأمراء ولقبه عز الدولة.
وعقد لأبي على بن الياس على كرمان وتزوج عز الدولة بنته في رجب.
وفي رجب ماتت سريره الرائقيه، اشتراها ابن رائق من ابنه ابن حمدون، بثلاثة عشر الف دينار، وكانت مولده سمراء حسنه الغناء ولما قتل ابن رائق تزوجها ابو عبد الله الحسين بن حمدان.
وحكى التنوخي: ان المهلبى دعاها، واظهر من التحمل ما اعياه في مجالسه وسماطه، وتبخر بما زاد على الحد، فقالت له جاريته تجنى: اننى أراك هود اتزانك حتى ونيت بك، فقال لها: ويحك! ان هذه قد نشأت في نعمه تستصغر فيها نعم ملكنا، فما اريد ان تزري علينا إذا خرجت.
وفي شعبان مات ابو على عبد الرحمن بن عيسى بن داود بن الجراح، وزير الراضي بالله.
حكى ابو محمد جعفر بن ورقاء قال: دخلت على ابى جعفر الكرخي بعد تقليده للوزارة، صارفا عنها لأبي على عبد الرحمن بن عيسى، وقد كان الراضي بالله حلف على الا يقنع من عبد الرحمن باقل من مائه الف دينار، وراعاه الكرخي لحقوق أخيه، وانكشف له ان جميع ما يملكه عشره آلاف دينار، فعدل الى ان قسط تقسيطا على الناس، بدا فيه بنفسه، والتزم ثلاثمائة الف درهم.
قال ابو محمد: فدخلت على الوزير فسلم الى الدرج، وخاطبني في التزام شيء، فقلت: يدعني الوزير ادبر الأمر، فقطعت الخطوط، وكتبت: ضمن لمولانا امير المؤمنين اطال الله بقاءه جعفر بن ورقاء، ان يصحح له لمن يأمره بتصحيح ذلك عنده، عن عبد الرحمن بن عيسى مائه الف دينار، واخذه اى وقت امره بتصحيحها، وقلت للوزير: أنفذها مع رسول عاقل ينظر ما يجرى، فعاد الخادم الذى انفذه وقال: استدعاني الخليفة حين عرض عليه الحاجب الخط، فدخلت وهو جالس على كرسي كالمغتاظ، وفي يده الرقعة مخرقه، فقال: من عند مولاك؟ فقلت ولم اجسر على كذبه: جعفر بن ورقاء، فقال: قل له يا اعرابى، اردت ان ترى الناس ان نفسك تتسع، لا تغرم غمرا لا حرمه له، وهو خادمى ما ضاقت نفسي عن تركه عليه، فتظهر بذلك انك اكرم منى، والله لا كان هذا، قل لمولاك: اطلق عبد الرحمن، وترد خط هذا الأعرابي الجلف، وانى اكفر عن يميني، ورمى بالرقعة مخرقه.
قال: فقلت للكرخى: كيف راى الوزير رأيي؟ والله ما اعتمدت الا ان يقع في نفسه مثل هذا، فيفعل ما فعله لعلمي بجوده عقله وكرم نفسه، ولو جرى الأمر بخلاف ذلك لوزنت جميع ما املكه، واستسمحت الوزير والناس بعده حتى اقوم بتصحيح المال، فاطلق ابو على الى منزله.
وفي هذه السنه ورد الخبر بان الروم، خذلهم الله، أسروا محمد بن ناصر الدولة من نواحي حلب، وأسروا أبا الهيثم بن القاضى ابى حصين بن عبد الملك بن بدر ابن الهيثم وغلمانه من سواد حران، فكتب ابو فراس الى ابيه:

أيا راكبا نحو الجزيرة جسره *** عذافره ان الحديث شجون
تحمل الى القاضى سلامي وقل له *** الا ان قلبي مذ حزنت حزين
وان فؤادى لافتقادى اسيره *** لعان بأيدي الحادثات رهين
لعل زمانا بالمسره ينثني *** وعطفه دهر باللقاء تكون
فأشكو ويشكو ما بقلبي وقلبه *** كلانا على نجوى أخيه أمين
إذا غير البعد الهوى فهوى ابى *** حصين منيع الفؤاد حصين