218 هـ
833 م
سنه ثمان عشرة ومائتين (ذكر الخبر عما كَان فيها من الأحداث)

فمن ذلك ما كان من شخوص المأمون من سلغوس إلى الرقة، وقتله بها ابن أخت الداري وفيها أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه، فضج من ذلك …

أهلها فاعفاهم.
وفيها وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم، وأمره بنزول الطوانة وبنائها، وكان قد وجه الفعلة والفروض، فابتدأ البناء، وبناها ميلا في ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وبنى على كل باب حصنا، وكان توجيهه ابنه العباس في ذلك في أول يوم من جمادى.
وكتب إلى أخيه ابى إسحاق بن الرشيد، أنه قد فرض على جند دمشق وحمص والأردن وفلسطين أربعة آلاف رجل، وأنه يجري على الفارس مائة درهم، وعلى الراجل أربعين درهما، وفرض على مصر فرضا، وكتب إلى العباس بمن فرض على قنسرين والجزيرة، وإلى إسحاق بْن إبراهيم بمن فرض على أهل بغداد وهم ألفا رجل، وخرج بعضهم حتى وافى طوانه ونزلها مع العباس.

ذكر خبر المحنة بالقرآن
وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في امتحان القضاة والمحدثين، وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه إلى الرقة، وكان ذلك أول كتاب كتب في ذلك، ونسخة كتابه إليه:
أما بعد، فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوة التي أورثهم، وأثر العلم الذي استودعهم، والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم، والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته والاستضاءة بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به.
ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كنه معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكر والتذكر، وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا مجتمعين، واتفقوا غير متعاجمين، على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه، وقد قَالَ الله عز وجل في محكم كتابه الذي جعله لما في الصدور شفاء، وللمؤمنين رحمة وهدى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3]، فكل ما جعله الله فقد خلقه، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]،
وقال عز وجل: {كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ} [طه: 99] ، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدمها، وقال: {الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وكل محكم مفصل فله محكم مفصل، والله محكم كتابه ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه.
ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم، ونسبوا أنفسهم إلى السنة، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته مبطل قولهم، ومكذب دعواهم، يرد عليهم قولهم ونحلتهم ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة، فاستطالوا بذلك على الناس، وغروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله، والتقشف لغير الدين إلى موافقتهم عليه، ومواطأتهم على سيئ آرائهم، تزينا بذلك عندهم وتصنعا للرئاسة والعدالة فيهم، فتركوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالتهم، فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم، ونفذت أحكام الكتاب بهم على دغل دينهم، ونغل أديمهم، وفساد نياتهم ويقينهم.
وكان ذلك غايتهم التي إليها أجروا، وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم، وقد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق، ودرسوا ما فيه، أولئك الذين {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [محمد: 23-24]
فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورءوس الضلالة، المنقوصون من التوحيد حظا، والمخسوسون من الإيمان نصيبا، وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه، من أهل دين الله، وأحق من يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، لا يوثق بقوله ولا عمله، فإنه لا عمل إلا بعد يقين، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام، وإخلاص التوحيد، ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده، كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى وأضل سبيلا ولعمر أمير المؤمنين إن أحجى الناس بالكذب في قوله، وتخرص الباطل في شهادته، من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حقيقة معرفته، وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه من رد شهادة الله على كتابه، وبهت حق الله بباطله.
فاجمع من بحضرتك من القضاة، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون وتكشيفهم عما يعتقدون، في خلق الله القرآن وإحداثه، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله، ولا واثق فيما قلده الله، واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه، وكانوا على سبيل الهدى والنجاة فمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث ولم يره، والامتناع من توقيعها عنده واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم، والأمر لهم بمثل ذلك، ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين والإخلاص للتوحيد، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك، إن شاء الله.
وكتب في شهر ربيع الاول سنه ثمان عشرة ومائتين.
وكتب المأمون إلى إسحاق بْن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر، منهم محمد ابن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم مستملي يزيد بْن هارون، ويحيى بْن معين، وزهير بْن حرب ابو خيثمة، وإسماعيل بْن داود، وإسماعيل بْن أبي مسعود، واحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم وسألهم عن خلق القرآن، فأجابوا جميعا أن القرآن مخلوق، فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بْن إبراهيم داره، فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث، فأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون، فخلى سبيلهم وكان ما فعل من ذلك إسحاق بْن إبراهيم بأمر المأمون.

وكتب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بْن إبراهيم:
أما بعد، فإن من حق الله على خلفائه في أرضه، وأمنائه على عباده، الذين ارتضاهم لإقامة دينه، وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه والائتمام بعدله في بريته، أن يجهدوا لله أنفسهم، وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم، ويدلوا عليه- تبارك اسمه وتعالى- بفضل العلم الذي أودعهم، والمعرفة التي جعلها فيهم، ويهدوا إليه من زاغ عنه، ويردوا من أدبر عن أمره، وينهجوا لرعاياهم سمت نجاتهم، ويقفوهم على حدود إيمانهم وسبيل فوزهم وعصمتهم ويكشفوا لهم مغطيات أمورهم ومشتبهاتها عليهم، بما يدفعون الريب عنهم، ويعود بالضياء والبينة على كافتهم، وأن يؤثروا ذلك من إرشادهم وتبصيرهم، إذ كان جامعا لفنون مصانعهم، ومنتظما لحظوظ عاجلتهم وآجلتهم، ويتذكروا ما الله مرصد من مساءلتهم عما حملوه، ومجازاتهم بما أسلفوه وقدموا عنده، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده، وحسبه الله وكفى به ومما بينه أمير المؤمنين برؤيته، وطالعه بفكره، فتبين عظيم خطره، وجليل ما يرجع في الدين من وكفه وضرره، ما ينال المسلمون بينهم من القول في القرآن الذي جعله الله إماما لهم، وأثرا من رسول الله ص وصفيه محمد ص باقيا لهم، واشتباهه على كثير منهم، حتى حسن عندهم، وتزين في عقولهم ألا يكون مخلوقا، فتعرضوا بذلك لدفع خلق الله الذي بان به عن خلقه، وتفرد بجلالته، من ابتداع الأشياء كلها بحكمته وإنشائها بقدرته، والتقدم عليها بأوليته التي لا يبلغ أولاها، ولا يدرك مداها، وكان كل شيء دونه خلقا من خلقه، وحدثا هو المحدث له، وإن كان القرآن ناطقا به ودالا عليه، وقاطعا للاختلاف فيه، وضاهوا به قول النصارى في دعائهم في عيسى بن مريم: أنه ليس بمخلوق، إذ كان كلمة الله، والله عز وجل يقول: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ، وتأويل ذلك إنا خلقناه كما قَالَ جل جلاله: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها} [الأعراف: 189] وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً *وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً} [النبأ: 10-11]، {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[الأنبياء: 30] فسوى عز وجل بين القرآن وبين هذه الخلائق التي ذكرها في شية الصنعة، وأخبر انه جاعله وحده، فقال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21-22] ، فدل ذلك على إحاطة اللوح بالقرآن، ولا يحاط الا بمخلوق، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] ، وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ} [الأنعام: 21] ، وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم إنهم قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، ثم أكذبهم على لسان رسوله فقال لرسوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى} [الأنعام: 91]، فسمى الله تعالى القرآن قرآنا وذكرا وإيمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وقصصا، فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]، وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} [هود: 13]، وقال: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فجعل له أولا وآخرا، ودل عليه أنه محدود مخلوق وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم، والحرج في أمانتهم، وسهلوا السبيل لعدو الإسلام، واعترفوا بالتبديل والإلحاد على قلوبهم حتى عرفوا ووصفوا خلق الله وفعله بالصفة التي هي لله وحده، وشبهوه به، والاشتباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قَالَ بهذه المقالة حظا في الدين، ولا نصيبا من الإيمان واليقين، ولا يرى أن يحل أحدا منهم محل الثقة في أمانة، ولا عدالة ولا شهادة ولا صدق في قول ولا حكاية، ولا تولية لشيء من أمر الرعية، وإن ظهر قصد بعضهم، وعرف بالسداد مسدد فيهم، فإن الفروع مردودة إلى أصولها، ومحمولة في الحمد والذم عليها، ومن كان جاهلا بأمر دينه الذي أمره الله به من وحدانيته فهو بما سواه أعظم جهلا، وعن الرشد في غيره أعمى وأضل سبيلا.
فاقرأ على جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن بْن إسحاق القاضي كتاب امير المؤمنين بما كتب به إليك، وانصصها عن علمهما في القرآن، وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده، وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك، فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق، ونصهم عن قولهم في القرآن، فمن لم يقل منهم أنه مخلوق أبطلا شهادته، ولم يقطعا حكما بقوله، وإن ثبت عفافه بالقصد والسداد في أمره.
وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة، وأشرف عليهم إشرافا يزيد الله به ذا البصيرة في بصيرته، ويمنع المرتاب من إغفال دينه، واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله.
قَالَ: فأحضر إسحاق بْن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والحكام والمحدثين، وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بْن الوليد الكندي وعلي بْن ابى مقاتل والفضل ابن غانم والذيال بْن الهيثم وسجادة والقواريري وأحمد بْن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بْن الجعد وإسحاق بْن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وشيخا آخر من ولد عمر بْن الخطاب- كان قاضي الرقة- وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون ومحمد بْن نوح المضروب وابن الفرخان، وجماعة منهم النضر بْن شميل وابن علي بْن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بْن إسحاق، فأدخلوا جميعا على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون هذا مرتين حتى فهموه، ثم قَالَ لبشر بْن الوليد: ما تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقالتي لأمير المؤمنين غير مرة، قَالَ: فقد تجدد من كتاب أمير المؤمنين ما قد ترى، فقال: أقول: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: الله خالق كل شيء، قَالَ: ما القرآن شيء؟ قال: هو شيء، قَالَ:
فمخلوق؟ قَالَ: ليس بخالق، قَالَ: ليس أسألك عن هذا، أمخلوق هو؟
قَالَ: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت امير المؤمنين الا اتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك فأخذ إسحاق بْن إبراهيم رقعة كانت بين يديه، فقرأها عليه، ووقفه عليها، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أحدا فردا، لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء، ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، قَالَ: نعم، وقد كنت أضرب الناس على دون هذا، فقال للكاتب: اكتب ما قَالَ.
ثم قَالَ لعلي بْن أبي مقاتل: ما تقول يا علي؟ قَالَ: قد سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة وما عندي غير ما سمع، فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها، ثم قَالَ: القرآن مخلوق؟ قَالَ: القرآن كلام الله، قَالَ: لم أسألك عن هذا، قَالَ: هو كلام الله، وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا فقال للكاتب: اكتب مقالته.
ثم قَالَ للذيال نحوا من مقالته لعلي بْن أبي مقاتل، فقال له مثل ذلك.
ثم قَالَ لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قَالَ: سل عما شئت، فقرأ عليه الرقعة ووقفه عليها، فأقر بما فيها، ثم قَالَ: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قَالَ: القرآن كلام الله والله خالق كل شيء، وما دون الله مخلوق، وأمير المؤمنين إمامنا وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنا، فصار يقيم حجنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكاة أموالنا، ونجاهد معه، ونرى إمامته إمامة، ان أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا قَالَ: القرآن مخلوق هو؟ فأعاد عليه أبو حسان مقالته، قَالَ: إن هذه مقالة أمير المؤمنين، قَالَ: قد تكون مقالة أمير المؤمنين ولا يأمر بها الناس ولا يدعوهم إليها، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول، قلت ما أمرتني به، فإنك الثقه المأمون فيما أبلغتني عنه من شيء، فإن أبلغتني عنه بشيء صرت إليه، قَالَ: ما أمرني ان ابلغك شيئا قال على ابن أبي مقاتل: قد يكون قوله كاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه السلام في الفرائض والمواريث، ولم يحملوا الناس عليها، قَالَ له أبو حسان:
ما عندي إلا السمع والطاعة، فمرني آتمر، قَالَ: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنك ثم عاد إلى أحمد بْن حنبل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ قَالَ: هو كلام الله، قَالَ: أمخلوق هو؟ قَالَ: هو كلام الله لا أزيد عليها، فامتحنه بما في الرقعة، فلما اتى على لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وأمسك عن لا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن، بصير من عين، فقال إسحاق لأحمد بْن حنبل: ما معنى قوله: {السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ؟ قَالَ: هو كما وصف نفسه، قَالَ: فما معناه؟ قَالَ: لا أدري، هو كما وصف نفسه.

ثم دعا بهم رجلا رجلا، كلهم يقول: القرآن كلام الله، إلا هؤلاء النفر:
قتيبة وعبيد الله بْن محمد بْن الحسن وابن عليه الاكبر وابن البكاء وعبد المنعم ابن إدريس ابن بنت وهب بْن منبه والمظفر بْن مرجا، ورجلا ضريرا ليس من أهل الفقه، ولا يعرف بشيء منه، إلا أنه دس في ذلك الموضع، ورجلا من ولد عمر بْن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قَالَ: القرآن مجعول لقول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] والقرآن محدث لقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ}  [الأنبياء: 2] قَالَ له إسحاق: فالمجعول مخلوق؟ قَالَ: نعم، قال: فالقرآن مخلوق؟ قَالَ: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته.
فلما فرغ من امتحان القوم، وكتب مقالاتهم اعترض ابن البكاء الأصغر، فقال: أصلحك الله! إن هذين القاضيين أئمة، فلو أمرتهما فأعادا الكلام! قَالَ له إسحاق: هما ممن يقوم بحجة أمير المؤمنين، قَالَ: فلو أمرتهما أن يسمعانا مقالتهما، لنحكي ذلك عنهما! قَالَ له إسحاق: إن شهدت عندهما بشهادة، فستعلم مقالتهما إن شاء الله.
فكتب مقالة القوم رجلا رجلا، ووجهت إلى المأمون، فمكث القوم تسعة أيام، ثم دعا بهم وقد ورد كتاب المأمون جواب كتاب إسحاق بْن إبراهيم في أمرهم، ونسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك، فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة، فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن، وأمرك به أمير المؤمنين من امتحانهم، وتكشيف أحوالهم وأحلالهم محالهم تذكر إحضارك جعفر بْن عيسى وعبد الرحمن ابن إسحاق عند ورود كتاب أمير المؤمنين مع من أحضرت ممن كان ينسب إلى الفقه، ويعرف بالجلوس للحديث، وينصب نفسه للفتيا بمدينة السلام، وقراءتك عليهم جميعا كتاب أمير المؤمنين، ومسألتك إياهم عن اعتقادهم في القرآن، والدلالة لهم على حظهم، وإطباقهم على نفي التشبيه واختلافهم في القرآن، وأمرك من لم يقل منهم أنه مخلوق بالإمساك عن الحديث والفتوى في السر والعلانية، وتقدمك إلى السندي وعباس مولى أمير المؤمنين بما تقدمت به فيهم إلى القاضيين بمثل ما مثل لك أمير المؤمنين من امتحان من يحضر مجالسهما من الشهود، وبث الكتب إلى القضاة في النواحي من عملك بالقدوم عليك، لتحملهم وتمتحنهم على ما حده أمير المؤمنين، وتثبيتك في آخر الكتاب أسماء من حضر ومقالاتهم، وفهم أمير المؤمنين ما اقتصصت.
وامير المؤمنين يحمد الله كثيرا كما هو أهله، ويسأله أن يصلى على عبده ورسوله محمد ص، ويرغب إلى الله في التوفيق لطاعته، وحسن المعونة على صالح نيته برحمته وقد تدبر أمير المؤمنين ما كتبت به من أسماء من سألت عن القرآن، وما رجع إليك فيه كل امرئ منهم، وما شرحت من مقالتهم.
فأما ما قَالَ المغرور بشر بْن الوليد في نفي التشبيه، وما أمسك عنه من أن القرآن مخلوق، وادعى من تركه الكلام في ذلك واستعهاده أمير المؤمنين، فقد كذب بشر في ذلك وكفر، وقال الزور والمنكر، ولم يكن جرى بين أمير المؤمنين وبينه في ذلك ولا في غيره عهد ولا نظر أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص، والقول بأن القرآن مخلوق، فادع به إليك، وأعلمه ما أعلمك به أمير المؤمنين من ذلك، وأنصصه عن قوله في القرآن، واستتبه منه، فإن أمير المؤمنين يرى أن تستتيب من قَالَ بمقالته، إذ كانت تلك المقالة الكفر الصراح، والشرك المحض عند أمير المؤمنين، فإن تاب منها فأشهر أمره، وأمسك عنه، وإن أصر على شركه، ودفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره وإلحاده، فاضرب عنقه، وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.
وكذلك إبراهيم بْن المهدي فامتحنه بمثل ما تمتحن به بشرا، فإنه كان يقول بقوله وقد بلغت أمير المؤمنين عنه بوالغ، فإن قَالَ: إن القرآن مخلوق فأشهر أمره واكشفه، وإلا فاضرب عنقه وابعث إلى أمير المؤمنين برأسه، إن شاء الله.
وأما علي بْن أبي مقاتل، فقل له: ألست القائل لأمير المؤمنين: إنك تحلل وتحرم، والمكلم له بمثل ما كلمته به، مما لم يذهب عنه ذكره! وأما الذيال بْن الهيثم، فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه في الأنبار وفيما يستولي عليه من أمر مدينة أمير المؤمنين أبي العباس ما يشغله، وأنه لو كان مقتفيا آثار سلفه، وسالكا مناهجهم، ومحتذيا سبيلهم لما خرج إلى الشرك بعد إيمانه.
وأما أحمد بْن يزيد المعروف بأبي العوام، وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن، فأعلمه أنه صبي في عقله لا في سنه، جاهل، وإنه إن كان لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب، ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك، إن شاء الله.
وأما أحمد بْن حنبل وما تكتب عنه، فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى تلك المقالة وسبيله فيها، واستدل على جهله وآفته بها.
وأما الفضل بْن غانم، فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان منه بمصر، وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة، وما شجر بينه وبين المطلب ابن عبد الله في ذلك، فإنه من كان شأنه شأنه، وكانت رغبته في الدينار والدرهم رغبته، فليس بمستنكر أن يبيع إيمانه طمعا فيهما، وإيثارا لعاجل نفعهما، وأنه مع ذلك القائل لعلي بْن هشام ما قَالَ، والمخالف له فيما خالفه فيه، فما الذي حال به عن ذلك ونقله إلى غيره! وأما الزيادى، فاعلمه انه كان منتحلا، ولا كاول دعي كان في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله ص، وكان جديرا أن يسلك مسلكه، فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد أو يكون مولى لأحد من الناس، وذكر أنه إنما نسب إلى زياد لأمر من الأمور.
وأما المعروف بأبي نصر التمار، فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره.
وأما الفضل بْن الفرخان، فأعلمه أنه حاول بالقول الذي قاله في القرآن أخذ الودائع التي أودعها إياه عبد الرحمن بْن إسحاق وغيره تربصا بمن استودعه، وطمعا في الاستكثار لما صار في يده، ولا سبيل عليه عن تقادم عهده، وتطاول الأيام به، فقل لعبد الرحمن بْن إسحاق: لا جزاك الله خيرا عن تقويتك مثل هذا واتمانك إياه، وهو معتقد للشرك منسلخ من التوحيد.
وأما محمد بْن حاتم وابن نوح والمعروف بأبي معمر، فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد، وأن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله ومجاهدتهم إلا لإربائهم، وما نزل به كتاب الله في أمثالهم، لاستحل ذلك، فكيف بهم وقد جمعوا مع الارباء شركا، وصار للنصارى مثلا! وأما أحمد بْن شجاع، فأعلمه أنك صاحبه بالأمس، والمستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بْن هشام، وأنه ممن الدينار والدرهم دينه وأما سعدويه الواسطي، فقل له: قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث، والتزين به، والحرص على طلب الرئاسة فيه، أن يتمنى وقت المحنة، فيقول بالتقرب بها متى يمتحن، فيجلس للحديث! وأما المعروف بسجادة، وإنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس من أهل الحديث وأهل الفقه القول بأن القرآن مخلوق، فأعلمه أنه في شغله بإعداد النوى وحكه لإصلاح سجادته وبالودائع التي دفعها إليه علي بْن يحيى وغيره ما أذهله عن التوحيد وألهاه، ثم سله عما كان يوسف بن ابى يوسف ومحمد ابن الحسن يقولانه، إن كان شاهدهما وجالسهما.
وأما القواريري، ففيما تكشف من أحواله وقبوله الرشا والمصانعات، ما أبان عن مذهبه وسوء طريقته وسخافة عقله ودينه، وقد انتهى إلى أمير المؤمنين أنه يتولى لجعفر بْن عيسى الحسني مسائلة، فتقدم إلى جعفر بْن عيسى في رفضه، وترك الثقة به والاستنامة إليه.
وأما يحيى بْن عبد الرحمن العمري، فإن كان من ولد عمر بْن الخطاب، فجوابه معروف.
وأما محمد بْن الحسن بْن علي بْن عاصم، فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه، لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه، وإنه بعد صبي يحتاج إلى تعلم.
وقد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن، فجمجم عنها ولجلج فيها، حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف، فأقر ذميما، فأنصصه عن إقراره، فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك وأظهره، إن شاء الله.
ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك، وذكره أمير المؤمنين لك، أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا، ولم يقل إن القرآن مخلوق، بعد بشر بْن الوليد وإبراهيم بْن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين، مع من يقوم بحفظهم وحراستهم في طريقهم، حتى يؤديهم إلى عسكر أمير المؤمنين، ويسلمهم إلى من يؤمن بتسليمهم إليه، لينصهم أمير المؤمنين، فإن لم يرجعوا ويتوبوا حملهم جميعا على السيف، إن شاء اللَّه، ولا قوة إلا بالله.
وقد أنفذ أمير المؤمنين كتابه هذا في خريطة بندارية، ولم ينظر به اجتماع الكتب الخرائطية، معجلا به، تقربا إلى الله عز وجل بما أصدر من الحكم ورجاء ما اعتمد، وإدراك ما أمل من جزيل ثواب الله عليه، فأنفذ لما أتاك من أمر المؤمنين، وعجل إجابة أمير المؤمنين بما يكون منك في خريطة بندارية مفردة عن سائر الخرائط، لتعرف أمير المؤمنين ما يعملونه إن شاء الله.
وكتب سنة ثمان عشرة ومائتين.
فأجاب القوم كلهم حين أعاد القول عليهم إلى أن القرآن مخلوق، إلا أربعة نفر، منهم أحمد بْن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بْن نوح المضروب.
فأمر بهم إسحاق بْن إبراهيم فشدوا في الحديد، فلما كان من الغد دعا بهم جميعا يساقون في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريري إلى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصر أحمد بْن حنبل ومحمد بْن نوح على قولهما، ولم يرجعا، فشدا جميعا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب معهما كتابا بإشخاصهما، وكتب كتابا مفردا بتأويل القوم فيما أجابوا إليه فمكثوا أياما، ثم دعا بهم فإذا كتاب قد ورد من المأمون على إسحاق بْن إبراهيم، أن قد فهم أمير المؤمنين ما أجاب القوم إليه، وذكر سليمان بْن يعقوب صاحب الخبر أن بشر بْن الوليد تأول الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بْن ياسر: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ} [النحل: 106] وقد أخطأ التأويل، إنما عنى الله عز وجل بهذه الآية من كان معتقد الإيمان، مظهر الشرك، فأما من كان معتقد الشرك مظهر الإيمان، فليس هذه له فأشخصهم جميعا إلى طرسوس، ليقيموا بها إلى خروج أمير المؤمنين من بلاد الروم.
فأخذ إسحاق بْن إبراهيم من القوم الكفلاء ليوافوا العسكر بطرسوس، فأشخص أبا حسان وبشر بْن الوليد والفضل بْن غانم وعلي بْن أبي مقاتل والذيال بْن الهيثم ويحيى بْن عبد الرحمن العمري وعلي بْن الجعد وأبا العوام وسجادة والقواريري وابن الحسن بْن علي بْن عاصم وإسحاق بْن أبي إسرائيل والنضر بْن شميل وأبا نصر التمار وسعدويه الواسطي ومحمد بْن حاتم بْن ميمون وأبا معمر وابن الهرش وابن الفرخان واحمد بن شجاع وأبا هارون بن البكاء.
فلما صاروا الى الرقة بلغتهم وفاة المأمون، فأمر بهم عنبسة بْن إسحاق- وهو والي الرقة- أن يصيروا إلى الرقة، ثم أشخصهم إلى إسحاق بْن إبراهيم بمدينة السلام مع الرسول المتوجه بهم إلى أمير المؤمنين، فسلمهم إليه، فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم، ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج، فأما بشر بْن الوليد والذيال وابو العوام وعلى بن أبي مقاتل، فإنهم شخصوا من غير أن يؤذن لهم حتى قدموا بغداد، فلقوا من إسحاق بْن إبراهيم في ذلك أذى، وقدم الآخرون مع رسول إسحاق بْن إبراهيم، فخلى سبيلهم.

كتب المأمون الى عماله ووصيته في كتبه
وفي هذه السنة نفذت كتب المأمون إلى عماله في البلدان: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين وأخيه الخليفة من بعده ابى إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد وقيل إن ذلك لم يكتبه المأمون كذلك، وإنما كتب في حال إفاقة من غشية أصابته في مرضه بالبدندون، عن امر المأمون الى فورد كتاب من أبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد إلى إسحاق بْن يحيى بْن معاذ عامله على جند دمشق يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، عنوانه: من عبد الله عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين والخليفة من بعد أمير المؤمنين أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أمر بالكتاب إليك في التقدم إلى عمالك في حسن السيرة وتخفيف المئونة وكف الأذى عن أهل عملك، فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة، واكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك.
وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام، جند حمص والأردن وفلسطين بمثل ذلك، فلما كان يوم الجمعة لإحدى عشرة بقيت من رجب صلى الجمعة إسحاق بْن يحيى بْن معاذ في مسجد دمشق، فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين: اللهم وأصلح الأمير أخا المؤمنين والخليفة من بعد امير المؤمنين أبا إسحاق بن امير المؤمنين الرشيد.

ذكر الخبر عن وفاه المأمون
وفي هذه السنة توفي المأمون.

ذكر الخبر عن سبب المرض الذي كانت فيه وفاته:
ذكر عن سعيد العلاف القارئ، قَالَ: أرسل إلي المأمون وهو ببلاد الروم- وكان دخلها من طرسوس يوم الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة- فحملت إليه وهو في البدندون، فكان يستقرئني، فدعاني يوما، فجئت فوجدته جالسا على شاطئ البدندون، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه، فأمرني فجلست نحوه منه، فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون، فقال: يا سعيد، دل رجليك في هذا الماء وذقه، فهل رأيت ماء قط أشد بردا، ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه! ففعلت وقلت: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثل هذا قط، قَالَ: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فقال: رطب الآزاذ، فبينا هو يقول هذا إذا سمع وقع لجم البريد فالتفت، فنظر فإذا بغال من بغال البريد، على أعجازها حقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: اذهب فانظر: هل في هذه الالطاف رطب؟ فانظره، فان كان آزاذ فأت به، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ، كأنما جني من النخل تلك الساعة، فأظهر شكرا لله تعالى، وكثر تعجبنا منه، فقال: ادن فكل، فأكل هو وأبو إسحاق، وأكلت معهما، وشربنا جميعا من ذلك الماء، فما قام منا أحد إلا وهو محموم، فكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم عليلا حتى دخل العراق، ولم أزل عليلا حتى كان قريبا.
ولما اشتدت بالمأمون علته بعث إلى ابنه العباس، وهو يظن أن لن يأتيه، فأتاه وهو شديد المرض متغير العقل، قد نفذت الكتب بما نفذت له في أمر ابى إسحاق بن الرشيد، فأقام العباس عند أبيه أياما، وقد أوصى قبل ذلك إلى أخيه أبي إسحاق.
وقيل: لم يوص إلا والعباس حاضر، والقضاة والفقهاء والقواد والكتاب، وكانت وصيته: هذا ما أشهد عليه عبد الله بْن هارون أمير المؤمنين بحضرة من حضره، أشهدهم جميعا على نفسه أنه يشهد ومن حضره أن الله عز وجل وحده لا شريك له في ملكه، ولا مدبر لأمره غيره، وأنه خالق وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن أن يكون شيئا له مثل، ولا شيء مثله تبارك وتعالى، وإن الموت حق، والبعث حق، والحساب حق، وثواب المحسن الجنة وعقاب المسيء، النار، وان محمدا ص قد بلغ عن ربه شرائع دينه، وأدى نصيحته إلى أمته، حَتَّى قبضه اللَّه إِلَيْهِ صلى اللَّه عَلَيْهِ افضل صلاه صلاها على أحد من ملائكته المقربين وأنبيائه والمرسلين، وإني مقر مذنب، أرجو وأخاف، إلا أني إذا ذكرت عفو الله رجوت، فإذا أنا مت فوجهوني وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام ومعرفة حقه عليكم في محمد، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، فإذا أنتم وضعتموني للصلاة، فليتقدم بها من هو أقربكم بي نسبا، وأكبركم سنا، فليكبر خمسا، يبدأ في الأولى في أولها بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على سيدي وسيد المرسلين جميعا، ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، ثم الدعاء للذين سبقونا بالإيمان، ثم ليكبر الرابعة، فيحمد الله ويهلله ويكبره ويسلم في الخامسة، ثم أقلوني فأبلغوا بي حفرتي، ثم لينزل أقربكم إلي قرابة، وأودكم محبة، وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن واستقبلوا بي القبلة، وحلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا اللحد باللبن، واحثوا ترابا على، واخرجوا عنى وخلونى وعملي، فكلكم لا يغني عني شيئا، ولا يدفع عني مكروها، ثم قفوا بأجمعكم فقولوا خيرا إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون وما تلفظون به، ولا تدعوا باكية عندي، فإن المعول عليه يعذب رحم الله امرأ اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء ثم لينظر ما كنت فيه من عز الخلافة، هل أغنى ذلك عني شيئا إذ جاء أمر الله! لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، فيا ليت عبد الله بْن هارون لم يكن بشرا، بل ليته لم يكن خلقا! يا أبا إسحاق، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته، فكان قد نزل بك الموت ولا تغفل أمر الرعية الرعية الرعية! العوام العوامّ! فإن الملك بهم وبتعهدك المسلمين والمنفعة لهم الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين!
ولا ينهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة لهم إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأتهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وانظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم فلا تغفل عنهم في كل وقت والخرمية فأغزهم ذا حزامة وصرامة وجلد، وأكنفه بالأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النيه فيه، راجيا بثواب الله عليه واعلم أن العظة إذا طالت أوجبت على السامع لها والموصي بها الحجة، فاتق الله في أمرك كله، ولا تفتن.
ثم دعا أبا إسحاق بعد ساعة حين اشتد به الوجع، وأحس بمجيء أمر الله فقال له: يا أبا إسحاق، عليك عهد الله وميثاقه وذمه رسول الله ص لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك؟ قَالَ: اللهم نعم، قَالَ: فانظر من كنت تسمعني أقدمه على لساني فأضعف له التقدمة، عبد الله بْن طاهر أقره على عمله ولا تهجه، فقد عرفت الذي سلف منكما أيام حياتي وبحضرتي، استعطفه بقلبك، وخصه ببرك، فقد عرفت بلاءه وغناءه عن أخيك وإسحاق بْن إبراهيم فأشركه في ذلك، فإنه أهل له وأهل بيتك، فقد علمت إنه لا بقية فيهم وإن كان بعضهم يظهر الصيانة لنفسه عبد الوهاب عليك به من بين أهلك، فقدمه عليهم، وصير أمرهم إليه وابو عبد الله بن أبي داود فلا يفارقك، وأشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع لذلك منك، ولا تتخذن بعدي وزيرا تلقي إليه شيئا، فقد علمت ما نكبني به يحيى بْن أكثم في معاملة الناس وخبث سيرته حتى أبان الله ذلك منه في صحة مني، فصرت إلى مفارقته! قاليا له غير راض بما صنع في أموال الله وصدقاته، لا جزاه الله عن الإسلام خيرا! وهؤلاء بنو عمك من ولد أمير المؤمنين عَلِيّ بْن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسنهم، وصلاتهم فلا تغفلها في كل سنة عند محلها، فإن حقوقهم تجب من وجوه شتى {اتَّقُوا اللَّهَ ربكم حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]  اتقوا الله واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلها أستودعكم الله ونفسي وأستغفر الله مما سلف، وأستغفر الله مما كان مني، إنه كان غفارا، فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمها، وإليه أنيب ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة!.

ذكر الخبر عن وقت وفاته والموضع الذي دفن فيه ومن صلى عليه ومبلغ سنه وقدر مده خلافته
قال ابو جعفر: وأما وقت وفاته، فإنه اختلف فيه، فقال بعضهم:
توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر سنة ثمان عشرة ومائتين.
وقال آخرون: بل توفي في هذا اليوم مع الظهر، ولما توفي حمله ابنه العباس واخوه ابو إسحاق محمد بن الرشيد إلى طرسوس، فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم، ثم وكلوا به حرسا من أبناء أهل طرسوس وغيرهم مائة رجل، وأجري على كل رجل منهم تسعون درهما.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وذلك سوى سنتين كان دعي له فيهما بمكة واخوه الامين محمد بن الرشيد محصور ببغداد.
وكان ولد للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة وكان يكنى- فيما ذكر ابن الكلبي- أبا العباس.
وكان ربعة أبيض جميلا، طويل اللحية، قد وخطه الشيب وقيل كان أسمر تعلوه صفرة، أحنى أعين طويل اللحية رقيقها، أشيب، ضيق الجبهة، بخده خال أسود.
واستخلف يوم الخميس لخمس ليال بقين من المحرم.

ذكر بعض أخبار المأمون وسيره
ذكر عن محمد بْن الهيثم بْن عدي، أن إبراهيم بْن عيسى بْن بريهة بْن المنصور، قَالَ: لما أراد المأمون الشخوص إلى دمشق هيأت له كلاما، مكثت فيه يومين وبعض آخر، فلما مثلت بين يديه قلت: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، في أدوم العز وأسبغ الكرامة، وجعلني من كل سوء فداه! أن من أمسى وأصبح يتعرف من نعمة الله، له الحمد كثيرا عليه برأي أمير المؤمنين أيده الله فيه، وحسن تأنيسه له، حقيق بأن يستديم هذه النعمة، ويلتمس الزيادة فيها بشكر الله وشكر أمير المؤمنين، مد الله في عمره عليها وقد أحب أن يعلم أمير المؤمنين أيده الله إني لا أرغب بنفسي عن خدمته أيده الله بشيء من الخفض والدعة، إذ كان هو أيده الله يتجشم خشونة السفر ونصب الظعن، وأولى الناس بمواساته في ذلك وبذل نفسه فيه أنا، لما عرفني الله من رأيه، وجعل عندي من طاعته ومعرفه ما أوجب الله من حقه، فإن رأى أمير المؤمنين أكرمه الله أن يكرمني بلزوم خدمته، والكينونة معه فعل فقال لي مبتدئا من غير تروية: لم يعزم أمير المؤمنين في ذلك على شيء، وإن استصحب أحدا من أهل بيتك بدأ بك، وكنت المقدم عنده في ذلك، ولا سيما إذ أنزلت نفسك بحيث أنزلك أمير المؤمنين من نفسه، وان ترك ذلك فمن غير قلا لمكانك، ولكن بالحاجة إليك قَالَ: فكان والله ابتداؤه أكثر من ترويتي وذكر عن محمد بْن علي بْن صالح السرخسي، قَالَ: تعرض رجل للمأمون بالشام مرارا، فقال له: يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان! فقال: أكثرت علي يا أخا أهل الشام، والله ما انزلت قيسا عن ظهور الخيل إلا وأنا أرى إنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، واما اليمن فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط، وأما قضاعة فسادتها تنتظر السفياني وخروجه فتكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريا، اعزب فعل الله بك! وذكر عن سعيد بْن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قَالَ له: أرني الكتاب الذى كتبه رسول الله ص لكم، قَالَ: فأريته، قَالَ:
فقال: إني لأشتهي أن أدري أي شيء هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قَالَ:
فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو، قَالَ: فقال: ما اشك ان النبي صلى الله عليه وسلم عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدا عقده رسول الله ص ثم قَالَ للواثق: خذه فضعه على عينك، لعل الله أن يشفيك قَالَ: وجعل المأمون يضعه على عينه ويبكي وذكر عن العيشي صاحب إسحاق بْن إبراهيم، أنه قَالَ: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده حتى ضاق، وشكا ذلك إلى أبي إسحاق المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه قَالَ: وكان حمل إليه ثلاثون ألف ألف من خراج ما يتولاه له، قَالَ: فلما ورد عليه ذلك المال، قَالَ المأمون ليحيى بْن أكثم: اخرج بنا ننظر إلى هذا المال، قَالَ: فخرجا حتى أصحرا، ووقفا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، وألبست الأحلاس الموشاة والجلال المصبغة وقلدت العهن، وجعلت البدر بالحرير الصيني الأحمر والأخضر والأصفر، وأبديت رءوسها قَالَ: فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك، فعظم في عينه، واستشرفه الناس ينظرون إليه، ويعجبون منه، فقال المأمون ليحيى:
يا أبا محمد، ينصرف أصحابنا هؤلاء الذين تراهم الساعة خائبين الى منازلهم، وننصرف بهذه الأموال قد ملكناها دونهم! إنا إذا للئام ثم دعا محمد بْن يزداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلها، ولال فلان بمثلها قال: فو الله إن زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف درهم ورجله في الركاب، ثم قَالَ: ادفع الباقي إلى المعلى يعطي جندنا قَالَ العيشي: فجئت حتى قمت نصب عينه، فلم أرد طرفي عنها، لا يلحظني إلا رآني بتلك الحال فقال: يا أبا محمد، وقع لهذا بخمسين ألف درهم من الستة الآلاف الف، لا يختلس ناظري قَالَ: فلم يأت علي ليلتان حتى أخذت المال.
وذكر عن محمد بْن أيوب بْن جعفر بْن سليمان، أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم، وكان شاعرا ظريفا خبيثا منكرا، وكنت أنا والي البصرة، أنس به وأستحليه، فأردت أن أخدعه واستنزله، فقلت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف، فما يمنعك منه؟ قَالَ: ما عندي ما يقلني، قلت: فأنا أعطيك نجيبا فارها، ونفقة سابغة، وتخرج إليه وقد امتدحته، فإنك إن حظيت بلقائه، صرت إلى أمنيتك قَالَ: والله أيها الأمير ما أخالك أبعدت، فأعد لي ما ذكرت.
قَالَ: فدعوت له بنجيب فاره، فقلت: شأنك به فامتطه، قَالَ: هذه إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، فما بال الاخرى! فدعوت له بثلاثمائة درهم، وقلت: هذه نفقتك، قَالَ: أحسبك أيها الأمير قصرت في النفقة، قلت: لا، هي كافية، وإن قصرت عن السرف قَالَ: ومتى رأيت في أكابر سعد سرفا حتى تراه في أصاغرها! فأخذ النجيب والنفقة، ثم عمل ارجوزه ليست بالطويله، فانشد فيها وحذف منها ذكري والثناء علي- وكان ماردا- فقلت له: ما صنعت شيئا قَالَ: وكيف؟ قلت: تأتي الخليفة ولا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خداعا، ولمثلها ضرب هذا المثل: من ينك العير ينك نياكا، أما والله ما لكرامتي حملتني على نجيبك، ولا جدت لي بمالك الذي ما رامه أحد قط إلا جعل الله خده الأسفل، ولكن لأذكرك في شعري وأمدحك عند الخليفة، أفهم هذا قلت: قد صدقت، فقال: أما إذ أبديت ما في ضميرك، فقد ذكرتك، وأثنيت عليك، فقلت: فأنشدني ما قلت، فأنشدنيه، فقلت: أحسنت، ثم ودعني وخرج فأتى الشام، وإذا المأمون بسلغوس قَالَ: فأخبرني، قَالَ: بينا أنا في غزاة قرة، قد ركبت نجيبي ذاك، ولبست مقطعاتي، وأنا أروم العسكر، فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقر قراره، ولا يدرك خطاه قال: فلتقانى مكافحة ومواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: سلام عليكم – بكلام جهوري ولسان بسيط- فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قَالَ: قف إن شئت، فوقفت فتضوعت منه رائحة العنبر والمسك الأذفر، فقال: ما أولك؟
قلت: رجل من مضر، قَالَ: ونحن من مضر، ثم قَالَ: ثم ماذا؟
قلت: رجل من بني تميم، قَالَ: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قَالَ:
هيه، فما أقدمك هذا البلد؟ قَالَ: قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، ولا أطول باعا، ولا أمد يفاعا منه.
قَالَ: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه، وتقتفيه الرواة، ويحلو في آذان المستمعين، قَالَ: فأنشدنيه، فغضبت وقلت:
يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بشعر قلته، ومديح حبرته، تقول:
أنشدنيه! قَالَ: فتغافل والله عنها، وتطأمن لها، وألغى عن جوابها، قَالَ: وما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي عنه فألف دينار، قَالَ: فأنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيدا والكلام عذبا وأضع عنك العناء، وطول الترداد، ومنى تصل إلى الخليفة وبينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل! قلت: فلي الله عليك أن تفعل! قَالَ: نعم لك الله علي أن أفعل، قلت: ومعك الساعة مال؟ قَالَ: هذا بغلي وهو خير من ألف دينار، أنزل لك عن ظهره، قَالَ: فغضبت أيضا وعارضني نرق سعد وخفة أحلامها، فقلت: ما يساوي هذا البغل هذا النجيب! قَالَ: فدع عنك البغل، ولك الله علي أن أعطيك الساعة ألف دينار، قَالَ: فأنشدته:

مأمون يا ذا المنن الشريفه *** وصاحب المرتبة المنيفه
وقائد الكتيبة الكثيفه *** هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه *** لا والذي أنت له خليفه
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه *** أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى شيئا سوى الوظيفه *** فالذئب والنعجة في سقيفه

واللص والتاجر في قطيفه.
قال: فو الله ما عدا ان انشدته، فإذا زهاء عشرة آلاف فارس قد سدوا الأفق، يقولون: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وبركاته! قَالَ:
فأخذني أفكل، ونظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أتعرف لغات العرب؟
قَالَ: أي لعمر الله، قلت: فمن جعل الكاف منهم مكان القاف؟ قَالَ:
هذه حمير، قلت: لعنها الله، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم! فضحك المأمون، وعلم ما أردت، والتفت إلى خادم إلى جانبه، فقال: أعطه ما معك، فأخرج إلي كيسا فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال: هاك، ثم قَالَ: السلام عليك، ومضى فكان آخر العهد به.
وقال أبو سعيد المخزومي:

هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون *** شيئا أو ملكه المأسوس
خلفوه بعرصتي طرسوس *** مثل ما خلفوا أباه بطوس

وقال علي بْن عبيدة الريحاني:

ما أقل الدموع للمأمون *** لست أرضى إلا دما من جفوني

وذكر أبو موسى هارون بْن محمد بْن اسماعيل بن موسى الهادي ان على ابن صالح حدثه، قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما: أبغني رجلا من أهل الشام، له أدب، يجالسني ويحدثني، فالتمست ذلك فوجدته، فدعوته فقلت له:
إني مدخلك على أمير المؤمنين، فلا تسأله عن شيء حتى يبتدئك، فإني أعرف الناس بمسألتكم يا أهل الشام، فقال: ما كنت متجاوزا ما أمرتني به.فدخلت على المأمون، فقلت له: قد أصبت الرجل يا أمير المؤمنين، فقال: أدخله، فدخل فسلم، ثم استدناه- وكان المأمون على شغله من الشراب- فقال له: إني أردتك لمجالستي ومحادثنى، فقال الشامي: يا أمير المؤمنين، إن الجليس إذا كانت ثيابه دون ثياب جليسه دخله لذلك غضاضة، قَالَ: فأمر المأمون أن يخلع عليه، قَالَ: فدخلني من ذلك ما الله به أعلم، قَالَ: فلما خلع عليه، ورجع إلى مجلسه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، إن قلبي إذا كان متعلقا بعيالي لم تنتفع بمحادثتي، قَالَ: خمسون ألفا تحمل إلى منزله، ثم قَالَ: يا أمير المؤمنين، وثالثة، قَالَ: وما هي؟ قَالَ: قد دعوت بشيء يحول بين المرء وعقله، فإن كانت مني هنة فاغتفرها، قَالَ: وذاك! قَالَ علي: فكأن الثالثة جلت عني ما كان بي.وذكر أبو حشيشة محمد بْن علي بْن أمية بْن عمرو، قَالَ: كنا قدام أمير المؤمنين المأمون بدمشق، فغنى علويه:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذى *** أتاك به الواشوان عني كما قالوا
ولكنهم لما رأوك سريعة *** إلي، تواصوا بالنميمة واحتالوا

فقال: يا علويه، لمن هذا الشعر؟ فقال: للقاضي، قَالَ: أي قاض ويحك! قَالَ: قاضي دمشق، فقال: يا أبا إسحاق، اعزله، قَالَ: قد عزلته، قَالَ: فيحضر الساعة قَالَ: فأحضر شيخ مخضوب قصير، فقال له المأمون: من تكون؟ قال: فلان ابن فلان الفلاني، قَالَ: تقول الشعر؟
قَالَ: قد كنت أقوله، فقال: يا علويه، أنشده الشعر، فانشده، فقال: هذا الشعر لك؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، ونساؤه طوالق وكل ما يملك في سبيل الله إن كان قَالَ الشعر منذ ثلاثون سنة إلا في زهد أو معاتبة صديق، فقال: يا أبا إسحاق اعزله، فما كنت أولى رقاب المسلمين من يبدأ في هزله بالبراءة من الإسلام ثم قَالَ: اسقوه، فأتي بقدح فيه شراب، فأخذه وهو يرتعد، فقال: يا أمير المؤمنين ما ذقته قط، قَالَ: فلعلك تريد غيره! قَالَ: لم أذق منه شيئا قط، قَالَ: فحرام هو؟ قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: أولى لك! بها نجوت، اخرج ثم قَالَ: يا علويه، لا تقل: برئت من الإسلام، ولكن قل:

حرمت مناي منك إن كان ذا الذي *** أتاك به الواشون عني كما قالوا

قَالَ: وكنا مع المأمون بدمشق، فركب يريد جبل الثلج، فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية، وعلى جوانبها أربع سروات، وكان الماء يدخلها سيحا، ويخرج منها، فاستحسن المأمون الموضع، فدعا ببزماورد ورطل، وذكر بني أمية، فوضع منهم وتنقصهم، فأقبل علويه على العود، واندفع يغني:

أولئك قومي بعد عز وثروة *** تفانوا فألا أذرف العين أكمدا

فضرب المأمون الطعام برجله، ووثب وقال لعلويه: يا بن الفاعلة، لم يكن لك وقت تذكر فيه مواليك إلا في هذا الوقت! فقال: مولاكم زرياب عند موالي يركب في مائة غلام، وأنا عندكم أموت من الجوع! فغضب عليه عشرين يوما، ثم رضي عنه.
قَالَ: وزرياب مولى المهدي، صار إلى الشام ثم صار إلى المغرب، إلى بني أمية هناك.
وذكر السليطي أبو علي، عن عمارة بْن عقيل، قَالَ: أنشدت المأمون قصيدة فيها مديح له، هي مائة بيت، فابتدئ بصدر البيت فيبادرني الى قافيته كما قفيته، فقلت: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، قَالَ: هكذا ينبغي أن يكون، ثم أقبل علي، فقال لي: أما بلغك أن عمر بْن أبي ربيعة أنشد عبد الله بْن العباس قصيدته التي يقول فيها.

تشط غدا دار جيراننا

فقال ابن العباس

وللدار بعد غد أبعد.

حتى أنشده القصيدة، يقفيها ابن عباس! ثم قَالَ: أنا ابن ذاك.
وذكر عن أبي مروان كازر بْن هارون، أنه قَالَ: قَالَ المأمون:

بعثتك مرتادا ففزت بنظرة *** وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعدا *** فيا ليت شعري عن دنوك ما اغنى!
أرى أثرا منه بعينيك بينا *** لقد أخذت عيناك من عينه حسنا

قَالَ أبو مروان: وإنما عول المأمون في قوله في هذا المعنى على قول العباس ابن الأحنف، فإنه اخترع:

إن تشق عيني بها فقد سعدت *** عين رسولي، وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها *** رددت عمدا في طرفه نظري
تظهر في وجهه محاسنها *** قد أثرت فيه أحسن الأثر
خذ مقلتي يا رسول عارية *** فانظر بها واحتكم على بصري

قَالَ أبو العتاهية: وجه إلي المأمون يوما، فصرت إليه، فألفيته مطرقا مفكرا، فأحجمت عن الدنو منه في تلك الحال، فرفع رأسه، فنظر إلي وأشار بيده، أن ادن، فدنوت ثم أطرق مليا، ورفع رأسه، فقال: يا أبا إسحاق، شأن النفس الملل وحب الاستطراف، تأنس بالوحدة كما تأنس بالألفة، قلت: أجل يا أمير المؤمنين، ولي في هذا بيت، قَالَ: وما هو؟ قلت:

لا يصلح النفس إذ كانت مقسمة *** إلا التنقل من حال إلى حال

وذكر عن أبي نزار الضرير الشاعر أنه قَالَ: قَالَ لي علي بْن جبلة:
قلت لحميد بْن عبد الحميد: يا أبا غانم، قد امتدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض، فاذكرني له، فقال: أنشدنيه، فأنشدته، فقال: أشهد أنك صادق، فأخذ المديح فأدخله على المأمون، فقال:
يا أبا غانم، الجواب في هذا واضح، إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثوابا بمديحه، وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف القاسم بْن عيسى، فإن كان الذي قَالَ فيك وفيه أجود من الذي مدحنا به ضربنا ظهره، وأطلنا حبسه، وإن كان الذي قَالَ فينا أجود أعطيته بكل بيت من مديحه ألف درهم، وإن شاء أقلناه فقلت: يا سيدي، ومن أبو دلف! ومن أنا حتى يمدحنا بأجود من مديحك! فقال: ليس هذا الكلام من الجواب عن المسألة في شيء، فاعرض ذلك على الرجل قَالَ علي بْن جبلة: فقال لي حميد: ما ترى؟
قلت: الا قاله أحب إلي، فأخبر المأمون، فقال: هو أعلم، قَالَ حميد:
فقلت لعلي بْن جبلة: إلى أي شيء ذهب في مدحك أبا دلف وفي مدحك لي؟ قَالَ: إلى قول في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلف *** بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف *** ولت الدنيا على أثره

وإلى قولي فيك:

لولا حميد لم يكن *** حسب يعد ولا نسب
يا واحد العرب الذي *** عزت بعزته العرب

قَالَ: فأطرق حميد ساعة، ثم قَالَ: يا أبا الحسن، لقد انتقد عليك أمير المؤمنين وأمر لي بعشرة آلاف درهم وحملان وخلعة وخادم، وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية، وكان ذلك منهما في ستر لم يعلم به أحد إلى أن حدثتك يا أبا نزار بهذا.
قَالَ أبو نزار: وظننت أن المأمون تعقد عليه هذا البيت في أبي دلف:

تحدر ماء الجود من صلب آدم *** فأثبته الرحمن في صلب قاسم

وذكر عن سليمان بْن رزين الخزاعي، ابن أخي دعبل، قَالَ: هجا دعبل المأمون، فقال:

ويسومني المأمون خطة عارف *** أو ما رأى بالأمس رأس محمد
يوفي على هام الخلائف مثل ما *** يوفي الجبال على رءوس القردد
ويحل في أكناف كل ممنع *** حتى يذلل شاهقا لم يصعد
إن الترات مسهد طلابها *** فاكفف لعابك عن لعاب الأسود

فقيل للمأمون: إن دعبلا هجاك، فقال: هو يهجو أبا عباد لا يهجوني.
يريد حدة أبي عباد، وكان أبو عباد إذا دخل على المأمون كثيرا ما يضحك المأمون، ويقول له: ما أراد دعبل منك حين يقول:

وكأنه من دير هزقل مفلت *** حرد يجر سلاسل الأقياد

وكان المأمون يقول لإبراهيم بْن شكلة إذا دخل عليه: لقد أوجعك دعبل حين يقول:

إن كان إبراهيم مضطلعا بها *** فلتصلحن من بعده لمخارق
ولتصلحن من بعد ذاك لزلزل *** ولتصلحن من بعده للمارق
أنى يكون ولا يكون ولم يكن *** لينال ذلك فاسق عن فاسق!

وذكر محمد بْن الهيثم الطائي أن القاسم بْن محمد الطيفوري حدثه، قَالَ:
شكا اليزيدي إلى المأمون خلة أصابته، ودينا لحقه، فقال: ما عندنا في هذه الأيام ما أن أعطيناكه بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الأمر قد ضاق علي، وإن غرمائي قد أرهقوني قَالَ: فرم لنفسك أمرا تنال به نفعا فقال: لك منادمون فيهم من أن حركته نلت منه ما أحب، فأطلق لي الحيلة فيهم، قَالَ: قل ما بدا لك، قَالَ: فإذا حضروا وحضرت فمر فلانا الخادم أن يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها، فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت قَالَ: فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون واجتماع ندمائه إليه، وتيقن أنهم قد ثملوا من شربهم، أتى الباب، فدفع إلى ذلك الخادم رقعة قد كتبها، فأوصلها له إلى المأمون، فقرأها فإذا فيها:

يا خير إخواني وأصحابي *** هذا الطفيلي لدى الباب
خبر أن القوم في لذة *** يصبو إليها كل أواب
فصيروني واحدا منكم *** أو أخرجوا لي بعض أترابي

قَالَ: فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل هذا الطفيلي على مثل هذه الحال فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت تنادمه، فقال: ما أرى لنفسي اختيارا غير عبد الله بْن طاهر، فقال له المأمون: قد وقع اختياره عليك، فصر إليه، قَالَ: يا أمير المؤمنين، فأكون شريك الطفيلي! قَالَ: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج، وإلا فافتد نفسك، قَالَ: فقال:
يا أمير المؤمنين، له علي عشرة آلاف درهم، قَالَ: لا أحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك، قَالَ: فلم يزل يزيده عشرة عشرة، والمأمون يقول له: لا أرضى له بذلك، حتى بلغ المائة ألف قَالَ: فقال له المأمون: فعجلها له، قَالَ: فكتب له بها إلى وكيله، ووجه معه رسولا، فأرسل إليه المأمون: قبض هذه في هذه الحال أصلح لك من منادمته على مثل حاله، وأنفع عاقبة.
وذكر عن محمد بْن عبد الله صاحب المراكب قَالَ: أخبرني ابى عن صالح بن الرشيد، قَالَ: دخلت على المأمون، ومعي بيتان للحسين بْن الضحاك، فقلت: يا أمير المؤمنين، أحب أن تسمع مني بيتين، قَالَ:
أنشدهما، قَالَ: فأنشده صالح:

حمدنا الله شكرا إذ حبانا *** بنصرك يا أمير المؤمنينا
فأنت خليفة الرحمن حقا *** جمعت سماحة وجمعت دينا

فاستحسنهما المأمون، وقال: لمن هذان البيتان يا صالح؟ قلت: لعبدك يا أمير المؤمنين الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قد أحسن، قلت: وله يا أمير المؤمنين ما هو أجود من هذا، قَالَ: وما هو؟ فأنشدته:

أيبخل فرد الحسن فرد صفاته *** علي، وقد أفردته بهوى فرد!
رأى الله عبد الله خير عباده *** فملكه والله أعلم بالعبد

وذكر عن عمارة بْن عقيل، أنه قَالَ: قَالَ لي عبد الله بْن أبي السمط: علمت أن المأمون لا يبصر الشعر، قَالَ: قلت: ومن ذا يكون اعلم منه! فو الله إنك لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره، قال: أنشدته بيتا أجدت فيه، فلم أره تحرك له، قَالَ: قلت: وما الذي أنشدته؟ قَالَ:
أنشدته:

أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا *** بالدين والناس بالدنيا مشاغيل

قَالَ: فقلت له: إنك والله ما صنعت شيئا، وهل زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها، في يدها سبحتها! فمن القائم بأمر الدنيا إذا تشاغل عنها، وهو المطوق بها! هلا قلت فيه كما قَالَ عمك جرير في عبد العزيز ابن الوليد:

فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه *** ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله

فقال: الآن علمت أني قد أخطأت.
وذكر عن محمد بن ابراهيم السيارى قَالَ: لما قدم العتابي على المأمون مدينة السلام أذن له، فدخل عليه، وعنده إسحاق بْن إبراهيم الموصلي- وكان شيخا جليلا- فسلم عليه، فرد ع، وأدناه وقربه حتى قرب منه، فقبل يده، ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله، فجعل يجيبه بلسان طلق، فاستطرف المأمون ذلك، فأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين، الإبساس قبل الإيناس قَالَ: فاشتبه على المأمون الإبساس، فنظر إلى إسحاق بْن إبراهيم، ثم قَالَ:
نعم، يا غلام ألف دينار، فأتى بها، ثم صبت بين يدي العتابي، ثم أخذوا في المفاوضة والحديث، وغمز عليه إسحاق بْن إبراهيم، فأقبل لا يأخذ العتابي في شيء إلا عارضه إسحاق بأكثر منه، فبقي متعجبا، ثم قال:
يا امير المؤمنين، ايذن لي في مسألة هذا الشيخ عن اسمه، قَالَ: نعم، سله، قَالَ: يا شيخ، من أنت؟ وما اسمك؟ قَالَ: أنا من الناس، واسمي كل بصل، قَالَ: أما النسبة فمعروفة، وأما الاسم فمنكر، وما كل بصل من الأسماء؟ فقال له إسحاق: ما أقل إنصافك! وما كل ثوم من الأسماء! البصل أطيب من الثوم، فقال العتابي: لله درك! ما أحجك! يا أمير المؤمنين، ما رأيت كالشيخ قط، أتأذن لي في صلته بما وصلني به أمير المؤمنين، فقد والله غلبني! فقال المأمون: بل هذا موفر عليك، ونأمر له بمثله، فقال له إسحاق: اما إذا أقررت بهذه فتوهمني تجدني، فقال: والله ما أظنك إلا الشيخ الذي يتناهى إلينا خبره من العراق، ويعرف بابن الموصلي! قَالَ: أنا حيث ظننت، فأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون وقد طال الحديث بينهما: أما إذا اتفقتما على الصلح والمودة، فقوما فانصرفا متنادمين، فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.
وذكر عن محمد بْن عبد الله بْن جشم الربعي أن عمارة بْن عقيل قَالَ: قَالَ لي المأمون يوما وأنا أشرب عنده: ما أخبثك يا أعرابي! قَالَ:
قلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ وهمتني نفسي، قَالَ: كيف قلت:

قالت مفداه لما أن رأت أرقي *** والهم يعتادني من طيفه لمم
نهبت مالك في الأدنين آصرة *** وفي الأباعد حتى حفك العدم
فاطلب إليهم ترى ما كنت من حسن *** تسدي إليهم فقد باتت لهم صرم
فقلت عذلك قد أكثرت لائمتي *** ولم يمت حاتم هزلا ولا هرم

فقال لي المأمون: أين رميت بنفسك إلى هرم بْن سنان سيد العرب وحاتم الطائي! فعلا كذا وفعلا كذا، وأقبل ينثال علي بفضلهما، قَالَ: فقلت:
يا أمير المؤمنين، أنا خير منهما، أنا مسلم وكانا كافرين، وأنا رجل من العرب.
وذكر عن محمد بْن زكرياء بْن ميمون الفرغاني، قَالَ: قَالَ المأمون لمحمد بْن الجهم: أنشدني ثلاثة أبيات في المديح والهجاء والمراثي، ولك بكل بيت كورة، فأنشده في المديح:

يجود بالنفس إذ ضن الجواد بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وأنشده في الهجاء:
قبحت مناظرهم فحين خبرتهم *** حسنت مناظرهم لقبح المخبر
وأنشده في المراثي:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه *** فطيب تراب القبر دل على القبر

وذكر عن العباس بْن أحمد بْن أبان بْن القاسم الكاتب، قَالَ: أخبرني الحسين بْن الضحاك، قَالَ: قَالَ لي علويه: أخبرك أنه مر بي مرة ما أيست من نفسي معه لولا كرم المأمون، فإنه دعا بنا، فلما أخذ فيه النبيذ، قَالَ:
غنوني، فسبقني مخارق، فاندفع فغنى صوتا لابن سريج في شعر جرير:

لما تذكرت بالديرين أرقني *** صوت الدجاج وضرب بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد المسير بنا *** يا بعد يبرين من باب الفراديس!

قال: فحين لي ان تغنيت، وكان قد هم بالخروج إلى دمشق يريد الثغر:

الحين ساق إلى دمشق وما *** كانت دمشق لأهلها بلدا

فضرب بالقدح الأرض، وقال: ما لك! عليك لعنة الله ثم قَالَ: يا غلام، أعط مخارقا ثلاثة آلاف درهم، وأخذ بيدي فأقمت وعيناه تدمعان، وهو يقول للمعتصم: هو والله آخر خروج، ولا أحسبني أن أرى العراق ابدا، فكان والله آخر عهده بالعراق عند خروجه كما قال.

 خلافة أبي إسحاق المعتصم محمد بْن هارون الرشيد
وفي هذه السنة بويع لأبي إسحاق محمد بْن هارون الرشيد بْن محمد المهدي ابن عبد الله المنصور بالخلافة، وذلك يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ومائتين وذكر أن الناس كانوا قد أشفقوا من منازعه العباس بن المأمون له في الخلافة، فسلموا من ذلك.
ذكر أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضره، فبايعه ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه، فسكن الجند.وفيها أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون أمر ببنائه بطوانة، وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله، وأحرق ما لم يقدر على حمله، وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم.وفيها انصرف المعتصم إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها- فيما ذكر- يوم السبت مستهل شهر رمضان.وفيها دخل- فيما ذكر- جماعة كثيرة من أهل الجبال من همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجانقذق في دين الخرمية، وتجمعوا، فعسكروا في عمل همذان، فوجه المعتصم إليهم عساكر، فكان آخر عسكر وجه إليهم عسكر وجهه مع إسحاق بْن إبراهيم بْن مصعب، وعقد له على الجبال في شوال في هذه السنة، فشخص إليهم في ذي القعدة، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وقتل في عمل همذان ستين ألفا، وهرب باقيهم الى بلاد الروم.

[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة صالح بْن العباس بْن محمد، وضحى أهل مكة يوم الجمعه، واهل بغداد يوم السبت.