193 هـ
808 م
سنه ثلاث وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن وفاه الفضل بن يحيى، فمن ذلك وفاة الفضل بْن يحيى بْن خالد بْن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته …

– فيما ذكر- من ثقل أصابه في لسانه وشقه، وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره ومكث يعالج أشهرا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر، وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم أخرج فصلى الناس على جنازته.وفيها مات سعيد الطبرى المعروف بالجوهرى.

ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس
وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بْن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان- فيما ذكر- في صفر، وهو عليل، إلى طوس، فلم يزل بها إلى أن توفي- واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ وأسد بْن يزيد بْن مزيد والعباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث والسندي ابن الحرشي ونعيم بْن حازم، وعلى كتابته ووزارته أيوب بْن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.
وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، واسر أخا رافع بشير بْن الليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قَالَ: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع.
قَالَ: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك- أو قَالَ أكثر- وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه قَالَ: فسمعته يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! ونظر إلى أخي رافع، فقال: اما والله يا بن اللخناء، انى لأرجو الا يفوتني خامل- يريد رافعا- كما لم تفتني فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلما، ولعل الله ان يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل، لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه.
ففصله حتى جعله أشلاء فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.

ذكر الخبر عن موت الرشيد
وفيها مات هارون الرشيد.
ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه:
ذكر عن جبريل بْن بختيشوع أنه قَالَ: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته، فإن كان أنكر شيئا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها، فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسا مفكرا مهموما، فوقفت بين يديه مليا من النهار، وهو على تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، عله فأخبرني بها، فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لأدرك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك من ذلك، وأنا أولى من افضيت اليه بالخبر، وتروجت إليه بالمشورة فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، واقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين، فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا انما تكون من خاطر او بخارات رديئه أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله قَالَ: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا، إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قَالَ: بطوس وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتبهت فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتقاض بعضها قَالَ: قد كان ذاك، قَالَ: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورا، يخرجه من قلبك لا يولد علة قَالَ: فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه.
ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بْن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملا يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه، كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر رؤياي بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرا عن ذراعه، فلما نظر إليه قَالَ: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئا، وأقبل على البكاء والنحيب ثم مات بها والله بعد ثلاثة، ودفن في ذلك البستان.
وذكر بعضهم أن جبريل بْن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته، فكان الرشيد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية فمات في ذلك اليوم.
وذكر الحسن بْن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه- وكان جمالا معه مائة جمل، قَالَ: هو حمل الرشيد إلى طوس- قَالَ: قَالَ الرشيد: احفروا لي قبرا قبل أن أموت، فحفروا له، قَالَ: فحملته في قبة أقود به، حتى نظر إليه قَالَ، فقال: يا بن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع من الدار التي كان فيها نازلا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قوما فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
وذكر محمد بْن زياد بْن محمد بْن حاتم بْن عبيد الله بْن أبي بكرة، أن سهل بْن صاعد حدثه، قَالَ: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي، فنهضت فقال لي: أقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني، فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك! قَالَ: فضحك ضحك صحيح، ثم قَالَ: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:

وإني من قوم كرام يزيدهم *** شماسا وصبرا شدة الحدثان

وذكر عن مسرور الكبير، قَالَ: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت، أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في اثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.
وتوفي- فيما ذكر- في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بْن أبي غانم، نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بْن الربيع وإسماعيل بْن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما، أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وقال هشام بْن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بْن محمد ليلة الجمعة لأربع عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وستة عشر يوما وقيل: كان سنه يوم توفي سبعا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمسين وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
وكان جميلا وسيما أبيض جعدا، وقد وخطه الشيب.

ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد
ولاة المدينة: إسحاق بْن عيسى بْن علي، عبد الملك بْن صالح بْن علي، محمد بْن عبد الله، موسى بن عيسى بْن موسى، إبراهيم بْن محمد بْن إبراهيم، علي بْن عيسى بْن موسى، محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن مصعب الزبيري، بكار بْن عبد الله بْن مصعب، أبو البختري وهب بْن وهب.
ولاة مكة: العباس بْن محمد بْن ابراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بْن عيسى بْن موسى، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، عبد الله بْن قثم ابن العباس، محمد بن ابراهيم، عبيد الله بْن قثم، عبد الله بْن محمد بْن عمران، عبد الله بْن محمد بْن إبراهيم، العباس بْن موسى بْن عيسى، علي بْن موسى بْن عيسى، محمد بْن عبد الله العثماني، حماد البربرى، سليمان بن جعفر ابن سليمان، أحمد بْن إسماعيل بْن علي، الفضل بْن العباس بْن محمد.
ولاة الكوفة: موسى بْن عيسى بْن موسى، يعقوب بْن أبي جعفر، موسى ابن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، إسحاق بْن الصباح الكندي، جعفر بْن جعفر بْن أبي جعفر، موسى بْن عيسى بْن موسى، العباس بْن عيسى بْن موسى، موسى بْن عيسى بْن موسى.
ولاة البصرة: محمد بْن سليمان بْن علي، سليمان بْن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر بْن أبي جعفر، خزيمة بْن خازم، عيسى بْن جعفر، جرير بْن يزيد، جعفر بْن سليمان، جعفر بْن أبي جعفر، عبد الصمد بن على، مالك ابن علي الخزاعي، إسحاق بْن سليمان بْن علي، سليمان بن ابى جعفر، عيسى ابن جعفر، الحسن بْن جميل مولى أمير المؤمنين، إسحاق بْن عيسى بْن علي.
ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بْن محمد بْن الأشعث، العباس بْن جعفر، الغطريف بْن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزه ابن مالك، الفضل بْن يحيى، منصور بْن يزيد بْن منصور، جعفر بْن يحيى خليفته بها، علي بْن الحسن بْن قحطبة، علي بْن عيسى بْن ماهان، هرثمة بْن أعين.

ذكر بعض سير الرشيد
ذكر العباس بْن محمد عن أبيه، عن العباس، قَالَ: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وابنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائه رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري إلا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بْن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه:

وسدت بهارون الثغور فأحكمت *** به من أمور المسلمين المرائر 
وما انفك معقودا بنصر لواؤه *** له عسكر عنه تشظى العساكر
وكل ملوك الروم أعطاه جزيه ***على الرغم قسرا عن يد وهو صاغر
لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا *** كأن لم يُدَمِّنْهُ من الناس حاضر
أناخ على الصفصاف حتى استباحه *** فكابره فيها ألج مكابر
إلى وجهه تسمو العيون وما سمت *** إلى مثل هارون العيون النواظر
ترى حوله الأملاك من آل هاشم *** كما حفت البدر النجوم الزواهر
يسوق يديه من قريش كرامها *** وكلتاهما بحر على الناس زاخر
إذا فقد الناس الغمام تتابعت *** عليهم بكفيك الغيوم المواطر
على ثقة ألقت إليك أمورها *** قريش، كما ألقى عصاه المسافر
أمور بميراث النبي وليتها *** فأنت لها بالحزم طاو وناشر
إليكم تناهت فاستقرت وإنما *** إلى أهله صارت بهن المصاير
خلفت لنا المهدي في العدل والندى*** فلا العرف منزور ولا الحكم جائر
وأبناء عباس نجوم مضيئة *** إذا غاب نجم لاح آخر زاهر
على بنى ساقي الحجيج تتابعت *** أوائل من معروفكم وأواخر
فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغا *** مدى شكر نعماكم وإني لشاكر
وما الناس إلا وارد لحياضكم *** وذو نهل بالري عنهن صادر
حصون بني العباس في كل مأزق *** صدور العوالي والسيوف البواتر
فطورا يهزون القواطع والقنا *** وطورا بايديهم تهز المخاصر
بأيدي عظام النفع والضر لا تنى *** بهم للعطايا والمنايا بوادر
ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم*** أسرته مختالة والمنابر
أبوك ولي المصطفى دون هاشم ***وإن رغمت من حاسديك المناخر

فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه.
وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضحاكا له محداثا فكيها، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته، وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه، فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائما، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قَالَ له: كيف أصبحت؟ قَالَ: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قَالَ: ويلك! قم إلى الصلاة، قَالَ:
هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي فمضى وتركه نائما، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت اليه وهو كالمغضب، فقال: يا بن أبي مريم، في الصلاة أيضا! قَالَ: يا هذا وما صنعت؟ قَالَ: قطعت علي صلاتي، قَالَ: والله ما فعلت، إنما سمعت منك كلاما غمني حين قلت: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بْن محمد أهدى غالية إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتيه العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية، فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قَالَ: خذها إليك فاغتاظ العباس، وطار أسفا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قَالَ: فضحك الرشيد، ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه ورأسه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه، وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن أنصرف فانيكك فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: أنظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قَالَ: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم.
وذكر عن زيد بْن علي بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن على ابن أبي طالب، قَالَ: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يوما، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدا عند أخذك الدواء، وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قَالَ: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدا منزلك، فإني قد وليت ابن ابى مريم الحجابه وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس، فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بْن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بْن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء، فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة، فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قَالَ: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قَالَ: معزول، قَالَ: قد سوغناك حاصلنا، فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد وذكر عن إسماعيل بْن صبيح، قَالَ: دخلت على الرشيد، فإذا جاريه على راسه، وفي يدها صحيفه وملعقة في يدها الأخرى، وهي تلعقه أولا فأولا، قَالَ: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قَالَ: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بْن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قَالَ: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قَالَ: هذا جشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد، وهو نافع للأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفي البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ.
قَالَ: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ، فقلت: بكر علي كل غداة بالجشيش، قَالَ: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها.
قَالَ: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعمله في اليوم الأول فاستطبته، وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه.
وذكر أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو عمر الأعجمي: بالهند طبيب يقال له منكه، رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند، وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قَالَ: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره قَالَ: فقدم فعالج الرشيد فبرئ من علته بعلاجه، فأجرى له رزقا واسعا وأموالا كافية، فبينا منكه مارا بالخلد، إذا هو برجل من المانيين قد بسط كساءه، وألقى عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة، ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن ذلك الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل، وذاك أنه إن كان الأمر على ما قَالَ هذا، فلِمَ حملني من بلادي، وقطعني عن اهلى، وتكلف الغليظ من مئونتي، وهو يجد هذا نصب عينه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه، لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير، وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسا، وبالحري أن يقتل اثنتين وثلاثا وأربعا في كل يوم، وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة.
وذكر أن يحيى بْن خالد بْن برمك ولى رجلا بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر بن بْن يحيى، فقال الرشيد ليحيى وجعفر: أوصياه، فقال له يحيى: وفر واعمر، وقال له جعفر: انصف وانتصف، فقال له الرشيد: اعدل وأحسن.
وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بْن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين الممتنين المتطولين، فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجا عند الغضب، وتتطول ممتنا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلا بالعفو وذكر مصعب بْن عبد الله الزبيري أن أباه عبد الله بْن مصعب أخبره أن الرشيد قَالَ له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قَالَ: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا.
اليوم عن هذا.
قَالَ مصعب: وقال أبي- وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كفيتني ما أحتاج إليه.
قَالَ: وولى سلام، أو رشيد الخادم- بعض خدام الخاصة- ضياع الرشيد بالثغور والشامات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر قَالَ: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفر جلا قد أتى به من بلخ، وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قَالَ: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتهم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين قَالَ: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يا بن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بْن عبد العزيز، نحتملها لعمر بْن الخطاب!
وذكر عبد الله بْن محمد بْن عبد الله بْن عبد العزيز بْن عبد الله بْن عبد الله ابن عمر بْن الخطاب، أن أبا بكر بْن عبد الرحمن بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر ابن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بْن عبد الله، وأثنى عليه خيرا، قَالَ: أخبرني بعض ولد عبد الله بْن عبد العزيز، قَالَ: قَالَ الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم، وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل ابن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قَالَ: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج، حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى، فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان معهما من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب، فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك، فإذا شئت فقم فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وإن لي ما طلعت عليه الشمس، فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئا تستعين به على دهرك، قَالَ: لا حاجة لي فيه، أنا عنه في غنى، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قَالَ: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قَالَ: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا لكما بخادم ولا عون قَالَ: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما، فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا.
فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الباعة يشتري لصبيانه، إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه قَالَ: فرأيت دموع هارون، وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف.
وذكر محمد بْن أحمد مولى بني سليم قَالَ: حدثني الليث بْن عبد العزيز الجوزجاني- وكان مجاورا بمكة أربعين سنة- أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقام على أصابعه، وقال: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردا حاضرا، وجوابا عتيدا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي اللهم لك الحمد حمدا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق اللهم صلى على محمد صلاة تكون له رضا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزا، وأجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء محرومين!
وذكر عَلِيّ بْن مُحَمَّدٍ عن عَبْد اللَّهِ، قَالَ: أخبرني القاسم بْن يحيى، قَالَ: بعث الرشيد إلى ابن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بْن علي في الحير، قَالَ: فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بْن راشد، وقال: ما لك؟ قَالَ: بعث إلي هذا الرجل- يعني الرشيد- فأحضرني، ولست آمنه على نفسي، قَالَ له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بْن راشد وضعني في ذلك الموضع فلما دخل عليه قَالَ هذا القول، قَالَ: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قَالَ: فلما حضر قَالَ: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قَالَ: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه في كل شهر ثلاثين درهما فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى- وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بْن منصور.
وذكر علي بْن محمد أن أباه حدثه قَالَ: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، في بيت مكشوف، وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج، وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه، لأنه كان يؤذيه، ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش، ولا يجلس فيه وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفا دون سقف، وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس، فاتخذ هو سقفا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.
وقال علي عن أبيه: خبرت انه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاويه وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها ثم تخلع عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقيله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.
وذكر علي بْن حمزة أن عبد الله بْن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن على ابن أبي طالب قَالَ: قَالَ لي العباس بْن الحسن: قَالَ لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قَالَ: قلت: بكلام أو بشعر؟ قَالَ: بكلام وشعر، قَالَ: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قَالَ: فتبسم، فقلت له:

يا وادي القصر نعم القصر والوادي *** من منزل حاضر إن شئت أو بادي
ترى قراقيره والعيس واقفة *** والضب والنون والملاح والحادي

وذكر محمد بْن هارون، عن أبيه، قَالَ: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بْن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قَالَ: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قَالَ: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما، جنة أو نار قَالَ: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحدا شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قَالَ: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا- يعني الفضل بْن الربيع- ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك قَالَ: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه وأفحم الفضل بْن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
قَالَ: ودخل ابن السماك على الرشيد يوما، فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة من ماء، فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قَالَ له ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو منعت هذه الشربه فبكم كنت تشتريها؟ قَالَ: بنصف ملكي، قَالَ: اشرب هنأك الله، فلما شربها، قَالَ له: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قَالَ: بجميع ملكي، قَالَ ابن السماك: أن ملكا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه فبكى هارون، فأشار الفضل بْن الربيع إلى ابن السماك بالانصراف فانصرف.
قَالَ: ووعظ الرشيد عبد الله بْن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف، بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم، يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم أخذ من الكيس دينارا، وقال: كرهت أن أجمع سوء القول وسوء الفعل وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: ما لي ولابن عمكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي، يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا، فكتب إلى موسى بْن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلاما كثيرا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين، فأخذ نعله، وقام وهو يقول: {فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ} [المللك: 11] .
وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يوما مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بْن عثمان بْن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى أنصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قَالَ: ذاك أقل ما يجب لك، قَالَ: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟
قَالَ: بل فرعون، قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ} [النازعات: 24]  وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، قَالَ: صدقت، فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى ابن عمران؟ قَالَ: موسى كليم الله وصفيه، أصطنعه لنفسه، واتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قَالَ: صدقت، أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قَالَ لهما: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ} [طه: 44] ، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه، وهذا وهو في عتوه وجبريته، على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه، فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه، فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيا قَالَ الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين، وأنا أستغفرك، قَالَ: قد غفر لك الله، وامر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال، أنا رجل سائح فقال هرثمة- وخزرة: ترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قَالَ له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه، ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه، فاقبل من صلتنا ما شئت، وضعها حيث أحببت فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.

ذكر من كان عند الرشيد من النساء المهائر
قيل: إنه تزوج زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر بْن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بْن سليمان- التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله- فولدت له محمدا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.
وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له على بن الرشيد.
وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بْن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس، كانت أملكت من إبراهيم بْن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.
وتزوج العباسة ابنة سليمان بْن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.
وتزوج عزيزة ابنة الغطريف، وكانت قبله عند سليمان بْن أبي جعفر فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بْن محمد بن عبد الله بن عمرو ابن عثمان بْن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بْن علي بْن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بْن حسن بْن حسن بْن علي بْن أبي طالب رضي الله عنهم.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.

ذكر ولد الرشيد
وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلى وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها شذرة، ومحمد أبو العباس وأمه أم ولد يقال لها خبث، ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد ابو احمد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.
ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي أمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينه.

بقية ذكر بعض سير الرشيد
ذكر يعقوب بن إسحاق الاصفهانى، قال: قَالَ المفضل بْن محمد الضبي:
وجه إلي الرشيد، فما علمت الا وقد جاءتني الرسل ليلا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه، وذلك في يوم خميس، وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه، فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قَالَ كم اسما في: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} [البقرة: 137]؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل قال: صدقت، هكذا أفادنا هذا الشيخ- يعني الكسائي- ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أعد علي المسألة كما قَالَ المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قَالَ: وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:

أخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع

قَالَ: هيهات أفادناها متقدما قبلك هذا الشيخ، لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قَالَ: قلت: فأزيد في السؤال؟ قَالَ: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قَالَ: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر، فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قَالَ الله عز وجل: {بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38]  وهو المشرق والمغرب قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت الى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قَالَ: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب قَالَ: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قَالَ: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمدا صلى الله عليه وسلم، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين قَالَ: فاشرأب أمير المؤمنين، وقال: يا فضل بْن الربيع، احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال: أدن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:

قل للإمام المقتدي بأمه *** ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه.

فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائما! قَالَ: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قَالَ: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع.

– حتى بلغ-

ما كان أحسن أيام الشباب وما *** أبقى حلاوة ذكراه التي تدع
ما كنت أوفي شبابي كنه غرته *** حتى مضى فإذا الدنيا له تبع

قَالَ الرشيد: لا خير في دنيا لا يخطر فيها ببرد الشباب.
وذكر أن سعيد بْن سلم الباهلي دخل على الرشيد، فسلم عليه، فأومأ إليه الرشيد فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين، أعرابي من باهلة واقف على باب أمير المؤمنين، ما رأيت قط اشعر منه، قال: اما انك استبحت هذين- يعني العماني ومنصور النمري، وكانا حاضريه- نهبى لهما أحجارك، قَالَ: هما يا أمير المؤمنين يهباني لك، فيؤذن للأعرابي؟ فأذن له، فإذا أعرابي في جبة خز، ورداء يمان، قد شد وسطه ثم ثناه على عاتقه، وعمامة قد عصبها على خديه، وأرخى لها عذبة، فمثل بين يدي أمير المؤمنين، وألقيت الكراسي، فجلس الكسائي والمفضل وابن سلم والفضل بْن الربيع، فقال ابن سلم للأعرابي:
خذ في شرف أمير المؤمنين، فاندفع الأعرابي في شعره، فقال أمير المؤمنين: أسمعك مستحسنا، وأنكرك متهما عليك، فإن يكن هذا الشعر لك وأنت قلته من نفسك، فقل لنا في هذين بيتين- يعني محمدا والمأمون- وهما حفافاه فقال: يا أمير المؤمنين حملتني على القدر في غير الحذر روعة الخلافة، وبهر البديهة، ونفور القوافي عن الروية، فيمهلني أمير المؤمنين، يتألف إلي نافراتها، ويسكن روعي قَالَ: قد أمهلتك يا أعرابي، وجعلت اعتذارك بدلا من امتحانك، فقال: يا أمير المؤمنين نفست الخناق، وسهلت ميدان النفاق، ثم أنشأ يقول:

هما طنباها بارك الله فيهما *** وأنت أمير المؤمنين عمودها
بنيت بعبد الله بعد محمد *** ذرى قبة الإسلام فاهتز عودها

فقال: وأنت يا أعرابي بارك الله فيك، فسلنا، ولا تكن مسألتك دون إحسانك، قَالَ: الهنيدة يا أمير المؤمنين، قَالَ: فتبسم أمير المؤمنين، وامر له بمائة ألف درهم وسبع خلع.
وذكر أن الرشيد قَالَ لابنه القاسم- وقد دخل عليه قبل أن يبايع له:
أنت للمأمون ببعض لحمك هذا، قال: ببعض حظه.
وقال للقاسم يوما قبل البيعة له: قد أوصيت الأمين والمأمون بك، قَالَ:
أما أنت يا أمير المؤمنين فقد توليت النظر لهما، ووكلت النظر لي إلى غيرك.
وقال مصعب بْن عبد الله الزبيري: قدم الرشيد مدينه الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ابناه محمد الأمين وعبد الله المأمون، فأعطى فيها العطايا وقسم في تلك السنة في رجالهم ونسائهم ثلاثة أعطية، فكانت الثلاثة الأعطية التي قسمها فيهم ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وفرض في تلك السنه لخمسمائه من وجوه موالي المدينة، ففرض لبعضهم في الشرف منهم يحيى بْن مسكين وابن عثمان، ومخراق مولى بنى تميم، وكان يقرئ القرآن بالمدينة.
وقال إسحاق المولى: لما بايع الرشيد لولده، كان فيمن بايع عبد الله بْن مصعب بْن ثابت بْن عبد الله بْن الزبير، فلما قدم ليبايع، قَالَ:

لا قصرا عنها ولا بلغتهما *** حتى يطول على يديك طوالها

فاستحسن الرشيد ما تمثل، وأجزل له صلته قَالَ: والشعر لطريح بْن إسماعيل، قاله في الوليد بْن يزيد وفي ابنيه.
وقال أبو الشيص يرثي هارون الرشيد:

غربت في الشرق شمس *** فلها عينان تدمع
ما رأينا قط شمسا *** غربت من حيث تطلع

وقال أبو نواس الحسن بْن هانئ:

جرت جوار بالسعد والنحس *** فنحن في مأتم وفي عرس
القلب يبكي والسن ضاحكة *** فنحن في وحشة وفي انس
يضحكنا القائم الامين و *** يبكينا وفاه الامام بالأمس
بدران: بدر اضحى ببغداد بالخلد*** وبدر بطوس في رمس

وقيل: مات هارون الرشيد، وفي بيت المال تسعمائة ألف ألف ونيف.

خلافة الأمين
وفي هذه السنة بويع لمحمد الامين بن هارون بالخلافة في عسكر الرشيد، وعبد الله بْن هارون المأمون يومئذ بمرو، وكان- فيما ذكر- قد كتب حمويه مولى المهدي صاحب البريد بطوس إلى أبي مسلم سلام، مولاه وخليفته ببغداد على البريد والأخبار، يعلمه وفاة الرشيد فدخل على محمد فعزاه وهنأه بالخلافة، وكان أول الناس فعل ذلك، ثم قدم عليه رجاء الخادم يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، كان صالح بن الرشيد ارسله اليه بالخبر بذلك- وقيل: أتاه الخبر بذلك- ليلة الخميس للنصف من جمادى الآخرة، فأظهره يوم الجمعة، وستر خبره بقية يومه وليلته، وخاض الناس في أمره.
ولما قدم كتاب صالح على محمد الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد- وكان نازلا في قصره بالخلد- تحول إلى قصر أبي جعفر بالمدينة، وأمر الناس بالحضور ليوم الجمعة، فحضروا وصلى بهم، فلما قضى صلاته صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد إلى الناس، وعزى نفسه والناس، ووعدهم خيرا، وبسط الآمال، وآمن الأسود والأبيض، وبايعه جلة أهل بيته وخاصته ومواليه وقواده، ثم دخل ووكل ببيعته على من بقي منهم عم أبيه سليمان بْن أبي جعفر، فبايعهم، وأمر السندي بمبايعة جميع الناس من القواد وسائر الجند، وأمر للجند ممن بمدينة السلام برزق أربعة وعشرين شهرا، وبخواص من كانت له خاصة بهذه الشهور.

ذكر الخبر عن بدء الخلاف بين الامين والمأمون
وفي هذه السنة كان بدء اختلاف الحال بين الأمين محمد وأخيه المأمون، وعزم كل واحد منهما بالخلاف على صاحبه فيما كان والدهما هارون أخذ عليهما العمل به، في الكتاب الذى ذكرنا انه كان كتبه عليهما وبينهما

ذكر الخبر عن السبب الذي كان أوجب اختلاف حالهما فيما ذكرت:
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل أن الرشيد جدد حين شخص إلى خراسان البيعة للمأمون على القواد الذين معه، وأشهد من معه من القواد وسائر الناس وغيرهم أن جميع من معه من الجند مضمومون إلى المأمون، وأن جميع ما معه من مال وسلاح وآلة وغير ذلك للمأمون فلما بلغ محمد بْن هارون أن أباه قد اشتدت علته، وأنه لمآبه، بعث من يأتيه بخبره في كل يوم، وارسل بكر بْن المعتمر، وكتب معه كتبا، وجعلها في قوائم صناديق منقوره وألبسها جلود البقر، وقال: لا يظهرن أمير المؤمنين ولا أحد ممن في عسكره على شيء من أمرك وما توجهت فيه، ولا ما معك، ولو قتلت حتى يموت أمير المؤمنين، فإذا مات فادفع إلى كل رجل منهم كتابه.
فلما قدم بكر بْن المعتمر طوس، بلغ هارون قدومه، فدعا به، فسأله: ما أقدمك؟ قَالَ: بعثني محمد لأعلم له علم خبرك وآتيه به، قَالَ: فهل معك كتاب؟ قَالَ: لا، فأمر بما معه ففتش فلم يصيبوا معه شيئا، فهدده بالضرب فلم يقر بشيء، فأمر به فحبس وقيد فلما كان في الليلة التي مات فيها هارون أمر الفضل بْن الربيع أن يصير إلى محبس بكر بْن المعتمر فيقرره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه، فصار إليه، فقرره فلم يقر بشيء، ثم غشي على هارون، فصاح النساء، فأمسك الفضل عن قتله، وصار إلى هارون ليحضره، ثم أفاق هارون وهو ضعيف، قد شغل عن بكر وعن غيره لحس الموت، ثم غشي عليه غشية ظنوا أنها هي، وارتفعت الضجة، فبعث بكر بْن المعتمر برقعة منه إلى الفضل بْن الربيع مع عبد الله بن ابى نعيم، يسأله الا يعجلوا بأمر، ويعلمه أن معه أشياء يحتاجون إلى علمها- وكان بكر محبوسا عند حسين الخادم- فلما توفي هارون في الوقت الذي توفي فيه، دعا الفضل بْن الربيع ببكر من ساعته، فسأله عما عنده، فأنكر أن يكون عنده شيء، وخشي على نفسه من أن يكون هارون حيا، حتى صح عنده موت هارون، وأدخله عليه، فأخبره أن عنده كتبا من أمير المؤمنين محمد، وأنه لا يجوز له إخراجها، وهو على حاله في قيوده وحبسه، فامتنع حسين الخادم من إطلاقه حتى أطلقه الفضل، فأتاهم بالكتب التي عنده، وكانت في قوائم المطابخ المجلدة بجلود البقر، فدفع إلى كل إنسان منهم كتابه وكان في تلك الكتب كتاب من محمد بْن هارون إلى حسين الخادم بخطه، يأمره بتخلية بكر بْن المعتمر وإطلاقه، فدفعه إليه، وكتاب إلى عبد الله المأمون، فاحتبس كتاب المأمون عنده ليبعثه إلى المأمون بمرو، وأرسلوا الى صالح بن الرشيد- وكان مع أبيه بطوس، وذلك أنه كان أكبر من يحضر هارون من ولده- فأتاهم في تلك الساعة، فسألهم عن أبيه هارون، فأعلموه، فجزع جزعا شديدا، ثم دفعوا إليه كتاب أخيه محمد الذي جاء به بكر وكان الذين حضروا وفاة هارون هم الذين ولوا أمره وغسله وتجهيزه، وصلى عليه ابنه صالح.

وكانت نسخة كتاب محمد إلى أخيه عبد الله المأمون:
إذا ورد عليك كتاب أخيك- أعاذه الله من فقدك- عند حلول ما لا مرد له ولا مدفع مما قد اخلف وتناسخ في الأمم الخالية والقرون الماضيه فعز نفسك بما عزاك الله به واعلم أن الله جل ثناؤه قد اختار لأمير المؤمنين أفضل الدارين، وأجزل الحظين فقبضه الله طاهرا زاكيا، قد شكر سعيه، وغفر ذنبه إن شاء الله فقم في أمرك قيام ذي الحزم والعزم، والناظر لأخيه ونفسه وسلطانه وعامة المسلمين وإياك أن يغلب عليك الجزع، فإنه يحبط الأجر، ويعقب الوزر وصلوات الله على أمير المؤمنين حيا وميتا، {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ! وخذ البيعه عمن قبلك من قوادك وجندك وخاصتك وعامتك لأخيك ثم لنفسك، ثم للقاسم ابْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها لك أمير المؤمنين من نسخها له وإثباتها، فإنك مقلد من ذاك ما قلدك الله وخليفته وأعلم من قبلك رأيي في صلاحهم وسد خلتهم والتوسعة عليهم، فمن أنكرته عند بيعته أو اتهمته على طاعته، فابعث إلي برأسه مع خبره وإياك وإقالته، فإن النار أولى به.
واكتب إلى عمال ثغورك وأمراء أجنادك بما طرقك من المصيبة بأمير المؤمنين، وأعلمهم أن الله لم يرض الدنيا له ثوابا حتى قبضه إلى روحه وراحته وجنته، مغبوطا محمودا قائدا لجميع خلفائه إلى الجنة إن شاء الله ومرهم أن يأخذوا البيعه على أجنادهم وخواصهم وعوامهم على مثل ما أمرتك به من أخذها على من قبلك وأوعز إليهم في ضبط ثغورهم، والقوة على عدوهم واعلمهم إني متفقد حالاتهم ولام شعثهم، وموسع عليهم، ولا تنى في تقويه اجنادى وانصارى، ولتكن كتبك إليهم كتبا عامة، لتقرأ عليهم، فإن في ذلك ما يسكنهم ويبسط أملهم.
واعمل بما تامر به لمن حضرك، أو نأى عنك من أجنادك، على حسب ما ترى وتشاهد، فإن أخاك يعرف حسن اختيارك، وصحة رأيك، وبعد نظرك، وهو يستحفظ الله لك، ويسأله أن يشد بك عضده، ويجمع بك أمره، إنه لطيف لما يشاء وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي وإملائي في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.

وإلى أخيه صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم. إذا ورد عليك كتابي هذا عند وقوع ما قد سبق في علم الله ونفذ من قضائه في خلفائه وأوليائه، وجرت به سنته في الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين، فقل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] ، فاحمدوا الله ما صار إليه أمير المؤمنين من عظيم ثوابه ومرافقه انبيائه، صلوات الله عليهم، {وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]. وإياه نسأل أن يحسن الخلافة على أمه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان لهم عصمة وكهفا، وبهم رءوفا رحيما، فشمر في أمرك، وإياك أن تلقي بيديك، فإن أخاك قد اختارك لما استنهضك له، وهو متفقد مواقع فقدانك، فحقق ظنه ونسأل الله التوفيق وخذ البيعة على من قبلك من ولد أمير المؤمنين وأهل بيته ومواليه وخاصته وعامته لمحمد أمير المؤمنين، ثم لعبد الله بن أمير المؤمنين، ثم للقاسم بْن أمير المؤمنين، على الشريطة التي جعلها أمير المؤمنين صلوات الله عليه من فسخها على القاسم أو إثباتها، فإن السعادة واليمن في الأخذ بعهده، والمضي على مناهجه وأعلم من قبلك من الخاصة والعامة رأيي في استصلاحهم، ورد مظالمهم وتفقد حالاتهم، وأداء أرزاقهم وأعطياتهم عليهم، فإن شغب شاغب، أو نعر ناعر، فاسط به سطوة تجعله {نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] واضمم الى الميمون بن الميمون الفضل بن الربيع ولد أمير المؤمنين وخدمه وأهله، ومره بالمسير معهم فيمن معه من جنده ورابطته، وصير إلى عبد الله بْن مالك أمر العسكر وأحداثه، فإنه ثقة على ما يلي، مقبول عند العامة، واضمم إليه جميع جند الشرط من الروابط وغيرهم إلى من معه من جنده، ومره بالجد والتيقظ وتقديم الحزم في أمره كله، ليله ونهاره، فإن أهل العداوة والنفاق لهذا السلطان يغتنمون مثل حلول هذه المصيبة وأقر حاتم بْن هرثمة على ما هو عليه، ومره بحراسة ما يحفظ به قصور أمير المؤمنين، فإنه ممن لا يعرف إلا بالطاعة، ولا يدين إلا بها بمعاقد من الله مما قدم له من حال أبيه المحمود عند الخلفاء ومر الخدم باحضار روابطهم ممن يسد بهم وبأجنادهم مواضع الخلل من عسكرك، فإنهم حد من حدودك، وصير مقدمتك إلى أسد بْن يزيد بْن مزيد، وساقتك إلى يحيى بْن معاذ، فيمن معه من الجنود، ومرهما بمناوبتك في كل ليلة، والزم الطريق الأعظم، ولا تعدون المراحل، فإن ذلك أرفق بك ومر أسد بْن يزيد أن يتخير رجلا من أهل بيته أو قواده، فيصير الى مقدمته ثم يصير أمامه لتهيئة المنازل، أو بعض الطريق، فإن لم يحضرك في عسكرك بعض من سميت، فاختر لمواضعهم من تثق بطاعته ونصيحته وهيبته عند العوام، فإن ذلك لن يعوزك من قوادك وأنصارك إن شاء الله وإياك أن تنفذ رأيا أو تبرم أمرا إلا برأي شيخك وبقية آبائك الفضل بْن الربيع، وأقرر جميع الخدم على ما في أيديهم من الأموال والسلاح والخزائن وغير ذلك، ولا تخرجن أحدا منهم من ضمن ما يلي إلى أن تقدم علي.
وقد أوصيت بكر بْن المعتمر بما سيبلغكه، واعمل في ذلك بقدر ما تشاهد وترى، وإن أمرت لأهل العسكر بعطاء أو رزق، فليكن الفضل بْن الربيع المتولي لإعطائهم على دواوين يتخذها لنفسه، بمحضر من أصحاب الدواوين، فإن الفضل بْن الربيع لم يزل يتقلد مثل ذلك لمهمات الأمور وأنفذ إلي عند وصول كتابي هذا إليك إسماعيل بْن صبيح وبكر بْن المعتمر على مركبيهما من البريد، ولا يكون لك عرجة ولا مهلة بموضعك الذي أنت فيه حتى توجه إلي بعسكرك بما فيه من الأموال والخزائن إن شاء الله أخوك يستدفع الله عنك، ويسأله لك حسن التأييد برحمته.
وكتب بكر بْن المعتمر بين يدي واملائى في شوال سنه ثنتين وتسعين ومائة.
وخرج رجاء الخادم بالخاتم والقضيب والبردة، وبنعي هارون حين دفن حتى قدم بغداد ليلة الخميس- وقيل يوم الأربعاء- فكان من الخبر ما قد ذكرت قبل.
وقيل: إن نعي الرشيد لما ورد بغداد صعد إسحاق بْن عيسى بْن عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال: اعظم الناس رزيئه، واحسن الناس بقية رزؤنا، فإنه لم يرزأ أحد كرزئنا، فمن له مثل عوضنا! ثم نعاه إلى الناس، وحض الناس على الطاعة.
وذكر الحسن الحاجب أن الفضل بْن سهل أخبره، قَالَ: استقبل الرشيد وجوه أهل خراسان، وفيهم الحسين بْن مصعب قَالَ: ولقيني فقال لي:
الرشيد ميت أحد هذين اليومين، وامر محمد بن الرشيد ضعيف، والأمر أمر صاحبك، مد يدك فمد يده فبايع للمأمون بالخلافة قال: ثم أتاني بعد أيام ومعه الخليل بْن هشام، فقال: هذا ابن أخي، وهو لك ثقة خذ بيعته.
وكان المأمون قد رحل من مرو إلى قصر خالد بْن حماد على فرسخ من مرو يريد سمرقند، وأمر العباس بْن المسيب بإخراج الناس واللحوق بالعسكر، فمر به إسحاق الخادم ومعه نعي الرشيد، فغم العباس قدومه، فوصل إلى المأمون فأخبره، فرجع المأمون إلى مرو، ودخل دار الإمارة، دار أبي مسلم، ونعى الرشيد على المنبر، وشق ثوبه ونزل، وأمر للناس بمال، وبايع لمحمد ولنفسه وأعطى الجند رزق اثني عشر شهرا.
قَالَ: ولما قرأ الذين وردت عليهم كتب محمد بطوس من القواد والجند وأولاد هارون، تشاوروا في اللحاق بمحمد، فقال الفضل بْن الربيع:
لا أدع ملكا حاضرا لآخر لا يدرى ما يكون من أمره، وأمر الناس بالرحيل، ففعلوا ذلك محبة منهم للحوق بأهلهم ومنازلهم ببغداد، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون، فانتهى الخبر بذلك من أمرهم إلى المأمون بمرو، فجمع من معه من قواد أبيه، فكان معه منهم عبد الله بْن مالك، ويحيى ابن معاذ، وشبيب بْن حميد بْن قحطبة، والعلاء مولى هارون، والعباس بْن المسيب بْن زهير وهو على شرطته، وأيوب بْن أبي سمير وهو على كتابته، وكان معه من أهل بيته عبد الرحمن بْن عبد الملك بْن صالح، وذو الرياستين، وهو عنده من أعظم الناس قدرا وأخصهم به، فشاورهم وأخبرهم الخبر، فأشاروا عليه أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، وسمى لذلك قوم، فدخل عليه ذو الرياستين، فقال له: إن فعلت ما أشاروا به عليك جعلت هؤلاء هدية إلى محمد، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتابا، وتوجه إليهم رسولا، فتذكرهم البيعة، وتسألهم الوفاء، وتحذرهم الحنث، وما يلزمهم في ذلك في الدنيا والدين قَالَ: قلت له: إن كتابك ورسلك تقوم مقامك، فتستبرئ ما عند القوم، وتوجه سهل بْن صاعد- وكان على قهرمته- فإنه يأملك، ويرجو أن ينال أمله، فلن يألوك نصحا، وتوجه نوفلا الخادم مولى موسى أمير المؤمنين- وكان عاقلا فكتب كتابا، ووجههما فلحقاهم بنيسابور قد رحلوا ثلاث مراحل.
فذكر الحسن بْن ابى سعيد عن سهل بن صاعد، انه قال له: فاوصلت إلى الفضل بْن الربيع كتابه، فقال لي: إنما أنا واحد منهم، قَالَ لي سهل: وشد علي عبد الرحمن بْن جبلة بالرمح، فأمره على جنبي، ثم قال لي: قل لصاحبك: والله لو كنت حاضرا لوضعت الرمح في فيك، هذا جوابي.
قَالَ: ونال من المأمون، فرجعت بالخبر.
قَالَ الفضل بْن سهل: فقلت للمأمون: أعداء قد استرحت منهم، ولكن افهم عني ما أقول لك، إن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام أبي جعفر، فخرج عليه المقنع وهو يدعي الربوبية، وقال بعضهم: طلب بدم أبي مسلم، فتضعضع العسكر بخروجه بخراسان، فكفاه الله المؤنة ثم خرج بعده يوسف البرم وهو عند بعض المسلمين كافر، فكفى الله المؤنة، ثم خرج استاذسيس يدعو إلى الكفر، فسار المهدي من الري الى نيسابور فكفى المؤنه، ولكن ما أصنع! أكثر عليك! أخبرني كيف رأيت الناس حين ورد عليهم خبر رافع؟ قَالَ: رأيتهم اضطربوا اضطرابا شديدا، قلت: وكيف بك وأنت نازل في أخوالك، وبيعتك في أعناقهم! كيف يكون اضطراب أهل بغداد! اصبر وأنا أضمن لك الخلافة- ووضعت يدي على صدري- قَالَ: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك فقم به قَالَ: قلت: والله لأصدقنك، أن عبد الله بْن مالك ويحيى بْن معاذ ومن سمينا من أمراء الرؤساء، إن قاموا لك بالأمر كانوا انفع منى لك برياستهم المشهورة، ولما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادما له حتى تصير إلى محبتك، وترى رأيك في فلقيتهم في منازلهم، وذكرتهم البيعة التي في أعناقهم وما يجب عليهم من الوفاء.
قَالَ: فكأني جئتهم بجيفة على طبق، فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج، وقال بعضهم: من الذي يدخل بين امير المؤمنين وأخيه! فجئت فاخبرته، قَالَ: قم بالأمر، قَالَ: قلت: قد قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فالرأي أن تبعث إلى من بالحضرة من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على اللبود، وترد المظالم ففعلنا وبعثنا إلى الفقهاء، وأكرمنا القواد والملوك وأبناء الملوك، فكنا نقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بْن كعب، وللربعى: نقيمك مقام أبي داود خالد بْن إبراهيم، ولليماني: نقيمك مقام قحطبة ومالك بْن الهيثم، فكنا ندعو كل قبيله الى نقباء رءوسهم، واستملنا الرءوس، وقلنا لهم مثل ذلك، وحططنا عن خراسان ربع الخراج، فحسن موقع ذلك منهم، وسروا به، وقالوا: ابن أختنا، وابن عم النبي صلى الله عليه وسلم.
قَالَ علي بْن إسحاق: لما أفضت الخلافة الى محمد، وهذا الناس ببغداد، أصبح صبيحة السبت بعد بيعته بيوم، فأمر ببناء ميدان حول قصر أبي جعفر في المدينة للصوالجة واللعب، فقال في ذلك شاعر من أهل بغداد:

بنى أمين الله ميدانا *** وصير الساحة بستانا
وكانت الغزلان فيه بانا ***يهدي إليه فيه غزلانا

وفي هذه السنة شخصت أم جعفر من الرقة بجميع ما كان معها هنالك من الخزائن وغير ذلك في شعبان، فتلقاها ابنها محمد الأمين بالأنبار في جميع من كان ببغداد من الوجوه، وأقام المأمون على ما كان يتولى من عمل خراسان ونواحيها إلى الري، وكاتب الأمين، وأهدى إليه هدايا كثيرة، وتواترت كتب المأمون إلى محمد بالتعظيم والهدايا إليه من طرف خراسان من المتاع والآنية والمسك والدواب والسلاح.
وفي هذه السنة دخل هرثمة حائط سمرقند، ولجأ رافع إلى المدينة الداخلة، وراسل رافع الترك فوافوه، فصار هرثمة بين رافع والترك، ثم انصرف الترك، فضعف رافع.
وقتل في هذه السنة نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملكه- فيما قيل- سبع سنين، وملك بعده إستبراق بْن نقفور وهو مجروح، فبقي شهرين ومات وملك ميخائيل بْن جورجس ختنه على أخته.
وحج بالناس في هذه السنة داود بْن عيسى بْن موسى بْن محمد بْن علي، وكان والي مكة.
وأقر محمد بْن هارون أخاه القاسم بْن هارون في هذه السنة على ما كان أبوه هارون ولاه من عمل الجزيرة، واستعمل عليها خزيمة بْن خازم، وأقر القاسم على قنسرين والعواصم.