284 هـ
897 م
سنه اربع وثمانين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة)

فمن ذلك ما كان من قدوم رسول عمرو بن الليث الصفار برأس رافع بن هرثمة في يوم الخميس لاربع خلون من المحرم على المعتضد، فامر …

بنصبه في المجلس بالجانب الشرقى الى الظهر، ثم تحويله الى الجانب الغربي، ونصبه هنالك الى الليل، ثم رده الى دار السلطان وخلع على الرسول وقت وصوله الى المعتضد بالراس.
وفي يوم الخميس لسبع خلون من صفر كانت ملحمه بين راغب ودميانه بطرسوس، وكان سبب ذلك- فيما ذكر- ان راغبا مولى الموفق ترك الدعاء لخمارويه بن احمد، ودعا لبدر مولى المعتضد، فوقع بينه وبين احمد بن طغان الخلاف، فلما انصرف ابن طغان من الفداء الذى كان في سنه ثلاث وثمانين ومائتين ركب البحر ولم يدخل طرسوس، ومضى وخلف دميانه للقيام بأمر طرسوس، فلما كان في صفر من هذه السنه، وجه يوسف بن الباغمردى ليخلفه على طرسوس، فلما دخلها وقوى به دميانه، كرهوا ما يفعله راغب من الدعاء لبدر، فوقعت بينهم الفتنة، وظفر بهم راغب، فحمل دميانه وابن الباغمردى وابن اليتيم مقيدين الى المعتضد.
ولعشر بقين من صفر في يوم الاثنين من هذه السنه وردت خريطة من الجبل، بان عيسى النوشرى اوقع ببكر بن عبد العزيز بن ابى دلف في حدود أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، وافلت في نفر يسير.
وفي يوم الخميس لاربع عشره خلت من شهر ربيع الاول منها، خلع على ابى عمر يوسف بن يعقوب، وقلد قضاء مدينه ابى جعفر المنصور مكان على ابن محمد بن ابى الشوارب، وقضاء قطر بل ومسكن وبزرجسابور والرذانين وقعد للخصوم في هذا اليوم في المسجد الجامع، ومكثت مدينه ابى جعفر من لدن مات ابن ابى الشوارب الى ان وليها ابو عمر بغير قاض، وذلك خمسه اشهر واربعه ايام.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشره خلت منه في هذه السنه، أخذ خادم نصرانى لغالب النصراني متطبب السلطان يقال له وصيف، فرفع الى الحبس، وشهد عليه انه شتم النبي ص فحبس، ثم اجتمع من غد هذا اليوم ناس من العامه بسبب هذا الخادم، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه باقامه الحد عليه بسبب ما شهد عليه، فلما كان يوم الأحد لثلاث عشره بقيت منه اجتمع اهل باب الطاق الى قنطره البردان وما يليها من الاسواق، وتداعوا، ومضوا الى باب السلطان، فلقيهم ابو الحسين ابن الوزير، فصاحوا به، فاعلمهم انه قد انهى خبره الى المعتضد، فكذبوه واسمعوه ما كره، ووثبوا باعوانه ورجاله حتى هربوا منهم، ومضوا الى دار المعتضد بالثريا، فدخلوا من الباب الاول والثانى فمنعوا من الدخول، فوثبوا على من منعهم، فخرج اليهم من سألهم عن خبرهم، فاخبروه فكتب به الى المعتضد، فادخل اليه منهم جماعه، وسألهم عن الخبر فذكروه له، فأرسل معهم خفيفا السمرقندي الى يوسف القاضى، وتقدم الى خفيف ان يأمر يوسف بالنظر في امر الخادم، وان ينهى اليه ما يقف عليه من امره، فمضى معهم خفيف الى يوسف، فكادوا يقتلونه ويقتلون يوسف لما دخلوا عليه مما ازدحموا، حتى افلت يوسف منهم، ودخل بابا واغلقه دونهم، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا كان للعامه في امره اجتماع.

[أخبار متفرقة]
وفي هذا الشهر من هذه السنه قدم- فيما ذكر- قوم من اهل طرسوس على السلطان يسالونه ان يولى عليهم وال، ويذكرون ان بلدهم بغير وال، وكانت طرسوس قبل في يدي ابن طولون، فأساء اليهم، فاخرجوا عامله عن البلد، وراسلهم في ذلك، ووعدهم الاحسان، فأبوا ان يتركوا له غلاما يدخل بلدهم، وقالوا: من جاءنا من قبلك حاربناه، فكف عنهم.
وفي يوم الخميس لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر من هذه السنة- فيما ذكر- ظهرت ظلمه بمصر، وحمره في السماء شديده، حتى كان الرجل ينظر الى وجه الآخر، فيراه احمر، وكذلك الحيطان وغير ذلك، ومكثوا كذلك من العصر الى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله ويتضرعون اليه.
وفي يوم الأربعاء لثلاث خلون من جمادى الاولى، ولإحدى عشره ليله خلت من حزيران، نودى في الارباع والاسواق ببغداد بالنهى عن وقود النيران ليله النيروز، وعن صب الماء في يومه، ونودى بمثل ذلك في يوم الخميس، فلما كان عشيه يوم الجمعه نودى على باب سعيد بن يكسين صاحب الشرطه بالجانب الشرقى من مدينه السلام، بان امير المؤمنين قد اطلق للناس في وقود النيران وصب الماء، ففعلت العامه من ذلك ما جاوز الحد، حتى صبوا الماء على اصحاب الشرطه في مجلس الجسر- فيما ذكر.
وفيها اغريت العامه بالصياح بمن رأوا من الخدم السود: يا عقيق، فكانوا يغضبون من ذلك، فوجه المعتضد خادما اسود عشيه الجمعه برقعة الى ابن حمدون النديم، فلما بلغ الخادم راس الجسر من الجانب الشرقى صاح به صائح من العامه: يا عقيق! فشتم الخادم الصائح، وقنعه، فاجتمعت جماعه من العامه على الخادم فنكسوه وضربوه، وضاعت الرقعة التي كانت معه فرجع الى السلطان فاخبره بما صنع به، فامر المعتضد طريفا المخلدي الخادم بالركوب والقبض على كل من تولع بالخدم وضربه بالسياط فركب طريف يوم السبت لثلاث عشره خلت من جمادى الاولى في جماعه من الفرسان والرجاله، وقدم بين يديه خادما اسود، فصار الى باب الطاق لما امر به من القبض على من صاح بالخادم: يا عقيق، فقبض فيما ذكر بباب الطابق على سبعه انفس، ذكر ان بعضهم كان بزيا، فضربوا بالسياط في مجلس الشرطه بالجانب الشرقى وعبر طريف فمضى الى الكرخ، ففعل مثل ذلك، وأخذ خمسه انفس فضربهم في مجلس الشرطه بالشرقيه، وحمل الجميع على جمال، ونودى عليهم: هذا جزاء من اولع بخدم السلطان، وصاح بهم: يا عقيق، وحبسوا يومهم، وأطلقوا بالليل.
وفي هذه السنه عزم المعتضد بالله على لعن معاويه بن ابى سفيان على المنابر، وامر بإنشاء كتاب بذلك يقرا على الناس، فخوفه عبيد الله بن سليمان بن وهب اضطراب العامه، وانه لا يامن ان تكون فتنه، فلم يلتفت الى ذلك من قوله.
وذكر ان أول شيء بدا به المعتضد حين اراد ذلك الأمر بالتقدم الى العامه بلزوم اعمالهم، وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان، الا ان يسألوا عن شهاده ان كانت عندهم، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات، وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينه السلام في الارباع والمحال والاسواق، فقرئت يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الاولى من هذه السنه، ثم منع يوم الجمعه لاربع بقين منها القصاص من القعود في الجامعين، ومنع اهل الحلق في الفتيا او غيرهم من القعود في المسجدين، ومنع الباعه من القعود في رحابهما.
وفي جمادى الآخرة نودى في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص او غيره، ومنع القصاص واهل الحلق من القعود.
وفي يوم الحادي عشر- وذلك يوم الجمعه- نودى في الجامعين بان الذمة بريه ممن اجتمع من الناس على مناظره او جدل، وان من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب، وتقدم الى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين الا يترحموا على معاويه، ولا يذكروه بخير.

ذكر كتاب المعتضد في شان بنى اميه
وتحدث الناس ان الكتاب الذى امر المعتضد بانشائه بلعن معاويه يقرا بعد صلاه الجمعه على المنبر، فلما صلى الناس الجمعه بادروا الى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرا.
فذكر ان المعتضد امر باخراج الكتاب الذى كان المأمون امر بانشائه بلعن معاويه، فاخرج له من الديوان، فاخذ من جوامعه نسخه هذا الكتاب، وذكر انها نسخه الكتاب الذى أنشئ للمعتضد بالله:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلى العظيم، الحليم الحكيم، العزيز الرحيم، المنفرد بالوحدانية، الباهر بقدرته، الخالق بمشيئته وحكمته، الذى يعلم سوابق الصدور، وضمائر القلوب، لا يخفى عليه خافية، ولا يغرب عنه مثقال ذره في السموات العلا، ولا في الارضين السفلى، قد احاط بكل شيء علما، واحصى كل شيء عددا، وضرب لكل شيء أمدا، وهو العليم الخبير والحمد لله الذى برا خلقه لعبادته، وخلق عباده لمعرفته، على سابق علمه في طاعه مطيعهم، وماضى امره في عصيان عاصيهم، فبين لهم ما يأتون وما يتقون، ونهج لهم سبل النجاة، وحذرهم مسالك الهلكة، وظاهر عليهم الحجه، وقدم اليهم المعذرة، واختار لهم دينه الذى ارتضى لهم، واكرمهم به، وجعل المعتصمين بحبله والمتمسكين بعروته أولياءه واهل طاعته، والعاندين عنه والمخالفين له اعداءه واهل معصيته، ليهلك من هلك عن بينه، ويحيا من حي عن بينه، وان الله لسميع عليم والحمد لله الذى اصطفى محمدا رسوله من جميع بريته، واختاره لرسالته، وابتعثه بالهدى والدين المرتضى الى عباده اجمعين، وانزل عليه الكتاب المبين المستبين، وتاذن له بالنصر والتمكين، وايده بالعز والبرهان المتين، فاهتدى به من اهتدى، واستنقذ به من استجاب له من العمى، وأضل من ادبر وتولى، حتى اظهر الله امره، وأعز نصره، وقهر من خالفه، وانجز له وعده، وختم به رسله، وقبضه مؤديا لأمره، مبلغا لرسالته، ناصحا لامته، مرضيا مهتديا الى اكرم مآب المنقلبين، واعلى منازل انبيائه المرسلين، وعباده الفائزين، فصلى الله عليه افضل صلاه وأتمها، وأجلها وأعظمها، وأزكاها وأطهرها، وعلى آله الطيبين.
والحمد لله الذى جعل امير المؤمنين وسلفه الراشدين المهتدين ورثه خاتم النبيين وسيد المرسلين والقائمين بالدين، والمقومين لعباده المؤمنين، والمستحفظين ودائع الحكمه، ومواريث النبوه، والمستخلفين في الامه، والمنصورين بالعز والمنعه، والتأييد والغلبه، حتى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] وقد انتهى الى امير المؤمنين ما عليه جماعه من العامه من شبهه قد دخلتهم في اديانهم، وفساد قد لحقهم في معتقدهم، وعصبية قد غلبت عليها اهواؤهم، ونطقت بها السنتهم، على غير معرفه ولا رويه، وقلدوا فيها قاده الضلالة بلا بينه ولا بصيره، وخالفوا السنن المتبعه، الى الأهواء المبتدعه، قال قَالَ الله عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]، خروجا عن الجماعه، ومسارعه الى الفتنة وإيثارا للفرقة، وتشتيتا للكلمة وإظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة، وبتر منه العصمة، واخرجه من الملة، واوجب عليه اللعنه، وتعظيما لمن صغر الله حقه، واوهن امره، واضعف ركنه، من بنى اميه {وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ}،[الإسراء:60] ومخالفه لمن استنقذهم الله به من الهلكة، واسبغ عليهم به النعمه، من اهل بيت البركه والرحمه، قال الله عز وجل: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] فأعظم امير المؤمنين ما انتهى اليه من ذلك، وراى في ترك إنكاره حرجا عليه في الدين، وفسادا لمن قلده الله امره من المسلمين، وإهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين وتبصير الجاهلين، واقامه الحجه على الشاكين، وبسط اليد على العاندين.
وامير المؤمنين يرجع إليكم معشر الناس بان الله عز وجل لما ابتعث محمدا بدينه، وامره ان يصدع بامره، بدا باهله وعشيرته، فدعاهم الى ربه، وانذرهم وبشرهم، ونصح لهم وارشدهم، فكان من استجاب له وصدق قوله واتبع امره نفر يسير من بنى ابيه، من بين مؤمن بما اتى به من ربه، وبين ناصر له وان لم يتبع دينه، إعزازا له، وإشفاقا عليه، لماضى علم الله  فيمن اختار منهم، ونفذت مشيئته فيما يستودعه اياه من خلافته وارث نبيه، فمؤمنهم مجاهد بنصرته وحميته، يدفعون من نابذه، وينهرون من عاره وعانده، ويتوثقون له ممن كانفه وعاضده، ويبايعون له من سمح بنصرته، ويتجسسون له اخبار اعدائه، ويكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له براى العين، حتى بلغ المدى، وحان وقت الاهتداء، فدخلوا في دين الله وطاعته وتصديق رسوله، والايمان به، باثبت بصيره، واحسن هدى ورغبه، فجعلهم الله اهل بيت الرحمه، واهل بيت الدين- {لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً} [الأحزاب: 33] – ومعدن الحكمه، وورثه النبوه وموضع الخلافه، واوجب لهم الفضيلة، والزم العباد لهم الطاعة.
وكان ممن عانده ونابذه، وكذبه وحاربه من عشيرته، العدد الأكثر، والسواد الأعظم، يتلقونه بالتكذيب والتثريب، ويقصدونه بالأذية والتخويف، ويبادونه بالعداوة، وينصبون له المحاربة، ويصدون عنه من قصده، وينالون بالتعذيب من اتبعه واشدهم في ذلك عداوة واعظمهم له مخالفه، واولهم في كل حرب ومناصبه، لا يرفع على الاسلام رايه الا كان صاحبها وقائدها ورئيسها، في كل مواطن الحرب، من بدر واحد والخندق والفتح ابو سفيان بن حرب واشياعه من بنى اميه، الملعونين في كتاب الله، ثم الملعونين على لسان رسول الله في عده مواطن، وعده مواضع، لماضى علم الله فيهم وفي امرهم، ونفاقهم وكفر أحلامهم، فحارب مجاهدا، ودافع مكابدا، واقام منابذا حتى قهره السيف، وعلا امر الله وهم كارهون، فتقول بالإسلام غير منطو عليه، واسر الكفر غير مقلع عنه، فعرفه بذلك رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وميز له المؤلفه قلوبهم، فقبله وولده على علم منه، فمما لعنهم الله به على لسان نبيه ص، وانزل به كتابا قوله: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً} [الإسراء: 60] ولا اختلاف بين احد انه اراد بها بنى اميه.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقبلا على حمار ومعاويه يقود به ويزيد ابنه يسوق به: «لعن الله القائد والراكب والسائق» ومنه ما يرويه الرواه من قوله: يا بنى عبد مناف تلقفوها تلقف الكره، فما هناك جنه ولا نار وهذا كفر صراح يلحقه به اللعنه من الله كما لحقت {ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] ومنه ما يروون من وقوفه على ثنية احد بعد ذهاب بصره، وقوله لقائده: هاهنا ذببنا محمدا واصحابه ومنه الرؤيا التي رآها النبي ص فوجم لها، فما رئى ضاحكا بعدها، فانزل الله: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، فذكروا انه راى نفرا من بنى اميه ينزون على منبره ومنه طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن ابى العاص لحكايته اياه، والحقه الله بدعوه رسوله آيه باقيه حين رآه يتخلج، فقال له: كن كما أنت، فبقى على ذلك سائر عمره، الى ما كان من مروان في افتتاحه أول فتنه كانت في الاسلام، واحتقابه لكل دم حرام سفك فيها او أريق بعدها.
ومنه ما انزل الله على نبيه في سوره القدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، من ملك بنى اميه ومنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بمعاويه ليكتب بامره بين يديه، فدافع بامره، واعتل بطعامه، فقال النبي:«لا اشبع الله بطنه»، فبقى لا يشبع، ويقول: والله ما اترك الطعام شبعا، ولكن اعياء .
ومنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يطلع من هذا الفج رجل من امتى يحشر على غير ملتي»، فطلع معاويه.
ومنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رايتم معاويه على منبري فاقتلوه» ومنه الحديث المرفوع المشهور انه قال: ان معاويه في تابوت من نار في اسفل درك منها ينادى: يا حنان يا منان، {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91].
ومنه انبراؤه بالمحاربة لافضل المسلمين في الاسلام مكانا، واقدمهم اليه سبقا، واحسنهم فيه أثرا وذكرا، على بن ابى طالب، ينازعه حقه بباطله، ويجاهد انصاره بضلاله وغواته، ويحاول ما لم يزل هو وأبوه يحاولانه، من إطفاء نور الله وجحود دينه، {ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ المشركون} [التوبة:32].
يستهوى اهل الغباوة، ويموه على اهل الجهاله بمكره وبغيه، الذين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر عنهما، فقال لعمار: «تقتلك الفئة الباغيه تدعوهم الى الجنه ويدعونك الى النار»، مؤثرا للعاجلة، كافرا بالآجلة، خارجا من ربقه الاسلام، مستحلا للدم الحرام، حتى سفك في فتنته، وعلى سبيل ضلالته ما لا يحصى عدده من خيار المسلمين الذابين عن دين الله والناصرين لحقه، مجاهدا لله، مجتهدا في ان يعصى الله فلا يطاع، وتبطل احكامه فلا تقام، ويخالف دينه فلا يدان وان تعلو كلمه الضلالة، وترتفع دعوه الباطل، وكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، ودينه المنصور، وحكمه المتبع النافذ، وامره الغالب، وكيد من حاده المغلوب الداحض، حتى احتمل أوزار تلك الحروب وما اتبعها، وتطوق تلك الدماء وما سفك بعدها، وسن سنن الفساد التي عليه إثمها واثم من عمل بها الى يوم القيامه، وأباح المحارم لمن ارتكبها، ومنع الحقوق أهلها، واغتره الاملاء، واستدرجه الامهال، والله له بالمرصاد.
ثم مما اوجب الله له به اللعنه، قتله من قتل صبرا من خيار الصحابه والتابعين واهل الفضل والديانه، مثل عمرو بن الحمق وحجر بن عدى، فيمن قتل من أمثالهم، في ان تكون له العزه والملك والغلبه، ولله العزه والملك والقدره، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً} [النساء: 93]، ومما استحق به اللعنه من الله ورسوله ادعاؤه زياد بن سميه، جراه على الله، والله يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، يقول: «ملعون من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه»، ويقول: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فخالف حكم الله عز وجل وسنه نبيه ص جهارا، وجعل الولد لغير الفراش، والعاهر لا يضره عهره، فادخل بهذه الدعوة من محارم الله ومحارم رسوله في أم حبيبه زوجه النبي ص وفي غيرها من سفور وجوه ما قد حرمه الله، واثبت بها قربى قد باعدها الله، وأباح بها ما قد حظره الله، مما لم يدخل على الاسلام خلل مثله، ولم ينل الدين تبديل شبهه.
ومنه إيثاره بدين الله، ودعاؤه عباد الله الى ابنه يزيد المتكبر الخمير، صاحب الديوك والفهود والقرود، واخذه البيعه له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدد والرهبه، وهو يعلم سفهه ويطلع على خبثه ورهقه، ويعاين سكرانه وفجوره وكفره فلما تمكن منه ما مكنه منه، ووطأة له، وعصى الله ورسوله فيه، طلب بثارات المشركين وطوائلهم عند المسلمين، فاوقع باهل الحره الوقيعه التي لم يكن في الاسلام اشنع منها ولا افحش، مما ارتكب من الصالحين فيها، وشفى بذلك عبد نفسه وغليله، وظن ان قد انتقم من أولياء الله، وبلغ النوى لأعداء الله، فقال مجاهرا بكفره ومظهرا لشركه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القوم من ساداتكم *** وعدلنا ميل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحا *** ثم قالوا: يا يزيد لا تسل
لست من خندف ان لم انتقم *** من بنى احمد ما كان فعل
ولعت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء، ولا وحى نزل

هذا هو المروق من الدين، وقول من لا يرجع الى الله ولا الى دينه ولا الى كتابه ولا الى رسوله، ولا يؤمن بالله ولا بما جاء من عند الله ثم من اغلظ ما انتهك، واعظم ما اخترم سفكه دم الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ وابن فاطمه بنت رسول الله ص مع موقعه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه منه ومنزلته من الدين والفضل، وشهاده رسول الله صلى الله عليه وسلم له ولأخيه بسيادة شباب اهل الجنه، اجتراء على الله، وكفرا بدينه، وعداوة لرسوله، ومجاهده لعترته، واستهانة بحرمته، فكأنما يقتل به وباهل بيته قوما من كفار اهل الترك والديلم، لا يخاف من الله نقمه، ولا يرقب منه سطوه، فبتر الله عمره، واجتث اصله وفرعه، وسلبه ما تحت يده، واعد له من عذابه وعقوبته ما استحقه من الله بمعصيته.
هذا الى ما كان من بنى مروان من تبديل كتاب الله وتعطيل احكامه، واتخاذ مال الله دولا بينهم، وهدم بيته، واستحلال حرامه، ونصبهم المجانيق عليه، ورميهم اياه بالنيران، لا يألون له إحراقا وإخرابا، ولما حرم الله منه استباحه وانتهاكا، ولمن لجأ اليه قتلا وتنكيلا، ولمن امنه الله به اخافه وتشريدا، حتى إذا حقت عليهم كلمه العذاب، واستحقوا من الله الانتقام، وملئوا الارض بالجور والعدوان، وعموا عباد الله بالظلم والاقتسار، وحلت عليهم السخطه، ونزلت بهم من الله السطوة، اتاح الله لهم من عتره نبيه، واهل وراثته من استخلصهم منهم بخلافته، مثل ما اتاح الله من أسلافهم المؤمنين وآبائهم المجاهدين لاوائلهم الكافرين، فسفك الله بهم دماءهم مرتدين، كما سفك بابائهم دماء آباء الكفره المشركين، وقطع الله دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين ومكن الله المستضعفين، ورد الله الحق الى اهله المستحقين، كما قال جل شانه: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} [القصص: 5]
واعلموا ايها الناس، ان الله عز وجل انما امر ليطاع، ومثل ليتمثل، وحكم ليقبل، والزم الأخذ بسنه نبيه صلى الله عليه وسلم ليتبع، وان كثيرا ممن ضل فالتوى، وانتقل من اهل الجهاله والسفاه ممن اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وقد قال الله عز وجل: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] فانتهوا معاشر الناس عما يسخط الله عليكم، وراجعوا ما يرضيه عنكم، وارضوا من الله بما اختار لكم، والزموا ما امركم به، وجانبوا ما نهاكم عنه، واتبعوا الصراط المستقيم، والحجه البينه، والسبل الواضحه، واهل بيت الرحمه، الذين هداكم الله بهم بديئا، واستنقذكم بهم من الجور والعدوان أخيرا، واصاركم الى الخفض والأمن والعز بدولتهم، وشملكم الصلاح في اديانكم ومعايشكم في ايامهم، والعنوا من لعنه الله ورسوله، وفارقوا من لا تنالون القربه من الله الا بمفارقته.
اللهم العن أبا سفيان بن حرب، ومعاويه ابنه، ويزيد بن معاويه، ومروان بن الحكم وولده، اللهم العن ائمه الكفر، وقاده الضلالة، وأعداء الدين، ومجاهدى الرسول، ومغيرى الأحكام، ومبدلي الكتاب، وسفاكى الدم الحرام.
اللهم انا نتبرأ إليك من موالاه اعدائك، ومن الاغماض لأهل معصيتك، كما قلت: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22].
يايها الناس، اعرفوا الحق تعرفوا اهله، وتأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها، فانه انما يبين عن الناس اعمالهم، ويلحقهم بالضلال والصلاح آباؤهم، فلا يأخذكم في الله لومه لائم، ولا يميلن بكم عن دين الله استهواء من يستهويكم وكيد من يكيدكم، وطاعه من تخرجكم طاعته الى معصية ربكم.
ايها الناس، بنا هداكم الله، ونحن المستحفظون فيكم، امر الله ونحن ورثه رسول الله والقائمون بدين الله، فقفوا عند ما نقفكم عليه، وانفذوا لما نأمركم به، فإنكم ما أطعتم خلفاء الله وائمه الهدى على سبيل الايمان والتقوى، وامير المؤمنين يستعصم الله لكم، ويسأله توفيقكم، ويرغب الى الله في هدايتكم لرشدكم، وفي حفظ دينه عليكم، حتى تلقوه به مستحقين طاعته، مستحقبين لرحمته، والله حسب امير المؤمنين فيكم، وعليه توكله، وبالله على ما قلده من أموركم استعانته، ولا حول لأمير المؤمنين ولا قوه الا بالله والسلام عليكم.
وكتب ابو القاسم عبيد الله بن سليمان في سنه اربع وثمانين ومائتين وذكر ان عبيد الله بن سليمان احضر يوسف بن يعقوب القاضى، وامره ان يعمل الحيله في ابطال ما عزم عليه المعتضد، فمضى يوسف بن يعقوب، فكلم المعتضد في ذلك، وقال له: يا امير المؤمنين، انى اخاف ان تضطرب العامه، ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركه فقال: ان تحركت العامه او نطقت وضعت سيفي فيها، فقال: يا امير المؤمنين، فما تصنع بالطالبين الذين هم في كل ناحيه يخرجون، ويميل اليهم كثير من الناس لقرابتهم من الرسول وماثرهم، وفي هذا الكتاب اطراؤهم، او كما قال، وإذا سمع الناس هذا كانوا اليهم اميل، وكانوا هم ابسط السنه، واثبت حجه منهم اليوم فامسك المعتضد فلم يرد عليه جوابا، ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء.

[أخبار متفرقة]
وفي يوم الجمعه لاربع عشره بقيت من رجب منها شخص جعفر بن بغلاغز الى عمرو بن الليث الصفار وهو بنيسابور بخلع ولواء لولايته على الري وهدايا من قبل المعتضد.
وفي هذه السنه لحق بكر بن عبد العزيز بن ابى دلف بمحمد بن زيد العلوي بطبرستان، فأقام بدر وعبيد الله بن سليمان ينتظران امر بكر الام يؤول وعلى اصلاح الجبل.
وفيها- فيما ذكر- فتحت من بلاد الروم قره، على يد راغب مولى الموفق وابن كلوب، وذلك في يوم الجمعه من رجب.
وفي ليله الأربعاء لاثنتى عشره خلت من شعبان- او ليله الخميس فيما ذكر- ظهر شخص انسان في يده سيف في دار المعتضد بالثريا، فمضى اليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه الشخص بالسيف ضربه قطع بها منطقته، ووصل السيف الى بدن الخادم، ورجع الخادم منصرفا عنه هاربا، ودخل الشخص في زرع في البستان، فتوارى فيه، فطلب باقى ليلته ومن غد، فلم يوقف له على اثر، فاستوحش المعتضد لذلك، وكثر الناس في امره رجما بالظنون، حتى قالوا: انه من الجن، ثم عاد هذا الشخص للظهور بعد ذلك مرارا كثيره، حتى وكل المعتضد بسور داره، واحكم السور وراسه، وجعل عليه كالبرابخ، لئلا يقع عليه الكلاب ان رمى به، وجيء باللصوص من الحبس ونوظروا في ذلك، وهل يمكن احد الدخول اليه بنقب او تسلق.
وفي يوم السبت لثمان بقين من شعبان من هذه السنه، وجه كرامة بن مر من الكوفه بقوم مقيدين، ذكر انهم من القرامطة، فأقروا على ابى هاشم بن صدقه الكاتب انه كان يكاتبهم، وانه احد رؤسائهم، فقبض على ابى هاشم، وقيد وحبس في المطامير.
وفي يوم السبت لسبع خلون من شهر رمضان من هذه السنه جمع المجانين والمعزمون، ومضى بهم الى دار المعتضد في الثريا بسبب الشخص الذى كان يظهر له، فادخلوا الدار، وصعد المعتضد عليه له، فأشرف عليهم، فلما رآهم صرعت امراه كانت معهم من المجانين واضطربت، وتكشفت، فضجر وانصرف عنهم، ووهب لكل واحد منهم خمسه دراهم- فيما ذكر- وصرفوا.
وقد كان وجه الى المعزمين قبل ان يشرف عليهم من يسألهم عن خبر الشخص الذى ظهر له: هل يمكنهم ان يعلموا علمه؟ فذكر قوم منهم انهم يعزمون على بعض المجانين، فإذا سقط سال الجنى عن خبر ذلك الشخص وما هو، فلما راى المرأة التي صرعت امر بصرفهم وفي ذي القعده منها ورد الخبر من أصبهان، بوثوب الحارث بن عبد العزيز ابن ابى دلف المعروف بابى ليلى بشفيع الخادم الموكل كان به فقتله، وكان اخوه عمر بن عبد العزيز بن ابى دلف اخذه فقيده، وحمله الى قلعه لال ابى دلف بالزز، فحبسه فيها، وكان كل ما لال ابى دلف من مال ومتاع نفيس وجوهر في القلعة، وشفيع مولاهم موكل بحفظ ذلك وحفظ القلعة، ومعه جماعه من غلمان عمر وخاصته، فلما استامن عمر الى السلطان، وهرب بكر عاصيا للسلطان بقيت القلعة بما فيها في يد شفيع، فكلمه ابو ليلى في اطلاقه فأبى، وقال: لا افعل فيك وفيما في يدي الا بما يأمرني به عمر.
فذكر عن جاريه لأبي ليلى انها قالت: كان مع ابى ليلى في الحبس غلام صغير يخدمه، وآخر يخرج ويدخل في حوائجه ولا يبيت عنده، ويبيت عنده الغلام الصغير، فقال ابو ليلى لغلامه الذى يخرج في حوائجه: احتل لي في مبرد تدخله الى، ففعل وادخله في شيء من طعامه وكان شفيع الخادم يجيء في كل ليله إذا اراد ان ينام الى البيت الذى فيه ابو ليلى حتى يراه، ثم يقفل عليه باب البيت هو بيده ويمضى فينام، وتحت فراشه سيف مسلول وكان ابو ليلى قد سال ان تدخل اليه جاريه، فادخلت اليه جاريه حدثه السن، فذكر عن ذلفاء جاريه ابى ليلى عن هذه الجاريه انها قالت: برد ابو ليلى المسمار الذى في القيد، حتى كان يخرجه من رجله إذا شاء قالت: وجاء شفيع الخادم عشيه من العشايا الى ابى ليلى، فقعد معه يحدثه، فسأله ابو ليلى ان يشرب معه اقداحا، ففعل، ثم قام الخادم لحاجته قالت: فأمرني ابو ليلى، ففرشت فراشه، فجعل عليه ثيابا في موضع الإنسان من الفراش، وغطى على الثياب باللحاف، وأمرني ان اقعد عند رجل الفراش، وقال لي: إذا جاء شفيع لينظر الى ويقفل الباب، فسألك عنى فقولي: هو نائم وخرج ابو ليلى من البيت، فاختفى في جوف فرش ومتاع في صفه فيها باب هذا البيت، وجاء شفيع فنظر الى الفراش، وسال الجاريه فاخبرته انه قد نام، فاقفل الباب، فلما نام الخادم ومن معه في الدار التي في القلعة خرج ابو ليلى، فاخذ السيف من تحت فراش شفيع، وشد عليه فقتله، فوثب الغلمان الذين كانوا ينامون حوله فزعين، فاعتزلهم ابو ليلى والسيف في يده، وقال لهم: انا ابو ليلى قد قتلت شفيعا، ولئن تقدم الى منكم احد لاقتلنه وأنتم آمنون، فاخرجوا من الدار حتى أكلمكم بما اريد، ففتحوا باب القلعة، وخرجوا، وجاء حتى قعد على باب القلعة، واجتمع الناس ممن كان في القلعة، فكلمهم ووعدهم الاحسان، وأخذ عليهم الايمان فلما اصبح نزل من القلعة، ووجه الى الأكراد واهل الزموم، فجمعهم واعطاهم، وخرج مخالفا على السلطان وقيل ان قتله الخادم كان في ليله السبت لاثنتى عشره بقيت من ذي القعده من هذه السنه، وقيل: انه ذبح الخادم ذبحا بسكين كان أدخلها اليه غلامه، ثم أخذ السيف من تحت فراش الخادم وقام به الى الغلمان.
وفي هذه السنه- وهي سنه اربع وثمانين ومائتين- كان المنجمون يوعدون الناس بغرق اكثر الأقاليم، وان إقليم بابل لا يسلم منه الا اليسير، وان ذلك يكون بكثرة الامطار وزياده المياه في الانهار والعيون والابار، فقحط الناس فيها فلم يروا فيها من المطر الا اليسير، وغارت المياه في الانهار، والعيون والابار، حتى احتاج الناس الى الاستسقاء فاستسقوا ببغداد مرات ولليلة بقيت من ذي الحجة من هذه السنة كانت- فيما ذكر- وقعه بين عيسى النوشرى وبين ابى ليلى بن عبد العزيز بن ابى دلف، وذلك يوم الخميس دون أصبهان بفرسخين، فأصاب أبا ليلى سهم في حلقه- فيما ذكر- فنحره، فسقط عن دابته، وانهزم اصحابه، وأخذ راسه فحمل الى أصبهان.
وحج بالناس فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن داود الهاشمى المعروف باترجه.