120 هـ
738 م
سنة عشرين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

فمن ذلك غزوة سليمان بْن هشام بْن عبد الملك الصائفه وافتتاحه سندرة، وغزوة إسحاق بْن مسلم العقيلي وافتتاحه قلاع تومانشاه …

وتخريبه أرضه، وغزوة مروان بن محمد ارض الترك.

خبر وفاه اسد بن عبد الله القسرى
وفيها كانت وفاة أسد بْن عبد الله في قول المدائني.

ذكر الخبر عن سبب وفاته:
وكان سبب ذلك أنه كانت به – فيما ذكر – دبيلة في جوفه، فحضر المهرجان وهو ببلخ، فقدم عليه الأمراء والدهاقين، فكان ممن قدم عليه إبراهيم بْن عبد الرحمن الحنفي عامله على هراة وخراسان، ودهقان هراة، فقد ما بهدية قومت بألف ألف، فكان فيما قدما به قصران: قصر من فضة وقصر من ذهب، وأباريق من ذهب وأباريق من فضة وصحاف من ذهب وفضة، فأقبلا وأسد جالس على السرير، وأشراف خراسان على الكراسي، فوضعا القصرين، ثم وضعا خلفهما الأباريق والصحاف والديباج المروي والقوهي والهروي وغير ذلك، حتى امتلأ السماط، وكان فيما جاء به الدهقان أسدا كرة من ذهب، ثم قام الدهقان خطيبا، فقال: أصلح الله الأمير! إنا معشر العجم، أكلنا الدنيا أربعمائة سنة، أكلناها بالحلم والعقل والوقار، ليس فينا كتاب ناطق، ولا نبي مرسل، وكانت الرجال عندنا ثلاثة: ميمون النقيبة أينما توجه فتح الله على يده، والذي يليه رجل تمت مروته في بيته فان كان كذلك رجى وعظم، وقود وقدم، ورجل رحب صدره، وبسط يده فرجي، فإذا كان كذلك قود وقدم، وإن الله جعل صفات هؤلاء الثلاثة الذين أكلنا الدنيا بهم أربعمائة سنة فيك أيها الأمير، وما نعلم أحدا هو أتم كتخدانية منك، إنك ضبطت أهل بيتك وحشمك ومواليك، فليس منهم أحد يستطيع أن يتعدى على صغير ولا كبير، ولا غنى ولا فقير، فهذا تمام الكتخدانية، ثم بنيت الإيوانات في المفاوز، فيجيء الجائي من المشرق والآخر من المغرب، فلا يجدان عيبا إلا أن يقولا: سبحان الله ما أحسن ما بني! ومن يمن نقيبتك أنك لقيت خاقان وهو في مائة ألف، معه الحارث ابن سريج فهزمته وفللته، وقتلت أصحابه، وأبحت عسكره وأما رحب صدرك وبسط يدك، فإنا ما ندري أي المالين أقر لعينك؟ أمال قدم عليك، أم مال خرج من عندك! بل أنت بما خرج أقر عينا فضحك أسد، وقال:
أنت خير دهاقين خراسان وأحسنهم هدية، وناوله تفاحة كانت في يده، وسجد له دهقان هراة، وأطرق أسد ينظر إلى تلك الهدايا، فنظر عن يمينه، فقال: يا عذافر بْن يزيد، مر من يحمل هذا القصر الذهب، ثم قَالَ:
يا معن بْن أحمر رأس قيس – أو قَالَ قنسرين – مر بهذا القصر يحمل، ثم قَالَ: يا فلان خذ إبريقا، ويا فلان خذ إبريقا، وأعطى الصحاف حتى بقيت صحفتان، فقال: قم يا بن الصيداء، فخذ صحيفة، قَالَ:
فأخذ واحدة فرزنها فوضعها، ثم أخذ الأخرى فرزنها، فقال له أسد: ما لك؟
قَالَ: آخذ أرزنهما، قَالَ: خذهما جميعا، وأعطى العرفاء وأصحاب البلاء، فقام أبو اليعفور- وكان يسير أمام صاحب خراسان في المغازي- فنادى: هلم إلى الطريق، فقال أسد: ما أحسن ما ذكرت بنفسك! خذ ديباجتين، وقام ميمون العذاب فقال: إلي، إلى يساركم، إلى الجادة، فقال:
ما أحسن ما ذكرت نفسك! خذ ديباجة، قَالَ: فأعطى ما كان في السماط كله، فقال نهر بْن توسعة:

تقلون إن نادى لروع مثوب *** وأنتم غداة المهرجان كثير

ثم مرض أسد، فأفاق إفاقة فخرج يوما، فأتي بكمثرى أول ما جاء، فأطعم الناس منه واحدة واحدة، وأخذ كمثراة فرمى بها إلى خراسان دهقان هراة، فانقطعت الدبيلة، فهلك. واستخلف جعفرا البهراني، وهو جعفر بْن حنظلة سنة عشرين ومائة فعمل أربعة أشهر، وجاء عهد نصر بْن سيار في رجب سنة إحدى وعشرين ومائة، فقال ابن عرس العبدي:

نعى أسد بْن عبد الله ناع *** فريع القلب للملك المطاع
ببلخ وافق المقدار يسري *** وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحا *** ألم يحزنك تفريق الجماع!
أتاه حمامه فى جوف صيغ *** وكم بالصيغ من بطل شجاع!
كتائب قد يجيبون المنادي *** على جرد مسومة سراع
سقيت الغيث إنك كنت غيثا *** مريعا عند مرتاد النجاع

وقال سليمان بْن قتة مولى بني تيم بْن مرة- وكان صديقا لأسد:

سقى الله بلخا، سهل بلخ وحزنها *** ومروى خراسان السحاب المجمما
وما بي لتسقاه ولكن حفرة *** بها غيبوا شلوا كريما وأعظما
مراجم أقوام ومردى عظيمة *** وطلاب أوتار عفرنا عثمثما
لقد كان يعطي السيف في الروع حقه *** ويروي السنان الزّاغبىّ المقوّما

امر شيعه بنى العباس بخراسان
قَالَ أبو جعفر: وفي هذه السنة وجهت شيعة بني العباس بخراسان إلى محمد بْن علي بْن العباس سليمان بْن كثير ليعلمه أمرهم وما هم عليه.
ذكر الخبر عن سبب توجيههم سليمان إلى محمد:
وكان السبب في ذلك موجدة كانت من محمد بْن علي على من كان بخراسان من شيعته من أجل طاعتهم، كانت لخداش الذي ذكرنا خبره قبل وقبولهم منه ما روي عليه من الكذب، فترك مكاتبتهم، فلما أبطأ عليهم كتابه، اجتمعوا فذكروا ذلك بينهم، فأجمعوا على الرضا بسليمان بْن كثير ليلقاه بأمرهم، ويخبره عنهم، ويرجع إليهم بما يرد عليه، فقدم- فيما ذكر- سليمان بْن كثير على محمد بْن علي وهو متنكر لمن بخراسان من شيعته، فأخبره عنهم، فعنفهم في اتباعهم خداشا وما كان دعا إليه، وقال: لعن الله خداشا ومن كان على دينه! ثم صرف سليمان إلى خراسان، وكتب إليهم معه كتابا، فقدم عليهم، ومعه الكتاب مختوما، ففضوا خاتمه فلم يجدوا فيه شيئا، إلا: بسم الله الرحمن الرحيم، فغلظ ذلك عليهم وعلموا أن ما كان خداش أتاهم به لأمره مخالف.
وفي هذه السنة وجه محمد بْن علي بكر بْن ماهان إلى شيعته بخراسان بعد منصرف سليمان بْن كثير من عنده إليهم، وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن خداشا حمل شيعته على غير منهاجه فقدم عليهم بكير بكتابه فلم يصدقوه واستخفوا به، فانصرف بكير إلى محمد بْن علي، فبعث معه بعصي مضببة بعضها بالحديد وبعضها بالشبه، فقدم بها بكير وجمع النقباء والشيعة، ودفع إلى كل رجل منهم عصا، فعلموا أنهم مخالفون لسيرته، فرجعوا وتابوا.
وفي هذه السنة عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله عن اعماله التي كان ولاه إياها كلها

ذكر سبب عزل هشام خالدا
قد قيل في ذلك أقوال، نذكر ما حضرنا من ذلك ذكره، فمما قيل في ذلك: إن فروخ أبا المثنى كان قد تقبل من ضياع هشام بْن عبد الملك بموضع يقال له رستاق الرمان أو نهر الرمان- وكان يدعى بذلك فروخ الرماني- فثقل مكانه على خالد، فقال خالد لحسان النبطي:
ويحك! اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فروخ، فخرج فزاد عليه ألف ألف درهم، فبعث هشام رجلين من صلحاء اهل الشام، فحازا الضياع، فصار حسان أثقل على خالد من فروخ، فجعل يضر به، فيقول له حسان:
لا تفسدني وأنا صنيعتك! فأبى إلا الإضرار به، فلما قدم عليه بثق البثوق على الضياع، ثم خرج إلى هشام، فقال: إن خالدا بثق البثوق على ضياعك.
فوجه هشام رجلا، فنظر إليها ثم رجع إلى هشام فأخبره، فقال حسان لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حيث يسمع هشام، فلك عندي ألف دينار، قَالَ: فعجل لي الألف وأقول ما شئت، قَالَ: فعجلها له وقال له: بك صبيا من صبيان هشام، فإذا بكى فقل له: اسكت، والله لكأنك ابن خالد القسري الذي غلته ثلاثة عشر ألف ألف فسمعها هشام فأغضى عليها ثم دخل عليه حسان بعد ذلك، فقال له هشام: ادن مني فدنا منه، فقال: كم غلة خالد؟ قَالَ: ثلاثة عشر ألف ألف، قَالَ:
فكيف لم تخبرني بهذا! قَالَ: وهل سألتني؟ فوقرت في نفس هشام، فأزمع على عزله.
وقيل: كان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنت بدون مسلمة بْن هشام، فإنك لتفخر على الناس بثلاث لا يفخر بمثلها أحد: سكرت دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولي سقاية بمكة، ولي ولاية العراق.
وقيل: إنما أغضب هشاما على خالد أن رجلا من قريش دخل على خالد فاستخف به وعضه بلسانه، فكتب إلى هشام يشكوه، فكتب هشام إلى خالد:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين- وإن كان أطلق لك يدك ورأيك فيمن استرعاك أمره، واستحفظك عليه، للذي رجا من كفايتك، ووثق به من حسن تدبيرك- لم يفرشك غره أهل بيته لتطأه بقدمك، ولا تحد إليه بصرك، فكيف بك وقد بسطت على غرتهم بالعراق لسانك بالتوبيخ، تريد بذلك تصغير خطره، واحتقار قدره، زعمت بالنصفة منه حتى أخرجك ذلك إلى الإغلاظ في اللفظ عليه في مجلس العامة، غير متحلحل له حين رأيته مقبلا من صدر مهادك الذي مهد له الله، وفي قومك من يعلوك بحسبه، ويغمرك بأوليته، فنلت مهادك بما رفع به آل عمرو من ضعتك خاصة، مساوين بك فروع غرر القبائل وقرومها قبل أمير المؤمنين، حتى حللت هضبة أصبحت تنحو بها عليهم مفتخرا هذا إن لم يدهده بك قلة شكرك متحطما وقيذا فهلا- يا بن مجرشة قومك- أعظمت رجلهم عليك داخلا، ووسعت مجلسه إذ رأيته إليك مقبلا، وتجافيت له عن صدر فراشك مكرما، ثم فاوضته مقبلا ببشرك، إكراما لأمير المؤمنين فإذا اطمأن به مجلسه نازعته بحيي السرار، معظما لقرابته، عارفا لحقه، فهو سن البيتين ونابهم، وابن شيخ آل أبي العاص وحرب وغرتهم.
وبالله يقسم أمير المؤمنين لك لولا ما تقدم من حرمتك وما يكره من شماتة عدوك بك لوضع منك ما رفع، حتى يردك إلى حال تفقد بها أهل الحوائج بعراقك، وتزاحم المواكب ببابك وما أقربني من أن أجعلك تابعا لمن كان لك تبعا، فانهض على أي حال ألفاك رسول أمير المؤمنين وكتابه، من ليل او نهار، ماشيا على قدمك بمن معك من خولك، حتى تقف على باب ابن عمرو صاغرا، مستأذنا عليه، متنصلا إليه، أذن لك أو منعك، فإن حركته عواطف رحمة احتملك، وإن احتملته أنفة وحمية من دخولك عليك فقف ببابه حولا غير متحلحل ولا زائل، ثم أمرك بعد إليه، عزل أو ولى، انتصر أو عفا، فلعنك الله من متكل عليه بالثقة، ما أكثر هفواتك، وأقذع لأهل الشرف ألفاظك، التي لا تزال تبلغ أمير المؤمنين من إقدامك بها على من هو أولى بما أنت فيه من ولاية مصري العراق، وأقدم وأقوم وقد كتب أمير المؤمنين إلى ابن عمه بما كتب به إليك من إنكاره عليك، ليرى في العفو عنك والسخط عليك رأيه، مفوضا ذلك إليه مبسوطة فيه يده، محمودا عند أمير المؤمنين على أيهما آتى إليك، موفقا إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى ابن عمرو:
أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك، وفهم ما ذكرت من بسط خالد عليك لسانه في مجلس العامه محتقرا لقدرك، مستصغرا لقرابتك من أمير المؤمنين، وعواطف رحمه عليك وإمساكك عنه، تعظيما لأمير المؤمنين وسلطانه وتمسكا بوثائق عصم طاعته، مع مؤلم ما تداخلك من قبائح ألفاظه وشرارة منطقه، وإكثابه عليك عند إطراقك عنه، مرويا فيما أطلق أمير المؤمنين من لسانه، وأطال من عنانه، ورفع من ضعته، ونوه من خموله، وكذلك أنتم آل سعيد في مثلها عند هذر الذنابي وطائشة أحلامها، صمت من غير إفحام، بل بأحلام تخف بالجبال وزنا وقد حمد أمير المؤمنين تعظيمك إياه، وتوقيرك سلطانه وشكره، وقد جعل أمر خالد إليك في عزلك إياه أو إقراره، فإن عزلته أمضى عزلك إياه، وإن أقررته فتلك منة لك عليه لا يشركك أمير المؤمنين فيها وقد كتب إليه أمير المؤمنين بما يطرد عنه سنة الهاجع عند وصوله إليه، يأمره بإتيانك راجلا على أية حال صادفه كتاب امير المؤمنين فيها، وألفاه رسوله الموجه إليه من ليله أو نهاره، حتى يقف ببابك، أذنت له أو حجبته، أقررته أو عزلته، وتقدم أمير المؤمنين إلى رسوله في ضربه بين يديك على رأسه عشرين سوطا إلا أن تكره أن يناله ذلك بسببك لحرمة خدمته، فأيهما رأيت إمضاءه كان لأمير المؤمنين في برك وعظم حرمتك وقرابتك وصلة رحمك موافقا، وإليه حبيبا، فيما ينوي من قضاء حق آل أبي العاص وسعيد فكاتب أمير المؤمنين فيما بدا لك مبتدئا ومجيبا ومحادثا وطالبا، ما عسى أن ينزل بك أهلك من أهل بيت أمير المؤمنين من حوائجهم التي تقعد بهم الحشمة عن تناولها من قبله لبعد دارهم عنه، وقلة إمكان الخروج لإنزالها به، غير محتشم من أمير المؤمنين، ولا مستوحش من تكرارها عليه، على قدر قرابتهم وأديانهم وأنسابهم، مستمنحا ومسترفدا، وطالبا مستزيدا، تجد أمير المؤمنين إليك سريعا بالبر لما يحاول من صلة قرابتهم، وقضاء حقوقهم، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ما ينوي، وإليه يرغب في العون على قضاء حق قرابته، وعليه يتوكل، وبه يثق والله وليه ومولاه والسلام.
وقيل: إن خالدا كان كثيرا ما يذكر هشاما، فيقول: ابن الحمقاء.
وكانت أم هشام تستحمق، وقد ذكرنا خبرها قبل.
وذكر أنه كتب إلى هشام كتابا غاظه، فكتب اليه هشام: يا بن أم خالد، قد بلغني أنك تقول: ما ولاية العراق لي بشرف، فيابْن اللخناء، كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا، وأنت من بجيلة القليلة الذليلة! أما والله إني لأظن أن أول من يأتيك صغير من قريش، يشد يديك إلى عنقك.
وذكر أن هشاما كتب إليه: قد بلغني قولك: أنا خالد بْن عبد الله بْن يزيد بْن أسد بْن كرز، ما أنا بأشرف الخمسة أما والله لأردنك إلى بغلتك وطيلسانك الفيروزي.
وذكر أن هشاما بلغه أنه يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين! فظهر الغضب في وجهه.
وقيل: إن هشاما قدم عليه رجل من أهل الشام، فقال: إني سمعت خالدا ذكر أمير المؤمنين بما لا تنطلق به الشفتان، قَالَ: قَالَ: الأحول؟
قَالَ: لا، بل قَالَ أشد من ذلك، قَالَ: فما هو؟ قَالَ: لا أقوله أبدا، فلم يزل يبلغه عنه ما يكره حتى تغير له وذكر أن دهقانا دخل على خالد، فقال: أيها الأمير، إن غلة.
ابنك قد زادت على عشرة آلاف ألف، ولا آمن أن يبلغ هذا أمير المؤمنين فيستكثره.
وإن الناس يحبون جسدك، وأنا أحب جسدك وروحك، قَالَ: إن أسد بْن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، فأنت أمرته؟ قَالَ: نعم، قَالَ: ويحك! دع ابني، فلربما طلب الدرهم فلم يقدر عليه.
ثم عزم هشام- لما كثر عليه ما يتصل به عن خالد من الأمور التي كان يكرهها- على عزله، فلما عزم على ذلك أخفى ما قد عزم له عليه من أمره.

ذكر الخبر عن عمل هشام عزل خالد حين صح عزمه على عزله
ذكر عمر أن عبيد بْن جناد حدثه أنه سمع أباه وبعض الكتبة يذكر أن هشاما أخفى عزل خالد، وكتب إلى يوسف بخطه- وهو على اليمن- أن يقبل في ثلاثين من أصحابه فخرج يوسف حتى صار الى الكوفه، فعرس قريبا منها، وقد ختن طارق- خليفة خالد على الخراج- ولده، فأهدى له ألف عتيق وألف وصيف وألف وصيفة، سوى الأموال والثياب وغير ذلك، فمر العاس بيوسف وأصحابه ويوسف يصلي ورائحة الطيب تنفح من ثيابه، فقال: ما أنتم؟ قالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا: إنا رأينا قوما أنكرناهم، والرأي أن نقتلهم، فإن كانوا خوارج استرحنا منهم، وإن كانوا يريدونكم عرفتم ذلك فاستعددتم على أمرهم فنهوهم عن قتلهم، فطافوا، فلما كان في السحر وقد انتقل يوسف وصار إلى دور ثقيف، فمر بهم العاس، فقال: ما أنتم؟ فقالوا: سفار، قَالَ: فأين تريدون؟ قالوا: بعض المواضع، فأتوا طارقا وأصحابه، فقالوا:
قد صاروا إلى دور ثقيف والرأي أن نقتلهم، فمنعوهم وأمر يوسف بعض الثقفيين، فقال: اجمع لي من بها من مضر ففعل، فدخل المسجد مع الفجر، فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الامام، فانتهره فأقام، وتقدم يوسف فقرأ: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} [الواقعة: 1]، و {سَأَلَ سائِلٌ} [المعارج: 1]، ثم أرسل إلى خالد وطارق وأصحابهما، فأخذوا وان القدور لتغلي.
قَالَ عمر: قَالَ علي بْن محمد، قَالَ: قَالَ الربيع بْن سابور مولى بني الحريش- وكان هشام جعل إليه الخاتم مع الحرس: اتى هشاما كتاب خالد فغاظه، وقدم عليه في ذلك اليوم جندب مولى يوسف بْن عمر بكتاب يوسف، فقرأه ثم قَالَ لسالم مولى عنبسة بْن عبد الملك: أجبه عن لسانك، وكتب هو بخطه كتابا صغيرا، ثم قَالَ لي: ائتني بكتاب سالم- وكان سالم على الديوان- فأتيته به، فأدرج فيه الكتاب الصغير، ثم قَالَ لي: اختمه ففعلت، ثم دعا برسول يوسف، فقال: إن صاحبك لمتعد طوره، ويسأل فوق قدره، ثم قَالَ لي: مزق ثيابه ثم أمر به فضرب أسواطا، فقال:
أخرجه عني وادفع إليه كتابه فدفعت إليه الكتاب، وقلت له: ويلك! النجاء! فارتاب بشير بْن أبي ثلجة من أهل الأردن، وكان خليفة سالم وقال:
هذه حيلة، وقد ولى يوسف العراق، فكتب إلى عامل لسالم على أجمة سالم، يقال له عياض: إن أهلك قد بعثوا إليك بالثوب اليماني، فإذا أتاك فالبسه واحمد الله، وأعلم ذلك طارقا فبعث عياض إلى طارق بْن أبي زياد بالكتاب، وندم بشير على كتابه، وكتب إلى عياض: إن أهلك قد بدا لهم في إمساك الثوب فلا تتكل عليه، فجاء عياض بالكتاب الآخر إلى طارق، فقال طارق: الخبر في الكتاب الأول، ولكن صاحبك ندم وخاف أن يظهر الخبر فكتب بهذا وركب طارق من الكوفة إلى خالد وهو بواسط، فسار يوما وليلة، فصبحهم، فرآه داود البربري – وكان على حجابة خالد وحرسه وعلى ديوان الرسائل – فأعلم خالدا، فغضب، وقال: قدم بغير إذن، فأذن له، فلما رآه قَالَ: ما أقدمك؟ قَالَ: أمر كنت أخطأت فيه، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: وفاة أسد رحمه الله، كتبت إلى الأمير أعزيه عنه، وإنما كان ينبغي لي أن آتيه ماشيا فرق خالد ودمعت عيناه، وقال: ارجع إلى عملك، قَالَ: أردت أن أذكر للأمير أمرا أسره، قَالَ: ما دون داود سر، قَالَ: أمر من أمري، فغضب داود وخرج، وأخبر طارق خالدا، قَالَ:
فما الرأي؟ قَالَ: تركب إلى أمير المؤمنين فتعتذر إليه من شيء إن كان بلغه عنك قَالَ: فبئس الرجل أنا إذا إن ركبت إليه بغير إذنه، قَالَ: فشيء آخر، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: تسير في عملك، وأتقدمك إلى الشام، فأستأذنه لك، فإنك لا تبلغ أقصى عملك حتى يأتيك إذنه، قَالَ: ولا هذا، قَالَ: فأذهب فأضمن لأمير المؤمنين جميع ما انكسر في هذه السنين وآتيك بعهدك مستقبلا، قَالَ: وما يبلغ ذاك؟ قَالَ: مائة ألف ألف، قَالَ: ومن أين آخذ هذا! والله ما أجد عشرة آلاف درهم، قَالَ:
أتحمل أنا وسعيد بْن راشد أربعين ألف ألف درهم، والزينبي وأبان بْن الوليد عشرين ألف ألف، وتفرق الباقي على العمال، قَالَ: إني إذا للئيم، إن كنت سوغت قوما شيئا ثم أرجع فيه، فقال طارق: إنما نقيك ونقي أنفسنا بأموالنا ونستأنف الدنيا، وتبقى النعمة عليك وعلينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال، وهي عند تجار أهل الكوفة، فيتقاعسون ويتربصون بنا فنقتل، ويأكلون تلك الأموال فأبى خالد فودعه طارق وبكى، وقال: هذا آخر ما نلتقي في الدنيا، ومضى.
ودخل داود، فأخبره خالد بقول طارق، فقال: قد علم أنك لا تخرج بغير إذن، فأراد أن يختلك ويأتي الشام، فيتقبل بالعراق هو وابن أخيه سعيد بْن راشد فرجع طارق إلى الكوفة، وخرج خالد الى الحمه.
قال: وقدم رسول يوسف عليه اليمن، فقال له: ما وراءك؟ قَالَ:
الشر، أمير المؤمنين ساخط، وقد ضربني ولم يكتب جواب كتابك، وهذا كتاب سالم صاحب الديوان ففض الكتاب فقرأه، فلما انتهى إلى آخره قرأ كتاب هشام بخطه: أن سر إلى العراق فقد وليتك إياه، وإياك أن يعلم بذاك أحد، وخذ ابن النصرانية وعماله فاشفني منهم، فقال يوسف: انظروا دليلا عالما بالطريق، فأتى بعدة، فاختار منهم رجلا وسار من يومه، واستخلف على اليمن ابنه الصلت فشيعه، فلما أراد أن ينصرف سأله:
أين تريد؟ فضربه مائة سوط، وقال: يا بن اللخناء، أيخفى عليك إذا استقر بي منزل، فسار، فكان إذا اتى إلى طريقين سأل، فإذا قيل: هذا إلى العراق، قَالَ: أعرق، حتى أتى الكوفة قَالَ عمر: قَالَ علي عن بشر بْن عيسى، عن أبيه، قَالَ: قَالَ حسان النبطي: هيأت لهشام طيبا، فإني لبين يديه وهو ينظر إلى ذلك الطيب إذ قَالَ لي: يا حسان، في كم يقدم القادم من العراق إلى اليمن؟ قَالَ:
قلت: لا أدري، فقال:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

قَالَ: فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء كتاب يوسف من العراق قد قدمها، وذلك في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائة.
قَالَ عمر: قَالَ علي: قَالَ سالم زنبيل: لما صرنا إلى النجف قَالَ لي يوسف: انطلق فاتنى بطارق، فلم أستطع أن آبي عليه، وقلت في نفسي:
من لي بطارق في سلطانه! ثم أتيت الكوفة، فقلت لغلمان طارق: استأذنوا لي على طارق، فضربوني فصحت له: ويلك يا طارق! أنا سالم رسول يوسف، وقد قدم على العراق فخرج فصاح بالغلمان، وقال: أنا آتيه، قَالَ: وروي أن يوسف قَالَ لكيسان: انطلق فاتنى بطارق، فإن كان قد أقبل فاحمله على أكاف، وإن لم يكن أقبل فأت به سحبا قَالَ:
فأتيته بالحيرة دار عبد المسيح – وهو سيد أهل الحيرة – فقلت له: إن يوسف قد قدم على العراق، وهو يأمرك أن تشد طارقا وتأتيه به، فخرج هو وولده وغلمانه حتى أتوا منزل طارق – وكان لطارق غلام شجاع معه غلمان شجعاء لهم سلاح وعدة – فقال لطارق: إن أذنت لي خرجت إلى هؤلاء فيمن معي فقتلتهم، ثم طرت على وجهك فذهبت حيث شئت قَالَ: فأذن لكيسان، فقال: أخبرني عن الأمير، يريد المال؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأنا أعطيه ما سأل، وأقبلوا إلى يوسف فتوافوا بالحيرة، فلما عاينه ضربه ضربا مبرحا – يقال خمسمائة سوط – ودخل الكوفة، وأرسل عطاء بْن مقدم إلى خالد بالحمة.
قَالَ عطاء: فأتيت الحاجب فقلت: استأذن لي على أبي الهيثم، فدخل وهو متغير الوجه فقال له خالد: مالك؟ قَالَ: خير، قَالَ: ما عندك خير، قَالَ: عطاء بْن مقدم، قَالَ: استأذن لي على أبي الهيثم، فقال:
ائذن له، فدخلت: فقال: ويل أمها سخطة! قَالَ: فلم أستقر حتى دخل الحكم بْن الصلت، فقعد معه، فقال له خالد: ما كان ليلي علي أحد هو أحب إلي منكم.
وخطب يوسف بالكوفة، فقال: إن أمير المؤمنين أمرني بأخذ عمال ابْن النصرانية، وأن أشفيه منهم، وسأفعل وأزيد والله يا أهل العراق، ولأقتلن منافقيكم بالسيف وجناتكم بالعذاب وفساقكم ثم نزل ومضى إلى واسط، وأتي بخالد وهو بواسط.
قَالَ عمر: قَالَ حدثني الحكم بْن النضر: قَالَ: سمعت أبا عبيدة يقول: لما حبس يوسف خالدا صالحه عنه أبان بْن الوليد وأصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف، وقيل له: لو لم تفعل لأخذت منه مائة ألف ألف درهم قَالَ: ما كنت لأرجع وقد رهنت لساني بشيء وأخبر أصحاب خالد خالدا، فقال: قد أسأتم حين أعطيتموه عند أول وهلة تسعة آلاف ألف، ما آمن أن يأخذها ثم يعود عليكم، فارجعوا فجاءوا فقالوا: إنا قد أخبرنا خالدا فلم يرض بما ضمنا، وأخبرنا أن المال لا يمكنه، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم، فأما أنا فلا أرجع عليكم، فإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قَالَ: وقد فعلتم! قالوا: نعم، قال: فمنكم اتى النقض، فو الله لا ارضى بتسعه آلاف الف ولا مثليها ولا مثلها، فأخذ أكثر من ذلك.
وقد قيل: إنه أخذ مائة ألف ألف وذكر الهيثم بْن عدي، عن ابن عياش ان، هشاما ما أزمع على عزل خالد، وكان سبب ذلك انه اعتقد بالعراق أموالا وحفر أنهارا، حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف، منها نهر خالد، وكان يغل خمسة آلاف ألف وباجوي وبارمانا والمبارك والجامع وكورة سابور والصلح، وكان كثيرا ما يقول: إنني والله مظلوم، ما تحت قدمي من شيء إلا وهو لي- يعني أن عمر جعل لبجيلة ربع السواد.
قَالَ الهيثم بْن عدي: أخبرني الحسن بْن عمارة، عن العريان بْن الهيثم، قَالَ: كنت كثيرا ما أقول لأصحابي: إني أحسب هذا الرجل قد تخلى منه، أن قريشا لا تحتمل هذا ونحوه، وهم أهل حسد، وهذا يظهر ما يظهر، فقلت له يوما: أيها الأمير، إن الناس قد رموك بأبصارهم، وهي قريش، وليس بينك وبينها إل، وهم يجدون منك بدا، وأنت لا تجد منهم بدا، فأنشدك الله إلا ما كتبت إلى هشام تخبره عن أموالك، وتعرض عليه منها ما أحب، فما أقدرك على أن تتخذ مثلها، وهو لا يستفسدك، وإن كان حريصا على ذلك فلعمري لأن يذهب بعض ويبقى بعض خير من أن تذهب كلها، وما كان يستحسن فيما بينك وبينه أن يأخذها كلها، ولا آمن أن يأتيه باغ أو حاسد فيقبل منه، فلأن تعطيه طائعا خير من أن تعطيه كارها فقال: ما أنت بمتهم، ولا يكون ذلك أبدا قَالَ: فقلت أطعني واجعلني رسولك، فو الله لا يحل عقدة إلا شددتها، ولا يشد عقدة إلا حللتها قَالَ: إنا والله لا نعطي على الذل، قَالَ: قلت: هل كانت لك هذه الضياع إلا في سلطانه! وهل تستطيع الامتناع منه إن أخذها! قَالَ: لا، قلت: فبادره، فإنه يحفظها لك ويشكرك عليها، ولو لم تكن له عندك يد إلا ما ابتدأك به كنت جديرا أن تحفظه، قَالَ: لا والله لا يكون ذلك أبدا، قَالَ: قلت فما كنت صانعا إذا عزلك وأخذ ضياعك فاصنعه، فإن إخوته وولده وأهل بيته قد سبقوا لك، وأكثروا عليه فيك، ولك صنائع تعود عليهم بما بدا لك، ثم استدرك استتمام ما كان منك إلى صنائعك من هشام قَالَ: قد أبصرت ما تقول وليس إلى ذلك سبيل وكان العريان يقول: كأنكم به قد عزل، وأخذ ما له وتجنى عليه ثم لا ينتفع بشيء قَالَ: فكان كذلك.
قَالَ الهيثم: وحدثني ابن عياش، أن بلال بْن أبي بردة كتب إلى خالد وهو عامله على البصرة حين بلغه تعتب هشام عليه: أنه حدث أمر لا أجد بدا من مشافهتك فيه، فإن رأيت أن تأذن لي، فإنما هي ليلة ويومها إليك، ويوم عندك، وليلة ويومها منصرفا فكتب إليه: أن أقبل إذا شئت فركب هو وموليان له الجمازات، فسار يوما وليلة، ثم صلى المغرب بالكوفة، وهي ثمانون فرسخا، فأخبر خالد بمكانه، فأتاه وقد تعصب، فقال: أبا عمرو، أتعبت نفسك، قَالَ: أجل، قَالَ: متى عهدك بالبصرة؟
قَالَ: أمس، قَالَ: أحق ما تقول! قَالَ: هو والله ما قلت، قَالَ: فما أنصبك؟ قَالَ: ما بلغني من تعتب أمير المؤمنين وقوله، وما بغاك به ولده واهل بيته، فان رايت ان أتعرض له وأعرض عليه بعض أموالنا، ثم ندعوه منها إلى ما أحب وأنفسنا به طيبة، ثم أعرض عليه مالك، فما أخذ منه فعلينا العوض منه بعد قَالَ: ما اتهمك وحتى أنظر، قَالَ: إني أخاف أن تعاجل، قَالَ: كلا، قَالَ: إن قريشا من قد عرفت، ولا سيما سرعتهم إليك قَالَ: يا بلال، إني والله ما أعطي شيئا قسرا أبدا قَالَ أيها الأمير، أتكلم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: إن هشاما أعذر منك، يقول: استعملتك.
وليس لك شيء، فلم تر من الحق عليك أن تعرض علي بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزين له حسان النبطي ما لا تستطيع إدراكه، فاغتنم هذه الفترة.
قَالَ: أنا ناظر في ذلك فانصرف راشدا فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بهذا الرجل قد بعث إليه رجل بعيد أتى، به حمز، بغيض النفس سخيف الدين، قليل الحياء، يأخذه بالاحن والترات فكان كما قَالَ.
قَالَ ابن عياش: وكان بلال قد اتخذ دارا بالكوفة، وإنما استأذن خالدا لينظر إلى داره، فما نزلها إلا مقيدا، ثم جعلت سجنا إلى اليوم قَالَ ابن عياش: كان خالد يخطب فيقول: إنكم زعمتم أني أغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة الله! وكان هشام كتب إلى خالد لا تبيعن من الغلات شيئا حتى تباع غلات أمير المؤمنين حتى بلغت كيلجة درهما.
قَالَ الهيثم، عن ابن عياش: كانت ولاية خالد في شوال سنة خمس ومائة ثم عزل في جمادى الأولى سنة عشرين ومائه

 [أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة قدم يوسف بْن عمر العراق واليا عليها.
وقد ذكرت قبل سبب ولايته عليها وفي هذه السنة ولى خراسان يوسف بْن عمر جديع بْن علي الكرماني وعزل جعفر بْن حنظلة.
وقيل: إن يوسف لما قدم العراق أراد أن يولي خراسان سلم بْن قتيبة، فكتب بذلك إلى هشام، ويستأذنه فيه، فكتب إليه هشام: إن سلم بْن قتيبة رجل ليس له بخراسان عشيرة، ولو كان له بها عشيرة لم يقتل بها أبوه.
وقيل إن يوسف كتب إلى الكرماني بولاية خراسان مع رجل من بني سليم وهو بمرو، فخرج إلى الناس يخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أسدا وقدومه خراسان، وما كانوا فيه من الجهد والفتنة، وما صنع لهم على يديه ثم ذكر أخاه خالدا بالجميل، وأثنى عليه، وذكر قدوم يوسف العراق، وحث الناس على الطاعة ولزوم الجماعة، ثم قَالَ: غفر الله للميت- يعني أسدا- وعافى الله المعزول، وبارك للقادم ثم نزل.
وفي هذه السنة عزل الكرماني عن خراسان، ووليها نصر بْن سيار بْن ليث بْن رافع بْن ربيعة بْن جري بْن عوف بْن عامر بْن جندع بْن ليث بْن بكر بْن عبد مناة بْن كنانة، وأمه زينب بنت حسان من بني تغلب.

ذكر الخبر عن سبب ولاية نصر بْن سيار خراسان
ذكر علي بْن محمد عن شيوخه أن وفاة أسد بْن عبد الله لما انتهت إلى هشام بْن عبد الملك استشار أصحابه في رجل يصلح لخراسان، فأشاروا عليه بأقوام، وكتبوا له أسماءهم، فكان ممن كتب له عثمان بْن عبد الله بْن الشخير ويحيى بْن حضين بْن المنذر الرقاشي ونصر بْن سيار الليثي وقطن بْن قتيبة بْن مسلم والمجشر بْن مزاحم السلمي أحد بني حرام، فأما عثمان بن عبد الله ابن الشخير، فقيل له: إنه صاحب شراب، وقيل له: المجشر شيخ هم، وقيل له: ابن حضين رجل فيه تيه وعظمة، وقيل له: قطن بْن قتيبة موتور، فاختار نصر بن سيار، فقيل له: ليست له بها عشيرة، فقال هشام: أنا عشيرته فولاه وبعث بعهده مع عبد الكريم بْن سليط بْن عقبة الهفاني، هفان بْن عدي بْن حنيفة فأقبل عبد الكريم بعهده، ومعه أبو المهند كاتبه مولى بني حنيفة، فلما قدم سرخس ولا يعلم به أحد، وعلى سرخس حفص بْن عمر بْن عباد التيمي أخو تميم بْن عمر، فأخبره أبو المهند، فوجه حفص رسولا، فحمله إلى نصر، ونفذ ابن سليط إلى مرو، فأخبر أبو المهند الكرماني، فوجه الكرماني نصر بن حبيب بْن بحر بْن ماسك بْن عمر الكرماني إلى نصر بْن سيار، فسبق رسول حفص إلى نصر بْن سيار، فكان أول من سلم عليه بالإمرة، فقال له نصر: لعلك شاعر مكار! فدفع إليه الكتاب وكان جعفر بْن حنظلة ولى عمرو بْن مسلم مرو، وعزل الكرماني وولى منصور بْن عمر أبرشهر، وولى نصر بْن سيار بخارى، فقال جعفر ابن حنظلة: دعوت نصرا قبل أن يأتيه عهده بأيام، فعرضت عليه أن أوليه بخارى، فشاور البختري بْن مجاهد، فقال له البختري، وهو مولى بني شيبان: لا تقبلها، قَالَ: ولم؟ قَالَ: لأنك شيخ مضر بخراسان، فكأنك بعهدك قد جاء على خراسان كلها، فلما أتاه عهده بعث إلي البختري فقال البختري لأصحابه:
قد ولي نصر بْن سيار خراسان، فلما أتاه سلم عليه بالإمرة، فقال له: إني علمت؟ قَالَ: لما بعثت إلي، وكنت قبل ذلك تأتيني، علمت أنك قد وليت.
قَالَ: وقد قيل إن هشاما قَالَ لعبد الكريم حين أتاه خبر أسد بْن عبد الله بموته: من ترى أن نولي خراسان، فقد بلغني أن لك بها وبأهلها علما؟ قَالَ عبد الكريم: قلت: يا أمير المؤمنين، أما رجل خراسان حزما ونجدة فالكرماني، فأعرض بوجهه، وقال: ما اسمه؟ قلت: جديع بْن علي، قَالَ: لا حاجة لي فيه، وتطير، وقال: سم لي غيره، قلت: اللسن المجرب يحيى بْن نعيم بْن هبيرة الشيباني أبو الميلاء، قَالَ: ربيعة لا تسد بها الثغور- قَالَ عبد الكريم: فقلت في نفسي: كره ربيعة واليمن، فأرميه بمضر- فقلت: عقيل بْن معقل الليثي، إن اغتفرت هنة، قَالَ: ما هي؟
قلت: ليس بالعفيف، قَالَ: لا حاجة لي به، قلت: منصور بْن أبي الخرقاء السلمي، إن اغتفرت نكرة فإنه مشئوم، قَالَ: غيره، قلت: المجشر بْن مزاحم السلمي، عاقل شجاع، له رأي مع كذب فيه، قَالَ: لا خير في الكذب، قلت: يحيى بْن حضين، قَالَ: ألم أخبرك أن ربيعة لا تسد بها الثغور! قَالَ: فكان إذا ذكرت له ربيعة، واليمن أعرض قَالَ عبد الكريم: وأخرت نصرا وهو أرجل القوم وأحزمهم وأعلمهم بالسياسة، فقلت: نصر بْن سيار الليثي، قَالَ: هو لها، قلت: إن اغتفرت واحدة، فإنه عفيف مجرب عاقل، قَالَ: ما هي؟ قلت: عشيرته بها قليلة، قَالَ: لا أبا لك، أتريد عشيرة أكثر مني! أنا عشيرته.
وقال آخرون: لما قدم يوسف بْن عمر العراق قال: أشيروا على برجل اوله خراسان، فأشاروا عليه بمسلمة بْن سليمان بْن عبد الله ابن خازم وقديد بْن منيع المنقري ونصر بْن سيار وعمرو بْن مسلم ومسلم بْن عبد الرحمن بْن مسلم ومنصور بْن أبي الخرقاء وسلم بْن قتيبة ويونس بْن عبد ربه وزياد بْن عبد الرحمن القشيري، فكتب يوسف بأسمائهم إلى هشام، وأطرى القيسية، وجعل آخر من كتب اسمه نصر بْن سيار الكناني، فقال هشام:
ما بال الكناني آخرهم! وكان في كتاب يوسف إليه: يا أمير المؤمنين، نصر بخراسان قليل العشيرة فكتب إليه هشام: قد فهمت كتابك وإطراءك القيسية وذكرت نصرا وقلة عشيرته، فكيف يقل من أنا عشيرته! ولكنك تقيست علي، وأنا متخندف عليك، ابعث بعهد نصر، فلم يقل من عشيرته أمير المؤمنين، بله ما إن تميما أكثر أهل خراسان فكتب إلى نصر أن يكاتب يوسف بْن عمر، وبعث يوسف سلما وافدا إلى هشام، وأثنى عليه فلم يوله، ثم أوفد شريك بْن عبد ربه النميري، وأثنى عليه ليوليه خراسان، فأبى عليه هشام.
قَالَ: وأوفد نصر من خراسان الحكم بْن يزيد بْن عمير الأسدي إلى هشام، وأثنى عليه نصر، فضربه يوسف ومنعه من الخروج إلى خراسان، فلما قدم يزيد بْن عمر بْن هبيرة استعمل الحكم بْن يزيد على كرمان، وبعث بعهد نصر مع عبد الكريم الحنفي- ومعه كاتبه أبو المهند مولى بني حنيفة- فلما أتى سرخس وقع الثلج، فأقام ونزل على حفص بْن عمر بْن عباد التيمي، فقال له: قدمت بعهد نصر على خراسان، قَالَ: وهو عامل يومئذ على سرخس- فدعا حفص غلامه، فحمله على فرس وأعطاه مالا، وقال له: طر واقتل الفرس، فإن قام عليك فاشتر غيره حتى تأتي نصرا قَالَ: فخرج الغلام حتى قدم على نصر ببلخ، فيجده في السوق، فدفع إليه الكتاب، فقال: أتدري ما في هذا الكتاب؟ قَالَ: لا، فأمسكه بيده، وأتى منزله، فقال الناس: أتى نصرا عهده على خراسان، فأتاه قوم من خاصته، فسألوه فقال: ما جاءني شيء، فمكث يومه، فدخل عليه من الغد أبو حفص بْن علي، أحد بني حنظلة- وهو صهره، وكانت ابنته تحت نصر، وكان أهوج كثير المال، فقال له: إن الناس قد خاضوا وأكثروا في ولايتك، فهل جاءك شيء؟ فقال: ما جاءني شيء، فقام ليخرج فقال: مكانك، وأقرأه الكتاب، فقال:
ما كان حفص ليكتب إليك إلا بحق، قَالَ: فبينا هو يكلمه إذ استأذن عليه عبد الكريم، فدفع إليه عهده، فوصله بعشرة آلاف درهم ثم استعمل نصر على بلخ مسلم بْن عبد الرحمن بن مسلم، واستعمل وشاح ابن بكير بْن وشاح على مرو الروذ، والحارث بْن عبد الله بْن الحشرج على هراة، وزياد بْن عبد الرحمن القشيري على أبرشهر، وأبا حفص بْن علي ختنه على خوارزم، وقطن بْن قتيبة على السغد فقال رجل من أهل الشام من اليمانية: ما رأيت عصبية مثل هذه! قَالَ: بلى، التي كانت قبل هذه فلم يستعمل أربع سنين إلا مضريا، وعمرت خراسان عمارة لم تعمر قبل ذلك مثلها، ووضع الخراج، وأحسن الولاية والجباية، فقال سوار بْن الأشعر:

أضحت خراسان بعد الخوف آمنة *** من ظلم كل غشوم الحكم جبار
لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت *** اختار نصرا لها، نصر بْن سيار

وقال نصر بْن سيار فيمن كره ولايته:

تعز عن الصبابة لا تلام *** كذلك لا يلم بك احتمام
أإن سخطت كبيرة بعد قرب *** كلفت بها وباشرك السقام!
ترجى اليوم ما وعدت حديثا *** وقد كذبت مواعدها الكرام
ألم تر ان ما صنع الغواني *** عسير لا يريع به الكلام
أبت لي طاعتي وأبى بلائي *** وفوزي حين يعترك الخصام
وإنا لا نضيع لنا ملما *** ولا حسبا إذا ضاع الذمام
ولا نغضي على غدر وإنا *** نقيم على الوفاء فلا نلام
خليفتنا الذي فازت يداه *** بقدح الحمد والملك الهمام
نسوسهم به ولنا عليهم *** إذا قلنا مكارمه جسام
أبو العاصي أبوه وعبد *** شمس وحرب والقماقمة الكرام
ومروان أبو الخلفاء عال *** عليه المجد فهو لهم نظام
وبيت خليفة الرحمن فينا *** وبيتاه المقدس والحرام
ونحن الأكرمون إذا نسبنا *** وعرنين البرية والسنام
فأمسينا لنا من كل حي *** خراطيم البرية والزمام
لنا أيد نريش بها ونبري ***  وأيد في بوادرها السمام
وبأس في الكريهة حين نلقى *** إذا كان النذير بها الحسام

قال: وأتى نصرا عهده في رجب من سنة عشرين ومائة، وقال له البختري:
اقرأ عهدك واخطب الناس، فخطب الناس فقال في خطبته: استمسكوا أصحابنا بجدتكم، فقد عرفنا خيركم وشركم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن هشام بْن إسماعيل، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
وقد قيل: إن الذي حج بهم فيها سليمان بْن هشام.
وقيل: حج بهم يزيد بْن هشام.
وَكَانَ العامل فِي هَذِهِ السنة عَلَى الْمَدِينَة ومكة والطائف محمد بْن هشام، وعلى العراق والمشرق كله يوسف بْن عمر، وعلى خراسان نصر بْن سيار- وقيل جعفر بْن حنظلة- وعلى البصرة كثير بْن عبد الله السلمي من قبل يوسف بْن عمر، وعلى قضائها عامر بْن عبيدة الباهلي، وعلى أرمينية وأذربيجان مروان بْن محمد، وعلى قضاء الكوفة ابن شبرمة.