106 هـ
724 م
سنة ست ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ففي هذه السنة عزل هشام بْن عبد الملك عن المدينة عبد الواحد بْن عبد الله النضري وعن مكة والطائف، وولى ذلك كله خاله إبراهيم …

بْن هشام بْن إسماعيل المخزومي، فقدم المدينة يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من جمادى الآخرة سنة ست ومائة، فكانت ولاية النضري على المدينة سنة وثمانية أشهر.
وفيها غزا سعيد بْن عبد الملك الصائفة وفيها غزا الحجاج بْن عبد الملك اللان، فصالح أهلها، وأدوا الجزية وفيها ولد عبد الصمد بْن علي في رجب.
وفيها مات الإمام طاوس مولى بحير بْن ريسان الحميري بمكة وسالم ابن عبد الله بْن عمر، فصلى عليهما هشام وكان موت طاوس بمكة وموت سالم بالمدينة.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عبد الحكيم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، قَالَ: مات سالم بْن عبد الله سنة خمس ومائة في عقب ذي الحجة، فصلى عليه هشام بْن عبد الملك بالبقيع، فرأيت القاسم بْن محمد بْن أبي بكر جالسا عند القبر وقد أقبل هشام ما عليه إلا دراعة، فوقف على القاسم فسلم عليه، فقام إليه القاسم فسأله هشام: كيف أنت يا أبا محمد؟ كيف حالك؟ قَالَ: بخير، قَالَ: إني أحب والله أن يجعلكم بخير ورأى في الناس كثرة، فضرب عليهم بعث أربعة آلاف، فسمي عام الأربعة آلاف وفيها استقضى إبراهيم بْن هشام محمد بْن صفوان الجمحى ثم عزله، واستقضى الصلت الكندى

ذكر الخبر عن الحرب بين اليمانيه والمضرية وربيعه
وفي هذه السنة كانت الوقعة التي كانت بين المضرية واليمانية وربيعة بالبروقان من أرض بلخ.

ذكر الخبر عن سبب هذه الوقعة:
وكان سبب ذلك- فيما قيل- إن مسلم بْن سعيد غزا، فقطع النهر، وتباطأ الناس عنه، وكان ممن تباطأ عنه البختري بْن درهم، فلما أتى النهر رد نصر بْن سيار وسليم بْن سليمان بْن عبد الله بْن خازم وبلعاء بْن مجاهد بْن بلعاء العنبري وأبا حفص بْن وائل الحنظلي وعقبة بْن شهاب المازني وسالم بْن ذؤابة إلى بلخ، وعليهم جميعا نصر بْن سيار، وأمرهم أن يخرجوا الناس إليه فأحرق نصر باب البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فمنعهم عمرو بْن مسلم من دخول بلخ- وكان عليها- وقطع مسلم بْن سعيد النهر فنزل نصر البروقان، فأتاه أهل صغانيان، وأتاه مسلمة العقفاني من بني تميم، وحسان بْن خالد الأسدي، كل واحد منهما في خمسمائة، وأتاه سنان الأعرابي وزرعة بْن علقمة وسلمة بْن أوس والحجاج بْن هارون النميري في أهل بيته، وتجمعت بكر والأزد بالبروقان، رأسهم البختري، وعسكر بالبروقان على نصف فرسخ منهم، فأرسل نصر إلى أهل بلخ: قد أخذتم أعطياتكم فالحقوا بأميركم، فقد قطع النهر فخرجت مضر إلى نصر، وخرجت ربيعة والأزد إلى عمرو ابن مسلم، وقال قوم من ربيعة: إن مسلم بْن سعيد يريد أن يخلع، فهو يكرهنا على الخروج فأرسلت تغلب إلى عمرو بْن مسلم: إنك منا، وأنشدوه شعرا قاله رجل عزا بأهله إلى تغلب- وكان بنو قتيبة من باهلة- فقالوا:
إنا من تغلب، فكرهت بكر أن يكونوا في تغلب فتكثر تغلب، فقال رجل منهم:

زعمت قتيبة أنها من وائل *** نسب بعيد يا قتيبة فاصعدي

وذكر أن بني معن من الأزد يدعون باهلة، وذكر عن شريك بْن أبي قيلة المعني أن عمرو بْن مسلم كان يقف على مجالس بني معن، فيقول: لئن لم نكن منكم ما نحن بعرب، وقال عمرو بْن مسلم حين عزاه التغلبي إلى بني تغلب: أما القرابة فلا أعرفها، وأما المنع فإني سأمنعكم، فسفر الضحاك بْن مزاحم ويزيد بْن المفضل الحداني، وكلما نصرا وناشداه فانصرف فحمل أصحاب عمرو بْن مسلم والبختري على نصر، ونادوا: يال بكر! وجالوا، وكر نصر عليهم، فكان أول قتيل رجل من باهلة، ومع عمرو بْن مسلم البختري وزياد بْن طريف الباهلي، فقتل من أصحاب عمرو بْن مسلم في المعركة ثمانية عشر رجلا، وقتل كردان أخو الفرافصة ومسعدة ورجل من بكر بْن وائل يقال له إسحاق، سوى من قتل في السكك، وانهزم عمرو بْن مسلم إلى القصر وأرسل إلى نصر: ابعث إلى بلعاء بْن مجاهد، فأتاه بلعاء، فقال:
خذ لي أمانا منه، فآمنه نصر، وقال: لولا أني أشمت بك بكر بْن وائل لقتلتك وقيل: أصابوا عمرو بْن مسلم في طاحونة، فأتوا به نصرا في عنقه حبل، فآمنه نصر، وقال له ولزياد بْن طريف والبختري بْن درهم: الحقوا بأميركم وقيل: بل التقى نصر وعمرو بالبروقان، فقتل من بكر بْن وائل واليمن ثلاثون، فقالت بكر: علا م نقاتل إخواننا وأميرنا، وقد تقربنا إلى هذا الرجل فأنكر قرابتنا! فاعتزلوا وقاتلت الأزد، ثم انهزموا ودخلوا حصنا فحصرهم نصر، ثم أخذ عمرو بْن مسلم والبختري أحد بني عباد وزياد بْن طريف الباهلي، فضربهم نصر مائة مائة، وحلق رءوسهم ولحاهم، وألبسهم المسوح وقيل:
أخذ البختري في غيضه كان دخلها، فقال نصر في يوم البروقان:

أرى العين لجت في ابتدار وما الذي *** يرد عليها بالدموع ابتدارها!
فما أنا بالواني إذا الحرب شمرت *** تحرق في شطر الخميسين نارها
ولكنني أدعو لها خندف التي *** تطلع بالعبء الثقيل فقارها
وما حفظت بكر هنالك حلفها *** فصار عليها عار قيس وعارها
فإن تك بكر بالعراق تنزرت *** ففي أرض مرو علها وازورارها
وقد جربت يوم البروقان وقعة *** لخندف إذ حانت وآن بوارها
أتتني لقيس في بجيلة وقعة *** وقد كان قبل اليوم طال انتظارها

يعني حين أخذ يوسف بْن عمر خالدا وعياله.
وذكر علي بْن محمد أن الوليد بْن مسلم قَالَ: قاتل عمرو بْن مسلم نصر بْن سيار فهزمه عمرو، فقال لرجل من بني تميم كان معه: كيف ترى استاه قومك يا أخا بني تميم؟ يعيره بهزيمتهم، ثم كرت تميم فهزموا أصحاب عمرو، فانجلى الرهج وبلعاء بْن مجاهد في جمع من بني تميم يشلهم، فقال التميمي لعمرو: هذه استاه قومي قَالَ: وانهزم عمرو، فقال بلعاء لأصحابه: لا تقتلوا الأسرى ولكن جردوهم، وجوبوا سراويلاتهم عن أدبارهم، ففعلوا، فقال بيان العنبري يذكر حربهم بالبروقان:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة *** لآل تميم أرجفت كل مرجف
تظل عيون البرش بكر بْن وائل *** إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف
هم أسلموا للموت عمرو بْن مسلم *** وولوا شلالا والأسنة ترعف
وكانت من الفتيان في الحرب عادة *** ولم يصبروا عند القنا المتقصف

خبر غزو مسلم بن سعيد الترك
وفي هذه السنة غزا مسلم بْن سعيد الترك، فورد عليه عزله من خراسان من خالد بْن عبد الله، وقد قطع النهر لحربهم وولاية أسد بْن عبد الله عليها

ذكر الخبر عن غزوة مسلم بْن سعيد هذه الغزوة:
ذكر علي بْن محمد عن أشياخه أن مسلما غزا في هذه السنة، فخطب الناس في ميدان يزيد، وقال: ما أخلف بعدي شيئا أهم عندي من قوم يتخلفون بعدي مخلقى الرقاب، يتواثبون الجدران على نساء المجاهدين، اللهم افعل بهم وافعل! وقد أمرت نصرا ألا يجد متخلفا إلا قتله، وما أرثي لهم من عذاب ينزله الله بهم- يعني عمرو بْن مسلم وأصحابه- فلما صار ببخارى أتاه كتاب من خالد بْن عبد الله القسري بولايته على العراق، وكتب إليه: أتمم غزاتك فسار إلى فرغانة، فقال أبو الضحاك الرواحي- أحد بني رواحة من بني عبس، وعداده في الأزد، وكان ينظر في الحساب: ليس على متخلف العام معصية، فتخلف أربعة آلاف.
وسار مسلم بْن سعيد، فلما صار بفرغانة بلغه أن خاقان قد أقبل إليه، وأتاه شميل- أو شبيل- بْن عبد الرحمن المازني، فقال: عاينت عسكر خاقان في موضع كذا وكذا، فأرسل إلى عبد الله بْن أبي عبد الله الكرماني مولى بني سليم، فأمره بالاستعداد للمسير، فلما أصبح ارتحل بالعسكر، فسار ثلاث مراحل في يوم، ثم سار من غد حتى قطع وادي السبوح فأقبل إليهم خاقان، وتوافت إليه الخيل، فأنزل عبد الله بْن أبي عبد الله قوما من العرفاء والموالي، فأغار الترك على الذين أنزلهم عبد الله ذلك الموضع فقتلوهم، وأصابوا دواب لمسلم وقتل المسيب بْن بشر الرياحي، وقتل البراء- وكان من فرسان المهلب- وقتل أخو غوزك وثار الناس في وجوههم، فأخرجوهم من العسكر، ودفع مسلم لواءه إلى عامر بْن مالك الحماني، ورحل بالناس فساروا ثمانية أيام، وهم مطيفون بهم، فلما كانت الليلة التاسعة أراد النزول، فشاور الناس فأشاروا عليه بالنزول، وقالوا: إذا أصبحنا وردنا الماء، والماء منا غير بعيد، وإنك إن نزلت المرج تفرق الناس في الثمار، وانتهب عسكرك، فقال لسوره بْن الحر: يا أبا العلاء، ما ترى؟ قَالَ: أرى ما رأى الناس ونزلوا قَالَ: ولم يرفع بناء في العسكر، وأحرق الناس ما ثقل من الآنية والأمتعة، فحرقوا قيمة ألف ألف وأصبح الناس فساروا، فوردوا الماء فإذا دون النهر أهل فرغانة والشاش، فقال مسلم بْن سعيد: أعزم على كل رجل إلا اخترط سيفه، ففعلوا فصارت الدنيا كلها سيوفا، فتركوا الماء وعبروا، فأقام يوما، ثم قطع من غد، وأتبعهم ابن الخاقان قَالَ: فأرسل حميد بْن عبد الله وهو على الساقة إلى مسلم: قف ساعة فإن خلفي مائتي رجل من الترك حتى أقاتلهم- وهو مثقل جراحة- فوقف الناس، فعطف على الترك، فأسر أهل السغد وقائدهم وقائد الترك في سبعة، وانصرف البقية، ومضى حميد ورمي بنشابة في ركبته، فمات.
وعطش الناس، وقد كان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي حمل عشرين قربة على إبله، فلما رأى جهد الناس أخرجها، فشربوا جرعا، واستسقى يوم العطش مسلم بْن سعيد فأتوه بإناء، فأخذه جابر- أو حارثة- بْن كثير أخو سليمان بْن كثير من فيه، فقال مسلم: دعوه، فما نازعني شربتي إلا من حر دخله، فأتوا خجندة، وقد أصابتهم مجاعة وجهد، فانتشر الناس فإذا فارسان يسألان عن عبد الرحمن بْن نعيم، فأتياه بعهده على خراسان من أسد بْن عبد الله، فأقرأه عبد الرحمن مسلما، فقال: سمعا وطاعة، قَالَ:
وكان عبد الرحمن أول من اتخذ الخيام في مفازة آمل.
قَالَ: وكان أعظم الناس غنى يوم العطش إسحاق بْن محمد الغداني، فقال حاجب الفيل لثابت قطنة، وهو ثابت بْن كعب:

نقضي الأمور وبكر غير شاهدها *** بين المجاذيف والسكان مشغول
ما يعرف الناس منه غير قطنته *** وما سواها من الآباء مجهول

وكان لعبد الرحمن بْن نعيم من الولد نعيم وشديد وعبد السلام وإبراهيم والمقداد، وكان أشدهم نعيم وشديد، فلما عزل مسلم بْن سعيد، قَالَ الخزرج التغلبي: قاتلنا الترك، فأحاطوا بالمسلمين حتى أيقنوا بالهلاك، فنظرت إليهم وقد اصفرت وجوههم، فحمل حوثرة بْن يزيد بْن الحر بْن الحنيف بْن نصر بْن يزيد بْن جعونة على الترك في أربعة آلاف، فقاتلهم ساعة ثم رجع، وأقبل نصر بْن سيار في ثلاثين فارسا، فقاتلهم حتى أزالهم عن مواضعهم، وحمل الناس عليهم، فانهزم الترك.
قَالَ: وحوثرة هذا هو ابن أخي رقبة بْن الحر قَالَ: وكان عمر بْن هبيرة قَالَ لمسلم بْن سعيد حين ولاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك، فإنه لسانك والمعبر عنك، وحث صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر قَالَ: وما عمال العذر؟ قَالَ: مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلا فوله، فإن كان خيرا كان لك، وإن كان شرا كان لهم دونك، وكنت معذورا.
قَالَ: وكان مسلم بْن سعيد كتب إلى ابن هبيرة أن يوجه إليه توبة بْن أبي أسيد مولى بني العنبر، فكتب ابن هبيرة إلى عامله بالبصرة: احمل إلي توبة بْن أبي أسيد، فحمله فقدم- وكان رجلا جميلا جهيرا له سمت- فلما دخل على ابن هبيرة، قَالَ ابن هبيرة: مثل هذا فليول، ووجه به إلى مسلم، فقال له مسلم: هذا خاتمي فاعمل برأيك، فلم يزل معه حتى قدم أسد بْن عبد الله، فأراد توبة أن يشخص مع مسلم، فقال له أسد: أقم معي فأنا أحوج إليك من مسلم فأقام معه، فأحسن إلى الناس وألان جانبه، وأحسن إلى الجند وأعطاهم أرزاقهم، فقال له اسد: حلفهم بالطلاق فلا يتخلف أحد عن مغزاه، ولا يدخل بديلا، فأبى ذلك توبة فلم يحلفهم بالطلاق.
قَالَ: وكان الناس بعد توبة يحلفون الجند بتلك الايمان، فلما قدم عاصم ابن عبد الله أراد أن يحلف الناس بالطلاق فأبوا، وقالوا: نحلف بأيمان توبة، قَالَ: فهم يعرفون ذلك، يقولون: ايمان توبة.

حج هشام بن عبد الملك
وحج بالناس في هذه السنة هشام بْن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثَابِت عمن ذكره، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدي وغيره، لا خلاف بينهم في ذلك.
قَالَ الواقدي: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قَالَ: كتب الى هشام بْن عبد الملك قبل أن يدخل المدينة أن اكتب لي سنن الحج، فكتبتها له، وتلقاه أبو الزناد قَالَ أبو الزناد: فإني يومئذ في الموكب خلفه، وقد لقيه سعيد بْن عبد الله بْن الوليد بْن عثمان بْن عفان، وهشام يسير، فنزل له، فسلم عليه، ثم سار إلى جنبه، فصاح هشام: أبو الزناد! فتقدمت، فسرت إلى جنبه الآخر، فأسمع سعيدا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يزل ينعم على أهل بيت أمير المؤمنين، وينصر خليفته المظلوم، ولم يزالوا يلعنون في هذه المواطن الصالحة أبا تراب، فأمير المؤمنين ينبغي له أن يلعنه في هذه المواطن الصالحة، قَالَ: فشق على هشام، وثقل عليه كلامه، ثم قَالَ:
ما قدمنا لشتم أحد ولا للعنة، قدمنا حجاجا ثم قطع كلامه وأقبل علي فقال: يا عبد الله بْن ذكوان، فرغت مما كتبت إليك؟ فقلت: نعم، فقال أبو الزناد: وثقل على سعيد ما حضرته يتكلم به عند هشام، فرأيته منكسرا كلما رآني.
وفي هذه السنة كلم إبراهيم بْن محمد بْن طلحة هشام بْن عبد الملك- وهشام واقف قد صلى في الحجر- فقال له: أسألك بالله وبحرمة هذا البيت والبلد الذي خرجت معظما لحقه، إلا رددت علي ظلامتي! قَالَ:
أي ظلامة؟ قَالَ: داري، قَالَ: فأين كنت عن أمير المؤمنين عبد الملك؟
قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن الوليد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، قَالَ: فعن سليمان؟ قَالَ: ظلمني، قَالَ: فعن عمر بْن عبد العزيز؟ قَالَ:
يرحمه الله، ردها والله علي، قَالَ: فعن يزيد بْن عبد الملك؟ قَالَ: ظلمني والله، هو قبضها مني بعد قبضي لها، وهي في يديك قَالَ هشام: أما والله لو كان فيك ضرب لضربتك، فقال إبراهيم: في والله ضرب بالسيف والسوط.
فانصرف هشام والأبرش خلفه فقال: أبا مجاشع، كيف سمعت هذا اللسان؟
قال: ما اجود هذا اللسان! قَالَ: هذه قريش وألسنتها، ولا يزال في الناس بقايا ما رأيت مثل هذا.

وفي هذه السنة قدم خالد بْن عبد الله القسري أميرا على العراق.

ولايه اسد بن عبد الله القسرى على خراسان
وفيها استعمل خالد أخاه أسد بْن عبد الله أميرا على خراسان، فقدمها ومسلم بْن سعيد غاز بفرغانة، فذكر عن أسد أنه لما أتى النهر ليقطع، منعه الأشهب بْن عبيد التميمي أحد بني غالب، وكان على السفن بآمل، فقال له أسد: أقطعني، فقال: لا سبيل إلى إقطاعك، لأني نهيت عن ذلك، قَالَ: لاطفوه وأطعموه، فأبى، قَالَ: فإني الأمير، ففعل، فقال أسد:
اعرفوا هذا حتى نشركه في أمانتنا، فقطع النهر، فأتى السغد، فنزل مرجها، وعلى خراج سمرقند هانئ بْن هانئ، فخرج في الناس يتلقى أسدا، فأتوه بالمرج، وهو جالس على حجر، فتفاءل الناس، فقالوا: أسد على حجر! ما عند هذا خير فقال له هانئ: أقدمت أميرا فنفعل بك ما نفعل بالأمراء؟
قَالَ: نعم، قدمت أميرا ثم دعا بالغداء فتغدى بالمرج، وقال: من ينشط بالمسير وله أربعة عشر درهما- ويقال: قَالَ ثلاثة عشر درهما- وها هي في كمي؟ وإنه ليبكي ويقول: إنما أنا رجل مثلكم وركب فدخل سمرقند وبعث رجلين معهما عهد عبد الرحمن بْن نعيم على الجند، فقدم الرجلان على عبد الرحمن بْن نعيم، وهو في وادي أفشين على الساقة- وكانت الساقة على أهل سمرقند الموالي وأهل الكوفة- فسألا عن عبد الرحمن فقالوا: هو في الساقة، فأتياه بعهد وكتاب بالقفل والإذن لهم فيه، فقرأ الكتاب ثم أتى به مسلما وبعهده، فقال مسلم: سمعا وطاعه، فقام عمرو ابن هلال السدوسي- ويقال التيمى- فقنعه سوطين لما كان منه بالبروقان إلى بكر بْن وائل، وشتمه حسين بْن عثمان بْن بشر بْن المحتفز، فغضب عبد الرحمن بْن نعيم، فزجرهما ثم أغلظ لهما، وأمر بهما فدفعا، وقفل بالناس وشخص معه مسلم.
فذكر علي بْن محمد عن أصحابه، أنهم قدموا على أسد، وهو بسمرقند، فشخص أسد إلى مرو، وعزل هانئا، واستعمل على سمرقند الحسن بْن أبي العمرطة الكندي من ولد آكل المرار قَالَ: فقدمت على الحسن امرأته الجنوب ابنة القعقاع بْن الأعلم رأس الأزد، ويعقوب بْن القعقاع قاضي خراسان، فخرج يتلقاها، وغزاهم الترك، فقيل له: هؤلاء الترك قد أتوك- وكانوا سبعة آلاف- فقال: ما أتونا بل أتيناهم وغلبناهم على بلادهم واستعبدناهم، وايم الله مع هذا لأدنينكم منهم، ولأقرنن نواصي خيلكم بنواصي خيلهم.
قَالَ: ثم خرج فتباطأ حتى أغاروا وانصرفوا، فقال الناس: خرج إلى امرأته يتلقاها مسرعا، وخرج إلى العدو متباطئا فبلغه فخطبهم، فقال:
تقولون وتعيبون! اللهم اقطع آثارهم وعجل أقدارهم، وأنزل بهم الضراء وارفع عنهم السراء! فشتمه الناس في أنفسهم.
وكان خليفته حين خرج إلى الترك ثابت قطنة، فخطب الناس فحصر فقال: من يطع الله ورسوله فقد ضل، وارتج عليه، فلم ينطق بكلمة، فلما نزل عن المنبر قَالَ:

إن لم أكن فيكم خطيبا فإنني *** بسيفي إذا جد الوغى لخطيب

فقيل له: لو قلت هذا على المنبر، لكنت خطيبا، فقال حاجب الفيل اليشكري يعيره حصره:

أبا العلاء لقد لاقيت معضلة *** يوم العروبة من كرب وتخنيق
تلوي اللسان إذا رمت الكلام به *** كما هوى زلق من شاهق النيق
لما رمتك عيون الناس ضاحية *** أنشأت تجرض لما قمت بالريق
أما القران فلا تهدى لمحكمة *** من القران ولا تهدى لتوفيق

وفي هذه السنة ولد عبد الصمد بْن علي في رجب.
وكان العامل على المدينة ومكة والطائف في هذه السنة إبراهيم بْن هشام المخزومي وعلى العراق وخراسان خالد بْن عبد الله القسري، وعامل خالد على صلاة البصرة عقبة بْن عبد الأعلى، وعلى شرطتها مالك بْن المنذر بْن الجارود، وعلى قضائها ثمامة بْن عبد الله بْن أنس، وعلى خراسان أسد بْن عبد الله.