166 هـ
782 م
سنة ست وستين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمن ذلك قفول هارون بْن المهدي، ومن كان معه من خليج قسطنطينية في المحرم لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقدمت الروم بالجزية معهم، …

وذلك- فيما قيل- أربعة وستون ألف دينار عدد الرومية والفان وخمسمائة دينار عربية، وثلاثون ألف رطل مرعزى.
وفيها أخذ المهدي البيعة على قواده لهارون بعد موسى بْن المهدي، وسماه الرشيد.
وفيها عزل عبيد الله بْن الحسن عن قضاء البصرة، وولى مكانه خالد بْن طليق بْن عمران بن حصين الخزاعي، فلم تحمد ولايته، فاستعفى أهل البصرة منه.
وفيها عزل جعفر بْن سليمان عن مكة والمدينة، وما كان إليه من العمل.
وفيها سخط المهدي على يعقوب بْن داود.

ذكر الخبر عن غضب المهدي على يعقوب
ذكر علي بْن محمد النوفلي، قَالَ: سمعت أبي يذكر، قَالَ: كان داود بْن طهمان- وهو أبو يعقوب بْن داود- وإخوته كتابا لنصر بْن سيار، وقد كتب داود قبله لبعض ولاة خراسان، فلما كانت أيام يحيى بْن زيد كان يدس إليه وإلى أصحابه بما يسمع من نصر، ويحذرهم، فلما خرج أبو مسلم يطلب بدم يحيى بْن زيد ويقتل قتلته والمعينين عليه من اصحاب نصر، أتاه داود ابن طهمان مطمئنا لما كان يعلم مما جرى بينه وبينه، فآمنه أبو مسلم، ولم يعرض له في نفسه، وأخذ أمواله التي استفاد أيام نصر، وترك منازله وضيعه التي كانت له ميراثا بمرو، فلما مات داود خرج ولده أهل أدب وعلم بأيام الناس وسيرهم وأشعارهم، ونظروا فإذا ليست لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، فلما رأوا ذلك أظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن يكون لهم دولة فيعيشوا فيها.
فكان يعقوب يجول البلاد منفردا بنفسه، ومع إبراهيم بْن عبد الله أحيانا، في طلب البيعة لمحمد بْن عبد الله، فلما ظهر محمد وإبراهيم بْن عبد الله كتب على ابن داود- وكان أسن من يعقوب- لإبراهيم بْن عبد الله، وخرج يعقوب مع عدة من إخوته مع إبراهيم، فلما قتل محمد وإبراهيم تواروا من المنصور، فطلبهم، فأخذ يعقوب وعليا فحبسهما في المطبق أيام حياته، فلما توفي المنصور من عليهما المهدي فيمن من عليه بتخلية سبيله، وأطلقهما وكان معهما في المطبق إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن- وكانا لا يفارقانه- وإخوته الذين كانوا محتبسين معه، فجرت بينهم بذلك الصداقة.
وكان إسحاق بْن الفضل بْن عبد الرحمن يرى أن الخلافة قد تجوز في صالحي بني هاشم جميعا، فكان يقول: كانت الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصلح إلا في بني هاشم، وهي في هذا الدهر لا تصلح إلا فيهم، وكان يكثر في قوله للأكبر من بني عبد المطلب، وكان هو ويعقوب بْن داود يتجاريان ذلك، فلما خلى المهدي سبيل يعقوب مكث المهدي برهة من دهره يطلب عيسى بن زيد والحسن ابن إبراهيم بْن عبد الله بعد هرب الحسن من حبسه، فقال المهدي يوما: لو وجدت رجلا من الزيدية له معرفة بآل حسن وبعيسى بْن زيد، وله فقه فاجتلبه إلي على طريق الفقه، فيدخل بيني وبين آل حسن وعيسى بْن زيد! فدل على يعقوب بْن داود، فأتي به فأدخل عليه، وعليه يومئذ فرو وخفا كبل وعمامة كرابيس وكساء أبيض غليظ فكلمه وفاتحه، فوجده رجلا كاملا، فسأله عن عيسى بْن زيد، فزعم الناس أنه وعده الدخول بينه وبينه، وكان يعقوب ينتفي من ذلك، إلا أن الناس قد رموه بأن منزلته عند المهدي إنما كانت للسعاية بآل علي ولم يزل أمره يرتفع عند المهدي ويعلو حتى استوزره، وفوض إليه أمر الخلافة، فأرسل إلى الزيدية، فأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه، ولذلك يقول بشار بْن برد:

بني أمية هبوا طال نومكم *** إن الخليفة يعقوب بْن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فاطلبوا *** خليفة الله بين الدف والعود

قَالَ: فحسده موالي المهدي، فسعوا عليه.
ومما حظي به يعقوب عند المهدي، أنه استأمنه للحسن بْن إبراهيم بْن عبد الله، ودخل بينه وبينه حتى جمع بينهما بمكة قَالَ: ولما علم آل الحسن بْن علي بصنيعه استوحشوا منه، وعلم يعقوب أنه إن كانت لهم دولة لم يعش فيها، وعلم أن المهدي لا يناظره لكثرة السعاية به إليه، فمال يعقوب إلى إسحاق بْن الفضل، وأقبل يربص له الأمور وأقبلت السعايات ترد على المهدي بإسحاق حتى قيل له: إن المشرق والمغرب في يد يعقوب وأصحابه، وقد كاتبهم، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد على ميعاد، فيأخذوا الدنيا لإسحاق بْن الفضل، فكان ذلك قد ملأ قلب المهدي عليه.
قَالَ علي بْن محمد النوفلي: فذكر لي بعض خدم المهدي أنه كان قائما على رأسه يوما يذب عنه، إذ دخل يعقوب، فجثا بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين، قد عرفت اضطراب أمر مصر، وأمرتني أن ألتمس لها رجلا يجمع أمرها، فلم أزل أرتاد حتى أصبت لها رجلا يصلح لذلك قَالَ: ومن هو؟ قَالَ: ابن عمك إسحاق بْن الفضل، فرأى يعقوب في وجهه التغير، فنهض فخرج، وأتبعه المهدي طرفه، ثم قَالَ: قتلني الله إن لم أقتلك! ثم رفع رأسه إلي وقال: اكتم علي ويلك! قَالَ: ولم يزل مواليه يحرضونه عليه ويوحشونه منه، حتى عزم على إزالة النعمة عنه وقال موسى بْن إبراهيم المسعودي: قَالَ المهدي: وصف لي يعقوب بْن داود في منامي، فقيل لي أن اتخذه وزيرا فلما رآه، قَالَ: هذه والله الخلقة التي رأيتها في منامي، فاتخذه وزيرا، وحظي عنده غاية الحظوة، فمكث حينا حتى بنى عيساباذ، فأتاه خادم من خدمه- وكان حظيا عنده- فقال له: إن أحمد بْن إسماعيل بْن علي، قَالَ لي: قد بنى متنزها أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت مال المسلمين، فحفظها عن الخادم، ونسى احمد ابن إسماعيل، وتوهمها على يعقوب بْن داود، فبينا يعقوب بين يديه إذ لببه، فضرب به الأرض، فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين! قَالَ: ألست القائل: إني أنفقت على متنزه لي خمسين ألف ألف! فقال يعقوب: والله ما سمعته أذناي، ولا كتبه الكرام الكاتبون، فكان هذا أول سبب أمره.
قَالَ: وحدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود قد عرف عن المهدي خلعا واستهتارا بذكر النساء والجماع، وكان يعقوب بْن داود يصف من نفسه في ذلك شيئا كثيرا، وكذلك كان المهدي، فكانوا يخلون بالمهدي ليلا فيقولون: هو على أن يصبح فيثور بيعقوب، فإذا أصبح غدا عليه يعقوب وقد بلغه الخبر، فإذا نظر إليه تبسم، فيقول: إن عندك لخيرا! فيقول: نعم، فيقول: اقعد بحياتي فحدثني، فيقول: خلوت بجاريتي البارحة، فقالت وقلت، فيصنع لذلك حديثا، فيحدث المهدي بمثل ذلك، ويفترقان على الرضا، فيبلغ ذلك من يسعى على يعقوب، فيتعجب منه.
قَالَ: وقال لي الموصلي: قَالَ يعقوب بْن داود للمهدي في أمر أراده: هذا والله السرف، فقال: ويلك! وهل يحسن السرف إلا بأهل الشرف! ويلك يا يعقوب، لولا السرف لم يعرف المكثرون من المقترين! وقال علي بْن يعقوب بْن داود عن أبيه، قَالَ: بعث إلي المهدي يوما، فدخلت عليه، فإذا هو في مجلس مفروش بفرش مورد متناه في السرور على بستان فيه شجر، ورءوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأوراد والأزهار من الخوخ والتفاح، فكل ذلك مورد يشبه فرش المجلس الذي كان فيه، فما رأيت شيئا أحسن منه، وإذا عنده جارية ما رأيت أحسن منها، ولا أشط قواما، ولا أحسن اعتدالا، عليها نحو تلك الثياب، فما رأيت أحسن من جملة ذلك فقال لي: يا يعقوب، كيف ترى مجلسنا هذا؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به، وهنأه إياه، فقال: هو لك، احمله بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به قَالَ: فدعوت له بما يجب قَالَ: ثم قَالَ: يا يعقوب، ولي إليك حاجة، قَالَ: فوثبت قائما ثم قلت: يا أمير المؤمنين، ما هذا إلا من موجدة، وأنا أستعيذ بالله من سخط أمير المؤمنين! قَالَ: لا، ولكن أحب أن تضمن لي قضاء هذه الحاجة فإني لم أسألكها من حيث تتوهم، وإنما قلت ذلك على الحقيقة، فأحب أن تضمن لي هذه الحاجة وأن تقضيها لي، فقلت: الأمر لأمير المؤمنين وعلي السمع والطاعة، قَالَ: – والله- قلت والله ثلاثا- قَالَ: وحياة رأسي! قلت: وحياة رأسك، قَالَ: فضع يدك عليه واحلف به، قَالَ: فوضعت يدي عليه، وحلفت له به لأعملن بما قَالَ، ولأقضين حاجته قَالَ: فلما استوثق مني في نفسه، قَالَ: هذا فلان بْن فلان، من ولد علي، أحب أن تكفيني مؤونته، وتريحني منه، وتعجل ذلك قَالَ: قلت: أفعل، قَالَ: فخذه إليك، فحولته إلي، وحولت الجارية وجميع ما كان في البيت من فرش وغير ذلك، وأمر لي معه بمائة ألف درهم.
قَالَ: فحملت ذلك جملة، ومضيت به، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وبعثت إلى العلوي، فأدخلته على نفسي، وسألته عن حاله، فأخبرني بها، وبجمل منها، وإذا هو ألب الناس وأحسنهم إبانة.
قَالَ: وقال لي في بعض ما يقول: ويحك يا يعقوب! تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد! قَالَ: قلت: لا والله، فهل فيك خير؟ قَالَ: إن فعلت خيرا شكرت ولك عندي دعاء واستغفار قَالَ: فقلت له أي الطرق أحب إليك؟ قَالَ: طريق كذا وكذا، قلت: فمن هناك ممن تأنس به وتثق بموضعه؟ قَالَ: فلان وفلان، قلت: فابعث إليهما، وخذ هذا المال، وامض معهما مصاحبا في ستر الله، وموعدك وموعدهما للخروج من داري إلى موضع كذا وكذا- الذي اتفقوا عليه- في وقت كذا وكذا من الليل، وإذا الجارية قد حفظت علي قولي، فبعثت به مع خادم لها إلى المهدي، وقالت: هذا جزاؤك من الذي آثرته على نفسك، صنع وفعل كذا وكذا، حتى ساقت الحديث كله قَالَ: وبعث المهدي من وقته ذلك، فشحن تلك الطرق والمواضع التي وصفها يعقوب والعلوي برجاله، فلم يلبث ان جاءوه بالعلوي بعينه وصاحبيه والمال، على السجية التي حكتها الجارية قَالَ: وأصبحت من غد ذلك اليوم، فإذا رسول المهدي يستحضرني- قَالَ: وكنت خالي الذرع غير ملق الى امر العلوي بالا حتى أدخل على المهدي، وأجده على كرسي بيده مخصرة- فقال: يا يعقوب، ما حال الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين، قد أراحك الله منه، قَالَ: مات؟ قلت: نعم، قَالَ: والله، ثم قَالَ: قم فضع يدك على رأسي، قَالَ: فوضعت يدي على رأسه، وحلفت له به قَالَ:
فقال: يا غلام، أخرج إلينا ما في هذا البيت، قَالَ: ففتح بابه عن العلوي صاحبيه والمال بعينه قَالَ: فبقيت متحيرا، وسقط في يدي، وامتنع منى الكلام، فما أدري ما أقول! قَالَ: فقال المهدي: لقد حل لي دمك لو آثرت إراقته، ولكن احبسوه في المطبق، ولا أذكر به، فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر فدليت فيها، فكنت كذلك أطول مدة لا أعرف عدد الأيام وأصبت ببصري، وطال شعري، حتى استرسل كهيئة شعور البهائم.
قَالَ: فإني لكذلك، إذ دعي بي فمضي بي إلى حيث لا أعلم أين هو، فلم أعد أن قيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فسلمت، فقال: أي أمير المؤمنين أنا؟ قلت: المهدي، قَالَ: رحم الله المهدي، قلت: فالهادي؟ قَالَ:
رحم الله الهادي، قلت: فالرشيد؟ قَالَ: نعم، قلت: ما أشك في وقوف أمير المؤمنين على خبري وعلتي وما تناهت إليه حالي، قَالَ: أجل، كل ذلك عندي قد عرف أمير المؤمنين، فسل حاجتك، قَالَ: قلت: المقام بمكة، قَالَ: نفعل ذلك، فهل غير هذا؟ قَالَ: قلت: ما بقي في مستمتع لشيء ولإبلاغ، قَالَ: فراشدا قَالَ: فخرجت فكان وجهي إلى مكة.
قَالَ ابنه: ولم يزل بمكة فلم تطل أيامه بها حتى مات قَالَ محمد بْن عبد الله: قَالَ لي أبي: قَالَ يعقوب بْن داود: وكان المهدي لا يشرب النبيذ الا تحرجا، ولكنه كان لا يشتهيه، وكان أصحابه: عمر بْن بزيع والمعلى مولاه والمفضل ومواليه يشربون عنده بحيث يراهم، قَالَ: وكنت أعظه في سقيهم النبيذ وفي السماع، وأقول: إنه ليس على هذا استوزرتني ولا على هذا صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع، يشرب عندك النبيذ وتسمع السماع! قَالَ: فكان يقول: قد سمع عبد الله بْن جعفر، قَالَ: قلت: ليس هذا من حسناته، لو أن رجلا سمع في كل يوم كان ذلك يزيده قربة من الله أو بعدا!.
وقال محمد بْن عبد الله: حدثني أبي، قَالَ: كان أبي يعقوب بْن داود قد ألح على المهدي في حسمه عن السماع وإسقائه النبيذ حتى ضيق عليه، وكان يعقوب قد ضجر بموضعه، فتاب إلى الله مما هو فيه، واستقبل وقدم النية في تركه موضعه قَالَ: فكنت أقول للمهدي: يا أمير المؤمنين، والله لشربة خمر أشربها أتوب إلى الله منها أحب إلى مما أنا فيه، وإني لأركب إليك فأتمنى يدا خاطئة تصيبني في الطريق، فأعفني وول غيري من شئت، فإني أحب ان اسلم عليك انا وولدى، وو الله إني لأتفزع في النوم، وليتني أمور المسلمين وإعطاء الجند، وليس دنياك عوضا من آخرتي قَالَ:
فكان يقول لي: اللهم غفرا! اللهم أصلح قلبه، قَالَ: فقال شاعر له:

فدع عنك يعقوب بْن داود جانبا *** وأقبل على صهباء طيبة النشر

قَالَ عبد الله بْن عمر: وحدثني جعفر بْن أحمد بْن زيد العلوي، قَالَ:
قَالَ ابن سلام: وهب المهدي لبعض ولد يعقوب بْن داود جارية، وكان بضعف قَالَ: فلما كان بعد أيام، سأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت مثلها، ما وضعت بيني وبين الارض مطيه أوطأ منها حاشا سامع فالتفت المهدي إلى يعقوب، فقال له: من تراه يعني؟ يعنيني أو يعنيك؟ فقال له يعقوب: من كل شيء تحفظ الأحمق إلا من نفسه.
وقال علي بْن محمد النوفلي: حدثني أبي، قَالَ: كان يعقوب بْن داود يدخل على المهدي فيخلو به ليلا يحادثه ويسامره، فبينما هو ليلة عنده، وقد ذهب من الليل أكثره، خرج يعقوب من عنده، وعليه طيلسان مصبوغ هاشمي، وهو الأزرق الخفيف، وكان الطيلسان قد دق دقا شديدا فهو يتقعقع، وغلام آخذ بعنان دابة له شهباء، وقد نام الغلام، فذهب يعقوب يسوي طيلسانه فتقعقع، فنفر البرذون، ودنا منه يعقوب، فاستدبره فضربه ضربة على ساقه فكسرها، وسمع المهدي الوجبة، فخرج حافيا، فلما رأى ما به أظهر الجزع والفزع، ثم أمر به فحمل في كرسي إلى منزله، ثم غدا عليه المهدي مع الفجر، وبلغ ذلك الناس، فغدوا عليه، فعاده أياما ثلاثة متتابعة، ثم قعد عن عيادته، وأقبل يرسل إليه يسأله عن حاله، فلما فقد وجهه، تمكن السعاة من المهدي، فلم تأت عليه عاشرة حتى أظهر السخط عليه، فتركه في منزله يعالج، ونادى في اصحابه: لا يوجد أحد عليه طيلسان يعقوبي، وقلنسوة يعقوبية إلا أخذت ثيابه ثم أمر بيعقوب فحبس في سجن نصر.
قَالَ النوفلي: وأمر المهدي بعزل أصحاب يعقوب عن الولايات في الشرق والغرب، وأمر أن يؤخذ أهل بيته، وأن يحبسوا ففعل ذلك بهم.
وقال علي بْن محمد: لما حبس يعقوب بْن داود وأهل بيته، وتفرق عماله واختفوا وتشردوا، أذكر المهدي قصته وقصة إسحاق بْن الفضل، فأرسل إلى إسحاق ليلا وإلى يعقوب، فأتي به من محبسه، فقال: ألم تخبرني بأن هذا وأهل بيته يزعمون أنهم أحق بالخلافة منا أهل البيت، وأن لهم الكبر علينا! فقال له يعقوب: ما قلت لك هذا قط، قَالَ: وتكذبني وترد علي قولي! ثم دعا له بالسياط فضربه اثني عشر سوطا ضربا مبرحا، وأمر به فرد إلى الحبس.
قَالَ: وأقبل إسحاق يحلف أنه لم يقل هذا قط، وأنه ليس من شأنه وقال فيما يقول: وكيف أقول هذا يا أمير المؤمنين، وقد مات جدي في الجاهلية وابوك الباقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ووارثه! فقال: أخرجوه، فلما كان من الغد دعا بيعقوب، فعاوده الكلام الذي كلمه في ليلته، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي حتى أذكرك، أتذكر وأنت في طارمة على النهر، وأنت في البستان وأنا عندك، إذ دخل أبو الوزير- قَالَ علي: وكان أبو الوزير ختن يعقوب بْن داود على ابنة صالح بْن داود- فخبرك هذا الخبر عن إسحاق؟ قَالَ: صدقت يا يعقوب، قد ذكرت ذلك، فاستحى المهدي، واعتذر إليه من ضربه، ثم رده إلى الحبس، فمكث محبوسا أيام المهدي وأيام موسى كلها حتى أخرجه الرشيد بميله كان إليه في حياة أبيه.
وفيها خرج موسى الهادي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بْن إبراهيم.
وفيها تحول المهدي إلى عيساباذ فنزلها، وهي قصر السلامة، ونزل الناس بها معه، وضرب بها الدنانير والدراهم.
وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مدينه الرسول صلى الله عليه وسلم وبين مكة واليمن، بغالا وإبلا، ولم يقم هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بْن زهير، فولاها الفضل بْن سليمان الطوسي أبا العباس، وضم إليه معها سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بْن سعيد بْن دعلج بأمر المهدي.
وفيها أخذ داود بْن روح بْن حاتم وإسماعيل بْن سليمان بْن مجالد ومحمد ابن أبي أيوب المكي ومحمد بْن طيفور في الزندقة، فأقروا، فاستتابهم المهدي وخلى سبيلهم، وبعث بداود بْن روح إلى أبيه روح، وهو يومئذ بالبصرة عاملا عليها، فمن عليه، وأمره بتأديبه.
وفيها قدم الوضاح الشروي بعبد الله بْن أبي عبيد الله الوزير- وهو معاوية ابن عبيد الله الأشعري من أهل الشام- وكان الذي يسعى به ابن شبابة وقد رمي بالزندقة وقد ذكرنا أمره ومقتله قبل.
وفيها ولي إبراهيم بْن يحيى بْن محمد على المدينة، مدينه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الطائف ومكة عبيد الله بْن قثم.
وفيها عزل منصور بْن يزيد بْن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بْن سليمان الربعي.
وفيها خلى المهدي عبد الصمد بْن علي من حبسه الذي كان فيه.

 [أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة إبراهيم بْن يحيى بْن محمد.
وكان عامل الكوفة في هذه السنة على الصلاة وأحداثها هاشم بْن سعيد، وعلى صلاة البصرة وأحداثها روح بْن حاتم، وعلى قضائها خالد بْن طليق، وعلى كور دجلة وكسكر وأعمال البصرة والبحرين وكور الأهواز وفارس وكرمان المعلى مولى أمير المؤمنين، وعلى خراسان وسجستان الفضل بْن سليمان الطوسي، وعلى مصر إبراهيم بْن صالح، وعلى إفريقية يزيد بْن حاتم، وعلى طبرستان والرويان وجرجان يحيى الحرشي وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي، وعلى الري سعد مولى أمير المؤمنين.
ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها.