256 هـ
869 م
سنة ست وخمسين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث الجليلة)

ذكر الخبر عن وصول موسى بن بغا الى سامرا واختفاء صالح

فمن ذلك ما كان من موافاة موسى بن بغا سامرا واختفاء صالح بن وصيف لمقدمه، وحمل من كان مع موسى من قواد المهتدي من الجوسق إلى دار ياجور.
ذكر أن دخول موسى بن بغا سامرا بمن معه كان يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم من هذه السنة، فلما دخلها أخذ في الحير، وعبأ أصحابه ميمنة وميسرة وقلبا في السلاح، حتى صار إلى باب الحير مما يلي الجوسق والقصر الأحمر، وكان ذلك يوما جلس فيه المهتدي للناس للمظالم، فكان ممن أحضره في ذلك اليوم بسبب المظالم أحمد بن المتوكل بن فتيان، فكان في الدار إلى أن دخل الموالي، فحملوا المهتدي إلى دار ياجور، واتبعه أحمد بن المتوكل إلى ما هناك، فلم يزل موكلا به في مضرب مفلح إلى أن انقطع الأمر، ورد المهتدي إلى الجوسق، ثم أطلق وكان القيم بأمر دار الخلافة بايكباك، فصيرها إلى ساتكين قبل ذلك بأيام، فظن الناس أنه إنما فعل ذلك لثقته بساتكين، وأنه على أن يغلب على الدار والخليفة وقت قدوم موسى فلما كان في ذلك اليوم لزم منزله، وترك الدار خالية، وصار موسى في جيشه إلى الدار، والمهتدي جالس للمظالم، فأعلم بمكانه، فأمسك ساعة عن الإذن، ثم أذن لهم، فدخلوا فجرى من الكلام نحو ما جرى يوم قدم الوفد والرسل، فلما طال الكلام تواطنوا فيما بينهم بالتركية، وأقاموه من مجلسه، وحملوه على دابة من دواب الشاكرية، وانتهبوا ما كان في الجوسق من دواب الخاصة، ومضوا يريدون الكرخ، فلما صاروا عند باب الحير في القطائع عند دار ياجور أدخلوه دار ياجور.

فذكر عن بعض الموالي ممن حضرهم ذلك اليوم، أن سبب أخذهم المهتدي ذلك اليوم كان أن بعضهم قال لبعض: إن هذه المطاولة إنما هي حيلة عليكم حتى يكبسكم صالح بن وصيف بجيشه فخافوا ذلك، فحملوه وذهبوا به إلى الموضع الآخر، فذكر عمن سمع المهتدي يقول لموسى: ما تريد ويحك! اتق الله وخفه، فإنك تركب أمرا عظيما قال: فرد عليه موسى: إنا ما نريد إلا خيرا، ولا وتربة المتوكل لا نالك منا شر البتة.
قال الذي ذكر ذلك: فقلت في نفسي: لو أراد خيرا لحلف بتربة المعتصم أو الواثق.

ولما صاروا به إلى دار ياجور أخذوا عليه العهود والمواثيق ألا يمايل صالحا عليهم، ولا يضمر لهم إلا مثل ما يظهر، ففعل ذلك، فجددوا له البيعة ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من المحرم، وأصبحوا يوم الثلاثاء، فوجهوا إلى صالح أن يحضرهم للمناظرة، فوعدهم أن يصير إليهم.

فذكر عن بعض رؤساء الفراغنة، أنه قيل له: ما الذي تطالبون به صالح ابن وصيف؟ فقال: دماء الكتاب وأموالهم ودم المعتز وأمواله وأسبابه ثم أقبل القوم على إبرام الأمور وعسكرهم خارج باب الحير عند باب ياجور، فلما كانت ليلة الأربعاء استتر صالح، فذكر عن طلمجور أنه قال: لما كانت ليلة الأربعاء اجتمعنا عند صالح، وقد أمر أن يفرق أرزاق أصحاب النوبة عليهم، فقال لبعض من حضره: اخرج فاعرض من حضر من الناس، فكانوا بالغداه زهاء خمسة آلاف قال: فعاد إليه، وقال: يكونون ثمانمائه رجل، أكثرهم غلمانك ومواليك فأطرق مليا، ثم قام وتركنا، ولم يأمر بشيء وكان آخر العهد.

وذكر عمن سمع بختيشوع يقول وهو يعرض بصالح قبل قدوم موسى.
حركنا هذا الجيش الخشن، وأرغمناه، حتى إذا أقبل إلينا تشاغلنا بالنرد والشرب، كانا بنا وقد اختفينا إذا ورد القاطول! فكان الأمر كذلك.

وغدا طغتا إلى باب ياجور سحر يوم الأربعاء فلقيه مفلح، فضربه بطبرزين، فشجه في جانب جبينه الأيمن، فكان الذين أقاموا مع صالح الليلة التي استتر فيها من القواد الكبار طغتا بن الصيغون وطلمجور صاحب المؤيد ومحمد بن تركش وخموش والنوشري، ومن الكتاب الكبار أبو صالح عبد الله ابن محمد بن يزداد وعبد الله بن منصور وأبو الفرج وأصبح الناس يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من المحرم وقد استتر صالح، وغدا أبو صالح إلى دار ياجور، وجاء عبد الله بن منصور، فدخل الدار مع سليمان بن وهب، وتنصح إليهم أن عنده سفاتج بخمسة آلاف دينار.
وذكر أن صالحا أراده على حملها، فأبى أن يقر الأمر قراره.

وخلع في هذا اليوم على كنجور ليتولى أمر دار صالح وتفتيشها، ومضى ياجور صاحب موسى فأتى بالحسن بن مخلد من الموضع الذي كان فيه محبوسا من دار صالح.

وفي هذا اليوم من هذا الشهر ولي سليمان بن عبد الله بن طاهر مدينة السلام والسواد، ووجه إليه بخلع، وزيد على ما كان يخلع على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.

وفيه رد المهتدي إلى الجوسق، ودفع عبد الله بن محمد بن يزداد الى الحسن ابن مخلد.
وفيه اظهر النداء على صالح

ذكر الخبر عن قتل صالح بن وصيف
ولثمان بقين من صفر من هذه السنة قتل صالح بن وصيف.

ذكر الخبر عن سبب قتله وسبب الوصول إليه بعد اختفائه:
ذكر أن سبب ذلك كان أن المهتدي لما كان يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين أظهر كتابا، ذكر أن سيما الشرابي زعم أن امرأة جاءت به مما يلي القصر الأحمر، ودفعته الى كافور الخادم الموكل بالحرم، وقالت له: إن فيه نصيحة، وإن منزلي في موضع كذا فإن أردتموني فاطلبوني هناك، فأوصل الكتاب إلى المهتدي، فلما طلبت في الموضع الذي وصفت حين احتيج إلى بحثها عن الكتاب لم توجد، ولم يعرف لها خبر.

وقد ذكر أن المهتدي أصاب ذلك الكتاب، ولم يدر من رمى به، فذكر أن المهتدي دعا سليمان بن وهب بحضرة جماعه من الموالي فيهم موسى ابن بغا ومفلح وبايكباك وياجور وبكالبا وغيرهم، فدفع الكتاب إلى سليمان، وقال له: تعرف هذا الخط؟ قال: نعم، هذا خط صالح بن وصيف، فأمره أن يقرأه عليهم، فإذا صالح يذكر فيه أنه مستخف بسامرا، وأنه إنما استتر متخيرا للسلامة وإبقاء على الموالي، وخوفا من إيصال الفتن بحرب إن حدثت بينهم، وقصدا لأن يبيت القوم، ويكون ما يأتونه بعد بصيرة مما ذكر في هذا الباب.

ثم ذكر ما صار إليه من أموال الكتاب، وقال: إن علم ذلك عند الحسن ابن مخلد، وهو أحدهم، وهو في أيديكم ثم ذكر من وصل إليه ذلك المال وتولى تفريقه، وذكر ما صار إليه من أمر قبيحة، وأشار إلى أن علم ذلك عند أبي صالح بن يزداد وصالح العطار، ثم ذكر أشياء في هذا المعنى، بعضها يعتذر به وبعضها يحتج به، ومخرج القول في ذلك يدل على قوة في نفسه.

فلما فرغ سليمان من قراءة الكتاب وصله المهتدي بقول منه يحث على الصلح والهدنة والألفة والاتفاق، ويكره إليهم الفرقة والتفاني والتباغض، فدعا ذلك القوم إلى تهمته، وأنه يعلم بمكان صالح، وأنه يتقدمهم عنده، فكان بينهم في ذلك كلام كثير ومناظرات طويلة، ثم أصبحوا يوم الخميس لليلتين بقيتا من المحرم سنة ست وخمسين ومائتين، فصاروا جميعا إلى دار موسى بن بغا في داخل الجوسق يتراطنون ويتكلمون واتصل الخبر بالمهتدي.

فذكر عن أحمد بن خاقان الواثقى أنه قال: من ناحيتي انتهى الخبر إلى المهتدي، وذلك أني سمعت بعض من كان حاضر المجلس وهو يقول: أجمع القوم على خلع الرجل.

قال: فصرت إلى أخيه إبراهيم، فأعلمته بذلك، فدخل عليه فأعلمه ذلك، وحكاه عني، فلم أزل خائفا أن يعجل أمير المؤمنين فيخبرهم عني بالخبر، فرزق الله السلامة وذكر أن أخا بايكباك قال لهم في هذا المجلس لما أطلعوه على ما كانوا عزموا عليه: إنكم قتلتم ابن المتوكل، وهو حسن الوجه، سخي الكف، فاضل النفس، وتريدون أن تقتلوا هذا وهو مسلم يصوم ولا يشرب النبيذ من غير ذنب! والله لئن قتلتم هذا لألحقن بخراسان، ولأشيعن أمركم هناك.

فلما اتصل الخبر بالمهتدي خرج إلى مجلسه متقلدا سيفا، وقد لبس ثيابا نظافا، وتطيب، ثم أمر بإدخالهم إليه، فأبوا ذلك مليا، ثم دخلوا عليه، فقال لهم: أنه قد بلغني ما أنتم عليه من أمري، ولست كمن تقدمني مثل أحمد بن محمد المستعين، ولا مثل ابن قبيحة، والله ما خرجت إليكم إلا وأنا متحنط، وقد أوصيت إلى أخي بولدي، وهذا سيفي، والله لأضربن به ما استمسك قائمه بيدي، والله لئن سقط من شعري شعرة ليهلكن أو ليذهبن بها أكثركم إما دين! إما حياء! إما رعة! كم يكون هذا الخلاف على الخلفاء والإقدام والجرأة على الله! سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم ومن كان إذا بلغه مثل هذا عنكم دعا بارطال الشراب فشربها مسرورا بمكروهكم وحبا لبواركم! خبروني عنكم، هل تعلمون أنه وصل إلي من دنياكم هذه شيء! أما إنك تعلم يا بايكباك أن بعض المتصلين بك أيسر من جماعة إخوتي وولدي، وإن أحببت أن تعرف ذلك فانظر: هل ترى في منازلهم فرشا أو وصائف أو خدما أو جواري! أو لهم ضياع أو غلات! سوءة لكم! ثم تقولون: إني أعلم على صالح، وهل صالح إلا رجل من الموالي، وكواحد منكم! فكيف الإقامة معه إذا ساء رأيكم فيه! فإن آثرتم الصلح كان ذلك ما أهوى لجمعكم، وإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه فشأنكم، فاطلبوا صالحا، ثم ابلغوا شفاء أنفسكم، وأما أنا فما أعلم علمه قالوا: فاحلف لنا على ذلك قال: أما اليمين فإني أبذلها لكم، ولكني أؤخرها حتى تكون بحضرة الهاشميين والقضاة والمعدلين وأصحاب المراتب غدا إذا صليت الجمعة فكأنهم لانوا قليلا، ووجه في إحضار الهاشميين فحضروا في عشيتهم، فأذن لهم، فسلموا ولم يذكر لهم شيئا، وأمروا بالمصير إلى الدار لصلاة الجمعة، فانصرفوا، وغدا الناس يوم الجمعة ولم يحدثوا شيئا، وصلى المهتدي، وسكن الناس وانصرفوا هادنين.
وذكر عن بعض من سمع الكلام في يوم الأربعاء يقول: إن المهتدي لما خون صالح قال: إن بايكباك قد كان حاضرا ما عمل به صالح في أمر الكتاب ومال ابن قبيحة، فإن كان صالح قد أخذ من ذلك شيئا فقد أخذ مثل ذلك بايكباك، فكان ذلك الذي أحفظ بايكباك.
وقال آخر: أنه سمع هذا القول، وإنه ذكر محمد بن بغا، وقال: قد كان حاضرا وعالما بما أجروا عليه الأمر، والشريك في ذلك أجمع فأحفظ ذلك أبا نصر.
وقد قيل: إن القوم من لدن قدم موسى كانوا مضمرين هذا المعنى، منطوين على الغل، وإنما كان يمنعهم منه خوف الاضطراب وقلة الأموال، فلما ورد عليهم مال فارس والأهواز تحركوا، وكان ورود ذلك عليهم يوم الأربعاء لثلاث بقين من المحرم، ومبلغه سبعة عشر ألف الف درهم وخمسمائة الف درهم

ذكر الخبر عن خروج العامه على المهتدى
فلما كان يوم السبت انتشر الخبر في العامة أن القوم على أن يخلعوا المهتدي، ويفتكوا به، وأنهم أرادوه على ذلك، وأرهقوه، وكتبوا الرقاع وألقوها في المسجد الجامع والطرقات، فذكر بعض من زعم أنه قرأ رقعة منها فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضى المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتم النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك أحمد بن محمد بن ثوابة والحسن بن مخلد، رحم الله من أخلص النية ودعا وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم! فلما كان يوم الأربعاء لأربع خلون من صفر من هذه السنة، تحرك الموالي بالكرخ والدور، ووجهوا إلى المهتدي على لسان رجل منهم يقال له عيسى: إنا نحتاج أن نلقي إلى أمير المؤمنين شيئا، وسألوا أن يوجه أمير المؤمنين إليهم أحد إخوته، فوجه إليهم أخاه عبد الله أبا القاسم، وهو أكبر إخوته، ووجه معه محمد بن مباشر المعروف بالكرخي، فمضيا إليهم، فسألاهم عن شأنهم، فذكروا أنهم سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، وانه بلغهم ان موسى ابن بغا وبايكباك وجماعة من قوادهم يريدونه على الخلع، وأنهم يبذلون دماءهم دون ذلك، وأنهم قد قرءوا بذلك رقاعا ألقيت في المسجد والطرقات، وشكوا مع ذلك سوء حالهم، وتأخر أرزاقهم، وما صار من الإقطاعات إلى قوادهم التي قد أجحفت بالضياع والخراج، وما صار لكبرائهم من المعاون والزيادات من الرسوم القديمة مع أرزاق النساء والدخلاء الذين قد استغرقوا أكثر أموال الخراج وكثر كلامهم في ذلك، فقال لهم ابو القاسم عبد الله ابن الواثق: اكتبوا هذا في كتاب إلى أمير المؤمنين، أتولى إيصاله لكم، فكتبوا ذلك، وكاتبهم في الذي يكتبون محمد بن ثقيف الأسود، وكان يكتب لعيسى صاحب الكرخ أحيانا وانصرف أبو القاسم ومحمد بن مباشر، فأوصلا الكتاب إلى المهتدي، فكتب جوابه بخطه، وختمه بخاتمه، وغدا أبو القاسم إلى الكرخ، فوافاهم فصاروا به إلى دار أشناس وقد صيروها مسجدا جامعا لهم، فوقف ووقفوا له في الرحبة، واجتمع منهم زهاء مائة وخمسين فارسا ونحو من خمسمائة راجل، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقال: يقول لكم أمير المؤمنين: هذا كتابي إليكم بخطي وخاتمي، فاسمعوه وتدبروه، ثم دفع الكتاب إلى كاتبهم فقرأه، فإذا فِيهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحمد لله، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما كثيرا، أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم وليا وحافظا فهمت كتابكم، وسرني ما ذكرتم من طاعتكم وما أنتم عليه، فأحسن الله جزاءكم، وتولى حياطتكم، فأما ما ذكرتم من خلتكم وحاجتكم، فعزيز علي ذلك فيكم، ولوددت والله أن صلاحكم يهيأ بألا آكل ولا أطعم ولدي وأهلي إلا القوت الذي لا شبع دونه، ولا ألبس أحدا من ولدي إلا ما ستر العورة، ولا والله- حاطكم الله- ما صار إلي منذ تقلدت أمركم لنفسي وأهلي وولدي ومتقدمي غلماني وحشمي إلا خمسة عشر ألف دينار، وأنتم تقفون على ما ورد ويرد، كل ذلك مصروف إليكم، غير مدخر عنكم وأما ما ذكرتم مما بلغكم، وقرأتم به الرقاع التي ألقيت في المساجد والطرق، وما بذلتم من أنفسكم، فأنتم أهل ذلك وأين تعتذرون مما ذكرتم ونحن وأنتم نفس واحدة! فجزاكم الله عن أنفسكم وعهودكم وأمانتكم خيرا وليس الأمر كما بلغكم، فعلى ذلك فليكن عملكم إن شاء الله وأما ما ذكرتم من الإقطاعات والمعاون وغيرها، فأنا أنظر في ذلك وأصير منه إلى محبتكم إن شاء الله والسلام عليكم أرشدنا الله وإياكم، وكان لنا ولكم حافظا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
فلما بلغ القارئ من الكتاب إلى الموضع الذي قال: ولم يصل إلي إلا قدر خمسة عشر ألف دينار، أشار أبو القاسم إلى القارئ، فسكت ثم قال:
وهذا ما قدر، هذا قد كان أمير المؤمنين في أيام إمارته يستحق في أقل من هذه المدة ما هو أكثر منه بأرزاقه وإنزاله ومعونته، وقد تعلمون ما كان من تقدمه يصرفه في صلات المخنثين والمغنين وأصحاب الملاهي وبناء القصور وغير ذلك، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم قرأ الكتاب حتى أتى على الكتاب فلما فرغ كثر الكلام وقالوا قولا، فقال لهم أبو القاسم: اكتبوا بذلك كتابا صدروه على مجاري الكتب إلى الخلفاء، واكتبوه عن القواد وخلفائهم والعرفاء بالكرخ والدور وسامرا فكتبوا- بعد أن دعوا الله فيه لأمير المؤمنين:
إن الذي يسألون، أن ترد الأمور إلى أمير المؤمنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه معترض، وأن ترد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله، وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها، وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل، وأن تبطل الإقطاعات، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء وذكروا أنهم صائرون في أثر كتابهم إلى باب أمير المؤمنين، ومقيمون هناك إلى أن تقضى حوائجهم وأنه إن بلغهم أن أحدا اعترض أمير المؤمنين في شيء من الأمور أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا به موسى بن بغا وبايكباك ومفلحا وياجور وبكالبا وغيرهم.
ودعوا الله لأمير المؤمنين ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم فانصرف به حتى أوصله، وتحرك الموالي بسامرا، واضطرب القواد جدا، وقد كان المهتدي قعد للمظالم وأدخل الفقهاء والقضاة، وأخذوا مجالسهم، وقام القواد في مراتبهم، وسبق دخول أبي القاسم دخول المتظلمين.
فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة، وخلا بموسى بن بغا، ثم أمر سليمان بن وهب أن يوقع في رقعتهم بإجابتهم إلى ما سألوا، فلما فعل ذلك في فصل من الكتاب أو فصلين، قال أبو القاسم: يا أمير المؤمنين، لا يقنعهم إلا خط أمير المؤمنين وتوقيعه، فأخذ المهتدي كتابهم فضرب على ما كان سليمان وقع في ذلك، ووقع في كل باب بإجابتهم إلى ما سألوا، وبأن يفعل ذلك ثم كتب كتابا مفردا بخطه وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أبي القاسم، فقال أبو القاسم لموسى وبايكباك ومحمد بن بغا: وجهوا إليهم معي رسلا يعتذرون إليهم مما بلغهم عنكم فوجه كل واحد منهم رجلا، وصار أبو القاسم إليهم وهم في مواضعهم، وقد صاروا زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل، وذلك.
في وقت الظهر من يوم الخميس لخمس ليال خلون من صفر من هذه السنة، فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام، وقال لهم: إن أمير المؤمنين، قد أجابكم إلى كل ما سألتم، فادعوا الله لأمير المؤمنين ثم دفع كتابهم الى كاتبهم، فقراه عليهم بما فيه من التوقيعات، ثم قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم، أرشدكم الله وحاطكم، وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم فهمت كتابكم، وقرأته على رؤسائكم، فذكروا مثل الذي ذكرتم، وسألوا مثل الذي سألتم، وقد أجبتكم إلى جميع ما سألتم محبة لصلاحكم وألفتكم واجتماع كلمتكم، وقد أمرت بتقرير أرزاقكم، وأن تصير دارة عليكم، فليست لكم حاجة إلى حركة، فطيبوا نفسا، والسلام أرشدكم الله وحاطكم وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم! فلما فرغ القارئ من الكتاب، قال لهم ابو القاسم: وهؤلاء رسل رؤسائكم يعتذرون إليكم من شيء إن كان بلغكم عنهم، وهم يقولون: إنما أنتم إخوة، وأنتم منا وإلينا.
وتكلم الرسل بمثل ذلك، فتكلموا أيضا كلاما كثيرا، ثم كتبوا كتابا يعتذرون فيه بمثل العذر الأول إلى أمير المؤمنين، وذكروا فيه خصالا مما ذكروه في الكتاب الذي قبله، ووصفوا أنه لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات، توقيعا بحط الزيادات، وتوقيعا برد الإقطاعات، وتوقيعا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى عداد البرانيين، وتوقيعا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعا برد التلاجئ حتى يدفعوها إلى رجل يضمون إليه خمسين رجلا من أهل الدور، وخمسين رجلا من أهل سامرا ينتجزون من الدواوين، ثم يصير أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليسفر بينه وبينهم بأمورهم، ولا يكون رجلا من الموالي، وأن يؤمر صالح بن وصيف فيحاسب هو وموسى بن بغا على ما عندهم من الأموال، وأنه لا يرضيهم دون ما سألوا في كتبهم كلها مع تعجيل العطاء، وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين، وأنهم قد كتبوا إلى أهل سامرا والمغاربة في موافاتهم، وأنهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين لينجز ذلك لهم، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم أخي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابا آخر إلى موسى بن بغا وبايكباك ومحمد بن بغا ومفلح وياجور وبكالبا وغيرهم من القواد الذين ذكروا أنهم كتبوا كتابا، ذكروا فيه أنهم قد كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا، وأن أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك وخالفوهم لم يوافقوهم على شيء، وأن أمير المؤمنين إن شاكته شوكة أو أخذ من رأسه شعرة، أخذوا رءوسهم جميعا، وأنه ليس يقنعهم إلا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى ابن بغا، حتى ينظر أين موضع الأموال، فإن صالحا قد كان وعدهم قبل استتاره أن يعطيهم أرزاق ستة أشهر.
ثم دفعوا هذا الكتاب إلى رسول موسى، ووجهوا مع أبي القاسم عدة نفر منهم، ليوصلوا إلى أمير المؤمنين كتابهم، وليستمعوا كلامه.
فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوقفوا على باب الحير بين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه- وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب- فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتابا من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم فركبوا جميعا وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعدا على لبد، قد صلى المكتوبة، وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا مليا ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفعه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى، فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فِيهِ: بسم الله الرحمن الرحيم وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه فهمت كتابكم حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله وأما ما سألتم من تصيير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل الى أخباركم، ويؤدى الى حوائجكم، فو الله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله، فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم، فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم، وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم.
واما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون، فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعا، نسأله مثل الذي سألتم وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفويض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنون، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده، وما نعترض عليه في شيء من الأمور أصلا وأما ما ذكرتم أنا نريد بامير المؤمنين سوءا، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى امير المؤمنين ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر الف وخمسمائة رجل، حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخو المهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار الى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل، وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات، فلما صار بينهم أخرج كتابا من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجه التوقيعات فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير، فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أمير المؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة، وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، ويوفر علينا أرزاقنا، فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولي علينا أمير المؤمنين إخوته، فيكون واحد بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحدا من الموالي يكون علينا رأسا وطائفة تقول: نريد أن يظهر صالح بن وصيف- وهي الأقل.
فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدي بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه، فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صير الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى ابو القاسم ومحمد ابن بغا حتى خالطا القوم، وأحاط الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقيعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ فيه الغاية، وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور وقرأ عليهم أمانا لصالح، بأن موسى وبايكباك سألا أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام اجتماعكم! فأكثروا الكلام، فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده، الى ان يظهر صالح ابن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتتنجز لهم الأرزاق بما في التوقيعات. فقال: نعم فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا، وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة، رجالة أصحاب صالح بن وصيف، ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أم ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟
فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئا إلا: إنا نريد صالحا، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور. فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحا مني، كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه.
وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتحلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين، فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع، فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضا وعدوا لا يلوي فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعا، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين ثم خرجوا، فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق، فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم- وهو يوم السبت- أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات.
وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحا مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحا.
وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم، أن أكثر من كان راكبا مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة، فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق، ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهرا بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق، فقد حلت به العقوبة الموجعة.
وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك، فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحا وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه، فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح أحد منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح، وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه.
وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف- وهو الذي كان جمع تلك الجموع- يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلا به قبل ذلك وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد ابن سلم بن قتيبة وأبو بكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم.
فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال:
حدثني صاحب ربع القبة- وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف- قال:
بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعورا، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه، ففاتنا، فلم نلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا، وأخرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل دارا في الزقاق يطلب ماء ليشربه قال: فسمع قائلا يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلاما قد جاء يطلب ماء، فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العيار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهجم عليه فأخرجه.
وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتا، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه، فإذا هو قد لجأ إلى زاوية، فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على التضرع شيئا قال: فلما تضرع إلي قلت:
ليس إلى تركك سبيل، ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك، فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه.
فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف.
وقيل أنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه، حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا، فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع، ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كاد يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي، فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دما، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدى صلاته، وخبروه انهم قتلوا صالحا، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه، وأخذ في تسبيحه ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم.
فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعا، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه.
فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحا وقد نظر إلى رأس بغا، فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك، فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان.
فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل قال: وهنأت بايكباك بذلك، فقال: ما لي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف:

ونلت وترك من فرعون حين طغى *** وجئت إذ جئت يا موسى على قدر
ثلاثة كلهم باغ أخو حسد *** يرميك بالظلم والعدوان عن وتر
وصيف بالكرخ ممثول به وبغا *** بالجسر محترق بالجمر والشرر
وصالح بن وصيف بعد منعفر *** في الحير جيفته، والروح في سقر

وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق.
وفي جمادى الأولى أيضا منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله.
وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم، فلما لم يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاؤهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم، وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون انهم فوق الجبل ففاتوهم.

ذكر الخبر عن خلع المهتدى ثم موته
وفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.

ذكر الخبر عن سبب خلعه ووفاته:
ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم، فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس عليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم، وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير، وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذ استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان.
واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى موسى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحا، أو يحملهما إليه مقيدين فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا، وإنما هذا تدبير علينا جميعا، وإذا فعل بك اليوم شيء فعل بي غدا مثله، فما ترى؟
قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره على موسى ومفلح، فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله.
فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري، فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحا، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشا مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شيء في بعض الأمر، فما انتصفت منه، ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوي أمرك، وقد بقي موسى في أقل العدد قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله دارا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه، حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج إلى مناظرتك فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث، فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال:
ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، أنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنا عند أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه، فما كان إلا أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخذه ربا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا، فأنت أشد من المنصور إقداما، وأشجع قلبا فأمر المهتدي الكرخي- واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدادا بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع الى المهدى ببغداد فوثق به ولزمه- فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك، فأمر المهتدي عتاب بن عتاب القائد أن يرميهم برأسه فأخذ عتاب الرأس، فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شد رجل منهم على عتاب، فقتله، فوجه المهتدي إلى الفراغنه والمغاربه والاوكشبيه والأشروسنية والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قاتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف، وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة ثم تتام القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحدا، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة، مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي، والمصحف في عنقه، يدعو الناس إلى أن ينصروا خليفتهم فلما التحم الشر مال الأتراك الذين مع المهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفراغنة والمغاربة ومن خف معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حران موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزما، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم، حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك، وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو دارا وينزل أخرى ويهرب فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمي بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاقان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائسا حتى صار به إلى داره، فدخلوا عليه، فجعلوا يصفعونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثى، فاقر لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحه مغنيه، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار، ودفعوه إلى رجل، فوطئ على خصييه حتى قتله وقال بعضهم: كان السبب وأول الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك، وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صار إلى قنطرة في ناحية الوزيرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح، فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعا، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدى بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكبا وراجلا في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراغنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل من الفراغنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس، فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوخ، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم.
وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك، أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين لليلة خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أبا نصر محمد بن بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للموالي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب اليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فيها الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنمكاتكين، ووصل الآخران إليه مع فرج الصغير، فوثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلع، فأفرد أبو نصر عنهم، فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمي به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب، ومضي به إلى منزله وقد أراح، فاشترى له ثلاثمائة مثقال مسك وستمائه مثقال كافور، وصير عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهما فاجتمع له من الفريقين وأخدانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك المعروف بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من حبس من هؤلاء عبد الله بن تكين.
وبلغ موسى ومفلحا وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم.
وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعة متوقعا ورود القوم عليه، فلم يأت أحد فلما كان يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح، ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوخ وأساتكين وعلي بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟
ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت- ولم يكن بينهم حرب- فرجع، وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربه والاتراك البرانيين والفراغنة فصير على الميمنة مسرورا البلخي، وعلى الميسرة يارجوخ، والمهتدي في القلب مع أساتكين وطبايغوا وغيرهما من القواد.
فلما حميت الشمس، قرب القوم بعضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه- وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه- فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطفت الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين.
فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنسانا، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواثق، حتى خرج الى الباب العامة، وهو ينادي: يا معشر الناس، أنا أمير المؤمنين، قاتلوا عن خليفتكم فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشارع وينادي، فلم يرهم ينصرونه، فصار إلى باب السجن، فاطلق من فيه، وهو يظن انهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه احد فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل، فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند احمد بن خاقان، وانتهب دار احمد ابن جميل.
وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي- فيما قيل- في الوقعة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأرادوه على الخلع فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: أنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد، أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم، ولا يهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا. فاستحلوا بذلك نقض أمره.
وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة، إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لعشر بقين من رجب، فسلم على المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس.
وقال بعضهم- وذكر أنه كان شاهدا أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعا، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم، فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا فانصرف منهم عبد الله، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريبا من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا فلما تناهى ظهر إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعا من الدار مما يلي باب النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفه كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخان شاه، ودخل الموالي مما يلى باب القصر الأحمر، فملئوا الدار زهاء أربعة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم.
وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويضم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان، وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدى محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك، حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولا، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم، فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم، فإن كنتم تظنون أنكم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر فأبوا إلا ما سألوه أولا، فدعوا إلى إيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء الف رجل وعيسى بن فرخان شاه الذى تجرى على يده الأمور، ومقامه مقام الوزير ثم كتبوا إلى أبي نصر كتابا عن أنفسهم، كتبه لهم عيسى بن فرخان شاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم، فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقعد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد، ما عندك فيما يقول الموالي؟ قال: وما يقولون؟ قال: يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم فقال محمد: يا أمير المؤمنين، وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت علي يدي أعمال فقال له: فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماعة منهم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيف، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضرا يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت خطوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحد إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتا كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في هذا نظرا ثم أمر فأعطي قميصا من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس.
فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم امر عبد الله ابن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم، وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد بن داود وولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم.
ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: أنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها ثم إنهم أرادوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتابا، وكتبا إلى بعض القواد في تسلم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا، فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه، وإلا شدوهما وثاقا، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلا منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجرى على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولي لتفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور.
ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلا، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل، منهم كوتكين وخشنج.
ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين.
والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم، فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم فوصلوا جميعا إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك، فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام.
ثم إن الموالي اعترضوه، فأدخلوه حجرة في الدار، وأغلقوا عليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراغنة، وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم، فما يكره أمير المؤمنين قربكم، وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزا عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر فذكر الفراغنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم وأرادوا المهتدي على الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراغنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا اقل من الف، وهم اصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجعوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كمينا، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضربا وطعنا ورميا.
ثم وقعت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم الى نفسه، ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته، فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين، فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم، فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيها أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه، وكانت به طعنة في وركه، فطلب قميصا وسراويل، فأعطاه أحمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلا، حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى، فصعد على درجة في الدار، ودخل القوم، وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدرجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت، فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق فيه شيء، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان- وكان محبوسا في الجوسق- وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئا، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يجبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.

وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة.
فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخلع نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات.
وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجيء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلما قبل خلافهم، فقال له: يا محمد، إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف وينصرف، قال: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله! موسى عبدك وفي طاعتك، وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه، وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبدا، اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره قال: دع هذا عنك، فإن أخاك ما صنع شيئا أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته منذ وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم ثم جاء المهتدي بالفراغنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفيء، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشتري لهم، وأجرى على كل رجل منهم في كل يوم درهمين، وأطعموا في بعض أيامهم الخبز واللحم وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه وتكلم صالح بن يعقوب ابن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح.
ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحا، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات، وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال:

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه *** وقد حيل بين العير والنزوان

وقيل إن محمد بن بغا لم يحدثوا في أمره يوم حبس شيئا، وطالبوه بالأموال، فدفع إليهم نيفا وعشرين ألف دينار، ثم قتلوه بعد، بعجوا بطنه، وعصروا حلقه، وألقي في بئر من القناة، فلم يزل هنالك حتى أخرجه الموالي بعد أسرهم المهتدي بيوم، فدفن.
وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحد عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، وعمره كله ثمان وثلاثون سنة وكان رحب الجبهه، اجلح، جهم الوجه، اشهل، عظيم البطن، عريض المنكبين، قصيرا، طويل اللحية.
وكان ولد بالقاطول.

ذكر اخبار صاحب الزنج مع جعلان
وفي هذه السنة وافى جعلان البصرة لحرب صاحب الزنج.

ذكر الخبر عما كان من أمرهما هنالك:
ذكر أن جعلان لما صار إلى البصرة زحف بعسكره منها، حتى صار بينه وبين عسكر صاحب الزنج فرسخ، فخندق على نفسه ومن معه، فأقام ستة أشهر في خندقه، فوجه الزينبي وبريه وبنو هاشم ومن خف لحرب الخبيث من أهل البصرة في اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلما التقوا لم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا لضيق الموضع بما فيه من النخل والدغل عن مجال الخيل، وأصحابه أكثرهم فرسان.
فذكر عن محمد بن الحسن أن صاحب الزنج قال: لما طال مقام جعلان في خندقه، رأيت أن أخفي له من أصحابي جماعة يأخذون عليه مسالك الخندق، ويبيتونه فيه، ففعل ذلك، وبيته في خندقه، فقتل جماعة من رجاله، وريع الباقون روعا شديدا فترك جعلان عسكره ذلك، وانصرف إلى البصرة، وقد كان الزينبي قبل بيات الخبيث جعلان جمع مقاتلة البلالية والسعدية، ثم وجه لهم من ناحية نهر نافذ وناحيه هزار در، فواقعوه من وجهين، ولقيهم الزنج، فلم يثبتوا لهم، وقهرهم الزنج، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانصرفوا مفلولين، وانحاز جعلان إلى البصرة، فأقام بها وظهر عجزه للسلطان.
وفيها صرف جعلان عن حرب الخبيث، وأمر سعيد الحاجب بالشخوص إليها لحربه.
وفيها تحول صاحب الزنج من السبخة التي كان ينزلها إلى الجانب الغربي من النهر المعروف بأبي الخصيب.
وفيها أخذ صاحب الزنج- فيما ذكر- أربعة وعشرين مركبا من مراكب البحر، كانت اجتمعت تريد البصرة، فلما انتهى إلى أصحابها خبره وخبر من معه من الزنج وقطعهم السبيل، اجتمعت آراؤهم على أن يشدوا مراكبهم بعضها إلى بعض، حتى تصير كالجزيرة، يتصل أولها بآخرها، ثم يسيروا بها في دجلة فاتصل به خبرها، فندب إليها أصحابه، وحرضهم عليها، وقال لهم: هذه الغنيمة الباردة.
قال أبو الحسن: فسمعت صاحب الزنج يقول: لما بلغني قرب المراكب مني نهضت للصلاة، وأخذت في الدعاء والتضرع، فخوطبت بان قيل لي:
قد اطلك فتح عظيم، والتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب، فنهض أصحابي إليها في الجريبيات، فلم يلبثوا أن حووها وقتلوا مقاتلتها، وسبوا ما فيها من الرقيق، وغنموا منها أموالا عظاما لا تحصى ولا يعرف قدرها، فأنهب ذلك أصحابه ثلاثة أيام، ثم أمر بما بقي فحيز له.

ذكر الخبر عن دخول الزنج الأبله
ولخمس بقين من رجب من هذه السنة، دخل الزنج الأبلة، فقتلوا بها خلقا كثيرا وأحرقوها.

ذكر الخبر عنها وعن سبب الوصول إليها:
ذكر أن صاحب الزنج لما تنحى جعلان عن خندقه بشاطئ عثمان الذي كان فيه، وانحاز إلى البصرة ألح بالسرايا على أهل الأبلة، فجعل يحاربهم من ناحية شاطئ عثمان بالرجالة، وبما خف له من السفن من ناحية دجلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل.
فذكر عن صاحب الزنج، أنه قال: ميلت بين عبادان والأبلة، فملت إلى التوجه إلى عبادان، وندبت الرجالة لذلك، فقيل لي: إن أقرب العدو دارا، وأولاه بألا تتشاغل بغيره عنه أهل الأبلة، فرددت الجيش الذي كنت سيرت نحو عبادان إلى الأبلة فلم يزالوا يحاربون أهل الأبلة إلى ليلة الأربعاء لخمس بقين من رجب سنة ست وخمسين ومائتين فلما كان في هذه الليلة اقتحمها الزنج مما يلي دجلة ونهر الأبلة، فقتل بها أبو الأحوص وابنه، وأضرمت نارا، وكانت مبنية بالساج محفوفة بناء متكاثفا فأسرعت فيها النار، ونشأت ريح عاصف، فأطارت شرر ذلك الحريق حتى وصلت بشاطئ عثمان، فاحترق وقتل بالأبلة خلق كثير، وغرق خلق كثير، وحويت الأسلاب، فكان ما احترق من الأمتعة أكثر مما انتهب.
وقتل في هذه الليلة عبد الله بن حميد الطوسي وابن له، كانا في شذاة بنهر معقل مع نصير المعروف بابى حمزه.

ذكر خبر استيلاء صاحب الزنج على عبادان
وفيها استسلم أهل عبادان لصاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.

ذكر الخبر عن السبب الذي دعاهم إلى ذلك:
ذكر أن السبب في ذلك أن الخبيث لما فعل أصحابه من الزنج بأهل الأبلة ما فعلوا، ضعفت قلوبهم، وخافوهم على أنفسهم وحرمهم، فأعطوا بأيديهم، وسلموا إليه بلدهم، فدخلها أصحابه، فأخذوا من كان فيها من العبيد، وحملوا ما كان فيها من السلاح اليه، ففرقه عليهم.

ذكر خبر دخول اصحاب صاحب الزنج الاهواز
وفيها دخل أصحابه الأهواز وأسروا إبراهيم بن المدبر.

ذكر الخبر عن سبب ذلك:
وكان الخبيث لما أوقع أصحابه بالأبلة وفعلوا بها ما فعلوا، واستسلم له أهل عبادان، فأخذ مماليكهم، فضمهم إلى أصحابه من الزنج، وفرق بينهم ما أخذ من السلاح الذي كان بها، طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحو جبي، فلم يثبت لهم أهلها، وهربوا منهم، فدخلوا، فقتلوا وأحرقوا، ونهبوا وأخربوا ما وراءها، حتى وافوا الأهواز، وبها يومئذ سعيد بن يكسين وال وإليه حربها، وإبراهيم بن محمد بن المدبر وإليه الخراج والضياع، فهرب الناس منهم أيضا فلم يقاتلهم كثير أحد، وانحاز سعيد ابن تكسين فيمن كان معه من الجند، وثبت إبراهيم بن المدبر فيمن كان معه من غلمانه وخدمه، فدخلوا المدينة، فاحتووها، وأسروا إبراهيم بن محمد بعد أن ضرب ضربة على وجهه، وحووا كل ما كان يملك من مال وأثاث ورقيق، وذلك يَوْمَ الاثْنَيْنِ لاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شهر رمضان سنة ست وخمسين ومائتين.
ولما كان من أمره ما كان بالأهواز بعد الذي كان منه بالأبلة، رعب أهل البصرة رعبا شديدا، فانتقل كثير من أهلها عنها، وتفرقوا في بلدان شتى، وكثرت الأراجيف من عوامها.
وفي ذي الحجة من هذه السنة وجه صاحب الزنج إلى شاهين بن بسطام جيشا عليهم يحيى بن محمد البحراني لحربه، فلم ينل يحيى من شاهين ما أمل وانصرف عنه.
وفي رجب من هذه السنة وافى البصرة سعيد بن صالح المعروف بالحاجب من قبل السلطان لحرب صاحب الزنج.
وفيها كانت بين موسى بن بغا الذين كان توجهوا معه إلى ناحية الجبل مخالفين لمحمد بن الواثق وبين مساور بن عبد الحميد الشاري وقعة بناحية خانقين ومساور في جمع كثير وموسى وأصحابه في مائتين، فهزموا مساورا وقتلوا من أصحابه جماعة كثيره.

خلافة المعتمد على الله
وفيها بويع أحمد بن ابى جعفر المعروف بابن فتيان، وسمي المعتمد على الله، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة بقيت من رجب.
وفيها بعث إلى موسى بن بغا وهو بخانقين بموت محمد بن الواثق وبيعة المعتمد، فوافى سامرا لعشر بقين من رجب.
ولليلتين خلتا من شعبان، ولى الوزارة عبيد الله بن يحيى بن خاقان وفيها ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه إليه الشاه بن ميكال في عسكر كثيف، فلقيه علي بن زيد في أصحابه، فهزمه وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه 4 وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، وهو من أهل فارس، ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث بالحارث بن سيما الشرابي عامل فارس، فحارباه، فقتل الحارث، وغلب محمد بن واصل على فارس وفيها وجه مفلح لحرب مساور الشاري وكنجور لحرب علي بن زيد الطالبي بالكوفة وفيها غلب جيش الحسن بن زيد الطالبي على الري، في شهر رمضان منها.
وفيها شخص موسى بن بغا- لإحدىعشرة ليلة خلت من شوال منها- من سامرا إلى الري، وشيعه المعتمد.
وفيها كانت بين أماجور وابن لعيسى بن الشيخ على باب دمشق وقعة، فسمعت من ذكر أنه حضر أماجور، وقد خرج في اليوم الذي كانت فيه هذه الوقعة من مدينة دمشق مرتادا لنفسه عسكرا وابن عيسى بن الشيخ وقائد لعيسى يقال له أبو الصهباء في عسكر لهما بالقرب من مدينة دمشق، فاتصل بهما خبر خروج أماجور، وأنه خرج في نفر من أصحابه يسير، فطمعا فيه، فزحفا بمن معهما إليه، ولا يعلم أماجور بزحوفهما إليه حتى لقياه، والتحمت الحرب بين الفريقين، فقتل أبو الصهباء، وهزم الجمع الذي كان معه ومع ابن عيسى، ولقد سمعت من يذكر أن عيسى وأبا الصهباء كانا يومئذ في زهاء عشرين ألفا من رجالهما، وأن اماجور في مقدار مائتين الى أربعمائة.
وفي يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذي الحجه منها قدم ابو احمد ابن المتوكل من مكة إلى سامرا.
وفيها وجه إلى عيسى بن الشيخ إسماعيل بن عبد الله المروزي المعروف بأبي النصر ومحمد بن عبيد الله الكريزي القاضي والحسين الخادم المعروف بعرق الموت، بولاية أرمينية، على أن ينصرف عن الشام آمنا، فقبل ذلك وشخص عن الشام إليها.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن أحمد بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.