136 هـ
753 م
سنة ست وثلاثين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر قدوم ابى مسلم على ابى العباس، ففي هذه السنة قدم أبو مسلم العراق من خراسان على أبي العباس أمير المؤمنين …

ذكر الخبر عن قدومه عليه وما كان من امره في ذلك:
ذكر علي بْن محمد أن الهيثم بْن عدي أخبره والوليد بْن هشام، عن أبيه، قالا: لم يزل أبو مسلم مقيما بخراسان، حتى كتب إلى أبي العباس يستأذنه في القدوم عليه، فأجابه إلى ذلك، فقدم على أبي العباس في جماعة من أهل خراسان عظيمة ومن تبعه من غيرهم من الأنبار، فأمر أبو العباس الناس يتلقونه، فتلقاه الناس، وأقبل إلى أبي العباس، فدخل عليه فأعظمه وأكرمه، ثم استأذن أبا العباس في الحج فقال: لولا أن أبا جعفر يحج لاستعملتك على الموسم وأنزله قريبا منه، فكان يأتيه في كل يوم يسلم عليه، وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعدا، لأن أبا العباس كان بعث أبا جعفر إلى أبي مسلم وهو بنيسابور، بعد ما صفت له الأمور بعهده على خراسان وبالبيعة لأبي العباس ولأبي جعفر من بعده، فبايع له أبو مسلم وأهل خراسان وأقام أبو جعفر أياما حتى فرغ من البيعة، ثم انصرف وكان أبو مسلم قد استخف بأبي جعفر في مقدمه ذلك، فلما قدم على أبي العباس أخبره بما كان من استخفافه به.
قَالَ علي: قَالَ الوليد عن أبيه: لما قدم أبو مسلم على أبي العباس، قَالَ أبو جعفر لأبي العباس: يا أمير المؤمنين، أطعني واقتل أبا مسلم، فو الله إن في رأسه لغدرة، فقال: يا أخي، قد عرفت بلاءه وما كان منه، فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنورا لقام مقامه وبلغ ما بلغ في هذه الدولة فقال له أبو العباس: فكيف نقتله؟
قَالَ: إذا دخل عليك وحادثته وأقبل عليك دخلت فتغفلته فضربته من خلفه ضربة أتيت بها على نفسه، فقال أبو العباس: فكيف بأصحابه الذين يؤثرونه على دينهم ودنياهم؟ قَالَ: يئول ذلك كله إلى ما تريد، ولو علموا أنه قد قتل تفرقوا وذلوا، قَالَ: عزمت عليك إلا كففت عن هذا، قَالَ: أخاف والله ان لم تتغده اليوم يتعشاك غدا، قَالَ: فدونكه، أنت أعلم.
قَالَ: فخرج أبو جعفر من عنده عازما على ذلك، فندم أبو العباس وأرسل إلى أبي جعفر: لا تفعل ذلك الأمر.
وقيل: إن أبا العباس لما أذن لأبي جعفر في قتل أبي مسلم، دخل أبو مسلم على أبي العباس، فبعث أبو العباس خصيا له، فقال: اذهب فانظر ما يصنع أبو جعفر، فأتاه فوجده محتبيا بسيفه، فقال للخصي: أجالس أمير المؤمنين؟
فقال له: قد تهيأ للجلوس، ثم رجع الخصي إلى أبي العباس فأخبره بما رأى منه، فرده إلى أبي جعفر وقال له: قل له الأمر الذي عزمت عليه لا تنفذه فكف ابو جعفر

حج ابى جعفر المنصور وابى مسلم
وفي هذه السنة حج أبو جعفر المنصور وحج معه أبو مسلم.
ذكر الخبر عن مسيرهما وعن وصفه مقدمهما على أبي العباس: أما أبو مسلم فإنه – فيما ذكر عنه – لما أراد القدوم على أبي العباس، كتب يستأذنه في القدوم للحج، فأذن له، وكتب إليه أن أقدم في خمسمائة من الجند، فكتب إليه أبو مسلم: إني قد وترت الناس ولست آمن على نفسي فكتب إليه أن أقبل في ألف، فإنما أنت في سلطان أهلك ودولتك، وطريق مكة لا تحتمل العسكر، فشخص في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري، وجمع أيضا أموال الجبل، وشخص منها في ألف وأقبل، فلما أراد الدخول تلقاه القواد وسائر الناس، ثم استأذن أبا العباس في الحج، فأذن له، وقال: لولا أن أبا جعفر حاج لوليتك الموسم.
وأما أبو جعفر فإنه كان أميرا على الجزيرة، وكان الواقدي، يقول: كان إليه مع الجزيرة أرمينية وأذربيجان، فاستخلف على عمله مقاتل بْن حكيم العكي، وقدم على أبي العباس فاستأذنه في الحج، فذكر علي بْن محمد عن الوليد بْن هشام عن أبيه أن أبا جعفر سار إلى مكة حاجا، وحج معه أبو مسلم سنة ست وثلاثين ومائة، فلما انقضى الموسم أقبل أبو جعفر وأبو مسلم، فلما كان بين البستان وذات عرق أتى أبا جعفر كتاب بموت أبي العباس، وكان أبو جعفر قد تقدم أبا مسلم بمرحلة، فكتب إلى أبي مسلم: إنه قد حدث أمر فالعجل العجل، فأتاه الرسول فأخبره، فأقبل حتى لحق أبا جعفر، وأقبلا إلى الكوفة.
وفي هذه السنة عقد أبو العباس عبد الله بْن محمد بْن علي لأخيه أبي جعفر الخلافة من بعده، وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر عيسى ابن موسى بْن محمد بْن علي، وكتب العهد بذلك، وصيره في ثوب، وختم عليه بخاتمه وخواتيم أهل بيته، ودفعه إلى عيسى بْن موسى

ذكر الخبر عن موت ابى العباس السفاح
وفيها توفي أبو العباس أمير المؤمنين بالأنبار يوم الأحد، لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة وكانت وفاته فيما قيل بالجدري.
وقال هشام بْن محمد: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ذي الحجة.
واختلف في مبلغ سنه يوم وفاته، فقال بعضهم: كان له يوم توفي ثلاث وثلاثون سنة وقال هشام بْن محمد: كان يوم توفي ابن ست وثلاثين سنة.
وقال بعضهم: كان له ثمان وعشرون سنة.
وكانت ولايته من لدن قتل مروان بْن محمد إلى أن توفي أربع سنين:
ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثمانية أشهر وقال بعضهم:
وتسعة أشهر وقال الواقدي: أربع سنين وثمانية أشهر منها ثمانية أشهر وأربعة أيام يقاتل مروان.
وملك بعد مروان أربع سنين وكان- فيما ذكر- ذا شعرة جعدة، وكان طويلا أبيض أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية.
وأمه ريطة بنت عبيد الله بْن عبد الله بْن عبد المدان بْن الديان الحارثي وكان وزيره أبو الجهم بْن عطية.
وصلى عليه عمه عيسى بْن علي، ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره.
وكان- فيما ذكر- خلف تسع جباب، وأربعة أقمصة، وخمسه سراويلات، واربعه طيالسه، وثلاثة مطارف خز.

خلافة أبي جعفر المنصور وهو عبد الله بْن محمد
وفي هذه السنة بويع لأبي جعفر المنصور بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه أخوه أبو العباس، وأبو جعفر يومئذ بمكة، وكان الذي أخذ البيعة بالعراق لأبي جعفر بعد موت أبي العباس عيسى بْن موسى، وكتب إليه عيسى يعلمه بموت أخيه أبي العباس وبالبيعة له.
وذكر علي بْن محمد، عن الهيثم، عن عبد الله بْن عياش، قَالَ: لما حضرت أبا العباس الوفاة، أمر الناس بالبيعة لعبد الله بْن محمد أبي جعفر، فبايع الناس له بالأنبار في اليوم الذي مات فيه أبو العباس وقام بأمر الناس عيسى بْن موسى، وأرسل عيسى بْن موسى إلى أبي جعفر وهو بمكة محمد بْن الحصين العبدي بموت أبي العباس، وبالبيعة له، فلقيه بمكان من الطريق يقال له زكية، فلما جاءه الكتاب دعا الناس فبايعوه، وبايعه أبو مسلم، فقال أبو جعفر: أين موضعنا هذا؟ قالوا: زكية، فقال: أمر يزكى لنا إن شاء الله تعالى.
وقال بعضهم: ورد على أبي جعفر البيعة له بعد ما صدر من الحج، في منزل من منازل طريق مكة، يقال له صفية، فتفاءل باسمه، وقال: صفت لنا إن شاء الله تعالى رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فقال علي: حدثني الوليد، عن أبيه، قَالَ: لما أتى الخبر أبا جعفر كتب إلى أبي مسلم وهو نازل بالماء، وقد تقدمه أبو جعفر، فأقبل أبو مسلم حتى قدم عليه.
وقيل إن أبا مسلم كان هو الذي تقدم أبا جعفر، فعرف الخبر قبله، فكتب إلى أبي جعفر:
بسم الله الرحمن الرحيم عافاك الله وأمتع بك، إنه أتاني أمر أفظعني وبلغ مني مبلغا لم يبلغه شيء قط، لقيني محمد بْن الحصين بكتاب من عيسى بْن موسى إليك بوفاة أبي العباس أمير المؤمنين رحمه الله، فنسأل الله أن يعظم أجرك، ويحسن الخلافة عليك، ويبارك لك فيما أنت فيه، إنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيما لحقك وأصفى نصيحة لك، وحرصا على ما يسرك مني.
وأنفذ الكتاب إليه، ثم مكث أبو مسلم يومه ومن الغد، ثم بعث إلى أبي جعفر بالبيعة، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر بتأخيرها.
رجع الحديث إلى حديث علي بن محمد: فلما جلس أبو مسلم، ألقى إليه الكتاب، فقرأه وبكى واسترجع قَالَ: ونظر أبو مسلم إلى أبي جعفر، وقد جزع جزعا شديدا فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ فقال:
أتخوف شر عبد الله بْن علي وشيعة علي، فقال: لا تخفه، فأنا أكفيك أمره إن شاء الله، إنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان، وهم لا يعصونني.
فسري عن أبي جعفر ما كان فيه وبايع له أبو مسلم وبايع الناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة، ورد أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان قبل ذلك واليا عليها وعلى المدينة لأبي العباس.
وقيل: إن أبا العباس كان قد عزل قبل موته زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة، وولاها الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ العباس وفي هذه السنة قدم عبد الله بْن علي على أبي العباس.
الأنبار، فعقد له أبو العباس على الصائفة في أهل خراسان وأهل الشام والجزيرة والموصل، فسار فبلغ دلوك، ولم يدرب حتى أتته وفاة أبي العباس.
وفي هذه السنة بعث عيسى بْن موسى وأبو الجهم يزيد بْن زياد أبا غسان إلى عبد الله بْن علي ببيعة المنصور فانصرف عبد الله بْن علي بمن معه من الجيوش، قد بايع لنفسه حتى قدم حران وأقام الحج للناس في هذه السنة أبو جعفر المنصور، وقد ذكرنا ما كان إليه من العمل في هذه السنة، ومن استخلف عليه حين شخص حاجا.
وكان على الكوفة عيسى بْن موسى وعلى قضائها ابن أبي ليلى، وعلى البصرة وعملها سليمان بْن على، وعلى قضائها عباد بن المنصور، وعلى المدينة زياد بْن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بْن عبد الله بْن معبد، وعلى مصر صالح ابن على.