جمادي الثاني 96 هـ
آذار 715 م
سنة ست وتسعين (ذكر الأحداث التي كانت فيها)

ففيها كانت- فيما قال الواقدي- غزوة بشر بن الوليد الشاتية، فقفل وقد مات الوليد …

ذكر الخبر عن موت الوليد بن عبد الملك
وفيها كانت وفاة الوليد بن عبد الملك، يوم السبت فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وتسعين في قول جميع أهل السير.
واختلف في قدر مدة خلافته، فقال الزهري في ذلك- ما حدثت عن ابن وهب عن يونس عنه: ملك الوليد عشر سنين إلا شهرا.
وقال أبو معشر فيه، ما حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه كانت: خلافة الوليد تسع سنين وسبعة أشهر.
وقال هشام بن مُحَمَّد: كانت ولاية الوليد ثمان سنين وستة أشهر.
وقال الواقدي: كانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وليلتين.
واختلف أيضا في مبلغ عمره، فقال مُحَمَّد بن عمر: توفي بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة وأشهر.
وقال هشام بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة.
وقال علي بن مُحَمَّد: توفي وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر.
وقال علي: كانت وفاة الوليد بدير مران، ودفن خارج باب الصغير.
ويقال: في مقابر الفراديس.
ويقال: إنه توفي وهو ابن سبع وأربعين سنة.
وقيل: صلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان له- فيما قال علي- تسعة عشر ابنا: عبد العزيز، ومُحَمَّد، والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، ومسرور، وأبو عبيدة، وصدقه، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، وبشر، ويزيد، ويحيى، وأم عبد العزيز ومحمد وأم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى.

ذكر الخبر عن بعض سيره:
حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائد وفتح في ولايته فتوح عظام، فتح موسى بن نصير الأندلس، وفتح قتيبة كاشغر، وفتح مُحَمَّد بن القاسم الهند.
قال: وكان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيأخذ حزمة البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس، فيقول: زد فيها.
قال: وأتاه رجل من بني مخزوم يسأله في دينه، فقال: نعم، إن كنت مستحقا لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقا لذلك مع قرابتي! قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: ادن مني، فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده، وقرعه قرعات بالقضيب، وقال لرجل: ضم هذا إليك، فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام اليه عثمان ابن يزيد بن خالد بن عَبْد اللَّهِ بن خَالِد بن أسيد، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إن علي دينا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم، نقضي عنكم، ونصل أرحامكم على هذا قال: ومرض الوليد فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكي عليه، وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج، فاسترجع، ثم أمر بحبل فشد في يديه، ثم أوثق إلى أسطوانة، وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له، فقد طالما سألتك أن تجعل منيتي قبل منيته! وجعل يدعو، فإنه لكذلك إذ قدم عليه بريد بإفاقته.
قال علي: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج، فقال عمر بن عبد العزيز: ما أعظم نعمة الله علينا بعافيتك، وكأني بكتاب الحجاج قد أتاك يذكر فيه أنه لما بلغه برؤك خر الله ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وبعث بقوارير من أنبج الهند.
فما لبث إلا أياما حتى جاء الكتاب بما قال.
قال: ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد:
إني لأوضئ الوليد يوما للغداء، فمد يده، فجعلت أصب عليه الماء، وهو ساه والماء يسيل ولا أستطيع أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي، وقال:
أناعس أنت! ورفع رأسه إلي وقال: ما تدري ما جاء الليلة؟ قلت:
لا، قال: ويحك! مات الحجاج! فاسترجعت قال: اسكت ما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها.
قال علي: وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه، فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع فولي سُلَيْمَان، فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسال بعضهم بعضا عن التزويج والجوارى فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وردك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم؟ ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟ ورثى جرير الوليد فقال:
يا عين جودي بدمع هاجه الذكر فما لدمعك بعد اليوم مدخر إن الخليفة قد وارت شمائله غبراء ملحدة في جولها زور أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم مثل النجوم هوى من بينها القمر كانوا جميعا فلم يدفع منيته عبد العزيز ولا روح ولا عمر حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: حج الوليد بن عبد الملك، وحج مُحَمَّد بن يوسف من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد:
يا أمير المؤمنين، اجعل لي هدية مُحَمَّد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى مُحَمَّد فيها، فأبى وقال: ينظر إليها أمير المؤمنين فيرى رأيه- وكانت هدايا كثيرة- فقالت: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت بهدايا مُحَمَّد أن تصرف إلي، ولا حاجة لي بها، قال: ولم؟ قالت:
بلغني أنه غصبها الناس، وكلفهم عملها، وظلمهم وحمل مُحَمَّد المتاع إلى الوليد، فقال: بلغني أنك أصبتها غصبا، قال، معاذ الله! فأمر فاستحلف بين الركن والمقام خمسين يمينا بالله ما غصب شيئا منها، ولا ظلم أحدا، ولا أصابها إلا من طيب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات مُحَمَّد بن يوسف باليمن، أصابه داء تقطع منه.
وفي هذه السنة كان الوليد أراد الشخوص إلى أخيه سُلَيْمَان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها حدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: كان الوليد وسليمان ولى عهد عبد الملك، فلما أفضى الأمر إلى الوليد، أراد أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سُلَيْمَان، فأبى سُلَيْمَان، فأراده على أن يجعله له من بعده، فأبى، فعرض عليه أموالا كثيرة، فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه أحد إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس فقال عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا، ولو أجابوك لم آمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سُلَيْمَان فليقدم عليك، فإن لك عليه طاعة، فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لا يقدر على الامتناع وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سُلَيْمَان يأمره بالقدوم، فأبطأ، فاعتزم الوليد على المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، فمرض، ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك.
قال عمر: قال علي: وأخبرنا ابو عاصم الزيادى من الهلواث الكلبي، قال: كنا بالهند مع مُحَمَّد بن القاسم، فقتل الله داهرا، وجاءنا كتاب من الحجاج ان اخلعوا مع سُلَيْمَان، فلما ولي سُلَيْمَان جاءنا كتاب سُلَيْمَان، أن ازرعوا واحرثوا، فلا شام لكم، فلم نزل بتلك البلاد حتى قام عمر بن عبد العزيز فأقفلنا.
قال عمر: قال علي: أراد الوليد أن يبني مسجد دمشق، وكانت فيه كنيسة، فقال الوليد لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل رجل منكم بلبنة، فجعل كل رجل يأتيه بلبنة، ورجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة! وهدموا الكنيسة وبناها مسجدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا ذلك إليه، فقيل: إن كل ما كان خارجا من المدينة افتتح عنوة، فقال لهم عمر: نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما، فإنها فتحت عنوه، نبنيها مسجدا، فلما قال لهم ذلك قالوا: بل ندع لكم هذا الذي هدمه الوليد، ودعوا لنا كنيسه توما.
ففعل عمر ذلك.

فتح قتيبة كاشغر وغزو الصين
وفي هذه السنة افتتح قتيبة بن مسلم كاشغر، وغزا الصين.
ذكر الخبر عن ذلك:
رجع الحديث إلى حديث عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْتُ قَبْلُ.
قال: ثم غزا قتيبة في سنة ست وتسعين، وحمل مع الناس عيالهم وهو يريد أن يحرز عياله في سمرقند خوفا من سُلَيْمَان، فلما عبر النهر استعمل رجلا من مواليه يقال له الخوارزمي على مقطع النهر، وقال: لا يجوزن أحد إلا بجواز، ومضى إلى فرغانة، وأرسل إلى شعب عصام من يسهل له الطريق إلى كاشغر، وهي أدنى مدائن الصين، فأتاه موت الوليد وهو بفرغانة.
قال: فأخبرنا أبو الذيال عن المهلب بن إياس، قال: قال إياس بن زهير:
لما عبر قتيبة النهر أتيته فقلت له: إنك خرجت ولم أعلم رأيك في العيال فنأخذ أهبة ذلك، وبني الأكابر معي، ولي عيال قد خلفتهم وأم عجوز، وليس عندهم من يقوم بأمرهم، فإن رأيت أن تكتب لي كتابا مع بعض بني أوجهه فيقدم علي بأهلي! فكتب، فأعطاني الكتاب فانتهيت إلى النهر وصاحب النهر من الجانب الآخر، فألويت بيدي، فجاء قوم في سفينه فقالوا: من أنت؟ اين جوازك؟ فأخبرتهم، فقعد معي قوم ورد قوم السفينة إلى العامل، فأخبروه قال: ثم رجعوا إلي فحملوني، فانتهيت إليهم وهم يأكلون وأنا جائع، فرميت بنفسي، فسألني عن الأمر، وأنا آكل لا أجيبه، فقال: هذا أعرابي قد مات من الجوع، ثم ركبت فمضيت فأتيت مرو، فحملت أمي، ورجعت أريد العسكر، وجاءنا موت الوليد، فانصرفت إلى مرو.
وقال: وأخبرنا أبو مخنف، عن أبيه، قال: بعث قتيبة كثير بن فلان إلى كاشغر، فسبى منها سبيا، فختم أعناقهم مما أفاء الله على قتيبة، ثم رجع قتيبة وجاءهم موت الوليد.
قال: وأخبرنا يحيى بن زكرياء الهمداني عن أشياخ من أهل خراسان والحكم بن عثمان، قال: حدثني شيخ من أهل خراسان قال: وغل قتيبة حتى قرب من الصين قال: فكتب اليه ملك الصين ان ابعث إلينا رجلا من أشراف من معكم يخبرنا عنكم، ونسائله عن دينكم فانتخب قتيبة من عسكره اثني عشره رجلا- وقال بعضهم: عشرة- من أفناء القبائل، لهم جمال وأجسام وألسن وشعور وبأس، بعد ما سأل عنهم فوجدهم من صالح من هم منه فكلمهم قتيبة، وفاطنهم فرأى عقولا وجمالا، فأمر لهم بعدة حسنة من السلاح والمتاع الجيد من الخز والوشي واللين من البياض والرقيق والنعال والعطر، وحملهم على خيول مطهمة تقاد معهم، ودواب يركبونها قال: وكان هبيرة بن المشمرج الكلابي مفوها بسيط اللسان، فقال: يا هبيرة، كيف أنت صانع؟ قال: أصلح الله الأمير! قد كفيت الأدب وقل ما شئت أقله وآخذ به، قال: سيروا على بركة الله، وبالله التوفيق لا تضعوا العمائم عنكم حتى تقدموا البلاد، فإذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت الا أنصرف حتى أطأ بلادهم، وأختم ملوكهم، وأجبي خراجهم.
قال: فساروا، وعليهم هبيرة بن المشمرج، فلما قدموا أرسل إليهم ملك الصين يدعوهم، فدخلوا الحمام، ثم خرجوا فلبسوا ثيابا بياضا تحتها الغلائل، ثم مسوا الغالية، وتدخنوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء أهل مملكته، فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد من جلسائه فنهضوا، فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: رأينا قوما ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد حين رآهم ووجد رائحتهم إلا انتشر ما عنده.
قال: فلما كان الغد أرسل إليهم فلبسوا الوشي وعمائم الخز والمطارف، وغدوا عليه، فلما دخلوا عليه قيل لهم: ارجعوا، فقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه الهيئة أشبه بهيئه الرجال من تلك الاولى، وهم أولئك، فلما كان اليوم الثالث أرسل إليهم فشدوا عليهم سلاحهم، ولبسوا البيض والمغافر، وتقلدوا السيوف، وأخذوا الرماح، وتنكبوا القسي، وركبوا خيولهم، وغدوا فنظر إليهم صاحب الصين فرأى أمثال الجبال مقبلة، فلما دنوا ركزوا رماحهم، ثم أقبلوا نحوهم مشمرين، فقيل لهم قبل أن يدخلوا: ارجعوا، لما دخل قلوبهم من خوفهم.
قال: فانصرفوا فركبوا خيولهم، واختلجوا رماحهم، ثم دفعوا خيولهم كأنهم يتطاردون بها، فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا:
ما رأينا مثل هؤلاء قط، فلما أمسى أرسل إليهم الملك، أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم رجلا فبعثوا إليه هبيرة، فقال له حين دخل عليه: قد رأيتم عظيم ملكي، وإنه ليس أحد يمنعكم مني، وأنتم في بلادي، وإنما أنتم بمنزلة البيضة في كفي وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتكم.
قال: سل، قال: لم صنعتم ما صنعتم من الزي في اليوم الأول والثاني والثالث؟
قال: أما زينا الأول فلباسنا في أهالينا وريحنا عندهم، وأما يومنا الثاني فإذا أتينا أمراءنا وأما اليوم الثالث فزينا لعدونا، فإذا هاجنا هيج وفزع كنا هكذا قال: ما أحسن ما دبرتم دهركم! فانصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، قال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه، قال: فما الذي يرضي صاحبك؟ قال: إنه قد حلف الا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطى الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث اليه بتراب من تراب أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحاف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم، فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمة وردهم، ووطيء التراب، فقال سوادة بن عبد الله السلولي:

لا عيب في الوفد الذين بعثتهم *** للصين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى *** حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم *** ورهائن دفعت بحمل سمرج
أدى رسالتك التي استرعيته *** وأتاك من حنث اليمين بمخرج

قال: فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة، فقال:

لله قبر هبيرة بن مشمرج *** ماذا تضمن من ندى وجمال!
وبديهة يعيا بها أبناؤها *** عند احتفال مشاهد الأقوال
كان الربيع إذا السنون تتابعت *** والليث عند تكعكع الأبطال
فسقت بقربة حيث امسى قبره *** غر يرحن بمسبل هطال
بكيت الجياد الصافنات لفقده *** وبكاه كل مثقف عسال
وبكته شعث لم يجدن مواسيا *** في العام ذي السنوات والإمحال

قال: وقال الباهليون: كان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرسا من جياد الخيل، واثني عشر هجينا، لا يجاوز بالفرس أربعة آلاف، فيقام عليها إلى وقت الغزو، فإذا تاهب للغزو وعسكر قيدت وأضمرت، فلا يقطع نهرا بخيل حتى تخف لحومها، فيحمل عليها من يحمله في الطلائع وكان يبعث في الطلائع الفرسان من الأشراف، ويبعث معهم رجالا من العجم ممن يستنصح على تلك الهجن، وكان إذا بعث بطليعة أمر بلوح فنقش، ثم يشقه شقتين فأعطاه شقة، واحتبس شقة، لئلا يمثل مثلها، ويأمره أن يدفنها في موضع يصفه له من مخاضة معروفة، أو تحت شجرة معلومة، أو خربة، ثم يبعث بعده من يستبريها ليعلم أصادق في طليعته أم لا وقال ثابت قطنة العتكي يذكر من قتل من ملوك الترك:

أقر العين مقتل كازرنك *** وكشبيز وما لا. ى يباد

وقال الكميت يذكر غزوه السغد وخوارزم:

وبعد في غزوة كانت مباركة *** تردي زراعة أقوام وتحتصد
نالت غمامتها فيلا بوابلها *** والسغد حين دنا شؤبوبها البرد
إذ لا يزال له نهب ينفله *** من المقاسم لا وخش ولا نكد
تلك الفتوح التي تدلى بحجتها *** على الخليفة إنا معشر حشد
لم تثن وجهك عن قوم غزوتهمُ *** حتى يقال لهم: بعدا وقد بعدوا
لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعا *** حتى يكبر فيه الواحد الصمد.

خلافة سُلَيْمَان بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة بويع سُلَيْمَان بن عبد الملك بالخلافة، وذلك في اليوم الذي توفي فيه الوليد بن عبد الملك، وهو بالرملة.
وفيها عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة، ذكر مُحَمَّد بن عمر، أنه نزعه عن المدينة لسبع بقين من شهر رمضان سنة ست وتسعين.
قال: وكان عمله على المدينة ثلاث سنين وقيل: كانت امرته عليها سنتين غير سبع ليال.
قال الواقدي: وكان أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم قد استأذن عثمان أن ينام في غد، ولا يجلس للناس ليقوم ليلة إحدى وعشرين، فأذن له وكان أيوب بن سلمة المخزومي عنده، وكان الذي بين أيوب بن سلمة وبين أبي بكر بن عمرو بن حزم سيئا، فقال أيوب لعثمان: ألم تر إلى ما يقول هذا؟ انما هذا منه رياء، فقال عثمان: قد رأيت ذلك، ولست لأبي إن أرسلت إليه غدوة ولم أجده جالسا لأجلدنه مائة، ولأحلقن رأسه ولحيته.
قال أيوب: فجاءني أمر أحبه، فعجلت من السحر، فإذا شمعة في الدار، فقلت: عجل المري، فإذا رسول سُلَيْمَان قد قدم على أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده.
قال أيوب: فدخلت دار الإمارة، فإذا ابن حيان جالس، وإذا بأبي بكر على كرسي يقول للحداد: اضرب في رجل هذا الحديد، ونظر إلي عثمان فقال:

آبوا على أدبارهم كشفا *** والأمر يحدث بعده الأمر

وفي هذه السنة عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق، وأمر عليه يزيد بن المهلب، وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج، وأمره أن يقتل آل أبي عقيل ويبسط عليهم العذاب فحدثني عمر بن شبة، قال: حدثني علي بن مُحَمَّد، قال: قدم صالح العراق على الخراج، ويزيد على الحرب، فبعث يزيد زياد بن المهلب على عمان، وقال له:
كاتب صالحا، وإذا كتبت إليه فابدأ باسمه، وأخذ صالح آل أبي عقيل فكان يعذبهم، وكان يلي عذابهم عبد الملك بن المهلب.

خبر مقتل قتيبة بن مسلم
وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم بخراسان.
ذكر الخبر عن سبب مقتله:
وكان سبب ذلك أن الوليد بن عبد الملك اراد ان يجعل ابنه عبد العزيز ابن الوليد ولي عهده، ودس في ذلك إلى القواد والشعراء، فقال جرير في ذلك:

إذا قيل أي الناس خير خليفة؟ *** أشارت إلى عبد العزيز الأصابع
رأوه أحق الناس كلهمُ بها *** وما ظلموا، فبايعوه وسارعوا

وقال أيضا جرير يحض الوليد على بيعة عبد العزيز:

الى عبد العزيز سمت عيون الرعية *** إذا تحيرت الرعاء
إليه دعت دواعيه إذا ما *** عماد الملك خرت والسماء
وقال أولو الحكومة من قريش *** علينا البيع إن بلغ الغلاء
رأوا عبد العزيز ولي عهد *** وما ظلموا بذاك ولا أساءوا
فماذا تنظرون بها وفيكم *** جسور بالعظائم واعتلاء!
فزحلفها بأزملها إليه *** أمير المؤمنين إذا تشاء
فإن الناس قد مدوا إليه *** أكفهمُ وقد برح الخفاء
ولو قد بايعوك ولى عهد *** لقام الوزن واعتدل البناء

فبايعه على خلع سُلَيْمَان الحجاج بن يوسف وقتيبة، ثم هلك الوليد وقام سُلَيْمَان بن عبد الملك، فخافه قتيبة.
قال علي بن مُحَمَّد: أخبرنا بشر بن عيسى والحسن بن رشيد وكليب ابن خلف، عن طفيل بن مرداس، وجبلة بن فروخ، عن مُحَمَّد بن عزيز الكندي، وجبلة بن ابى رواد ومسلمة بن محارب، عن السكن بن قتادة، أن قتيبة لما أتاه موت الوليد بن عبد الملك وقيام سُلَيْمَان، أشفق من سُلَيْمَان لأنه كان يسعى في بيعة عبد العزيز بن الوليد مع الحجاج، وخاف أن يولي سُلَيْمَان يزيد بن المهلب خراسان، قال: فكتب إليه كتابا يهنئه بالخلافة، ويعزيه على الوليد، ويعلمه بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه له على مثل ما كان لهما عليه من الطاعة والنصيحة إن لم يعزله عن خراسان وكتب إليه كتابا آخر يعلمه فيه فتوحه ونكايته وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم وعظم صوته فيهم، ويذم المهلب وآل المهلب، ويحلف بالله لئن استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه.
وكتب كتابا ثالثا فيه خلعه، وبعث بالكتب الثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع إليه هذا الكتاب، فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا، فقرأه ثم ألقاه إليه فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأه وألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الكتاب، فإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحتبس الكتابين الآخرين قال: فقدم رسول قتيبة فدخل على سُلَيْمَان وعنده يزيد بن المهلب، فدفع إليه الكتاب، فقرأه، ثم ألقاه إلى يزيد، فدفع إليه كتابا آخر فقرأه، ثم رمى به إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث، فقرأه فتمعر لونه، ثم دعا بطين فختمه ثم أمسكه بيده.
وأما أبو عبيدة معمر بن المثنى، فإنه قال- فيما حدثت عنه: كان في الكتاب الأول وقيعة في يزيد بن المهلب، وذكر غدره وكفره وقلة شكره، وكان في الثاني ثناء على يزيد، وفي الثالث: لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك خلع النعل، ولأملأنها عليك خيلا ورجالا وقال أيضا:
لما قرأ سُلَيْمَان الكتاب الثالث وضعه بين مثالين من المثل التي تحته ولم يحر في ذلك مرجوعا.
رجع الحديث إلى حديث علي بن مُحَمَّد قال: ثم أمر- يعني سُلَيْمَان- برسول قتيبة أن ينزل، فحول إلى دار الضيافة، فلما أمسى دعا به سُلَيْمَان، فأعطاه صرة فيها دنانير، فقال: هذه جائزتك، وهذا عهد صاحبك على خراسان فسر، وهذا رسولي معك بعهده قال: فخرج الباهلي، وبعث معه سُلَيْمَان رجلا من عبد القيس، ثم أحد بني ليث يقال له صعصعة- أو مصعب- فلما كان بحلوان تلقاهم الناس بخلع قتيبة، فرجع العبدي، ودفع العهد إلى رسول قتيبة، وقد خلع، واضطرب الأمر، فدفع إليه عهده، فاستشار إخوته، فقالوا: لا يثق بك سُلَيْمَان بعد هذا.
قال علي: وحدثني بعض العنبريين، عن أشياخ منهم، أن توبة ابن ابى أسيد العنبري، قال: قدم صالح العراق، فوجهني إلى قتيبة ليطلعني طلع ما في يده، فصحبني رجل من بني أسد، فسألني عما خرجت فيه، فكاتمته أمري، فإنا لنسير إذ سنح لنا سانح، فنظر إلي رفيقي فقال: أراك في أمر جسيم وأنت تكتمني! فمضيت، فلما كنت بحلوان تلقاني الناس بقتل قتيبة.
قال علي: وذكر أبو الذيال وكليب بن خلف وأبو علي الجوزجاني عن طفيل بن مرداس، وأبو الحسن الجشمي ومصعب بن حيان عن أخيه مقاتل بن حيان، وأبو مخنف وغيرهم، أن قتيبة لما هم بالخلع استشار إخوته، فقال له عبد الرحمن: اقطع بعثا فوجه فيه كل من تخافه، ووجه قوما إلى مرو، وسر حتى تنزل سمرقند، ثم قل لمن معك: من أحب المقام فله المواساة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره ولا متبوع بسوء، فلا يقيم معك إلا مناصح وقال له عبد الله: اخلعه مكانك، وادع الناس إلى خلعه، فليس يختلف عليك رجلان فأخذ برأي عبد الله، فخلع سُلَيْمَان، ودعا الناس إلى خلعه، فقال للناس:
إني قد جمعتكم من عين التمر وفيض البحر فضممت الأخ إلى أخيه، والولد إلى أبيه، وقسمت بينكم فيئكم، وأجريت عليكم أعطياتكم غير مكدرة ولا مؤخرة، وقد جربتم الولاة قبلي، أتاكم أمية فكتب الى امير المؤمنين ان خراج خراسان يقوم بمطبخي، ثم جاءكم أبو سعيد فدوم بكم ثلاث سنين لا تدرون أفي طاعة أنتم أم في معصية! لم يجب فيئا، ولم ينكأ عدوا، ثم جاءكم بنوه بعده، يزيد، فحل تبارى إليه النساء، وإنما خليفتكم يزيد بن ثروان هبنقة القيسي.
قال: فلم يجبه أحد، فغضب فقال: لا أعز الله من نصرتم، والله لو اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها، يا أهل السافلة- ولا أقول أهل العالية- يا أوباش الصدقة، جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب يا معشر بكر بن وائل، يا أهل النفخ والكذب والبخل، باى يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم، أو بيوم سلمكم! فو الله لأنا أعز منكم يا أصحاب مسيلمة، يا بني ذميم- ولا أقول تميم- يا أهل الخور والقصف والغدر، كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان يا أصحاب سجاح، يا معشر عبد القيس القساة، تبدلتم بأبر النحل أعنة الخيل يا معشر الأزد، تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل الحصن، إن هذا لبدعة في الإسلام! والأعراب، وما الأعراب! لعنة الله على الأعراب! يا كناسة المصرين، جمعتكم من منابت الشيح والقيصوم ومنابت القلقل، تركبون البقر والحمر في جزيرة ابن كاوان، حتى إذا جمعتكم كما تجمع قزع الحريف قلتم كيت وكيت! أما والله إني لابن أبيه! وأخو أخيه، أما والله لأعصبنكم عصب السلمة إن حول الصليان الزمزمة.
يا أهل خراسان، هل تدرون من وليكم؟ وليكم يزيد بن ثروان كأني بأمير مزجاء، وحكم قد جاءكم فغلبكم على فيئكم واظلالكم ان هاهنا نارا ارموها أرم معكم، ارموا غرضكم الأقصى قد استخلف عليكم أبو نافع ذو الودعات إن الشام أب مبرور، وإن العراق أب مكفور.
حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم وظلال دياركم! يا أهل خراسان، انسبوني تجدوني عراقي الأم، عراقي الأب، عراقي المولد، عراقي الهوى والرأي والدين، وقد أصبحتم اليوم فيما ترون من الأمن والعافية قد فتح الله لكم البلاد، وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على النعمة، وسلوه الشكر والمزيد.
قال: ثم نزل فدخل منزله، فأتاه أهل بيته فقالوا: ما رأينا كاليوم قط، والله ما اقتصرت على أهل العالية وهم شعارك ودثارك، حتى تناولت بكرا وهم أنصارك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت تميما وهم إخوتك، ثم لم ترض بذلك حتى تناولت الأزد وهم بدك! فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت، فلم أدر ما قلت، إن أهل العالية كإبل الصدقة قد جمعت من كل أوب، وأما بكر فإنها أمة لا تمنع يد لامس، وأما تميم فجمل أجرب، وأما عبد القيس فما يضرب العير بذنبه، وأما الأزد فأعلاج، شرار من خلق الله، لو ملكت أمرهم لوسمتهم.
قال: فغضب الناس وكرهوا خلع سُلَيْمَان، وغضبت القبائل من شتم قتيبة، فأجمعوا على خلافه وخلعه، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد، فأتوا حضين بن المنذر فقالوا: إن هذا قد دعا إلى ما دعا إليه من خلع الخليفة، وفيه فساد الدين والدنيا، ثم لم يرض بذلك حتى قصر بنا وشتمنا، فما ترى يا أبا حفص؟ وكان يكتنى في الحرب بأبي ساسان، ويقال: كنيته أبو مُحَمَّد- فقال لهم: حضين: مضر بخراسان تعدل هذه الثلاثة الأخماس، وتميم أكثر الخمسين، وهم فرسان خراسان، ولا يرضون أن يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم من الأمر أعانوا قتيبة قالوا: إنه قد وتر بني تميم بقتل ابن الأهتم، قال: لا تنظروا إلى هذا فإنهم يتعصبون للمضرية، فانصرفوا رادين لرأي حضين، فأرادوا أن يولوا عبد الله بن حوذان الجهضمي، فأبى، وتدافعوها، فرجعوا إلى حضين، فقالوا: قد تدافعنا الرياسة، فنحن نوليك أمرنا، وربيعة لا تخالفك، قَالَ: لا ناقة لي فِي هَذَا وَلا جمل، قالوا: ما ترى؟ قال: إن جعلتم هذه الرياسة في تميم تم أمركم، قالوا: فمن ترى من تميم؟ قال: ما أرى أحدا غير وكيع، فقال حيان مولى بني شيبان: إن أحدا لا يتقلد هذا الأمر فيصلى بحره، ويبذل دمه، ويتعرض للقتل، فإن قدم امير أخذه بما جنى وكان المهنأ لغيره إلا هذا الأعرابي وكيع، فإنه مقدام لا يبالي ما ركب، ولا ينظر في عاقبة، وله عشيرة كثيرة تطيعه، وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار بن حصين بن زيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي فمشى الناس بعضهم إلى بعض سرا، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله- وكان حيان يلاطف حشم الولاة فلا يخفون عنه شيئا- قال: فدعا قتيبة رجلا فأمره بقتل حيان، وسمعه بعض الخدم، فأتى حيان فأخبره، فأرسل إليه يدعوه، فحذر وتمارض، وأتى الناس وكيعا فسألوه أن يقوم بأمرهم، فقال: نعم، وتمثل قول الأشهب بن رميلة:

سأجني ما جنيت وإن ركني *** لمعتمد إلى نضد ركين

قال: وبخراسان يومئذ من المقاتلة من أهل البصرة من أهل العالية تسعة آلاف، وبكر سبعة آلاف، رئيسهم الحضين بن المنذر، وتميم عشرة آلاف عليهم ضرار بن حصين الضبي، وعبد القيس أربعة آلاف عليهم عبد الله بن علوان عوذي، والأزد عشره آلاف راسهم عبد الله ابن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف عليهم جهم بن زحر- أو عبيد الله بن علي- والموالي سبعة آلاف عليهم حيان- وحيان يقال إنه من الديلم، ويقال: إنه من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته- فأرسل حيان إلى وكيع: أرأيت إن كففت عنك وأعنتك تجعل لي جانب نهر بلخ وخراجه ما دمت حيا، وما دمت واليا؟ قال: نعم، فقال للعجم:
هؤلاء يقاتلون على غير دين، فدعوهم يقتل بعضهم بعضا، قالوا: نعم، فبايعوا وكيعا سرا، فأتى ضرار بن حصين قتيبة، فقال: إن الناس يختلفون إلى وكيع، وهم يبايعونه- وكان وكيع يأتي منزل عبد الله بن مسلم الفقير فيشرب عنده- فقال عبد الله: هذا يحسد وكيعا، وهذا الأمر باطل، هذا وكيع في بيتي يشرب ويسكر ويسلح في ثيابه، وهذا يزعم أنهم يبايعونه قال: وجاء وكيع إلى قتيبة فقال: احذر ضرارا فانى لا آمنه عليك، فأنزل قتيبة ذلك منهما على التحاسد وتمارض وكيع.
ثم إن قتيبة دس ضرار بن سنان الضبي إلى وكيع فبايعه سرا، فتبين لقتيبة أن الناس يبايعونه، فقال لضرار: قد كنت صدقتني، قال: إني لم أخبرك إلا بعلم، فأنزلت ذلك مني على الحسد، وقد قضيت الذي كان علي، قال:
صدقت وأرسل قتيبة إلى وكيع يدعوه فوجده رسول قتيبة قد طلى على رجله مغرة، وعلى ساقه خرزا وودعا، وعنده رجلان من زهران يرقيان رجله، فقال له: أجب الأمير، قال: قد ترى ما برجلي.
فرجع الرسول إلى قتيبة فأعاده إليه، قال: يقول لك: ائتني محمولا على سرير، قال: لا أستطيع قال قتيبة لشريك بن الصامت الباهلي أحد بني وائل- وكان على شرطته- ورجل من غني انطلقا إلى وكيع فأتياني به.
فإن أبى فاضربا عنقه، ووجه معهما خيلا، ويقال: كان على شرطه بخراسان ورقاء بن نصر الباهلي.
قال علي: قال أبو الذيال: قال ثمامة بن ناجذ العدوي: أرسل قتيبة إلى وكيع من يأتيه به، فقلت: أنا آتيك به أصلحك الله! فقال: ائتني به، فأتيت وكيعا- وقد سبق إليه الخبر أن الخيل تأتيه- فلما رآني قال:
يا ثمامة، ناد في الناس، فناديت، فكان أول من أتاه هريم بن أبي طحمة في ثمانية.
قال: وقال الحسن بن رشيد الجوزجاني: أرسل قتيبة إلى وكيع.
فقال هريم: أنا آتيك به، قال: فانطلق قال هريم: فركبت برذوني مخافة أن يردني، فأتيت وكيعا وقد خرج.
قال: وقال كليب بن خلف: أرسل قتيبة إلى وكيع شعبة بن ظهير أحد بني صخر بن نهشل، فأتاه، فقال: يا بن ظهير:
لبث قليلا تلحق الكتائب
ثم دعا بسكين فقطع خرزا كان على رجليه، ثم لبس سلاحه، وتمثل:

شدوا علي سرتي لا تنقلف *** يوم لهمدان ويوم للصدف

وخرج وحده، ونظر إليه نسوة فقلن: أبو مطرف وحده، فجاء هريم بن أبي طحمة في ثمانية، فيهم عميرة البريد بن ربيعة العجيفي.
قال حمزة بن إبراهيم وغيره: إن وكيعا خرج فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد، قال: ما اسمك؟ قال: ضرغامة، قال:
ابن من؟ قال: ابن ليث، قال: دونك هذه الراية. قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي: ودفع وكيع رايته إلى عقبة بن شهاب المازني، قال: ثم رجع إلى حديثهم، قالوا: فخرج وكيع وأمر غلمانه، فقال: اذهبوا بثقلي إلى بني العم، فقالوا: لا نعرف موضعهم، قال:
انظروا رمحين مجموعين أحدهما فوق الآخر، فوقهما مخلاة، فهم بنو العم قال: وكان في العسكر منهم خمسمائة، قال: فنادى وكيع في الناس، فأقبلوا أرسالا من كل وجه، فأقبل في الناس يقول:

قرم إذا حمل مكروهة *** شد الشراسيف لها والحزيم

وقال قوم: تمثل وكيع حين خرج:

انخن بلقمان بن عاد فجسنه *** أريني سلاحي لن يطيروا بأعزل

واجتمع إلى قتيبة أهل بيته، وخواص من أصحابه وثقاته، فيهم اياس ابن بيهس بن عمرو، ابن عم قتيبة دنيا، وعبد الله بن وألان العدوي، وناس من رهطة، بني وائل وأتاه حيان بن إياس العدوي في عشرة، فيهم عبد العزيز بن الحارث، قال: وأتاه ميسرة الجدلي- وكان شجاعا- فقال: إن شئت أتيتك برأس وكيع، فقال: قف مكانك وأمر قتيبة رجلا، فقال: ناد في الناس، أين بنو عامر؟ فنادى: أين بنو عامر؟ فقال محفن بن جزء الكلابي- وقد كان جفاهم: حيث وضعتهم، قال: ناد أذكركم الله والرحم! فنادى محفن: أنت قطعتها، قال: ناد لكم العتبى، فناداه محفن أو غيره: لا أقالنا الله إذا، فقال قتيبة:

يا نفس صبرا على ما كان من ألم *** إذ لم أجد لفضول القوم أقرانا

ودعا بعمامة كانت أمه بعثت بها إليه، فاعتم بها، كان يعتم بها في الشدائد، ودعا ببرذون له مدرب، كان يتطير إليه في الزحوف، فقرب إليه ليركبه، فجعل يقمص حتى أعياه، فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فقعد عليه وقال: دعوه، فإن هذا امر يراد وجاء حيان النبطي في العجم، فوقف وقتيبة واجد عليه، فوقف معه عبد الله بن مسلم، فقال عبد الله لحيان: احمل على هذين الطرفين، قال: لم يأن لذلك، فغضب عبد الله، وقال: ناولني قوسي، قال حيان: ليس هذا يوم قوس، فأرسل وكيع إلى حيان: أين ما وعدتني؟ فقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي، ومضيت نحو عسكر وكيع، فمل بمن معك في العجم إلي.
فوقف ابن حيان مع العجم، فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع، فكبر أصحابه وبعث قتيبة أخاه صالحا إلى الناس فرماه رجل من بني ضبة يقال له سُلَيْمَان الزنجيرج- وهو الخرنوب، ويقال:
بل رماه رجل من بلعم فأصاب هامته- فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل، فوضع في مصلاه، فتحول قتيبة فجلس عنده ساعة، ثم تحول إلى سريره.
قال: وقال أبو السري الأزدي: رمى صالحا رجل من بني ضبة فأثقله، وطعنه زياد بن عبد الرحمن الأزدي، من بني شريك بن مالك.
قال: وقال أبو مخنف: حمل رجل من غني على الناس فرأى رجلا مجففا فشبهه بجهم بن زحر بن قيس فطعنه، وقال:

إن غنيا أهل عز ومصدق *** إذا حاربوا والناس مفتتنونا

فإذا الذي طعن علج وتهايج الناس، وأقبل عبد الرحمن بن مسلم نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء، فقتلوه، وأحرق الناس موضعا كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه، ودنوا منه، فقاتل عنه رجل من باهلة من بني وائل، فقال له قتيبة: انج بنفسك، فقال له: بئس ما جزيتك إذا، وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق! قال: فدعا قتيبة بدابة، فأتي ببرذون فلم يقر ليركبه، فقال: إن له لشأنا، فلم يركبه وجلس وجاء الناس حتى بلغوا الفسطاط، فخرج إياس بن بيهس وعبد الله بن وألان حين بلغ الناس الفسطاط وتركا قتيبة وخرج عبد العزيز بن الحارث يطلب ابنه عمرا- أو عمر- فلقيه الطائي فحذره، ووجد ابنه فأردفه قال: وفطن قتيبة للهيثم بن المنخل وكان ممن يعين عليه، فقال:

أعلمه الرماية كل يوم *** فلما اشتد ساعده رماني

قال: وقتل معه إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم، بنو مسلم، وقتل ابنه كثير بن قتيبة وناس من أهل بيته، ونجا أخوه ضرار، استنقذه أخواله، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة وقال قوم: قتل عبد الكريم بن مسلم بقزوين وقال أبو عبيدة:
قال أبو مالك: قتلوا قتيبة سنة ست وتسعين، وقتل من بني مسلم أحد عشر رجلا، فصلبهم وكيع، سبعة منهم لصلب مسلم وأربعة من بني أبنائهم: قتيبة، وعبد الرحمن، وعبد الله الفقير، وعبيد الله، وصالح، وبشار، ومُحَمَّد بنو مسلم وكثير بن قتيبة، ومغلس بن عبد الرحمن، ولم ينج من صلب مسلم غير عمرو- وكان عامل الجوزجان- وضرار، وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زراره، فجاء أخواله فدفعوه حتى نحوه، ففي ذلك يقول الفرزدق:

عشية ما ود ابن غرة أنه *** له من سوانا إذ دعا أبوان

وضرب إياس بن عمرو- ابن أخي مسلم بن عمرو- على ترقوته فعاش قال: ولما غشي القوم الفسطاط قطعوا أطنابه قال زهير: فقال جهم ابن زحر لسعد: انزل، فحز رأسه، وقد أثخن جراحا، فقال: أخاف أن تجول الخيل، قال: تخاف وأنا إلى جنبك! فنزل سعد فشق صوقعة الفسطاط، فاحتز رأسه، فقال حضين بن المنذر:

وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا *** بسيفيهما رأس الهمام المتوج
عشية جئنا بابن زحر وجئتمُ *** بأدغم مرقوم الذراعين ديزج
أصم غداني كأن جبينه *** لطاخة نقس في أديم ممجمج

قال: فلما قتل مسلمة يزيد بن المهلب استعمل على خراسان سعيد بن خذينة بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص، فحبس عمال يزيد، وحبس فيهم جهم بن زحر الجعفي، وعلى عذابه رجل من باهلة، فقيل له: هذا قاتل قتيبة، فقتله في العذاب، فلامه سعيد، فقال:
أمرتني أن أستخرج منه المال فعذبته فأتى علي أجله.
قال: وسقطت على قتيبة يوم قتل جارية له خوارزمية، فلما قتل خرجت، فأخذها بعد ذلك يزيد بن المهلب، فهي أم خليدة.
قال علي: قال حمزة بن إبراهيم وأبو اليقظان: لما قتل قتيبة صعد عمارة بن جنية الرياحي المنبر فتكلم فأكثر، فقال له وكيع: دعنا من قذرك وهذرك، ثم تكلم وكيع فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول:
من ينك العير ينك نياكا
أراد قتيبة أن يقتلني وأنا قتال.

قد جربوني ثم جربوني *** من غلوتين ومن المئين
حتى إذا شبت وشيبونى *** خلوا عناني وتنكبوني

أنا أبو مطرف.
قال: وأخبرنا أبو معاوية، عن طلحة بن إياس، قال: قال وكيع يوم قتل قتيبة:

أنا ابن خندف تنميني قبائلها *** للصالحات وعمي قيس عيلانا

ثم أخذ بلحيته ثم قال:

شيخ إذا حمل مكروهة *** شد الشراسيف لها والحزيم

والله لأقتلن، ثم لأقتلن، ولأصلبن، ثم لأصلبن، إني والغ دما، إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى عليكم أسعاركم، والله ليصيرن القفيز في السوق غدا بأربعة أو لأصلبنه، صلوا على نبيكم ثم نزل.
قال علي: وأخبرنا المفضل بن مُحَمَّد وشيخ من بني تميم، ومسلمة بن محارب، قالوا: طلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته، فخرج وكيع وهو يقول: ده درين، سعد القين:

في أي يومي من الموت أفر *** أيوم لم يقدر أم يوم قدر
لا خير في أحزم جياد القرع *** في أي يوم لم أرع ولم أرع

والله الذي لا إله غيره لا أبرح حتى أوتى بالرأس، أو يذهب برأسي مع رأس قتيبة وجاء بخشب فقال: إن هذه الخيل لا بد لها من فرسان- يتهدد بالصلب- فقال له حضين: يا أبا مطرف، تؤتى به فاسكن وأتي حضين الأزد فقال: أحمقى أنتم! بايعناه وأعطيناه المقادة، وعرض نفسه، ثم تأخذون الرأس! أخرجوه لعنه الله من رأس! فجاءوا بالرأس فقالوا: يا أبا مطرف، إن هذا هو احتزه، فاشكمه، قال: نعم، فأعطاه ثلاثة آلاف، وبعث بالرأس مع سليط بن عبد الكريم الحنفي ورجال من القبائل وعليهم سليط، ولم يبعث من بني تميم أحدا.
قال: قال أبو الذيال: كان فيمن ذهب بالرأس أنيف بن حسان أحد بني عدي.
قال أبو مخنف: وفى وكيع لحيان النبطي بما كان أعطاه قال:
قال خريم بن أبي يحيى، عن أشياخ من قيس، قالوا: قال سليمان للهذيل ابن زفر حين وضع رأس قتيبة ورءوس أهل بيته بين يديه: هل ساءك هذا يا هذيل؟ قال: لو ساءني ساء قوما كثيرا، فكلمه خريم بن عمرو والقعقاع ابن خليد، فقال: ائذن في دفن رءوسهم، قال: نعم، وما أردت هذا كله.
قال علي: قال أبو عبد الله السلمي، عن يزيد بن سويد، قال:
قال رجل من عجم أهل خراسان: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة، والله لو كان قتيبة منا فمات فينا جعلناه في تابوت فكنا نستفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد قط بخراسان ما صنع قتيبة، إلا أنه قد غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه أن اختلهم واقتلهم في الله.
قال: وقال الحسن بن رشيد: قال الإصبهبذ لرجل: يا معشر العرب، قتلتم قتيبة ويزيد وهما سيدا العرب! قال: فأيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بالمغرب بأقصى جحر به في الأرض مكبلا بالحديد، ويزيد معنا في بلادنا وال علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد.
قال علي: قال المفضل بن مُحَمَّد الضبي جاء رجل إلى قتيبة يوم قتل وهو جالس، فقال: اليوم يقتل ملك العرب- وكان قتيبة عندهم ملك العرب- فقال له: اجلس.
قال: وقال كليب بن خلف: حدثني رجل ممن كان مع وكيع حين قتل قتيبة، قال: أمر وكيع رجلا فنادى: لا يسلبن قتيل، فمر ابن عبيد الهجري على ابى الحجر الباهلى فسلبه، فبلغ وكيعا فضرب عنقه.
قال أبو عبيدة: قال عبد الله بن عمر، من تيم اللات: ركب وكيع ذات يوم، فأتوه بسكران، فأمر به فقتل، فقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال: لا أعاقب بالسياط، ولكني أعاقب بالسيف، فقال نهار بن توسعة:

وكنا نبكي من الباهلي *** فهذا الغداني شر وشر

وقال أيضا:

ولما رأينا الباهلي ابن مسلم *** تجبر عممناه عضبا مهندا

وقال الفرزدق يذكر وقعة وكيع:

ومنا الذي سل السيوف وشامها *** عشية باب القصر من فرغان
عشية لم تمنع بنيها قبيلة *** بعز عراقي ولا بيمان
عشية ما ود ابن غراء أنه *** له من سوانا إذ دعا أبوان
عشية لم تستر هوازن عامر *** ولا غطفان عورة ابن دخان
عشية ود الناس أنهمُ لنا *** عبيد إذ الجمعان يضطربان
رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت *** رءوس كبيريهن ينتطحان
رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا *** على الدين حتى شاع كل مكان
وحتى دعا في سور كل مدينة *** مناد ينادي فوقها بأذان
فيجزى وكيع بالجماعة إذ دعا *** إليها بسيف صارم وبنان
جزاء بأعمال الرجال كما جرى *** ببدر وباليرموك فيء جنان

وقال الفرزدق في ذلك أيضا:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة *** لآل تميم أقعدت كل قائم

وقال علي: أخبرنا خريم بن أبي يحيى، عن بعض عمومته قال: أخبرني شيوخ من غسان قالوا: إنا لبثنية العقاب إذ نحن برجل يشبه الفيوج معه عصا وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان، قلنا: فهل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل قتيبة بن مسلم أمس، فتعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا ذلك قال: أين ترونني الليلة من إفريقية؟ ومضى واتبعناه على خيولنا، فإذا شيء يسبق الطرف وقال الطرماح:

لولا فوارس مذحج ابنة مذحج *** والأزد زعزع واستبيح العسكر
وتقطعت بهمُ البلاد ولم يؤب *** منهم إلى أهل العراق مخبر
واستضلعت عقد الجماعة وازدرى *** أمر الخليفة واستحل المنكر
قوم همُ قتلوا قتيبة عنوة *** والخيل جانحة عليها العِثْيَر
بالمرج مرج الصين حيث تبينت *** مضر العراق من الأعز الأكبر!
إذ حالفت جزعا ربيعة كلها *** وتفرقت مضر ومن يتمضر
وتقدمت أزد العراق ومذحج *** للموت يجمعها أبوها الأكبر
قحطان تضرب رأس كل مدجج *** تحمي بصائرهن إذ لا تبصر
والأزد تعلم أن تحت لوائها *** ملكا قراسية وموت أحمر
فبعزنا نصر النبي مُحَمَّد *** وبنا تثبت في دمشق المنبر

وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي:

كأن أبا حفص قتيبة لم يسر *** بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله *** وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه *** وراح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزى الإسلام بعد مُحَمَّد *** بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا

يعني أم ولد له.
وقال الأصم بن الحجاج يرثي قتيبة:

ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا *** بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر
نقود تميما والموالي ومذحجا *** وأزد وعبد القيس والحي من بكر
نقتل من شئنا بعزة ملكنا *** ونجبر من شئنا على الخسف والقسر
سُلَيْمَان كم من عسكر قد حوت لكم *** أسنتنا والمقربات بنا تجري
وكم من حصون قد أبحنا منيعة *** ومن بلد سهل ومن جبل وعر
ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا *** غزونا نقود الخيل شهرا الى شهر
مرنّ على الغزو الجرور ووقرت *** على النفر حتى ما تهال من النفر
وحتى لوَ ان النار شبت وأكرهت *** على النار خاضت في الوغى لهب الجمر
تلاعب أطراف الأسنة والقنا *** بلباتها والموت في لجج خضر
بهن أبحنا أهل كل مدينة *** من الشرك حتى جاوزت مطلع الفجر
ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت *** بنا ردم ذي القرنين ذا الصخر والقطر
ولكن آجالا قضين ومدة *** تناهى إليها الطيبون بنو عمرو

وفي هذه السنة عزل سُلَيْمَان بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري عن مكة، وولاها طلحة بن داود الحضرمي وفيها غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم الصائفة، ففتح حصنا يقال له حصن عوف.
وفي هذه السنة توفي قرة بن شريك العبسي وهو أمير مصر في صفر في قول بعض أهل السير.
وقال بعضهم: كان هلاك قرة في حياة الوليد في سنة خمس وتسعين في الشهر الذي هلك فيه الحجاج.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم الأنصاري، كذلك حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْن ثَابِت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قَالَ الواقدي وغيره.
وكان الأمير على المدينة في هذه السنة أبو بكر بن مُحَمَّد بن عمرو بن حزم، وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن.
وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد بن المهلب، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.