187 هـ
803 م
سنة سبع وثمانين ومائة (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

ذكر الخبر عن إيقاع الرشيد بالبرامكة، فمما كان فيها من ذلك قتل الرشيد جعفر بْن يحيى بْن خالد وإيقاعه بالبرامكة …

ذكر الخبر عن سبب قتله إياه وكيف كان قتله وما فعل به وبأهل بيته:
أما سبب غضبه عليه الذي قتله عنده، فإنه مختلف فيه، فمن ذلك ما ذكر عن بختيشوع بْن جبريل، عن أبيه أنه قَالَ: إني لقاعد في مجلس الرشيد، إذ طلع يحيى بْن خالد- وكان فيما مضى يدخل بلا إذن- فلما دخل وصار بالقرب من الرشيد وسلم رد عليه ردا ضعيفا، فعلم يحيى أن أمرهم قد تغير.
قَالَ: ثم أقبل علي الرشيد، فقال: يا جبريل، يدخل عليك وأنت في منزلك أحد بلا إذنك! فقلت: لا، ولا يطمع في ذلك قَالَ: فما بالنا يدخل علينا بلا إذن! فقام يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، قدمني الله قبلك، والله ما ابتدأت ذلك الساعة، وما هو إلا شيء كان خصني به أمير المؤمنين، ورفع به ذكري، حتى أن كنت لأدخل وهو في فراشه مجردا حينا، وحينا في بعض إزاره، وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، وإذ قد علمت فإني أكون عنده في الطبقة الثانية من أهل الإذن، أو الثالثة إن أمرني سيدي بذلك قال: فاستحيا- قَالَ: وكان من أرق الخلفاء وجها- وعيناه في الأرض، ما يرفع إليه طرفه، ثم قَالَ: ما أردت ما تكره، ولكن الناس يقولون قَالَ: فظننت أنه لم يسنح له جواب يرتضيه فأجاب بهذا القول ثم أمسك عنه، وخرج يحيى.
وذكر عن أحمد بْن يوسف أن ثمامة بْن أشرس، قَالَ: أول ما أنكر يحيى بْن خالد من أمره، أن محمد بْن الليث رفع رسالة إلى الرشيد يعظه فيها، ويذكر أن يحيى بْن خالد لا يغني عنك من الله شيئا، وقد جعلته فيما بينك وبين الله، فكيف أنت إذا وقفت بين يديه، فسألك عما عملت في عباده وبلاده، فقلت: يا رب إني استكفيت يحيى أمور عبادك! أتراك تحتج بحجة يرضى بها! مع كلام فيه توبيخ وتقريع فدعا الرشيد يحيى- وقد تقدم إليه خبر الرسالة- فقال: تعرف محمد بْن الليث؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأي الرجال هو؟ قَالَ: متهم على الإسلام، فأمر به فوضع في المطبق دهرا، فلما تنكر الرشيد للبرامكة ذكره فأمر بإخراجه، فأحضر، فقال له بعد مخاطبة طويلة: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ: تقول هذا! قَالَ: نعم، وضعت في رجلي الأكبال، وحلت بيني وبين العيال بلا ذنب أتيت، ولا حدث أحدثت، سوى قول حاسد يكيد الإسلام وأهله، ويحب الإلحاد وأهله، فكيف أحبك! قَالَ: صدقت، وأمر بإطلاقه، ثم قَالَ: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن قد ذهب ما في قلبي، فأمر أن يعطى مائة ألف درهم، فأحضرت، فقال: يا محمد، أتحبني؟ قَالَ: أما الآن فنعم، قد أنعمت علي، وأحسنت إلي قَالَ: انتقم الله ممن ظلمك، وأخذ لك بحقك ممن بعثني عليك قَالَ: فقال الناس في البرامكة فأكثروا، وكان ذلك أول ما ظهر من تغير حالهم.
قَالَ: وحدثني محمد بْن الفضل بْن سفيان، مولى سليمان بْن أبي جعفر، قَالَ: دخل يحيى بْن خالد بعد ذلك على الرشيد، فقام الغلمان إليه، فقال الرشيد لمسرور الخادم: مر الغلمان ألا يقوموا ليحيى إذا دخل الدار قَالَ:
فدخل فلم يقم إليه أحد، فاربد لونه قَالَ: وكان الغلمان والحجاب بعد إذا رأوه أعرضوا عنه قَالَ: فكان ربما استسقى الشربة من الماء أو غيره، فلا يسقونه، وبالحري إن سقوه أن يكون ذلك بعد أن يدعو بها مرارا.
وذكر أبو محمد اليزيدي- وكان فيما قيل من أعلم الناس بأخبار القوم- قَالَ: من قَالَ إن الرشيد قتل جعفر بْن يحيى بغير سبب يحيى ابن عبد الله ابن حسن فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم دعا به ليلة من الليالي فسأله عن شيء من أمره، فأجابه، إلى أن قَالَ: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون خصمك غدا محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا أويت محدثا فرق عليه، وقال له: اذهب حيث شئت من بلاد الله قَالَ: وكيف أذهب ولا آمن أن أوخذ بعد قليل فأرد إليك أو إلى غيرك! فوجه معه من أداه إلى مأمنه وبلغ الخبر الفضل بْن الربيع، من عين كانت له عليه من خاص خدمه، فعلا الأمر، فوجده حقا، وانكشف عنده، فدخل على الرشيد فأخبره، فأراه أنه لا يعبأ بخبره وقال: وما أنت وهذا لا أم لك! فلعل ذلك عن أمري، فانكسر الفضل، وجاءه جعفر فدعا بالغداء فأكلا، وجعل يلقمه ويحادثه، إلى أن كان آخر ما دار بينهما إن قَالَ: ما فعل يحيى بْن عبد الله؟ قَالَ: بحاله يا أمير المؤمنين في الحبس الضيق والأكبال قال: بحياتى! فاحجم جعفر- وكان من أدق الخلق ذهنا، وأصحهم فكرا- وهجس في نفسه أنه قد علم بشيء من أمره، فقال: لا وحياتك يا سيدي ولكن أطلقته وعلمت أنه لا حياة به ولا مكروه عنده قَالَ: نعم ما فعلت، ما عدوت ما كان في نفسي فلما خرج أتبعه بصره حتى كاد أن يتوارى عن وجهه، ثم قَالَ: قتلني الله بسيف الهدى على عمل الضلالة ان لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.
وحدث إدريس بْن بدر، قَالَ: عرض رجل للرشيد وهو يناظر يحيى، فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فادع بي إليك، فقال لهرثمة: خذ الرجل إليك، وسله عن نصيحته هذه، فسأله، فأبى أن يخبره وقال: هي سر من أسرار الخليفة، فأخبر هرثمة الرشيد بقوله، قَالَ: فقل له لا يبرح الباب حتى أفرغ له، قَالَ: فلما كان في الهاجرة انصرف من كان عنده، ودعا به، فقال: أخلني، فالتفت هارون إلى بنيه، فقال: انصرفوا يا فتيان، فوثبوا وبقي خاقان وحسين على رأسه، فنظر إليهما الرجل، فقال الرشيد: تنحيا عني، ففعلا، ثم أقبل على الرجل، فقال: هات ما عندك، فقال: على أن تؤمنني! قَالَ: على ان اؤمنك وأحسن إليك قَالَ: كنت بحلوان في خان من خاناتها، فإذا أنا بيحيى بْن عبد الله في دراعة صوف غليظة وكساء صوف أخضر غليظ، وإذا معه جماعة ينزلون إذا نزل، ويرحلون إذا رحل، ويكونون منه بصدد يوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه وهم من أعوانه، ومع كل واحد منهم منشور يأمن به إن عرض له قَالَ: أو تعرف يحيى ابن عبد الله؟ قَالَ: أعرفه قديما، وذلك الذي حقق معرفتي به بالأمس، قَالَ: فصفه لي، قَالَ: مربوع أسمر رقيق السمرة، أجلح، حسن العينين، عظيم البطن قَالَ: صدقت، هو ذاك قَالَ: فما سمعته يقول؟ قَالَ: ما سمعته يقول شيئا، غير أني رأيته يصلي، ورأيت غلاما من غلمانه أعرفه قديما جالسا على باب الخان، فلما فرغ من صلاته أتاه بثوب غسيل، فألقاه في عنقه ونزع جبة الصوف، فلما كان بعد الزوال صلى صلاة ظننتها العصر، وانا ارمقه، اطال في الاوليين، وخفف في الأخريين، فقال: لله أبوك! لجاد ما حفظت عليه، نعم تلك صلاه العصر، وذاك وقتها عند القوم، أحسن الله جزاءك، وشكر سعيك! فمن أنت؟ قَالَ: أنا رجل من أعقاب أبناء هذه الدولة، وأصلي من مرو، ومولدي مدينة السلام، قَالَ: فمنزلك بها؟ قَالَ: نعم، فأطرق مليا، ثم قَالَ: كيف احتمالك لمكروه تمتحن به في طاعتي! قَالَ: أبلغ من ذلك حيث أحب أمير المؤمنين، قال: كن بمكانك حتى ارجع فطفر في حجره كانت خلف ظهره، فأخرج كيسا فيه ألفا دينار، فقال: خذ هذه، ودعني وما أدبر فيك، فأخذها، وضم عليها ثيابه، ثم قَالَ: يا غلام، فأجابه خاقان وحسين، فقال: اصفعا ابن اللخناء، فصفعاه نحوا من مائة صفعة، ثم قَالَ: أخرجاه إلى من بقي في الدار، وعمامته في عنقه، وقولا: هذا جزاء من يسعى بباطنة أمير المؤمنين وأوليائه! ففعلا ذلك، وتحدثوا بخبره، ولم يعلم بحال الرجل أحد، ولا بما كان ألقى إلى الرشيد، حتى كان من أمر البرامكة ما كان.
وذكر يعقوب بْن إسحاق أن إبراهيم بْن المهدي حدثه قَالَ: أتيت جعفر بْن يحيى في داره التي ابتناها، فقال لي: أما تعجب من منصور بن زياد؟ قال: قلت فبماذا؟ قَالَ: سألته: هل ترى في داري عيبا؟ قَالَ: نعم، ليس فيها لبنة ولا صنوبرة، قَالَ إبراهيم: فقلت: الذي يعيبها عندي أنك أنفقت عليها نحوا من عشرين ألف ألف درهم، وهو شيء لا آمنه عليك غدا بين يدي أمير المؤمنين، قَالَ: هو يعلم أنه قد وصلني بأكثر من ذلك وضعف ذلك، سوى ما عرضني له قَالَ: قلت: إن العدو إنما يأتيه في هذا من جهة أن يقول: يا أمير المؤمنين، إذا أنفق على دار عشرين ألف ألف درهم، فأين نفقاته! وأين صلاته! وأين النوائب التي تنوبه! وما ظنك يا أمير المؤمنين بما وراء ذلك! وهذه جملة سريعة إلى القلب، والموقف على الحاصل منها صعب قَالَ: إن سمع مني قلت: إن لأمير المؤمنين نعما على قوم قد كفروها بالستر لها أو بإظهار القليل من كثيرها، وأنا رجل نظرت إلى نعمته عندي، فوضعتها في رأس جبل، ثم قلت للناس: تعالوا فانظروا وذكر زيد بْن علي بْن حسين بْن زيد أن إبراهيم بْن المهدي حدثه أن جعفر بْن يحيى، قَالَ له يوما- وكان جعفر بْن يحيى صاحبه عند الرشيد، وهو الذي قربه منه: إني قد استربت بأمر هذا الرجل- يعني الرشيد- وقد ظننت أن ذلك لسابق سبق في نفسي منه، فأردت أن أعتبر ذلك بغيري، فكنت أنت، فارمق ذلك في يومك هذا، وأعلمني ما ترى منه قَالَ: ففعلت ذلك في يومي، فلما نهض الرشيد من مجلسه كنت أول أصحابه نهض عنه، حتى صرت إلى شجر في طريقي، فدخلتها ومن معي، وأمرتهم بإطفاء الشمع، وأقبل الندماء يمرون بي واحدا واحدا، فأراهم ولا يروني، حتى إذا لم يبق منهم أحد، إذا أنا بجعفر قد طلع، فلما جاوز الشجر قَالَ: اخرج يا حبيبي، قَالَ: فخرجت، فقال: ما عندك؟ فقلت: حتى تعلمني كيف علمت أني هاهنا، قَالَ: عرفت عنايتك بما أعني به، وأنك لم تكن لتنصرف أو تعلمني ما رأيت منه، وعلمت أنك تكره أن ترى واقفا في مثل هذا الوقت، وليس في طريقك موضع أستر من هذا الموضع، فقضيت بأنك فيه، قلت: نعم، قَالَ: فهات ما عندك، قلت: رأيت الرجل يهزل إذا جددت، ويجد إذا هزلت قَالَ: كذا هو عندي، فانصرف يا حبيبي.
قَالَ: فانصرفت.
قَالَ: وحدثني علي بْن سليمان أنه سمع جعفر بْن يحيى يوما يقول: ليس لدارنا هذه عيب، إلا أن صاحبها فيها قليل البقاء- يعني نفسه.
وذكر عن موسى بْن يحيى، قَالَ: خرج أبي إلى الطواف في السنة التي أصيب فيها، وأنا معه من بين ولده، فجعل يتعلق بأستار الكعبة، ويردد الدعاء، ويقول: اللهم ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك، ولا يعرفها سواك اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي في الدنيا، وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري، ومالي وولدي، حتى تبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة.
قَالَ: وحدثني أحمد بْن الحسن بْن حرب، قَالَ: رأيت يحيى وقد قابل البيت، وتعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني نعمتك عندي فاسلبني، اللهم إن كان رضاك في أن تسلبني أهلي وولدي فاسلبني، اللهم إلا الفضل قَالَ: ثم ولى ليمضي، فلما قرب من باب المسجد كر مسرعا، ففعل مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يرغب إليك ثم يستثنى عليك اللهم والفضل قَالَ: فلما انصرفوا من الحج نزلوا الأنبار، ونزل الرشيد بالعمر ومعه وليا العهد، الأمين والمأمون، ونزل الفضل مع الأمين، وجعفر مع المأمون، ويحيى في منزل خالد بْن عيسى كاتبه، ومحمد بْن يحيى في منزل ابن نوح صاحب الطراز، ونزل محمد بْن خالد مع المأمون بالعمر مع الرشيد، قَالَ: وخلا الرشيد بالفضل ليلا، ثم خلع عليه وقلده، وأمره أن ينصرف مع محمد الأمين، ودعا بموسى بْن يحيى فرضي عنه وكان غضب عليه بالحيرة في بدأته، لأن علي بْن عيسى بْن ماهان اتهمه عند الرشيد في أمر خراسان وأعلمه طاعة أهلها له، ومحبتهم إياه، وأنه يكاتبهم ويعمل على الانسلال إليهم والوثوب به معهم، فوقر ذلك في نفس الرشيد عليه وأوحشه منه، وكان موسى أحد الفرسان الشجعان، فلما قدح علي بْن عيسى فيه أسرع ذلك في الرشيد، وعمل فيه القليل منه، ثم ركب موسى دين، واختفى من غرمائه، فتوهم الرشيد أنه صار إلى خراسان، كما قيل له، فلما صار الى الحيرة في هذه الحجة وافاه موسى من بغداد، فحبسه الرشيد عند العباس بْن موسى بالكوفة، فكان ذلك أول ثلمة ثلموا بها، فركبت أم الفضل بْن يحيى في أمره، ولم يكن يردها في شيء، فقال: يضمنه أبوه فقد رفع إلي فيه، فضمنه يحيى ودفعه إليه، ثم رضي عنه، وخلع عليه، وكان الرشيد قد عتب على الفضل ابن يحيى، وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه، فكان الفضل يقول: لو علمت أن الماء ينقص من مروءتى ما شربته، وكان مشغوفا بالسماع.
قَالَ: وكان جعفر يدخل في منادمة الرشيد، حتى كان أبوه ينهاه عن منادمته، ويأمره بترك الإنس به، فيترك أمر أبيه، ويدخل معه فيما يدعوه إليه وذكر عن سعيد بْن هريم أن يحيى كتب إلى جعفر حين أعيته حيلته فيه: إني إنما أهملتك ليعثر الزمان بك عثرة تعرف بها أمرك، وإن كنت لأخشى أن تكون التي لا شوى لها قَالَ: وقد كان يحيى قَالَ للرشيد:
يا أمير المؤمنين، أنا والله أكره مداخلة جعفر معك، ولست آمن أن ترجع العاقبة في ذلك على منك، فلو اعفيته واقتصرت به على ما يتولاه من جسيم أعمالك، كان ذلك واقعا بموافقتي، وآمن لك علي قَالَ الرشيد: يا أبت ليس بك هذا، ولكنك إنما تريد أن تقدم عليه الفضل.
وقد حدثني أحمد بْن زهير- أحسبه عن عمه زاهر بْن حرب- أن سبب هلاك جعفر والبرامكة أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، وذلك بعد أن أعلم جعفرا قلة صبره عنه وعنها، وقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها إذا احضرتها مجلسى، وتقدم اليه ألا يمسها، ولا يكون منه شيء مما يكون للرجل إلى زوجته، فزوجها منه على ذلك، فكان يحضرهما مجلسه إذا جلس للشرب، ثم يقوم عن مجلسه ويخليهما، فيثملان من الشراب، وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها، فحملت منه وولدت غلاما، فخافت على نفسها من الرشيد إن علم بذلك، فوجهت بالمولود مع حواضن له من مماليكها إلى مكة، فلم يزل الأمر مستورا عن هارون، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، وأخبرته بمكانه، ومع من هو من جواريها، وما معه من الحلي الذي كانت زينته به أمه، فلما حج هارون هذه الحجة، أرسل إلى الموضع الذي كانت الجارية أخبرته أن الصبي به من يأتيه بالصبي وبمن معه من حواضنه، فلما أحضروا سأل اللواتي معهن الصبي، فأخبرنه بمثل القصة التي أخبرته بها الرافعة على عباسة، فأراد- فيما زعم- قتل الصبي، ثم تحوب من ذلك.
وكان جعفر يتخذ للرشيد طعاما كلما حج بعسفان فيقريه إذا انصرف شاخصا من مكة إلى العراق، فلما كان في هذا العام، اتخذ الطعام جعفر كما كان يتخذه هنالك، ثم استزاره فاعتل عليه الرشيد، ولم يحضر طعامه، ولم يزل جعفر معه حتى نزل منزله من الأنبار، فكان من أمره وأمر أبيه ما أنا ذاكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن مقتل جعفر
ذكر الفضل بْن سليمان بْن علي أن الرشيد حج في سنة ست وثمانين ومائة وأنه انصرف من مكة، فوافى الحيرة في المحرم من سنة سبع وثمانين ومائة عند انصرافه من الحج، فأقام في قصر عون العبادي أياما، ثم شخص في السفن حتى نزل العمر الذي بناحية الأنبار، فلما كان ليلة السبت لانسلاخ المحرم، أرسل مسرورا الخادم ومعه حماد بْن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بْن يحيى ليلا، ودخل عليه مسرور وعنده ابن بختيشوع المتطبب وأبو زكار الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في لهوه، فأخرجه إخراجا عنيفا يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد بأخذه إياه ومجيئه به، فأمر بضرب عنقه، ففعل ذلك.
وذكر عن علي بْن أبي سعيد أن مسرورا الخادم، حدثه قَالَ: أرسلني الرشيد لآتيه بجعفر بْن يحيى لما أراد قتله، فأتيته وعنده أبو زكار الأعمى المغني وهو يغنيه:

فلا تبعد فكل فتى سيأتي *** عليه الموت يطرق أو يغادي

قَالَ: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له من ذلك قد والله طرقك، أجب أمير المؤمنين قَالَ: فرفع يديه، ووقع على رجلي يقبلهما، وقال: حتى أدخل فأوصي، قلت:: أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص بما شئت، فتقدم في وصيته بما أراد، وأعتق مماليكه، ثم أتتني رسل أمير المؤمنين تستحثني به، قَالَ: فمضيت به إليه فأعلمته، فقال لي وهو في فراشه:
ائتني برأسه، فأتيت جعفرا فأخبرته، فقال: يا أبا هاشم، الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهو سكران، فدافع بأمري حتى أصبح أؤامره في ثانيه، فعدت لأؤامره، فلما سمع حسي، قَالَ: يا ماص بظر أمه، ائتنى برأس جعفر! فعدت الى جعفر، فأخبرته، فقال: عاوده في ثالثة، فأتيته، فحذفني بعمود ثم قَالَ: نفيت من المهدي إن أنت جئتني ولم تأتني برأسه، لأرسلن إليك من يأتيني برأسك أولا، ثم برأسه آخرا قَالَ: فخرجت فأتيته برأسه.
قَالَ: وأمر الرشيد في تلك الليلة بتوجيه من أحاط بيحيى بْن خالد وجميع ولده ومواليه، ومن كان منهم بسبيل، فلم يفلت منهم أحد كان حاضرا، وحول الفضل بْن يحيى ليلا فحبس في ناحية من منازل الرشيد، وحبس يحيى ابن خالد في منزله، وأخذ ما وجد لهم من مال وضياع ومتاع وغير ذلك، ومنع أهل العسكر من أن يخرج منهم خارج إلى مدينة السلام أو إلى غيرها، ووجه من ليلته رجاء الخادم إلى الرقة في قبض أموالهم وما كان لهم، وأخذ كل ما كان من رقيقهم ومواليهم وحشمهم، وولاه أمورهم، وفرق الكتب من ليلته إلى جميع العمال في نواحي البلدان والأعمال بقبض أموالهم، وأخذ وكلائهم.
فلما أصبح بعث بجثة جعفر بْن يحيى مع شعبة الخفتاني وهرثمة بْن أعين وإبراهيم بْن حميد المروروذي، وأتبعهم عدة من خدمه وثقاته، منهم مسرور الخادم إلى منزل جعفر بْن يحيى، وإبراهيم بْن حميد وحسين الخادم إلى منزل الفضل بْن يحيى، ويحيى بْن عبد الرحمن ورشيد الخادم إلى منزل يحيى ومحمد ابن يحيى، وجعل معه هرثمة بْن أعين، وأمر بقبض جميع ما لهم، وكتب إلى السندي الحرشي بتوجيه جيفة جعفر إلى مدينة السلام، ونصب رأسه على الجسر الأوسط وقطع جثته، وصلب كل قطعة منها على الجسر الأعلى والجسر الأسفل ففعل السندي ذلك، وأمضى الخدم ما كانوا وجهوا فيه، وحمل عدة من أولاد الفضل وجعفر ومحمد الأصاغر إلى الرشيد، فأمر بإطلاقهم، وأمر بالنداء في جميع البرامكة: ألا أمان لمن آواهم إلا محمد بْن خالد وولده وأهله وحشمه، فإنه استثناهم، لما ظهر من نصيحة محمد له، وعرف براءته مما دخل فيه غيره من البرامكة وخلى سبيل يحيى قبل شخوصه من العمر، ووكل بالفضل ومحمد وموسى بني يحيى، وبأبي المهدي صهرهم حفظة من قبل هرثمة بْن أعين، إلى أن وافى بهم الرقة، فأمر الرشيد بقتل أنس بْن أبي شيخ يوم قدم الرقة، وتولى قتله إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك، ثم صلب وحبس يحيى بْن خالد مع الفضل ومحمد في دير القائم، وجعل عليهم حفظة من قبل مسرور الخادم وهرثمة بْن أعين، ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه، وصير معهم زبيدة بنت منير أم الفضل ودنانير جارية يحيى وعدة من خدمهم وجواريهم ولم تزل حالهم سهلة إلى أن سخط الرشيد على عبد الملك بْن صالح، فعمهم بالتثقيف بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.
وذكر الزبير بن بكار أن جعفر بْن الحسين اللهبي حدثه أن الرشيد اتى بانس ابن أبي شيخ صبح الليلة التي قتل فيها جعفر بْن يحيى، فدار بينه وبينه كلام، فأخرج الرشيد سيفا من تحت فراشه، وأمر أن تضرب عنقه، وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك:

تلمظ السيف من شوق إلى أنس *** فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

قال: فضرب عنقه، فسبق السيف الدم، فقال الرشيد: رحم الله عبد الله ابن مصعب وقال الناس: إن السيف كان سيف الزبير بْن العوام.
وذكر بعضهم أن عبد الله بْن مصعب كان على خبر الناس للرشيد، فكان أخبره عن أنس أنه على الزندقة، فقتله لذلك، وكان أحد أصحاب البرامكة وذكر محمد بْن إسحاق أن جعفر بْن محمد بْن حكيم الكوفي، حدثه قَالَ: حدثني السندي بن شاهك، قَالَ: إني لجالس يوما، فإذا أنا بخادم قد قدم على البريد، ودفع إلي كتابا صغيرا، ففضضته، فإذا كتاب الرشيد بخطه فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: يا سندي، إذا نظرت في كتابي هذا، فإن كنت قاعدا فقم، وإن كنت قائما فلا تقعد حتى تصير إلي قَالَ السندي: فدعوت بدوابي، ومضيت وكان الرشيد بالعمر، فحدثني العباس بْن الفضل بْن الربيع، قَالَ: جلس الرشيد في الزو في الفرات ينتظرك، وارتفعت غبرة، فقال لي: يا عباس، ينبغي أن يكون هذا السندي وأصحابه! قلت: يا أمير المؤمنين،ما اشبهه ان يكون هو قَالَ: فطلعت قَالَ: السندي: فنزلت عن دابتي، ووقفت، فأرسل إلي الرشيد فصرت إليه، ووقفت ساعة بين يديه، فقال لمن كان عنده من الخدم: قوموا، فقاموا فلم يبق إلا العباس بْن الفضل وأنا، ومكث ساعة، ثم قَالَ للعباس: اخرج ومر برفع التخاتج المطروحة على الزو، ففعل ذلك، فقال لي: ادن مني، فدنوت منه، فقال لي: تدري فيم أرسلت إليك؟ قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قَالَ: قد بعثت إليك في أمر لو علم به زر قميصي رميت به في الفرات، يا سندي من أوثق قوادي عندي؟ قلت: هرثمة، قَالَ: صدقت، فمن أوثق خدمي عندي؟ قلت: مسرور الكبير، قَالَ: صدقت، امض من ساعتك هذه وجد في سيرك حتى توافي مدينة السلام، فاجمع ثقات أصحابك وأرباعك، ومرهم أن يكونوا وأعوانهم على أهبة فإذا انقطعت الزجل، فصر إلى دور البرامكة، فوكل بكل باب من أبوابهم صاحب ربع، ومره أن يمنع من يدخل ويخرج- خلا باب محمد بْن خالد- حتى يأتيك أمري قَالَ: ولم يكن حرك البرامكة في ذلك الوقت قَالَ السندي: فجئت أركض، حتى أتيت مدينة السلام، فجمعت أصحابي، وفعلت ما أمرني به قَالَ: فلم ألبث أن أقدم على هرثمة ابن أعين، ومعه جعفر بْن يحيى على بغل بلا أكاف، مضروب العنق، وإذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني أن أشطره باثنين، وأن أصلبه على ثلاثة جسور.
قَالَ: ففعلت ما أمرني به.
قَالَ محمد بْن إسحاق: فلم يزل جعفر مصلوبا حتى أراد الرشيد الخروج إلى خراسان، فمضيت فنظرت إليه، فلما صار بالجانب الشرقي على باب خزيمة بْن خازم، دعا بالوليد بْن جشم الشاري من الحبس، وأمر أحمد بْن الجنيد الختلي- وكان سيافه- فضرب عنقه، ثم التفت إلى السندي، فقال:
ينبغي أن يحرق هذا- يعني جعفرا- فلما مضى، جمع السندي له شوكا وحطبا وأحرقه وقال محمد بْن إسحاق: لما قتل الرشيد جعفر بْن يحيى، قيل ليحيى بْن خالد: قتل أمير المؤمنين ابنك جعفرا، قَالَ: كذلك يقتل ابنه، قَالَ: فقيل له: خربت ديارك، قَالَ: كذلك تخرب دورهم وذكر الكرماني أن بشارا التركي حدثه أن الرشيد خرج إلى الصيد وهو بالعمر في اليوم الذي قتل جعفرا في آخره، فكان ذلك اليوم يوم جمعة، وجعفر ابن يحيى معه قد خلا به دون ولاة العهد، وهو يسير معه، وقد وضع يده على عاتقه، وقبل ذلك ما غلفه بالغالية بيد نفسه، ولم يزل معه ما يفارقه حتى انصرف مع المغرب، فلما أراد الدخول ضمه إليه، وقال له: لولا أني على الجلوس الليلة مع النساء لم أفارقك، فأقم أنت في منزلك، واشرب أيضا واطرب، لتكون أنت في مثل حالي، فقال: لا والله ما أشتهي ذلك إلا معك، فقال له: بحياتي لما شربت، فانصرف عنه إلى منزله، فلم تزل رسل الرشيد عنده ساعة بعد ساعه تأتيه بالانفال والأبخرة والرياحين، حتى ذهب الليل ثم بعث إليه مسرورا فحبس عنده، وأمر بقتله وحبس الفضل ومحمد وموسى، ووكل سلاما الأبرش بباب يحيى بْن خالد، ولم يعرض لمحمد بْن خالد ولا لأحد من ولده وحشمه.
قَالَ: فحدثني العباس بْن بزيع عن سلام، قَالَ: لما دخلت على يحيى في ذلك الوقت- وقد هتكت الستور وجمع المتاع- قَالَ لي: يا أبا سلمة، هكذا تقوم الساعة! قَالَ سلام: فحدثت بذلك الرشيد بعد ما انصرفت إليه، فأطرق مفكرا.
قَالَ وحدثني أيوب بْن هارون بْن سليمان بْن علي، قَالَ: كان سكني إلى يحيى، فلما نزلوا الأنبار خرجت إليه فأنا معه في تلك العشية التي كان آخر أمره، وقد صار إلى أمير المؤمنين في حراقته، فدخل إليه من باب صاحب الخاصة، فكلمه في حوائج الناس وغيرها من إصلاح الثغور وغزو البحر، ثم خرج، فقال للناس: قد أمر أمير المؤمنين بقضاء حوائجكم، وبعث إلى أبي صالح يحيى بْن عبد الرحمن يأمره بإنفاذ ذلك، ثم لم يزل يحدثنا عن أبي مسلم وتوجيه معاذ بْن مسلم حتى دخل منزله بعد المغرب، ووافانا في وقت السحر خبر مقتل جعفر وزوال أمرهم قَالَ: فكتبت إلى يحيى أعزيه، فكتب إلي: أنا بقضاء الله راض، وبالخيار منه عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] وما يعفو الله أكثر، ولله الحمد.
قَالَ: وقتل جعفر بْن يحيى في ليلة السبت أول ليلة من صفر سنة سبع وثمانين ومائة وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة- وفي ذلك يقول الرقاشي:

أيا سبت يا شر السبوت صبيحة *** ويا صفر المشئوم ما جئت أشأما
أتى السبت بالأمر الذي هد ركننا*** وفي صفر جاء البلاء مصمما

قَالَ: وذكر عن مسرور أنه أعلم الرشيد أن جعفرا سأله أن تقع عينه عليه، فقال: لا، لأنه يعلم إن وقعت عيني عليه لم اقتله.
ما قيل في البرامكه من الشعر بعد زوال امرهم قَالَ: وفيهم يقول الرقاشي، وقد ذكر أن هذا الشعر لأبي نواس:

ألآن استرحنا واستراحت ركابنا *** وامسك من يجدي ومن كان يجتدى
فقل للمطايا قد أمنت من السرى *** وطي الفيافي فدفدا بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر *** ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعطلى *** وقل للرزايا كل يوم تجددى
ودونك سيفا برمكيا مهندا *** أصيب بسيف هاشمي مهند

وفيهم يقول في شعر له طويل:

إن يغدر الزمن الخئون بنا فقد *** غدر الزمان بجعفر ومحمد
حتى إذا وضح النهار تكشفت *** عن قتل اكرم هالك لم يلحد
والبيض لولا أنها مأمورة *** ما فل حد مهند بمهند
يا آل برمك كم لكم من نائل *** وندى، كعد الرمل غير مصرد
إن الخليفة- لا يشك- أخوكم *** لكنه في برمك لم يولد
نازعتموه رضاع أكرم حرة *** مخلوقة من جوهر وزبرجد
ملك له كانت يد فياضة*** أبدا تجود بطارف وبمتلد
كانت يدا للجود حتى غلها *** قدر فأضحى الجود مغلول اليد

وفيهم يقول سيف بْن إبراهيم:

هوت أنجم الجدوى وشلت يد الندى *** وغاضت بحور الجود بعد البرامك
هوت أنجم كانت لأبناء برمك *** بها يعرف الحادي طريق المسالك

وقال ابن أبي كريمة:

كل معير أعير مرتبة *** بعد فتى برمك على غرر
صالت عليه من الزمان يد *** كان بها صائلا على البشر

وقال العطوي أبو عبد الرحمن:

أما والله لولا قول واش *** وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا *** كما للناس بالحجر استلام
على الدنيا وساكنها جميعا *** ودولة آل برمك السلام

وفي قتل جعفر قَالَ أبو العتاهية:

قولا لمن يرتجي الحياة أما *** في جعفر عبره ويحياه!
كانا وزيرى خليفة الله *** هارون هما ما هما خليلاه
فذاكم جعفر برمته*** في حالق رأسه ونصفاه
والشيخ يحيى الوزير أصبح ***  قد نحاه عن نفسه وأقصاه
شتت بعد التجميع شملهم ***  فأصبحوا في البلاد قد تاهوا
كذاك من يسخط الإله بما ***  يرضي به العبد يجزه الله
سبحان من دانت الملوك له***  أشهد أن لا إله إلا هو
طوبى لمن تاب بعد غرته ***  فتاب قبل الممات، طوباه!

قال: وفي هذه السنة هاجت العصبية بدمشق بين المضرية واليمانية، فوجه الرشيد محمد بْن منصور بْن زياد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة فانهدم بعض سورها، ونضب ماؤهم ساعه الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بْن سعيد العقيلي.
وفيها مات يعقوب بْن داود بالرقة.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قربانا له ووسيله، وولاه العواصم.

ذكر الخبر عن غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح
وفيها غضب الرشيد على عبد الملك بْن صالح وحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وما أوجب حبسه:
ذكر أحمد بْن إبراهيم بْن إسماعيل أن عبد الملك بْن صالح كان له ابن يقال له عبد الرحمن، كان من رجال الناس، وكان عبد الملك يكنى به، وكان لابنه عبد الرحمن لسان، على فأفأة فيه، فنصب لأبيه عبد الملك وقمامة، فسعيا به إلى الرشيد، وقالا له: إنه يطلب الخلافة ويطمع فيها، فأخذه وحبسه عند الفضل بْن الربيع، فذكر أن عبد الملك بْن صالح أدخل على الرشيد حين سخط عليه، فقال له الرشيد: أكفرا بالنعمة، وجحودا لجليل المنة والتكرمة! فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بؤت إذا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلا بغي حاسد نافسني فيك مودة القرابة وتقديم الولاية إنك يا أمير المؤمنين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في امته، وامينه على عترته، لك فيها فرض الطاعة وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمها والتثبت في حادثها، والغفران لذنوبها فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك! هذا كاتبك قمامة يخبر بغلك، وفساد نيتك، فاسمع كلامه.
فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده، ولعله لا يقدر أن يعضهني ولا يبهتني بما لم يعرفه مني وأحضر قمامة، فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف، قَالَ: أقول: إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك، فقال عبد الملك: أهو كذاك يا قمامة! قَالَ قمامة: نعم، لقد أردت ختل أمير المؤمنين، فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي وهو يبهتني في وجهي! فقال له الرشيد: وهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك وفساد نيتك، ولو أردت أن أحتج عليك بحجة لم أجد أعدل من هذين لك، فبم تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك بْن صالح: هو مأمور، أو عاق مجبور، فإن كان مأمورا فمعذور، وإن كان عاقا ففاجر كفور، أخبر الله عز وجل بعداوته، وحذر منه بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] .
قَالَ: فنهض الرشيد، وهو يقول: أما أمرك فقد وضح، ولكني لا أعجل حتى أعلم الذي يرضي الله فيك، فإنه الحكم بيني وبينك فقال عبد الملك: رضيت بالله حكما، وبأمير المؤمنين حاكما، فإني أعلم أنه يؤثر كتاب الله على هواه، وأمر الله على رضاه.
قَالَ: فلما كان بعد ذلك جلس مجلسا آخر، فسلم لما دخل، فلم يرد عليه، فقال عبد الملك: ليس هذا يوما أحتج فيه، ولا أجاذب منازعا وخصما قال: ولم؟ قال: لان أوله جرى على غير السنة، فأنا أخاف آخره.
قَالَ: وما ذاك؟ قَالَ: لم ترد علي السلام، أنصف نصفة العوام قَالَ:
السلام عليكم، اقتداء بالسنة، وإيثارا للعدل، واستعمالا للتحية ثم التفت نحو سليمان بْن أبي جعفر، فقال وهو يخاطب بكلامه عبد الملك:

أريد حياته ويريد قتلي البيت.

ثم قَالَ: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد أورى نارا تسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم ورءوس بلا غلاصم، فمهلا، فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أثناء أزمتها، فنذار لكم نذار، قبل حلول داهية خبوط باليد، لبوط بالرجل فقال عبد الملك: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما ولاك، وفي رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلا.
فالله الله في ذي رحمك أن تقطعه، بعد ان بللته بظن أفصح الكتاب لي بعضه، أو ببغي باغ ينهس اللحم، ويالغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم من ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق قمته، كنت كما قَالَ أخو بني جعفر بْن كلاب:

ومقام ضيق فرجته *** ببناني ولساني وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله *** زل عن مثل مقامى وزحل

قال: فقال له الرشيد: أما والله لولا الإبقاء على بني هاشم لضربت عنقك.
وذكر زيد بْن علي بْن الحسين العلوي، قَالَ: لما حبس الرشيد عبد الملك ابن صالح، دخل عليه عبد الله بْن مالك- وهو يومئذ على شرطه- فقال: أفي إذن أنا فأتكلم؟ قَالَ: تكلم، قَالَ: لا، والله العظيم يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحا، فعلام حبسته! قَالَ: ويحك! بلغني عنه ما أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين- يعني الأمين والمأمون- فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه قال: اما إذ حبسته يا أمير المؤمنين، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه، ولكن أرى أن تحبسه محبسا كريما يشبه محبس مثلك مثله قَالَ: فإني أفعل قَالَ: فدعا الرشيد الفضل بْن الربيع، فقال: امض إلى عبد الملك بْن صالح إلى محبسه، فقل له: انظر ما تحتاج إليه في محبسك فأمر به حتى يقام لك، فذكر قصته وما سأل.
قَالَ: وقال الرشيد يوما لعبد الملك بْن صالح في بعض ما كلمه: ما أنت لصالح! قَالَ: فلمن أنا؟ قَالَ: لمروان الجعدي، قَالَ: ما أبالي أي الفحلين غلب علي، فحبسه الرشيد عند الفضل بْن الربيع، فلم يزل محبوسا حتى توفي الرشيد، فأطلقه محمد، وعقد له على الشام، فكان مقيما بالرقة، وجعل لمحمد عهد الله وميثاقه: لئن قتل وهو حي لا يعطي المأمون طاعة أبدا فمات قبل محمد، فدفن في دار من دور الإمارة، فلما خرج المأمون يريد الروم أرسل إلى ابن له: حول أباك من داري، فنبشت عظامه وحولت.
كان قَالَ لمحمد: ان خفت فالجا الى، فو الله لأصوننك.
وذكر أن الرشيد بعث في بعض أيامه إلى يحيى بْن خالد: أن عبد الملك ابن صالح أراد الخروج ومنازعتي في الملك، وقد علمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذا، ولو اطلعت عليه لكنت صاحبه دونك، لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي، فكيف يجوز لعبد الملك أن يطمع في ذلك مني! وهل كنت إذا فعلت ذلك به يفعل بي أكثر من فعلك! أعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن، ولكنه كان رجلا محتملا، يسرني أن يكون في أهلك مثله، فوليته، لما أحمدت من مذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله قَالَ: فلما أتاه الرسول بهذا أعاد إليه، فقال: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك، فقال له: أنت مسلط علينا فافعل ما أردت، على أنه إن كان من هذا الأمر شيء فالذنب فيه لي، فبم يدخل الفضل في ذلك! فقال الرسول للفضل: قم، فإنه لا بد لي من إنفاذ أمر أمير المؤمنين فيك، فلم يشك أنه قاتله، فودع أباه، وقال له: ألست راضيا عني؟ قَالَ: بلى، فرضي الله عنك ففرق بينهما ثلاثة أيام، فلما لم يجد عنده من ذلك شيئا جمعهما كما كانا.
وكان يأتيهم منه أغلظ رسائل، لما كان اعداؤهم يقرفونهم به عنده، فلما أخذ مسرور بيد الفضل كما اعلمه، بلغ من يحيى، فأخرج ما في نفسه، فقال له: قل له: يقتل ابنك مثله قَالَ مسرور: فلما سكن عن الرشيد الغضب، قَالَ: كيف قَالَ؟ فأعدت عليه القول، قَالَ: قد خفت والله قوله، لأنه قلما قَالَ لي شيئا إلا رأيت تأويله.
وقيل: بينما الرشيد يسير وفي موكبه عبد الملك بْن صالح، إذ هتف به هاتف وهو يساير عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، طأطئ من أشرافه وقصر من عنانه، واشدد من شكائمه، وإلا أفسد عليك ناحيته فالتفت إلى عبد الملك، فقال: ما يقول هذا يا عبد الملك؟ فقَالَ عبد الملك: مقال باغ ودسيس حاسد، فقال له هارون: صدقت، نقص القوم ففضلتهم، وتخلفوا وتقدمتهم، حتى برز شأوك، فقصر عنه غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات النقص فقال عبد الملك: لا أطفأها الله وأضرمها عليهم حتى تورثهم كمدا دائما ابدا.
وقال الرشيد لعبد الملك بْن صالح وقد مر بمنبج، وبها مستقر عبد الملك:
هذا منزلك؟ قَالَ: هو لك يا أمير المؤمنين، ولي بك قَالَ: كيف هو؟
قَالَ: دون بناء أهلي وفوق منازل منبج، قَالَ: فكيف ليلها؟ قال: سحر كله.

ذكر الخبر عن دخول القاسم بن الرشيد ارض الروم
وفي هذه السنه دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة وحاصرها، ووجه العباس بْن جعفر بْن محمد بْن الأشعث، فأناخ على حصن سنان حتى جهدوا، فبعثت إليه الروم تبذل له ثلاثمائة وعشرين رجلا من أسارى المسلمين، على أن يرحل عنهم، فأجابهم إلى ذلك، ورحل عن قرة وحصن سنان صلحا.
ومات علي بْن عيسى بْن موسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وهو مع القاسم.

ذكر الخبر عن نقض الروم الصلح
وفي هذه السنة نقض صاحب الروم الصلح الذي كان جرى بين الذي قبله وبين المسلمين، ومنع ما كان ضمنه الملك لهم قبله.

ذكر الخبر عن سبب نقضهم ذلك:
وكان سبب ذلك أن الصلح كان جرى بين المسلمين وصاحب الروم وصاحبتهم يومئذ رينى- وقد ذكرنا قبل سبب الصلح الذي كان بين المسلمين وبينها- فعادت الروم على رينى فخلعتها، وملكت عليها نقفور والروم تذكر أن نقفور هذا من أولاد جفنة من غسان، وأنه قبل الملك كان يلي ديوان الخراج، ثم ماتت رينى بعد خمسة أشهر من خلع الروم إياها، فذكر أن نقفور لما ملك واستوسقت له الروم بالطاعة، كتب إلى الرشيد:
من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي، أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثالها إليها، لكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
قَالَ: فلما قرأ الرشيد الكتاب، استفزه الغضب حتى لم يمكن أحدا أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه خوفا من زيادة قول أو فعل يكون منهم، واستعجم الرأي على الوزير من أن يشير عليه أو يتركه يستبد برأيه دونه، فدعا بدواة وكتب على ظهر الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرات كتابك يا بن الكافره، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام.
ثم شخص من يومه، وسار حتى أناخ بباب هرقلة، ففتح وغنم، واصطفى وأفاد، وخرب وحرق، واصطلم فطلب نقفور الموادعة على خراج يؤديه في كل سنة، فأجابه إلى ذلك، فلما رجع من غزوته، وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وخان الميثاق وكان البرد شديدا، فيئس نقفور من رجعته إليه، وجاء الخبر بارتداده عما أخذ عليه، فما تهيأ لأحد إخباره بذلك إشفاقا عليه وعلى أنفسهم من الكرة في مثل تلك الأيام، فاحتيل له بشاعر من اهل خره يكنى أبا محمد عبد الله بْن يوسف- ويقال: هو الحجاج بْن يوسف التيمي، فقال:

نقض الذي أعطيته نقفور *** وعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه *** غنم أتاك به الإله كبير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى *** بالنقض عنه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة *** تشفي النفوس مكانها مذكور
أعطاك جزيته وطأطأ خده *** حذر الصوارم والردى محذور
فأجرته من وقعها وكأنها *** بأكفنا شعل الضرام تطير
وصرفت بالطول العساكر قافلا *** عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر إن نأى *** عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت *** هبلتك أمك ما ظننت غرور!
ألقاك حينك في زواجر بحره *** فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر *** قربت ديارك أم نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا *** عما يسوس بحزمه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه *** فعدوه أبدا به مقهور
يا من يريد رضا الإله بسعيه *** والله لا يخفى عليه ضمير
لا نصح ينفع من يغش إمامه *** والنصح من نصحائه مشكور
نصح الامام على الأنام فريضة *** ولأهلها كفارة وطهور

وفي ذلك يقول إسماعيل بْن القاسم أبو العتاهية:

إمام الهدى أصبحت بالدين معنيا *** وأصبحت تسقي كل مستمطر ريا
لك إسمان شقا من رشاد ومن هدى *** فأنت الذي تدعى رشيدا ومهديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا *** وإن ترض شيئا كان في الناس مرضيا
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا *** فأوسعت شرقيا وأوسعت غربيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى *** فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله ان يصفو لهارون ملكه *** وكان قضاء الله في الخلق مقضيا
تحلبت الدنيا لهارون بالرضا *** فأصبح نقفور لهارون ذميا

وقال التيمي:

لجت بنقفور أسباب الردى عبثا*** لما رأته بغيل الليث قد عبثا
ومن يزر غيله لا يخل من فزع *** إن فات أنيابه والمخلب الشبثا
خان العهود ومن ينكث بها فعلى ***حوبائه، لا على أعدائه نكثا
كان الإمام الذي ترجى فواضله *** أذاقه ثمر الحلم الذي ورثا
فرد ألفته من بعد أن عطفت *** أزواجه مرها يبكينه شعثا

فلما فرغ من إنشاده، قَالَ: أو قد فعل نقفور ذلك! وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فكر راجعا في أشد محنة وأغلظ كلفة، حتى أناخ بفنائه، فلم يبرح حتى رضي وبلغ ما أراد، فقال أبو العتاهية:

ألا نادت هرقلة بالخراب *** من الملك الموفق بالصواب
غدا هارون يرعد بالمنايا *** ويبرق بالمذكرة القضاب
ورايات يحل النصر فيها *** تمر كأنها قطع السحاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم *** وابشر بالغنيمة والإياب

خبر مقتل ابراهيم بن عثمان بن نهيك
وفيها قتل- في قول الواقدي- إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك وأما غير الواقدي، فإنه قَالَ: في سنة ثمان وثمانين ومائة.

ذكر الخبر عن سبب مقتله:
ذكر عن صالح الأعمى- وكان في ناحية إبراهيم بْن عثمان بْن نهيك- قَالَ: كان إبراهيم بْن عثمان كثيرا ما يذكر جعفر بْن يحيى والبرامكة، فيبكي جزعا عليهم، وحبا لهم، إلى أن خرج من حد البكاء، ودخل في باب طالبي الثأر والإحن، فكان إذا خلا بجواريه وشرب وقوي عليه النبيذ، قَالَ: يا غلام، سيفي ذا المنية- وكان قد سمى سيفه ذا المنية- فيجيئه غلامه بالسيف فينتضيه، ثم يقول: وا جعفراه! وا سيداه! والله لاقتلن قاتلك، ولأثأرن بدمك عن قليل! فلما كثر هذا من فعله، جاء ابنه عثمان إلى الفضل بْن الربيع، فأخبره بقوله، فدخل الفضل فأخبر الرشيد، فقال: أدخله، فدخل، فقال: ما الذي قَالَ الفضل عنك؟ فأخبره بقول أبيه وفعله، فقال الرشيد: فهل سمع هذا أحد معك؟ قَالَ: نعم خادمه نوال، فدعا خادمه سرا فسأله، فقال: لقد قَالَ ذاك غير مرة ولا مرتين، فقال الرشيد: ما يحل لي أن أقتل وليا من أوليائي بقول غلام وخصى، لعلهما تواصيا على هذه المنافسه، الابن على المرتبة، ومعاداة الخادم لطول الصحبة، فترك ذلك أياما، ثم أراد أن يمتحن إبراهيم بْن عثمان بمحنة تزيل الشك عن قلبه، والخاطر عن وهمه، فدعا الفضل بْن الربيع، فقال: إني أريد محنة إبراهيم بْن عثمان فيما رفع ابنه عليه، فإذا رفع الطعام فادع بالشراب، وقل له: أجب أمير المؤمنين فينادمك، إذ كنت منه بالمحل الذي أنت به، فإذا شرب فاخرج وخلنى وإياه، ففعل ذلك الفضل بْن الربيع، وقعد إبراهيم للشراب، ثم وثب حين وثب الفضل بْن الربيع للقيام، فقال له الرشيد: مكانك يا إبراهيم، فقعد، فلما طابت نفسه، أومأ الرشيد إلى الغلمان فتنحوا عنه، ثم قَالَ: يا إبراهيم، كيف أنت وموضع السر منك؟ قَالَ: يا سيدي إنما أنا كأخص عبيدك، وأطوع خدمك، قَالَ: إن في نفسي أمرا أريد أن أودعكه، وقد ضاق صدري به، وأسهرت به ليلي، قَالَ: يا سيدي إذا لا يرجع عني إليك أبدا، وأخفيه عن جنبي أن يعلمه، ونفسي أن تذيعه قَالَ: ويحك! إني ندمت على قتل جعفر بْن يحيى ندامة ما أحسن أن أصفها، فوددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم منذ فارقته، ولا لذة العيش منذ قتلته! قَالَ: فلما سمعها إبراهيم أسبل دمعه، وأذرى عبرته، وقال: رحم الله أبا الفضل، وتجاوز عنه! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره! وأين يوجد في الدنيا مثله! وقد كان منقطع القرين في الناس أجمعين دينا فقال الرشيد: قم عليك لعنة الله يا بن اللخناء! فقام ما يعقل ما يطأ، فانصرف إلى أمه، فقال: يا أم، ذهبت والله نفسي، قَالَت: كلا إن شاء الله، وما ذاك يا بني؟ قَالَ: ذاك أن الرشيد امتحنني بمحنه والله، ولو كان لي ألف نفس لم أنج بواحدة منها فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه- فضربه بسيفه حتى مات- إلا ليال قلائل.
وحج بالناس في هذه السنة عبيد الله بْن العباس بْن محمد بن على.