197 هـ
812 م
سنة سبع وتسعين ومائة (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ففي هذه السنة لحق القاسم بْن هارون الرشيد ومنصور بن المهدي بالمأمون من العراق، فوجه المأمون القاسم الى جرجان …

ذكر خبر حصار الامين ببغداد
وفيها حاصر طاهر وهرثمة وزهير بْن المسيب محمد بْن هارون ببغداد.
ذكر الخبر عما آل إليه أمر حصارهم في هذه السنة، وكيف كان الحصار فيها:
ذكر محمد بْن يزيد التميمي وغيره أن زهير بْن المسيب الضبي نزل قصر رقة كلواذى، ونصب المجانيق والعرادات واحتفر الخنادق، وجعل يخرج في الأيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات من أقبل وأدبر، ويعشر أموال التجار ويجبي السفن، وبلغ من الناس كل مبلغ، وبلغ أمره طاهرا وأتاه الناس فشكوا إليه ما نزل بهم من زهير بْن المسيب، وبلغ ذلك هرثمة، فأمده بالجند، وقد كاد يؤخذ، فأمسك عنه الناس، فقال الشاعر من أهل الجانب الشرقي- لم يعرف اسمه- في زهير وقتله الناس بالمجانيق:

لا تقرب المنجنيق والحجرا *** فقد رأيت القتيل إذ قبرا
باكر كي لا يفوته خبر *** راح قتيلا وخلف الخبرا
ماذا به كان من نشاط ومن *** صحة جسم به إذا ابتكرا
أراد ألا يقال كان له *** أمر فلم يدر من به امرا
يا صاحب المنجنيق ما فعلت *** كفاك، لم تبقيا ولم تذرا

كان هواه سوى الذي قدرا *** هيهات لن يغلب الهوى القدرا

ونزل هرثمة نهر بين، وجعل عليه حائطا وخندقا، وأعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، ونزل طاهر البستان بباب الأنبار، فذكر عن الحسين الخليع أنه قَالَ: لما تولى طاهر البستان بباب الأنبار، دخل محمدا أمر عظيم من دخوله بغداد، وتفرق ما كان في يده من الأموال، وضاق ذرعا، وتحرق صدرا، فأمر ببيع كل ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة دنانير ودراهم، وحملها إليه لأصحابه وفي نفقاته، وأمر حينئذ برمي الحربية بالنفط والنيران والمجانيق والعرادات، يقتل بها المقبل والمدبر، ففي ذلك يقول عمرو بْن عبد الملك العتري الوراق:

يا رماة المنجنيق *** كلكم غير شفيق
ما تبالون صديقا *** كان او غير صديق
ويلكم تدرون ما *** ترمون مرار الطريق
رب خود ذات دل *** وهي كالغصن الوريق
اخرجت من جوف دنياها *** ومن عيش أنيق
لم تجد من ذاك بدا *** أبرزت يوم الحريق

وذكر عن محمد بْن منصور الباوردي، قَالَ: لما اشتدت شوكة طاهر على محمد، وهزمت عساكره، وتفرق قواده كان فيمن استأمن إلى طاهر سعيد بْن مالك بْن قادم، فلحق به، فولاه ناحية البغيين والأسواق هنالك وشاطئ دجلة، وما اتصل به أمامه إلى جسور دجلة، وأمره بحفر الخنادق وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدور والدروب، وأمده بالنفقات والفعلة والسلاح، وأمر الحربية بلزومه على النوائب، ووكل بطريق دار الرقيق وباب الشام واحدا بعد واحد، وأمر بمثل الذي أمر به سعيد بْن مالك، وكثر الخراب الهدم حتى درست محاسن بغداد، ففي ذلك يقول العتري:

من ذا أصابك يا بغداد بالعين *** ألم تكوني زمانا قرة العين!
ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم *** وكان قربهم زينا من الزين
صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا *** ماذا لقيت بهم من لوعة البين!
أستودع الله قوما ما ذكرتهم *** إلا تحدر ماء العين من عيني
كانوا ففرقهم دهر وصدعهم *** والدهر يصدع ما بين الفريقين

قَالَ: ووكل محمد عليا فراهمرد، فيمن ضم إليه من المقاتلة، بقصر صالح وقصر سليمان بْن أبي جعفر إلى قصور دجلة وما والاها، فألح في إحراق الدور والدروب وهدمها بالمجانيق والعرادات على يدي رجل كان يعرف بالسمرقندي، فكان يرمي بالمنجنيق، وفعل طاهر مثل ذلك، وأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليها، وكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ووضع مسالحه وأعلامه، ومن أبى إجابته والدخول في طاعته ناصبه وقاتله، وأحرق منزله، فكان كذلك يغدو ويروح بقواده وفرسانه ورجالته، حتى أوحشت بغداد، وخاف الناس أن تبقى خرابا، وفي ذلك يقول الحسين الخليع:

اتسرع الرجله إغذاذا *** عن جانبي بغداذ أم ماذا!
ألم تر الفتنة قد ألفت *** الى اولى الفتنة شذاذا
وانتقضت بغداذ عمرانها *** عن رأي لا ذاك ولا هذا
هدما وحرقا قد أبيد أهلها *** عقوبة لاذت بمن لاذا
ما أحسن الحالات إن لم تعد *** بغداذ في القلة بغداذا

قَالَ: وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية، وأسواق الكرخ والخلد وما والاها دار النكث، وقبض ضياع من لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم، حيث كانت من عمله، فذلوا وانكسروا وانقادوا، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال، إلا باعة الطريق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق وكان حاتم بْن الصقر قد أباحهم النهب، وخرج الهرش والأفارقة، فكان طاهر يقاتلهم لا يفتر عن ذلك ولا يمله، ولا ينى فيه فقال الخريمى يذكر بغداد، ويصف ما كان فيها:
قالوا:
ولم يلعب الزمان ببغداد *** وتعثر بها عواثرها
إذ هي مثل العروس باطنها *** مشوق للفتى وظاهرها
جنه خلد ودار مغبطه *** قل من النائبات واترها
درت خلوف الدنيا لساكنها *** وقل معسورها وعاسرها
وانفرجت بالنعيم وانتجعت *** فيها بلذاتها حواضرها
فالقوم منها في روضه انف *** اشرق غب القطار زاهرها
من غره العيش في بلهنية *** لو أن دنيا يدوم عامرها
دار ملوك رست قواعدها *** فيها وقرت بها منابرها
اهل العلا والندى وأندية الفخر *** إذا عددت مفاخرها
أفراخ نعمى في إرث مملكة *** شد عراها لها أكابرها
فلم يزل والزمان ذو غير *** يقدح في ملكها أصاغرها
حتى تساقت كأسا مثملة *** من فتنة لا يقال عاثرها
وافترقت بعد ألفة شيعا *** مقطوعه بينها اواصرها
يا هل رأيت الأملاك ما صنعت *** إذ لم يرعها بالنصح زاجرها
أورد أملاكنا نفوسهم *** هوة غي اعيت مصادرها
ما ضرها لو وفت بموثقها *** واستحكمت في التقى بصائرها
ولم تسافك دماء شيعتها *** وتبتعث فتية تكابرها
وأقنعتها الدنيا التي جمعت *** لها ورعب النفوس ضائرها
ما زال حوض الاملاك يحفره *** مسجورها بالهوى وساجرها
تبغى فضول الدنيا مكاثرة *** حتى أبيحت كرها ذخائرها
تبيع ما جمع الأبوة *** للأبناء لا أربحت متاجرها
يا هل رأيت الجنان زاهرة *** يروق عين البصير زاهرها!
وهل رأيت القصور شارعة *** تكن مثل الدمى مقاصرها
وهل رأيت القرى التي غرس *** الأملاك مخضرة دساكرها
محفوفة بالكروم والنخل و *** الريحان ما يستغل طائرها
فإنها اصبحت خلايا من *** الإنسان قد ادميت محاجرها
قفرا خلاء تعوي الكلاب بها *** ينكر منها الرسوم زائرها
وأصبح البؤس ما يفارقها *** إلفا لها والسرور هاجرها
بزندورد والياسرية والشطين *** حيث انتهت معابرها
ويا ترلحى والخيزرانية العليا *** التي أشرفت قناطرها
وقصر عبدويه عبره وهدى *** لكل نفس زكت سرائرها
فأين حراسها وحارسها *** وأين مجبورها وجابرها!
وأين خصيانها وحشوتها *** وأين سكانها وعامرها
أين الجرادية الصقالب والأحبش *** تعدو هدلا مشافرها
ينصدع الجند عن مواكبها *** تعدو بها سربا ضوامرها.
بالسند والهند والصقالب و *** النوبه شيبت بها برابرها
طيرا أبابيل أرسلت عبثا *** يقدم سودانها أحامرها
أين الظباء الأبكار في روضة الملك *** تهادى بها غرائرها!
أين غضاراتها ولذتها *** وأين محبورها وحابرها!
بالمسك والعنبر اليمان و *** اليلنجوج مشبوبه مجامرها
يرفلن في الخز والمجاسد و *** الموشى محطومه مزامرها
فأين رقاصها وزامرها *** يجبن حيث انتهت حناجرها
تكاد اسماعهم تسك إذا *** عارض عيدانها مزاهرها
أمست كجوف الحمار خالية *** يسعرها بالجحيم ساعرها
كأنما أصبحت بساحتهم *** عاد ومستهم صراصرها
لا تعلم النفس ما يبايتها *** من حادث الدهر أو يباكرها
تضحي وتمسي درية غرضا *** حيث استقرت بها شراشرها
لأسهم الدهر وهو يرشقها *** محنطها مرة وباقرها
يا بؤس بغداد دار مملكة *** دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها *** لما أحاطت بها كبائرها
بالخسف والقذف والحريق و *** بالحرب التي أصبحت تساورها
كم قد رأينا من المعاصي ببغداد *** فهل ذو الجلال غافرها!
حلت ببغداد وهي آمنة *** داهية لم تكن تحاذرها
طالعها السوء من مطالعه *** وأدركت أهلها جرائرها
رق بها الدين واستخف بذي *** الفضل وعز النساك فاجرها
وخطم العبد أنف سيده *** بالرغم واستعبدت حرائرها.
وصار رب الجيران فاسقهم *** وابتز أمر الدروب ذاعرها
من ير بغداد والجنود بها *** قد ربقت حولها عساكرها
كل طحون شهباء باسلة *** تسقط أحبالها زماجرها
تلقي بغي الردى أوانسها *** يرهقها للقاء طاهرها
والشيخ يعدو حزما كتائبه *** يقدم اعجازها يعاورها
ولزهير بالفرك مأسدة *** مرقومة صلبة مكاسرها
كتائب الموت تحت ألوية *** أبرح منصورها وناصرها
يعلم أن الأقدار واقعة *** وقعا على ما أحب قادرها
فتلك بغداد ما يبنى من *** الذلة في دورها عصافرها
محفوفة بالردى منطقة *** بالصغر محصورة جبابرها
ما بين شط الفرات منه الى *** دجلة حيث انتهت معابرها
بارك هادي الشقراء نافره *** تركض من حولها أشاقرها
يحرقها ذا وذاك يهدمها *** ويشتفي بالنهاب شاطرها
والكرخ أسواقها معطلة *** يستن عيارها وعائرها
أخرجت الحرب من سواقطها *** آساد غيل غلبا تساورها
من البواري تراسها ومن *** الخوص إذا استلأمت مغافرها
تغدو إلى الحرب في جواشنها *** الصوف إذا ما عدت أساورها
كتائب الهرش تحت رايته *** ساعد طرارها مقامرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا *** يحشرها للقاء حاشرها
في كل درب وكل ناحية *** خطارة يستهل خاطرها
بمثل هام الرجال من فلق *** الصخر يزود المقلاع بائرها.
كأنما فوق هامها فرق *** من القطا الكدر هاج نافرها
والقوم من تحتها لهم زجل *** وهي ترامي بها خواطرها
بل هل رأيت السيوف مصلتة *** أشهرها في الأسواق شاهرها
والخيل تستن في أزقتها *** بالترك مسنونة خناجرها
والنفط والنار في طرائقها *** وهابيا للدخان عامرها
والنهب تعدو به الرجال وقد *** أبدت خلاخيلها حرائرها
معصوصبات وسط الأزقة قد *** أبرزها للعيون ساترها
كل رقود الضحى مخبأة *** لم تبد في أهلها محاجرها
بيضة خدر مكنونة برزت *** للناس منشورة غدائرها
تعثر في ثوبها وتعجلها *** كبه خيل ريعت حوافرها
تسأل أين الطريق والهة *** والنار من خلفها تبادرها
لم تجتل الشمس حسن بهجتها *** حتى اجتلتها حرب تباشرها
يا هل رأيت الثكلى مولولة *** في الطرق تسعى والجهد باهرها!
في إثر نعش عليه واحدها *** في صدره طعنه يساورها
فرغاء ينقى الشنار مربدها *** يهزها بالسنان شاجرها
تنظر في وجهه وتهتف بالثكل *** وجارى الدموع حادرها
غرغر بالنفس ثم أسلمها *** مطلولة لا يخاف ثائرها
وقد رأيت الفتيان في عرصة *** المعرك معفوره مناخرها
كل فتى مانع حقيقته *** تشقى به في الوغى مساعرها
باتت عليه الكلاب تنهشه *** مخضوبة من دم أظافرها
أما رأيت الخيول جائلة *** بالقوم منكوبة دوائرها
تعثر بالأوجه الحسان من *** القتلى وغلت دما أشاعرها
يطأن أكباد فتية نجد *** يفلق هاماتهم حوافرها
أما رأيت النساء تحت المجانيق *** تعادي شعثا ضفائرها
عقائل القوم والعجائز و *** العنس لم تحتبر معاصرها
يحملن قوتا من الطحين على *** الأكتاف معصوبه مهاجرها
وذات عيش ضنك ومقعسة *** تشدخها صخرة تعاورها
تسأل عن أهلها وقد سلبت *** وابتز عن راسها غفائرها
يا ليت شعرى والدهر ذو دول *** يرجى وأخرى تخشى بوادرها
هل ترجعن أرضنا كما غنيت *** وقد تناهت بنا مصايرها
من مبلغ ذا الرياستين رسا *** لات تأتى للنصح شاعرها
بأن خير الولاة قد علم *** الناس إذا عددت مآثرها
خليفة الله في بريته *** المأمون منتاشها وجابرها
سمت إليه آمال أمته *** منقادة برها وفاجرها
شاموا حيا العدل من مخايله *** وأصحرت بالتقى بصائرها
وأحمدوا منك سيرة جلت *** الشك وأخرى صحت معاذرها
واستجمعت طاعة برفقك *** للمأمون نجديها وغائرها
وأنت سمع في العالمين له *** ومقلة ما يكل ناظرها
فاشكر لذي العرش فضل نعمته *** اوجب فضل المزيد شاكرها
واحذر فداء لك الرعية و *** الأجناد مأمورها وآمرها
لا تردن غمرة بنفسك لا *** يصدر عنها بالرأي صادرها
عليك ضحضاحها فلا تلج الغمرة *** ملتجة زواخرها
والقصد أن الطريق ذو شعب *** أشأمها وعثها وجائرها
أصبحت في أمة أوائلها *** قد فارقت هديها أواخرها
وأنت سرسورها وسائسها *** فهل على الحق أنت قاسرها!
أدب رجالا رأيت سيرتهم *** خالف حكم الكتاب سائرها
وامدد إلى الناس كف مرحمة *** تسد منهم بها مفاقرها
أمكنك العدل إذ هممت به *** ووافقت مده مقادرها
وأبصر الناس قصد وجههم *** وملكت أمة أخايرها
تشرع أعناقها إليك إذ *** السادات يوما جمت عشائرها
كم عندنا من نصيحة لك في الله *** وقربى عزت زوافرها
وحرمه قربت اواصرها *** منك، وأخرى هل أنت ذاكرها!
سعي رجال في العلم مطلبهم *** رائحها باكر وباكرها
دونك غراء كالوذيلة لا *** تفقد في بلدة سوائرها
لا طمعا قلتها ولا بطرا *** لكل نفس هوى يؤامرها
سيرها الله بالنصيحة و *** الخشيه فاستدمجت مرائرها
جاءتك تحكي لك الأمور كما *** ينشر بز التجار ناشرها
حملتها صاحبا أخا ثقة *** يظل عجبا بها يحاضرها

وفي هذه السنة استأمن الموكلون بقصر صالح من قبل محمد

ذكر خبر وقعه قصر صالح
وفيها كانت الوقعة التي كانت على أصحاب طاهر بقصر صالح.

ذكر الخبر عن هذه الوقعة:
ذكر عن محمد بْن الحسين بْن مصعب، أن طاهرا لم يزل مصابرا محمدا وجنده على ما وصفت من أمره، حتى مل أهل بغداد من قتاله، وأن علي فراهمرد الموكل بقصري صالح وسليمان بْن أبي جعفر من قبل محمد، كتب إلى طاهر يسأله الأمان، ويضمن له أن يدفع ما في يده من تلك الأموال ومن الناحية إلى الجسور وما فيها من المجانيق والعرادات إليه، وأنه قبل ذلك منه، وأجابه إلى ما سأل، ووجه إليه أبا العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي صاحب شرطه فيمن ضم إليه من قواده وذوي البأس من فرسانه ليلا، فسلم إليه كل ما كان محمد وكله به من ذلك ليلة السبت للنصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائة واستأمن إليه محمد بْن عيسى صاحب شرطه محمد، وكان يقاتل مع الأفارقة وأهل السجون والأوباش، وكان محمد بْن عيسى غير مداهن في أمر محمد، وكان مهيبا في الحرب، فلما استأمن هذان إلى طاهر، أشفى محمد على الهلاك، ودخله من ذلك ما أقامه وأقعده حتى استسلم، وصار على باب أم جعفر يتوقع ما يكون، وأقبلت الغواة من العيارين وباعة الطرق والأجناد، فاقتتلوا داخل قصر صالح وخارجه إلى ارتفاع النهار قَالَ: فقتل في داخل القصر أبو العباس يوسف بْن يعقوب الباذغيسي ومن كان معه من القواد والرؤساء المعدودين، وقاتل فراهمرد وأصحابه خارجا من القصر حتى فل وانحاز إلى طاهر، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها أشد على طاهر وأصحابه منها، ولا أكثر قتيلا وجريحا معقورا من أصحاب طاهر من تلك الوقعة، فأكثرت الشعراء فيها القول من الشعر، وذكر ما كان فيها من شدة الحرب وقال فيها الغوغاء والرعاع، وكان مما قيل في ذلك قول الخليع:

أمين الله ثق بالله *** تعط الصبر والنصره
كل الأمر إلى الله *** كلاك الله ذو القدره
لنا النصر بعون الله *** والكرة لا الفره
وللمراق أعدائك *** يوم السوء والدبره
وكأس تلفظ الموت *** كريه طعمها مره
سقينا وسقيناهم *** ولكن بهم الحره
كذاك الحرب أحيانا *** علينا ولنا مره

فذكر عن بعض الأبناء أن طاهرا بث رسله، وكتب إلى القواد والهاشميين وغيرهم بعد أن حاز ضياعهم وغلاتهم يدعوهم إلى الأمان والدخول في خلع محمد والبيعة للمأمون، فلحق به جماعة، منهم عبد الله بْن حميد بْن قحطبة الطائي وإخوته، وولد الحسن بْن قحطبة ويحيى بْن علي بْن ماهان ومحمد بْن أبي العاص، وكاتبه قوم من القواد والهاشميين في السر، وصارت قلوبهم وأهواؤهم معه.
قَالَ: ولما كانت وقعة قصر صالح أقبل محمد على اللهو والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بْن عيسى بْن نهيك وإلى الهرش، فوضعا مما يليهما من الدروب والأبواب وكلاءهما بأبواب المدينة والأرباض وسوق الكرخ وفرض دجلة وباب المحول والكناسة، فكان لصوصها وفساقها يسلبون من قدروا عليه من الرجال والنساء والضعفاء من اهل الملة والذمة، فكان منهم في ذلك ما لم يبلغنا أن مثله كان في شيء من سائر بلاد الحروب.
قَالَ: ولما طال ذلك بالناس، وضاقت بغداد بأهلها، خرج عنها من كانت به قوة بعد الغرم الفادح والمضايقة الموجعة والخطر العظيم، فأخذ طاهر أصحابه بخلاف ذلك، واشتد فيه، وغلظ على اهل الريب وامر محمد ابن أبي خالد بحفظ الضعفاء والنساء وتجويزهم وتسهيل أمرهم، فكان الرجل والمرأة إذا تخلص من أيدي أصحاب الهرش، وصار إلى أصحاب طاهر ذهب عنه الروع وأمن، وأظهرت المرأة ما معها من ذهب وفضة أو متاع أو بز، حتى قيل: إن مثل أصحاب طاهر ومثل أصحاب الهرش وذويه ومثل الناس إذا تخلصوا، مثل السور الذي قَالَ الله تعالى ذكره: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} [الحديد: 13] فلما طال على الناس ما بلوا به ساءت حالهم، وضاقوا به ذرعا، وفي ذلك يقول بعض فتيان بغداد:

بكيت دما على بغداد لما *** فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموما من سرور *** ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتها من الحساد عين *** فافنت أهلها بالمنجيق
فقوم أحرقوا بالنار قسرا *** ونائحة تنوح على غريق
وصائحه تنادى وا صباحا *** وباكية لفقدان الشفيق
وحوراء المدامع ذات دل*** مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب *** ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها *** مضاحكها كلالاة البروق
حيارى كالهدايا مفكرات *** عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق *** وقد فقد الشقيق من الشقيق
وقوم أخرجوا من ظل دنيا *** متاعهم يباع بكل سوق
ومغترب قريب الدار ملقى *** بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعا *** فما يدرون من أي الفريق
فلا ولد يقيم على أبيه *** وقد هرب الصديق بلا صديق
ومهما أنس من شيء تولى *** فإني ذاكر دار الرقيق

وذكر أن قائدا من قواد أهل خراسان ممن كان مع طاهر من أهل النجدة والبأس، خرج يوما إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة، لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من أرى، استهانة بأمرهم واحتقارا لهم، فقيل له: نعم هؤلاء الذين ترى هم الآفة، فقال: أف لكم حين تنكصون عن هؤلاء وتخيمون عنهم، وأنتم في السلاح الظاهر، والعده والقوه، ولكم ما لكم من الشجاعة والنجدة! وما عسى أن يبلغ كيد من أرى من هؤلاء ولا سلاح معهم ولا عدة لهم ولا جنة تقيهم! فأوتر قوسه وتقدم، وابصره بعضهم فقصد نحوه وفي يده بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمى بسهم استتر منه العيار، فوقع في باريته أو قريبا منه، فيأخذه فيجعله في موضع من باريته، قد هيأه لذلك، وجعله شبيها بالجعبة وجعل كلما وقع سهم أخذه، وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه، ولم يزل تلك حالة الخراساني وحال العيار حتى أنفذ الخراساني سهامه، ثم حمل على العيار ليضربه بسيفه، فأخرج من مخلاته حجرا، فجعله في مقلاع ورماه فما أخطأ به عينه، ثم ثناه بآخر، فكاد يصرعه عن فرسه لولا تحاميه، وكر راجعا وهو يقول: ليس هؤلاء بإنس، قَالَ: فحدثت أن طاهرا حدث بحديثه فاستضحك وأعفى الخراساني من الخروج إلى الحرب، فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:

خرجت هذه الحروب رجالا *** لا لقحطانها ولا لنزار
معشرا في جواشن الصوف يغدون *** إلى الحرب كالأسود الضواري
وعليهم مغافر الخوص تجزيهم *** عن البيض، والتراس البواري
ليس يدرون ما الفرار إذا الأبطال *** عاذوا من القنا بالفرار
واحد منهم يشد على الفين *** عريان ماله من إزار
ويقول الفتى إذا طعن الطعنة *** : خذها من الفتى العيار
كم شريف قد أخملته وكم قد *** رفعت من مقامر طرار

ذكر خبر منع طاهر الملاحين من ادخال شيء الى بغداد
قال محمد بن جرير: وفي هذه السنه منع طاهر الملاحين وغيرهم من ادخال شيء الى بغداد الا الى من كان من عسكره منهم، ووضع الرصيد عليهم بسبب ذلك.

ذكر الخبر عما كان منه ومن أصحاب محمد المخلوع في ذلك
وعن السبب الذي من أجله فعل ذلك طاهر:
أما السبب في ذلك فإنه- فيما ذكر- كان أن طاهرا لما قتل من قتل في قصر صالح من أصحابه، ونالهم فيه من الجراح ما نالهم، مضه ذلك وشق عليه، لأنه لم يكن له وقعة إلا كانت له لا عليه، فلما شق عليه أمر بالهدم والإحراق عند ذلك، فهدم دور من خالفه ما بين دجلة ودار الرقيق وباب الشام وباب الكوفه، الى الصراة وارجاء أبي جعفر وربض حميد ونهر كرخايا والكناسة، وجعل يبايت أصحاب محمد ويدالجهم، ويحوي في كل يوم ناحية، ويخندق عليها المراصد من المقاتلة، وجعل أصحاب محمد ينقصون، ويزيدون، حتى لقد كان اصحاب طاهر يهدمون الدار وينصرفون، فيقلع أبوابها وسقوفها أصحاب محمد، ويكونون أضر على أصحابهم من أصحاب طاهر تعديا، فقال شاعر منهم- وذكر أنه عمرو بْن عبد الملك الوراق العتري- في ذلك:

لنا كل يوم ثلمة لا نسدها *** يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا دارا أخذنا سقوفها *** ونحن لأخرى غيرها نتربص
وإن حرصوا يوما على الشر جهدهم *** فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع *** وصار لهم اهل بها، وتعرصوا
يثيرون بالطبل القنيص فإن بدا *** لهم وجه صيد من قريب تقنصوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها *** علينا فما ندري إلى أين نشخص!
إذا حضروا قالوا بما يعرفونه *** وان يروا شيئا قبيحا تخرصوا
وما قتل الأبطال مثل مجرب *** رسول المنايا ليلة يتلصص
ترى البطل المشهور في كل بلدة *** إذا ما رأى العريان يوما يبصبص
إذا ما رآه الشمري مقزلا *** على عقبيه للمخافة ينكص
يبيعك رأسا للصبي بدرهم *** فإن قَالَ إني مرخص فهو مرخص
فكم قاتل منا لآخر منهم *** بمقتله عنه الذنوب تمحص
تراه إذا نادى الأمان مبارزا *** ويغمزنا طورا وطورا يخصص
وقد رخصت قراؤنا في قتالهم *** وما قتل المقتول إلا المرخص

وقال أيضا في ذلك:

الناس في الهدم وفي الانتقال *** قد عرض الناس بقيل وقال
يايها السائل عن شأنهم *** عينك تكفيك مكان السؤال
قد كان للرحمن تكبيرهم *** فاليوم تكبيرهم للقتال
اطرح بعينيك إلى جمعهم *** وانتظر الروح وعد الليال
لم يبق في بغداد إلا امرؤ *** حالفه الفقر كثير العيال
لا أم تحمي عن حماها ولا *** خال له يحمي ولا غير خال
ليس له مال سوى مطرد *** مطرده في كفه رأس مال
هان على الله فأجرى على *** كفيه للشقوة قتل الرجال
إن صار ذا الأمر إلى واحد *** صار إلى القتل على كل حال
ما بالنا نقتل من أجلهم *** سبحانك اللهم يا ذا الحلال!

وقال أيضا:

ولست بتارك بغداد يوما *** ترحل من ترحل أو أقاما
إذا ما العيش ساعدنا فلسنا *** نبالي بعد من كان الإماما

قَالَ عمرو بْن عبد الملك العتري: لما رأى طاهر أنهم لا يحفلون بالقتل والهدم والحرق امر عند ذلك بمنع التجار ان يجوزوا بشيء من الدقيق وغيره من المنافع من ناحيته إلى مدينة أبي جعفر والشرقية والكرخ، وأمر بصرف سفن البصرة وواسط بطرنايا إلى الفرات، ومنه إلى المحول الكبير وإلى الصراة، ومنها إلى خندق باب الأنبار، بما كان زهير بْن المسيب يبذرقه إلى بغداد، وأخذ من كل سفينة فيها حمولة ما بين الألف درهم إلى الألفين والثلاثة، وأكثر وأقل، وفعل عمال طاهر وأصحابه ببغداد في جميع طرقها مثل ذلك وأشد، فغلت الأسعار، وصار الناس في أشد الحصار، فيئسوا او كثير منهم من الفرج والروح، واغتبط من كان خرج منها، وأسف على مقامه من أقام.
وفي هذه السنة استأمن ابن عائشة إلى طاهر، وكان قد قاتل مع محمد حينا بالياسريه

ذكر خبر وقعه الكناسة
وفيها جعل طاهر قوادا من قواده بنواحي بغداد، فجعل العلاء بْن الوضاح الأزدي في اصحابه ومن ضم اليه بالوضاحيه على المحول الكبير، وجعل نعيم بْن الوضاح أخاه فيمن كان معه من الأتراك وغيرهم مما يلي ربض أبي أيوب على شاطئ الصراة، ثم غادى القتال وراوح أشهرا، وصبر الفريقان جميعا، فكانت لهم فيها وقعة بالكناسة، باشرها طاهر بنفسه، قتل فيها بشر كثير من أصحاب محمد، فقال عمرو بْن عبد الملك:

وقعة يوم الأحد *** صارت حديث الأبد
كم جسد أبصرته *** ملقى وكم من جسد
وناظر كانت له *** منيه بالرصد
أتاه سهم عائر *** فشك جوف الكبد
وصائح يا والدي *** وصائح يا ولدي!
وكم غريق سابح *** كان متين الجلد!
لم يفتقده أحد *** غير بنات البلد
وكم فقيد بئس *** عز على المفتقد
كان من النظارة *** الأولى شديد الحرد
لو أنه عاين ما *** عاينه لم يعد
لم يبق من كهل لهم *** فات ولا من أمرد
وطاهر ملتهم *** مثل التهام الأسد
خيم لا يبرح في *** العرصة مثل اللبد
تقذف عيناه لدى *** الحرب بنار الوقد
فقائل قد قتلوا *** ألفا ولما يزد
وقائل أكثر بل *** ما لهم من عدد
وهارب نحوهم *** يرهب من خوف غد
هيهات لا تبصر ممن *** قد مضى من احد
لا يرجع الماضى الى *** الباقى طوال الأبد
قلت لمطعون وفيه *** روحه لم تبد
من أنت يا ويلك يا *** مسكين من محمد
فقال لا من نسب *** دان ولا من بلد
لم أره قط ولم *** أجد له من صفد
وقال لا للغي *** قاتلت ولا للرشد
إلا لشيء عاجل *** يصير منه في يدي

وذكر عن عمرو بْن عبد الملك أن محمدا أمر زريحا غلامه بتتبع الأموال وطلبها عند أهل الودائع وغيرهم، وأمر الهرش بطاعته، فكان يهجم على الناس في منازلهم، ويبيتهم ليلا، ويأخذ بالظنة، فجبى بذلك السبب أموالا كثيرة، وأهلك خلقا، فهرب الناس بعلة الحج، وفر الأغنياء، فقال القراطيسي في ذلك:

أظهروا الحج وما ينوونه *** بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة *** وكل الهرش عليهم بالعطب
كل من راد زريح بيته *** لقى الذل ووافاه الحرب

ذكر خبر وقعه درب الحجاره
وفيها كانت وقعة درب الحجارة.

ذكر الخبر عنها:
ذكر أن هذه الوقعة كانت بحضرة درب الحجارة، وكانت لأصحاب محمد على أصحاب طاهر، قتل فيها خلق كثير، فقال في ذلك عمرو بْن عبد الملك العتري:

وقعة السبت يوم درب الحجارة *** قطعت قطعة من النظاره
ذاك من بعد ما تفانوا ولكن *** أهلكتهم غوغاؤنا بالحجارة
قدم الشورجين للقتل عمدا *** قَالَ إني لكم أريد الإماره
فتلقاه كل لص مريب *** عمر السجن دهره بالشطاره
ما عليه شيء يواريه منه *** أيره قائم كمثل المنارة
فتولوا عنهم وكانوا قديما *** يحسنون الضراب في كل غاره
هؤلا مثل هؤلاك لدينا *** ليس يرعون حق جار وجاره
كل من كان خاملا صار رأسا *** من نعيم في عيشه وغضاره
حامل في يمينه كل يوم *** مطردا فوق رأسه طياره
أخرجته من بيتها أم سوء *** طلب النهب أمه العياره
يشتم الناس ما يبالي *** بإفصاح لذي الشتم لا يشير إشاره
ليس هذا زمان حر كريم *** ذا زمان الأنذال أهل الزعاره
كان فيما مضى القتال قتالا *** فهو اليوم يا علي تجاره

وقال أيضا:

بارية قيرت ظاهرها *** محمد فيها ومنصور
العز والأمن أحاديثهم *** وقولهم قد أخذ السور
وأي نفع لك في سورهم *** وأنت مقتول وما سور؟
قد قتلت فرسانكم عنوة *** وهدمت من دوركم دور
هاتوا لكم من قائد واحد *** مهذب في وجهه نور
يأيها السائل عن شأننا *** محمد في القصر محصور.

ذكر خبر وقعه باب الشماسيه
وفيها أيضا كانت وقعة بباب الشماسية، أسر فيها هرثمة.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف كان وإلى ما آل الأمر فيه:
ذكر عن علي بْن يزيد أنه قَالَ: كان ينزل هرثمة نهر بين، وعليه حائط وخندق، وقد أعد المجانيق والعرادات، وأنزل عبيد الله بْن الوضاح الشماسية، وكان يخرج أحيانا، فيقف بباب خراسان مشفقا من اهل العسكر، كارها للحرب، فيدعو الناس إلى ما هو عليه فيشتمه، ويستخف به فيقف ساعة ثم ينصرف وكان حاتم بْن الصقر من قواد محمد، وكان قد واعد اصحابه الغزاة والعيارين ان يوافوا عبيد الله بْن الوضاح ليلا، فمضوا إلى عبيد الله مفاجأة وهو لا يعلم، فأوقعوا به وقعة أزالوه عن موضعه، وولى منهزما، فأصابوا له خيلا وسلاحا ومتاعا كثيرا، وغلب على الشماسيه حاتم ابن الصقر وبلغ الخبر هرثمة، فأقبل في أصحابه لنصرته، وليرد العسكر عنه إلى موضعه، فوافاه أصحاب محمد، ونشب الحرب بينهم، وأسر رجل من الغزاة هرثمة ولم يعرفه، فحمل بعض أصحاب هرثمة على الرجل، فقطع يده وخلصه، فمر منهزما، وبلغ خبره أهل عسكره، فتقوض بما فيه، وخرج أهله هاربين على وجوههم نحو حلوان، وحجز أصحاب محمد الليل عن الطلب، وما كانوا فيه من النهب والأسر فحدثت أن عسكر هرثمة لم يتراجع أهله يومين، وقويت الغزاة بما سار في أيديهم.
وقيل في تلك الوقعة أشعار كثيرة، فمن ذلك قول عمرو الوراق:

عريان ليس بذي قميص *** يغدو على طلب القميص
يعدو على ذي جوشن *** يعمي العيون من البصيص
في كفه طرادة *** حمراء تلمع كالفصوص
حرصا على طلب القتال *** أشد من حرص الحريص
سلس القياد كأنما *** يغدو على أكل الخبيص
ليثا مغيرا لم يزل *** رأسا يعد من اللصوص
أجرى وأثبت مقدما *** في الحرب من أسد رهيص
يدنو على سنن الهوان *** وعيصه من شر عيص
ينجو إذا كان النجاء *** على أخف من القلوص
ما للكمي إذا لمقتله *** تعرض من محيص
كم من شجاع فارس *** قد باع بالثمن الرخيص

يدعو: ألا من يشتري *** رأس الكمي بكف شيص!

وقال بعض أصحاب هرثمة:

يفنى الزمان وما يفنى قتالهم *** والدور تهدم والأموال تنتقص
والناس لا يستطيعون الذي طلبوا *** لا يدفعون الردى عنهم وإن حرصوا
يأتوننا بحديث لا ضياء له *** في كل يوم لأولاد الزنا قصص

قَالَ: ولما بلغ طاهرا ما صنع الغزاة وحاتم بْن الصقر بعبيد الله بْن الوضاح وهرثمة اشتد ذلك عليه، وبلغ منه، وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، ووجه أصحابه وعبأهم، وخرج معهم إلى الجسر، فعبروا إليهم وقاتلوهم أشد القتال، وأمدهم بأصحابه ساعة بعد ساعة حتى ردوا أصحاب محمد، وأزالوهم عن الشماسية، ورد المهاجر عبيد الله بْن الوضاح وهرثمة.
قَالَ: وكان محمد أعطى بنقض قصوره ومجالسه الخيزرانيه بعد ظفر الغزاة ألفي ألف درهم، فحرقها أصحاب طاهر كلها، وكانت السقوف مذهبه، وقتلوا من الغزاة والمنتهبين بشرا كثيرا، وفي ذلك يقول عمرو الوراق:

ثقلان وطاهر بْن الحسين *** صبحونا صبيحة الاثنين
جمعوا جمعهم بليل ونادوا *** اطلبوا اليوم ثأركم بالحسين
ضربوا طبلهم فثار إليهم *** كل صلب القناة والساعدين
يا قتيلا بالقاع ملقى على الشط *** هواه بطييء الجبلين
ما الذي في يديك أنت إذا ما *** اصطلح الناس أنت بالخلتين
أوزير أم قائد، بل بعيد *** أنت من ذين موضع الفرقدين
كم بصير غدا بعينين كي *** يبصر ما حالهم فعاد بعين
ليس يخطون ما يريدون ما *** يعمد راميهم سوى الناظرين
سائلي عنهم هم شر من *** أبصرت في الناس ليس غير كذين
شر باق وشر ماض من الناس *** مضى أو رأيت في الثقلين

قَالَ: وبلغ ذلك من فعل طاهر محمدا، فاشتد عليه وغمه واحزنه، فذكر كاتب لكوثر أن محمدا قَالَ- أو قيل على لسانه هذه الأبيات:

منيت بأشجع الثقلين قلبا *** إذا ما طال ليس كما يطول
له مع كل ذي بدن رقيب *** يشاهده ويعلم ما يقول
فليس بمغفل أمرا عنادا *** إذا ما الأمر ضيعه الغفول

وفي هذه السنة ضعف أمر محمد، وأيقن بالهلاك، وهرب عبد الله بْن خازم بْن خزيمة من بغداد إلى المدائن، فذكر عن الحسين بْن الضحاك أن عبد الله بْن خازم بْن خزيمة ظهرت له التهمة من محمد والتحامل عليه من السفلة والغوغاء، فهم على نفسه وماله، فلحق بالمدائن ليلا في السفن بعياله وولده، فأقام بها ولم يحضر شيئا من القتال.
وذكر غيره أن طاهرا كاتبه وحذره قبض ضياعه واستئصاله، فحذره ونجا من تلك الفتنة وسلم، فقال بعض قرائبه في ذلك:

وما جبن ابن خازم من رعاع *** وأوباش الطغام من الأنام
ولكن خاف صولة ضيغمي *** هصور الشد مشهور العرام

فذاع أمره في الناس، ومشى تجار الكرخ بعضهم إلى بعض، فقالوا:
ينبغي لنا أن نكشف أمرنا لطاهر ونظهر له براءتنا من المعونة عليه، فاجتمعوا وكتبوا كتابا أعلموه فيه أنهم أهل السمع والطاعة والحب له، لما يبلغهم من إيثاره طاعة الله والعمل بالحق، والأخذ على يد المريب، وأنهم غير مستحلي النظر إلى الحرب، فضلا عن القتال، وأن الذي يكون حزبه من جانبهم ليس منهم، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى ان الرجال الذين بلوا من حربه من جانبهم ليس منهم، ولا لهم بالكرخ دور ولا عقار، وإنما هم بين طرار وسواط ونطاف، وأهل السجون وإنما مأواهم الحمامات والمساجد، والتجار منهم إنما هم باعه الطريق يتجرون في محقرات البيوع، قد ضاقت بهم طرق المسلمين، حتى إن الرجل ليستقبل المرأة في زحمه الناس فيلتثان قبل التخلص، وحتى أن الشيخ ليسقط لوجهه ضعفا، وحتى أن الحامل الكيس في حجزته وكفه ليطر منه، وما لنا بهم يدان ولا طاقة، ولا نملك لأنفسنا معهم شيئا، وأن بعضنا يرفع الحجر عن الطريق لما جاء فيه من الحديث عن النبي ص، فكيف لو اقتدرنا على من في إقامته عن الطريق، وتخليده السجن، وتنفيته عن البلاد وحسم الشر والشغب ونفى الزعارة والطر والسرق، وصلاح الدين والدنيا، وحاش لله أن يحاربك منا أحد! فذكر أنهم كتبوا بهذا قصه، واتعد قوم على الانسلال إليه بها، فقال لهم أهل الرأي منهم والحزم: لا تظنوا أن طاهرا غبي عن هذا أو قصر عن إذكاء العيون فيكم وعليكم، حتى كأنه شاهدكم، والرأي ألا تشهروا أنفسكم بهذا، فإنا لا نأمن إن رآكم أحد من السفلة أن يكون به هلاككم وذهاب أموالكم، والخوف من تعرضكم لهؤلاء السفلة أعظم من طلبكم براءة الساحة عند طاهر خوفا، بل لو كنتم من أهل الآثام والذنوب لكنتم إلى صفحه وتغمده وعفوه أقرب، فتوكلوا على الله تبارك وتعالى وأمسكوا فأجابوهم وأمسكوا وقال ابن أبي طالب المكفوف:

دعوا أهل الطريق فعن قليل *** تنالهم مخاليب الهصور
فتهتك حجب أفئدة شداد *** وشيكا ما تصير إلى القبور
فإن الله مهلكهم جميعا *** بأسباب التمني والفجور

وذكر أن الهرش خرج ومعه الغوغاء والغزاة ولفيفهم حتى صار إلى جزيرة العباس، وخرجت عصابة من أصحاب طاهر، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت ناحية لم يقاتل فيها، فصار ذلك على الوجه بعد ذلك اليوم موضعا للقتال، حتى كان الفتح منه، وكان أول يوم قاتلوا فيه استعلى أصحاب محمد على أصحاب طاهر حتى بلغوا بهم دار ابى يزيد الشروى وخاف أهل الأرباض في تلك النواحي مما يلي طريق باب الأنبار، فذكر أن طاهرا لما رأى ذلك وجه إليهم قائدا من أصحابه، وكان مشتغلا بوجوه كثيرة يقاتل منها اصحاب محمد، فاوقع بهم فيها وقعة صعبة، وغرق في الصراة بشر كثير، وقتل آخرون، فقال في هزيمة طاهر في أول يوم عمرو الوراق:

نادى منادي طاهر عندنا *** يا قوم كفوا واجلسوا في البيوت
فسوف يأتيكم غد فاحذروا *** ليثا هريت الشدق فيه عيوت
فثارت الغوغاء في وجهه *** بعد انتصاف الليل قبل القنوت
في يوم سبت تركوا جمعه *** في ظلمة الليل سمودا خفوت

وقال في الوقعة التي كانت على أصحاب محمد:

كم قتيل قد رأينا *** ما سألناه لايش
دارعا يلقاه عريان *** بجهل وبطيش
إن تلقاه برمح *** يتلقاه بفيش
حبشيا يقتل الناس *** على قطعة خيش
مرتدٍ بالشمس راض بالمنى من كل عيش
يحمل الحملة لا يقتل *** إلا رأس جيش
كعلي أفراهمرد *** أو علاء أو قريش
احذر الرمية يا *** طاهر من كف الحبيشي

وقال أيضا عمرو الوراق في ذلك:

ذهبت بهجة بغداد *** وكانت ذات بهجه
فلها في كل يوم *** رجة من بعد رجه
ضجت الأرض إلى الله *** من المنكر ضجه
أيها المقتول ما أنت *** على دين المحجه
ليت شعري ما الذي نلت *** وقد أدلجت دلجه
أإلى الفردوس وجهت *** أم النار توجه
حجر أرداك أم *** أرديت قسرا بالأزجه
إن تكن قاتلت برا *** فعلينا ألف حجه

وذكر عن علي بْن يزيد أن بعض الخدم حدثه أن محمدا أمر ببيع ما بقي في الخزائن التي كانت أنهبت، فكتم ولاتها ما فيها لتسرق، فتضايق على محمد أمره، وفقد ما كان عنده، وطلب الناس الأرزاق، فقال يوما وقد ضجر مما يرد عليه: وددت أن الله عز وجل قتل الفريقين جميعا، وأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدو ممن معنا وممن علينا، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي وذكرت أبياتا قيل إنه قالها:

تفرقوا ودعوني *** يا معشر الأعوان
فكلكم ذو وجوه *** كخلقة الإنسان
وما أرى غير إفك *** وترهات الأماني
ولست أملك شيئا *** فسائلوا خزاني
فالويل لي ما دهاني *** من ساكن البستان

قَالَ: وضعف أمر محمد، وانتشر جنده وارتاع في عسكره، وأحس من طاهر بالعلو عليه وبالظفر به.
وحج بالناس في هذه السنة العباس بْن موسى بْن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر المأمون بذلك وكان على مكة في هذه السنة داود بْن عيسى.