247 هـ
861 م
سنة سبع وأربعين ومائتين (ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث)

ذكر الخبر عن مقتل المتوكل.
فمما كان فيها من ذلك مقتل المتوكل …

ذكر الخبر عن سبب مقتله وكيف قتل:
قال أبو جعفر: ذكر لي أن سبب ذلك كان أن المتوكل كان أمر بإنشاء الكتب بقبض ضياع وصيف بأصبهان والجبل وإقطاعها الفتح بن خاقان، فكتبت الكتب بذلك، وصارت الى الخاتم على ان تنفذ يوم الخميس لخمس خلون من شعبان، فبلغ ذلك وصيفا، واستقر عنده الذي أمر به في أمره، وكان المتوكل أراد أن يصلي بالناس يوم الجمعة في شهر رمضان في آخر جمعة منه، وكان قد شاع في الناس في أول رمضان أن أمير المؤمنين يصلى في آخر جمعه من الشهر بالناس، فاجتمع الناس لذلك واحتشدوا، وخرج بنو هاشم من بغداد لرفع القصص وكلامه إذا هو ركب فلما كان يوم الجمعة أراد الركوب للصلاة، فقال له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، إن الناس قد اجتمعوا وكثروا، من اهل بيتك وغيرهم، وبعض متظلم وبعض طالب حاجة، وأمير المؤمنين يشكو ضيق الصدر ووعكة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بعض ولاة العهود بالصلاة، ونكون معه جميعا فليفعل فقال: قد رأيت ما رأيتما، فأمر المنتصر بالصلاة، فلما نهض المنتصر ليركب للصلاة قالا: يا أمير المؤمنين، قد رأينا رأيا، وأمير المؤمنين أعلى عينا، قال: وما هو؟ اعرضاه علي، قالا: يا أمير المؤمنين، مر أبا عبد الله المعتز بالله الصلاة لتشرفه بذلك في هذا اليوم الشريف، فقد اجتمع أهل بيته، والناس جميعا فقد بلغ الله به.
قال: وقد كان ولد للمعتز قبل ذلك بيوم، فأمر المعتز، فركب وصلى بالناس، فأقام المنتصر في منزله- وكان بالجعفرية- وكان ذلك مما زاد في اغرائه به، فلما فرغ المعتز من خطبته قام إليه عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان، فقبلا يديه ورجليه، وفرغ المعتز من الصلاة، فانصرف وانصرفا معه، ومعهم الناس في موكب الخلافة، والعالم بين يديه، حتى دخل على أبيه وهما معه، ودخل معه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، فقال داود: يا أمير المؤمنين، ائذن لي فأتكلم، قال: قل، فقال: والله يا أمير المؤمنين، لقد رايت الامين والمأمون ورايت المعتصم صلوات الله عليهم، ورايت الواثق بالله، فو الله ما رأيت رجلا على منبر أحسن قواما، ولا أحسن بديها، ولا أجهر صوتا، ولا أعذب لسانا، ولا أخطب من المعتز بالله، أعزه الله يا أمير المؤمنين ببقائك، وأمتعك الله وإيانا بحياته! فقال له المتوكل: أسمعك الله خيرا، وأمتعنا بك، فلما كان يوم الأحد، وذلك يوم الفطر وجد المتوكل فترة، فقال: مروا المنتصر فليصل بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أمير المؤمنين، قد كان الناس تطلعوا إلى رؤية أمير المؤمنين في يوم الجمعة فاجتمعوا واحتشدوا، فلم يركب أمير المؤمنين، ولا نأمن إن هو لم يركب أن يرجف الناس بعلته، ويتكلموا في أمره، فإن رأى أمير المؤمنين أن يسر الأولياء ويكبت الأعداء بركوبه فعل فأمرهم بالتأهب والتهيؤ لركوبه، فركب فصلى بالناس وانصرف إلى منزله، فأقام يومه ذلك ومن الغد لم يدع بأحد من ندمائه.
وذكر أنه ركب يوم الفطر، وقد ضربت له المصاف نحوا من أربعة أميال، وترجل الناس بين يديه، فصلى بالناس، ورجع إلى قصره، فأخذ حفنة من تراب، فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: إني رايت كثرة هذا الجمع، ورأيتهم تحت يدي، فأحببت أن أتواضع لله عز وجل، فلما كان من غد يوم الفطر لم يدع بأحد من ندمائه، فلما كان اليوم الثالث وهو يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال- أصبح نشيطا فرحا مسرورا، فقال:
كأني أجد مس الدم، فقال الطيفوري وابن الأبرش- وهما طبيباه:
يا أمير المؤمنين، عزم الله لك على الخير، افعل، ففعل، واشتهى لحم جزور، فأمر به فأحضر بين يديه، فاتخذه بيده.
وذكر عن ابن الحفصي المغني أنه كان حاضر المجلس، قال ابن الحفصي: وما كان احد ممن يأكل بين يديه حاضرا غيري وغير عثعث وزنام وبنان غلام أحمد بن يحيى بن معاذ، فإنه جاء مع المنتصر قال: وكان المتوكل والفتح بن خاقان يأكلان معا، ونحن في ناحية بإزائهم والندماء مفترقون في حجرهم، لم يدع بأحد منهم بعد قال ابن الحفصي: فالتفت إلي أمير المؤمنين، فقال: كل أنت وعثعث بين يدي ويأكل معكما نصر بن سعيد الجهبذ، قال: فقلت: يا سيدي، نصر والله يأكلني، فكيف ما يوضع بين أيدينا! فقال: كلوا بحياتي، فأكلنا ثم علقنا أيدينا بحذائه قال: فالتفت أمير المؤمنين التفاتة، فنظر إلينا معلقي الأيدي، فقال: ما لكم لا تأكلون؟
قلت: يا سيدي، قد نفد ما بين أيدينا، فأمر أن يزاد، فغرف لنا من بين يديه.
قال ابن الحفصي: ولم يكن أمير المؤمنين في يوم من الأيام أسر منه في ذلك اليوم قال: وأخذ مجلسه، ودعا بالندماء والمغنين فحضروا، وأهدت إليه قبيحة أم المعتز مطرف خز أخضر، لم ير الناس مثله حسنا، فنظر إليه فأطال النظر، فاستحسنه وكثر تعجبه منه، وأمر به فقطع نصفين، وأمر برده عليها، ثم قال لرسولها: أذكرتني به، ثم قال: والله إن نفسي لتحدثني أني لا ألبسه، وما أحب أن يلبسه أحد بعدي، وإنما أمرت بشقه لئلا يلبسه أحد بعدي، فقلنا له: يا سيدنا، هذا يوم سرور يا أمير المؤمنين نعيذك بالله أن تقول هذا يا سيدنا، قال: وأخذ في الشراب واللهو، ولهج بان يقول: أنا والله مفارقكم عن قليل، قال: فلم يزل في لهوه وسروره إلى الليل.
وذكر بعضهم أن المتوكل عزم هو والفتح أن يصيرا غداءهما عند عبد الله ابن عمر البازيار يوم الخميس لخمس ليال خلون من شوال، على أن يفتك بالمنتصر، ويقتل وصيفا وبغا وغيرهما من قواد الأتراك ووجوههم، فكثر عبثه يوم الثلاثاء قبل ذلك بيوم- فيما ذكر ابن الحفصي- بابنه المنتصر مرة يشتمه، ومرة يسقيه فوق طاقته، ومرة يأمر بصفعه، ومرة يتهدده بالقتل.
فذكر عن هارون بن محمد بن سليمان الهاشمي أنه قال: حدثني بعض من كان في الستارة من النساء، أنه التفت إلى الفتح، فقال له: برئت من الله ومن قرابتي من رسول الله ص إن لم تلطمه- يعني المنتصر- فقام الفتح ولطمه مرتين، يمر يده على قفاه، ثم قال المتوكل لمن حضر:
اشهدوا جميعا أني قد خلعت المستعجل- المنتصر- ثم التفت إليه، فقال: سميتك المنتصر، فسماك الناس لحمقك المنتظر، ثم صرت الآن المستعجل، فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين، لو أمرت بضرب عنقي كان أسهل علي مما تفعله بي، فقال: اسقوه، ثم أمر بالعشاء فأحضر وذلك في جوف الليل، فخرج المنتصر من عنده، وامر بنانا غلام احمد ابن يحيى أن يلحقه، فلما خرج وضعت المائدة بين يدي المتوكل، وجعل يأكلها ويلقم وهو سكران.
وذكر عن ابن الحفصي أن المنتصر لما خرج إلى حجرته أخذ بيد زرافة، فقال له: امض معي، فقال: يا سيدي، إن أمير المؤمنين لم يقم، فقال:
إن أمير المؤمنين قد أخذه النبيذ، والساعة يخرج بغا والندماء، وقد أحببت أن تجعل أمر ولدك الى، فان اوتامش سألني أن أزوج ابنه من ابنتك، وابنك من ابنته، فقال له زرافة: نحن عبيدك يا سيدي، فمرنا بأمرك وأخذ المنتصر بيده وانصرف به معه قال: وكان زرافة قد قال لي قبل ذلك: ارفق بنفسك، فإن أمير المؤمنين سكران والساعة يفيق، وقد دعاني تمرة، وسألني أن أسألك أن تصير إليه فنصير جميعا إلى حجرته قال: فقلت له: أنا أتقدمك إليه، قال: ومضى زرافة مع المنتصر إلى حجرته.
فذكر بنان غلام أحمد بن يحيى أن المنتصر قال له: قد املكت ابن زرافه من ابنه اوتامش وابن اوتامش من ابنة زرافة؟ قال بنان: فقلت للمنتصر: يا سيدي، فأين النثار فهو يحسن الإملاك؟ فقال: غدا إن شاء الله، فإن الليل قد مضى قال: وانصرف زرافة إلى حجرة تمرة، فلما دخل دعا بالطعام فأتي به، فما أكل إلا أيسر ذلك حتى سمعنا الضجة والصراخ، فقمنا، فقال بنان: فما هو إلا أن خرج زرافة من منزل تمرة، إذا بغا استقبل المنتصر، فقال المنتصر: ما هذه الضجة؟ قال: خير يا أمير المؤمنين، قال: ما تقول، ويلك! قال: أعظم الله أجرك في سيدنا امير المؤمنين! كان عبدا لله دعاه فأجابه، قال: فجلس المنتصر، وأمر بباب البيت الذي قتل فيه المتوكل والمجلس، فأغلق وأغلقت الأبواب كلها، وبعث إلى وصيف يأمره بإحضار المعتز والمؤيد عن رسالة المتوكل.
وذكر عن عثعث أن المتوكل دعا بالمائدة بعد قيام المنتصر وخروجه ومعه زرافة، وكان بغا الصغير المعروف بالشرابي قائما عند الستر، وذلك اليوم كان نوبة بغا الكبير في الدار، وكان خليفته في الدار ابنه موسى- وموسى هذا هو ابن خالة المتوكل، وبغا الكبير يومئذ بسميساط- فدخل بغا الصغير إلى المجلس، فأمر الندماء بالانصراف إلى حجرهم، فقال له الفتح: ليس هذا وقت انصرافهم، وأمير المؤمنين لم يرتفع، فقال له بغا: إن أمير المؤمنين أمرني إذا جاوز السبعة ألا أترك في المجلس أحدا، وقد شرب أربعة عشر رطلا، فكره الفتح قيامهم، فقال له بغا: إن حرم أمير المؤمنين خلف الستارة، وقد سكر، فقوموا فاخرجوا، فخرجوا جميعا، فلم يبق إلا الفتح وعثعث وأربعة من خدم الخاصة، منهم شفيع وفرج الصغير ومؤنس وأبو عيسى مارد المحرزي قال: ووضع الطباخ المائدة بين يدي المتوكل، فجعل يأكل ويلقم، ويقول لمارد: كل معي حتى أكل بعض طعامه وهو سكران، ثم شرب أيضا بعد ذلك.
فذكر عثعث أن أبا أحمد بن المتوكل أخا المؤيد لأمه- كان معهم في المجلس، فقام إلى الخلاء، وقد كان بغا الشرابي أغلق الأبواب كلها غير باب الشط، ومنه دخل القوم الذين عينوا لقتله، فبصر بهم أبو أحمد، فصاح بهم: ما هذا يا سفل! وإذا بسيوف مسللة، قال: وقد كان تقدم النفر الذين تولوا قتله بغلون التركي وباغر وموسى بن بغا وهارون بن صوارتكين وبغا الشرابي، فلما سمع المتوكل صوت أبي أحمد رفع رأسه، فرأى القوم، فقال: يا بغا، ما هذا؟ قال: هؤلاء رجال النوبة التي تبيت على باب سيدي أمير المؤمنين، فرجع القوم إلى ورائهم عند كلام المتوكل لبغا، ولم يكن واجن وأصحابه وولد وصيف حضروا معهم بعد قال عثعث: فسمعت بغا يقول لهم: يا سفل، أنتم مقتولون لا محالة، فموتوا كراما، فرجع القوم إلى المجلس، فابتدره بغلون فضربه ضربة على كتفه وأذنه فقده، فقال: مهلا قطع الله يدك! ثم قام وأراد الوثوب به، فاستقبله بيده فأبانها، وشركه باغر، فقال الفتح: ويلكم، أمير المؤمنين! فقال بغا: يا حلقى، لا تسكت! فرمى الفتح بنفسه على المتوكل، فبجعه هارون بسيفه، فصاح: الموت! واعتوره هارون وموسى بن بغا بأسيافهما، فقتلاه وقطعاه، وأصابت عثعث ضربة في رأسه وكان مع المتوكل خادم صغير، فدخل تحت الستارة، فنجا، وتهارب الباقون قال: وقد كانوا قالوا لوصيف في وقت ما جاءوا إليه: كن معنا فإنا نتخوف ألا يتم ما نريد فنقتل، فقال: لا بأس عليكم، فقالوا له: فأرسل معنا بعض ولدك، فأرسل معهم خمسة من ولده: صالحا، وأحمد، وعبد الله، ونصرا، وعبيد الله، حتى صاروا إلى ما أرادوا.
وذكر عن زرقان خليفة زرافة على البوابين وغيرهم أن المنتصر لما أخذ بيد زرافة فأخرجه من الدار ودخل القوم، نظر إليهم عثعث، فقال للمتوكل:
قد فرغنا من الأسد والحيات والعقارب، وصرنا إلى السيوف، وذلك أنه كان ربما أشلى الحية والعقرب أو الأسد، فلما ذكر عثعث السيوف، قال له:
ويلك! أي شيء تقول؟ فما استتم كلامه حتى دخلوا عليه، فقام الفتح في وجوههم، فقال لهم: يا كلاب، وراءكم وراءكم! فبدر إليه بغا الشرابي، فبعج بطنه بالسيف، وبدر الباقون إلى المتوكل، وهرب عثعث على وجهه.
وكان أبو أحمد في حجرته، فلما سمع الضجة خرج فوقع على أبيه، فبادره بغلون فضربه ضربتين، فلما رأى السيوف تأخذه خرج وتركهم، وخرج القوم إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة، وقالوا: مات أمير المؤمنين، وقاموا على رأس زرافة بالسيوف، فقالوا له: بايع، فبايعه وأرسل المنتصر إلى وصيف: أن الفتح قتل ابى، فقتلته، فاحضر في وجوه أصحابك فحضر وصيف وأصحابه فبايعوا قال: وكان عبيد الله بن يحيى في حجرته لا يعلم بشيء من أمر القوم ينفذ الأمور وقد ذكر أن امرأة من نساء الأتراك ألقت رقعة تخبر ما عزم عليه القوم، فوصلت الرقعة إلى عبيد الله، فشاور الفتح فيها، وكان ذلك وقع إلى أبي نوح عيسى بن إبراهيم كاتب الفتح بن خاقان، فأنهاه إلى الفتح، فاتفق رأيهم على كتمان المتوكل لما رأوا من سروره، فكرهوا أن ينغصوا عليه يومه، وهان عليهم أمر القوم، ووثقوا بأن ذلك لا يجسر عليه أحد ولا يقدر.
فذكر أن أبا نوح احتال في الهرب من ليلته، وعبيد الله جالس في عمله ينفذ الأمور، وبين يديه جعفر بن حامد، إذ طلع عليه بعض الخدم، فقال:
يا سيدي، ما يجلسك؟ قال: وما ذاك! قال: الدار سيف واحد، فأمر جعفرا بالخروج، فخرج وعاد، فأخبره أن أمير المؤمنين والفتح قد قتلا، فخرج فيمن معه من خدمه وخاصته، فأخبر أن الأبواب مغلقة، فأخذ نحو الشط، فإذا أبوابه أيضا مغلقة، فأمر بكسر ما كان مما يلي الشط، فكسرت ثلاثة أبواب حتى خرج إلى الشط، فصار إلى زورق، فقعد فيه ومعه جعفر بن حامد، وغلام له، فصار إلى منزل المعتز، فسأل عنه فلم يصادفه، فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ! قتلني وقتل نفسه، وتلهف عليه، واجتمع إلى عبيد الله أصحابه غداة يوم الأربعاء من الأبناء والعجم والأرمن والزواقيل والاعراب والصعاليك وغيرهم وقد اختلف في عدتهم، فقال بعضهم: كانوا زهاء عشرين ألف فارس وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف رجل، وقال آخرون: كان معه ثلاثة عشر ألف لجام، وقال المقللون: ما بين الخمسة آلاف إلى العشرة آلاف، فقالوا له: إنما كنت تصطنعنا لهذا اليوم، فأمر بأمرك، وأذن لنا نمل على القوم ميلة، نقتل المنتصر ومن معه من الأتراك وغيرهم فأبى ذلك، وقال: ليس في هذا حيلة، والرجل في أيديهم- يعني المعتز وذكر عن علي بن يحيى المنجم أنه قال: كنت أقرأ على المتوكل قبل قتله بأيام كتابا من كتب الملاحم، فوقفت عن قراءته وقطعته، فقال لي: ما لك قد وقفت! قلت: خير، قال: لا بد والله من أن تقرأه، فقرأته وحدت عن ذكر الخلفاء، فقال المتوكل: ليت شعري من هذا الشقي المقتول! وذكر عن سلمة بن سعيد النصراني أن المتوكل رأى أشوط بن حمزة الأرمني قبل قتله بأيام، فتأفف برؤيته، وأمر بإخراجه، فقيل له: يا أمير المؤمنين، أليس قد كنت تحب خدمته؟ قال: بلى، ولكني رأيت في المنام منذ ليال كأني قد ركبته، فالتفت إلي وقد صار رأسه مثل رأس البغل فقال لي: إلى كم تؤذينا! إنما بقي من أجلك تمام خمسة عشر سنه غير ايام قال: فكان بعدد أيام خلافته.
وذكر عن ابن أبي ربعي أنه قال: رأيت في منامي كأن رجلا دخل من باب الرستن على عجلة ووجهه إلى الصحراء وقفاه إلى المدينة، وهو ينشد:

 يا عين ويلك فاهملي *** بالدمع سحا واسبلي
دلت على قرب القيامة *** قتلة المتوكل

وذكر أن حبشي بن أبي ربعي مات قبل قتل المتوكل بسنتين.
وذكر عن محمد بن سعيد، قال: قال أبو الوارث قاضي نصيبين:
رأيت في النوم آتيا أتاني، وهو يقول:

يا نائم العين في جثمان يقظان *** ما بال عينك لا تبكي بتهتان!
أما رأيت صروف الدهر ما فعلت *** بالهاشمي وبالفتح بن خاقان!
وسوف يتبعهم قوم لهم غدروا *** حتى يصيروا كأمس الذاهب الفاني

فأتى البريد بعد أيام بقتلهما جميعا.
قال أبو جعفر: وقتل ليلة الأربعاء بعد العتمة بساعة لأربع خلون من شوال- وقيل: بل قتل ليلة الخميس- فكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام وقتل يوم قتل وهو- فيما قيل- ابن أربعين سنة، وكان ولد بفم الصلح في شوال من سنة ست ومائتين.
وكان أسمر حسن العينين خفيف العارضين نحيفا

ذكر الخبر عن بعض أمور المتوكل وسيرته:
ذكر عن مروان بن أبي الجنوب أبي السمط، أنه قال: أنشدت أمير المؤمنين فيه شعرا، وذكرت الرافضة فيه، فعقد لي على البحرين واليمامة، وخلع علي أربع خلع في دار العامة، وخلع علي المنتصر وأمر لي بثلاثة آلاف دينار، فنثرت على رأسي، وأمر ابنه المنتصر وسعدا الإيتاخي يلقطانها لي، ولا أمس منها شيئا، فجمعاها، فانصرفت بها قال: والشعر الذي قال فيه:

ملك الخليفة جعفر *** للدين والدنيا سلامه
لكم تراث محمد *** وبعدلكم تنفى الظلامه
يرجو التراث بنو البنات *** وما لهم فيها قلامه
والصهر ليس بوارث *** والبنت لا ترث الإمامه
ما للذين تنحلوا *** ميراثكم إلا الندامه
أخذ الوراثة أهلها *** فعلام لومكم علامه!
لو كان حقكم لما *** قامت على الناس القيامه
ليس التراث لغيركم *** لا والإله ولا كرامه
أصبحت بين محبكم *** والمبغضين لكم علامه

ثم نثر على رأسي- بعد ذلك لشعر قلته في هذا المعنى- عشرة آلاف درهم.
وذكر عن مروان بن أبي الجنوب، أنه قال: لما استخلف المتوكل بعثت بقصيدة- مدحت فيها ابن ابى دواد- الى ابن ابى دواد، وكان في آخرها بيتان ذكرت فيهما أمر ابن الزيات وهما:

وقيل لي الزيات لاقى حمامه *** فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرة *** فألقي فيها بالخيانة والغدر

قال: فلما صارت القصيدة إلى ابن ابى دواد ذكرها للمتوكل، وأنشده البيتين فأمره بإحضاره، فقال: هو باليمامة، كان الواثق نفاه لمودته لأمير المؤمنين قال: يحمل، قال: عليه دين، قال: كم هو؟ قال: ستة آلاف دينار، قال: يعطاها، فأعطي وحمل من اليمامة، فصار إلى سامرا، وامتدح المتوكل بقصيدة يقول فيها:

رحل الشباب وليته لم يرحل *** والشيب حل وليته لم يحلل

فلما صار إلى هذين البيتين من القصيدة:

كانت خلافة جعفر كنبوة *** جاءت بلا طلب ولا بتنحل
وهب الإله له الخلافة مثل ما *** وهب النبوة للنبي المرسل

أمر له بخمسين ألف درهم.
وذكر عن أبي يحيى بن مروان بن محمد الشني الكلبي، قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب، قال: لما صرت إلى أمير المؤمنين المتوكل على الله مدحت ولاة العهود، وأنشدته:

سقى الله نجدا والسلام على نجد *** ويا حبذا نجد على النأي والبعد!
نظرت إلى نجد وبغداد دونها *** لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد!
ونجد بها قوم هواهم زيارتي *** ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي

قال: فلما استتممت إنشادها، أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر: فرس وبغلة وحمار، فما برحت حتى قلت في شكره:

تخير رب الناس للناس جعفرا *** فملكه أمر العباد تخيرا

قال: فلما صرت إلى هذا البيت:

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد *** فقد خفت أن أطغى وأن أتجبرا

قال: لا والله، لا أمسك حتى أعرفك بجودي، ولا برحت حتى تسأل حاجة، قلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها باليمامة، ذكر ابن المدبر أنها وقف من المعتصم على ولده، ولا يجوز إقطاعها قال: فإني أقبلكها بدرهم في السنة مائة سنة، قلت: لا يحسن يا أمير المؤمنين أن يؤدى درهم في الديوان، قال: فقال ابن المدبر: فالف درهم؟ فقلت: نعم، فأنفذها لي ولعقبي، ثم قال: ليس هذه حاجة، هذه قبالة، قلت: فضياعي التي كانت لي كان الواثق أمر بإقطاعي إياها، فنفاني ابن الزيات، وحال بيني وبينها، فتنفذها لي فأمر بإنفاذها بمائة درهم في السنة وهي السيوح وذكر عن أبي حشيشة أنه كان يقول: كان المأمون يقول: إن الخليفة بعدي في اسمه عين، فكان يظن أنه العباس ابنه فكان المعتصم، وكان يقول: وبعده هاء، فيظن أنه هارون، فكان الواثق، وكان يقول: وبعده اصفر الساقين، فكان يظن انه ابو الحائز العباس فكان المتوكل ذلك، فلقد رأيته إذا جلس على السرير يكشف ساقيه، فكانا أصفرين، كأنما صبغا بزعفران.
وذكر عن يحيى بن أكثم، أنه قال: حضرت المتوكل، فجرى بيني وبينه ذكر المأمون وكتبه إلى الحسن بن سهل، فقلت بتفضيله وتقريظه ووصف محاسنه وعلمه ومعرفته ونباهته قولا كثيرا، لم يقع بموافقة بعض من حضر، فقال المتوكل: كيف كان يقول في القرآن؟ قلت: كان يقول: ما مع القرآن حاجة إلى علم فرض، ولا مع سنه الرسول ص وحشة إلى فعل أحد، ولا مع البيان والإفهام حجة لتعلم، ولا بعد الجحود للبرهان والحق إلا السيف لظهور الحجة فقال له المتوكل: لم أرد منك ما ذهبت إليه من هذا المعنى، قال له يحيى: القول بالمحاسن في المغيب فريضة على ذي نعمة، قال: فما كان يقول خلال حديثه، فإن المعتصم بالله يرحمه الله كان يقوله، وقد أنسيته؟ فقال: كان يقول: اللهم إني أحمدك على النعم التي لا يحصيها احد غيرك، وأستغفرك من الذنوب التي لا يحيط بها إلا عفوك.
قال: فما كان يقول إذا استحسن شيئا أو بشر بشيء، فقد كان المعتصم بالله أمر علي بن يزداد أن يكتبه لنا، فكتبه فعلمناه ثم أنسيناه؟ قال: كان يقول: إن ذكر آلاء الله ونشرها وتعداد نعمه والحديث بها فرض من الله على أهلها، وطاعة لأمره فيها، وشكر له عليها، فالحمد لله العظيم الآلاء، السابغ النعماء بما هو أهله، ومستوجبه من محامده القاضية حقه، البالغة شكره، الموجبة مزيده على ما لا يحصيه تعدادنا، ولا يحيط به ذكرنا، من ترادف مننه، وتتابع فضله، ودوام طوله، حمد من يعلم أن ذلك منه، والشكر له عليه فقال المتوكل: صدقت، هذا هو الكلام بعينه، وهذا كله حكم من ذي حنكة وعلم، وانقضى المجلس وقدم فِي هَذِهِ السنة مُحَمَّد بن عَبْدِ اللَّهِ بن طاهر بغداد منصرفا من مكة في صفر، فشكا ما ناله من الغم بما وقع من الخلاف في يوم النحر، فأمر المتوكل بإنفاذ خريطة صفراء من الباب إلى أهل الموسم برؤية هلال ذي الحجة، وأن يسار بها كما يسار بالخريطة الواردة بسلامة الموسم، وأمر أن يقام على المشعر الحرام وسائر المشاعر الشمع مكان الزيت والنفط.
وفيها ماتت أم المتوكل بالجعفرية لست خلون من شهر ربيع الآخر وصلى عليها المنتصر، ودفنت عند المسجد الجامع.

خلافه المنتصر محمد بن جعفر
وفيها بويع للمنتصر محمد بن جعفر بالخلافة في يوم الأربعاء لأربع خلون من شوال- وقيل لثلاث خلون منه- وهو ابن خمس وعشرين سنة وكنيته أبو جعفر بالجعفرية، فأقام بها بعد ما بويع له عشرة أيام، ثم تحول منه بعياله وقواده وجنوده الى سامرا.
وكان قد بايعه ليلة الأربعاء الذين ذكرناهم قبل، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما كان صبيحة يوم الأربعاء، حضر الناس الجعفرية من القواد والكتاب والوجوه والشاكرية والجند وغيرهم، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب كتابا يخبر فيه عن أمير المؤمنين المنتصر، أن الفتح بن خاقان قتل أباه جعفرا المتوكل، فقتله به، فبايع الناس، وحضر عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فبايع وانصرف.
وذكر عن أبي عثمان سعيد الصغير أنه قال: لما كانت الليلة التي قتل فيها المتوكل، كنا في الدار مع المنتصر، فكان كلما خرج الفتح خرج معه، وكلما رجع قام لقيامه وجلس لجلوسه، وخرج في أثره، وكلما ركب أخذ بركابه، وسوى عليه ثيابه في سرج دابته، وكان اتصل بنا الخبر أن عبيد الله بن يحيى قد أعد له قوما في طريقه ليغتالوه عند انصرافه، وقد كان المتوكل أسمعه وأحفظه قبل انصرافه، ووثب به، فانصرف على غضب، وانصرفنا معه، فلما صار إلى داره أرسل إلى ندمائه وخاصته- وقد كان واعد الأتراك على قتل المتوكل قبل انصرافه إذا ثمل من النبيذ- قال: فلم ألبث أن جاءني الرسول: أن أحضر فقد جاءت رسل أمير المؤمنين إلى الأمير، وهو على الركوب، فوقع في نفسي ما كان دار بيننا أنهم على اغتيال المنتصر، وأنه إنما يدعى لذلك، فركبت في سلاح وعدة، وصرت إلى باب الأمير، فإذا هم يموجون، وإذا واجن قد جاءه فأخبره أنه قد فرغ من أمره، فركب فلحقته في بعض الطريق وأنا مرعوب، فرأى ما بي، فقال: ليس عليك! إن أمير المؤمنين قد شرق بقدح شربه بعد انصرافنا، فمات رحمه الله.
فأكبرت ذلك، وشق علي، ومضينا وأحمد بن الخصيب وجماعة من القواد معنا حتى دخلنا الحير، وتتابعت الأخبار بقتل المتوكل، فأخذت الأبواب، ووكل بها، وقلت: يا أمير المؤمنين، وسلمت عليه بالخلافة، وقلت:
لا ينبغي أن نفارقك لموضع الشفقة عليك من مواليك في هذا الوقت، قال:
أجل، فكن أنت من ورائي وسليمان الرومي وألقي منديل، فجلس عليه، وأحطنا به، وحضر أحمد بن الخصيب وكاتبه سعيد بن حميد لأخذ البيعة.
فذكر عن سعيد بن حميد ان احمد بن الخصيب، قال له: ويلك يا سعيد! معك كلمتان أو ثلاث تأخذ بها البيعة، قلت: نعم، وكلمات وعملت كتاب البيعة، وأخذتها على من حضر وكل من جاء حتى جاء سعيد الكبير، فأرسله إلى المؤيد، وقال لسعيد الصغير: امض أنت إلى المعتز حتى تحضره، قال سعيد الصغير: فقلت: أما ما دمت يا أمير المؤمنين في قلة ممن معك فلا أبرح والله من وراء ظهرك، حتى يجتمع الناس.
قال أحمد بن الخصيب: هاهنا من يكفيك، فامض، فقلت: لا أمضي حتى يجتمع من يكفي، فإني الساعة أولى به منك! فلما كثر القواد، وبايعوا، ومضيت وأنا آيس من نفسي، ومعي غلامان، فلما صرت إلى باب أبي نوح، والناس يموجون ويذهبون ويجيئون، وإذا على الباب جمع كبير في سلاح وعدة، فلما أحسوا بي لحقني فارس منهم، فسألني وهو لا يعرفني: من أنت؟
فعميت عليه خبري، وأخبرته أني من بعض أصحاب الفتح، ومضيت حتى صرت إلى باب المعتز، فلم أجد به أحدا من الحرس والبوابين والمكبرين ولا خلقا من خلق الله حتى صرت إلى الباب الكبير، فدققته دقا عنيفا مفرطا، فأجبت بعد مدة طويلة، فقيل لي: من هذا؟ فقلت: سعيد الصغير، رسول أمير المؤمنين المنتصر، فمضى الرسول، وأبطأ علي، وأحسست بالمنكر وضاقت علي الأرض ثم فتح الباب فإذا ببيدون الخادم قد خرج، وقال لي: ادخل وأغلق الباب دوني، فقلت: ذهبت والله نفسي، ثم سألني عن الخبر، فأخبرته أن أمير المؤمنين شرق بكأس شربها ومات من ساعته، وأن الناس قد اجتمعوا وبايعوا المنتصر، وأنه أرسلني إلى الأمير أبي عبد الله المعتز بالله ليحضر البيعة فدخل ثم خرج إلي، فقال: ادخل، فدخلت على المعتز، فقال لي: ويلك يا سعيد! ما الخبر؟ فأخبرته بمثل ما أخبرت به بيدون، وعزيته وبكيت، وقلت: تحضر يا سيدي، وتكون في أوائل من بايع، فتستدعي بذلك قلب أخيك، فقال لي: ويلك حتى نصبح! فما زلت افتله في الحبل والغارب، ويعينني عليه بيدون الخادم، حتى تهيأ للصلاة، ودعا بثيابه فلبسها، وأخرج له دابة، وركب وركبت معه، وأخذت طريقا غير طريق الجادة، وجعلت أحدثه وأسهل الأمر عليه، وأذكره أشياء يعرفها من أخيه، حتى إذا صرنا إلى باب عبيد الله بن يحيى بن خاقان سألني عنه، فقلت:
هو يأخذ البيعه على الناس، والفتح قد بايع، فيئس حينئذ، وإذا بفارس قد لحق بنا، وصار إلى بيدون الخادم، فساره بشيء لا أعلمه، فصاح به بيدون، فمضى ثم رجع ثلاثا، كل ذلك يرده بيدون ويصيح به: دعنا، حتى وافينا باب الحير فاستفتحه فقيل لي: من أنت؟ قلت: سعيد الصغير والأمير المعتز، ففتح لي الباب، وصرنا إلى المنتصر، فلما رآه قربه وعانقه وعزاه، وأخذ البيعة عليه، ثم وافى المؤيد مع سعيد الكبير، ففعل به مثل ذلك، وأصبح الناس، وصار المنتصر إلى الجعفري فأمر بدفن المتوكل والفتح، وسكن الناس، فقال سعيد الصغير: ولم أزل أطالب المعتز بالبشرى بخلافة المنتصر وهو محبوس في الدار، حتى وهب لي عشره آلاف درهم.

[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنه خلع المعتز والمؤيد أنفسهما، واظهر خلعهما في القصر الجعفري المحدث وكانت نسخة البيعة التي أخذت للمنتصر:
بسم الله الرحمن الرحيم تبايعون عبد الله المنتصر بالله أمير المؤمنين بيعة طوع واعتقاد ورضا، ورغبة بإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم، لا مكرهين ولا مجبرين، بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من طاعة الله وتقواه، وإعزاز دين الله وحقه، ومن عموم صلاح عباد الله، واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين، على أن محمدا الإمام المنتصر بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ومناصحته والوفاء بحقه وعقده، لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع له، والطاعة والمسالمة، والنصرة والوفاء والاستقامة، والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله الإمام المنتصر بالله أمير المؤمنين، وعلى أنكم أولياء أوليائه، وأعداء أعدائه، من خاص وعام، وأبعد وأقرب، وتتمسكون ببيعته بوفاء العقد، وذمة العهد، سرائركم في ذلك مثل علانيتكم، وضمائركم مثل ألسنتكم، راضين بما يرضاه لكم أمير المؤمنين في عاجلكم وآجلكم وعلى إعطائكم أمير المؤمنين بعد تجديدكم بيعته هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم، صفقة أيمانكم، راغبين طائعين، عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد الله عليكم، وعلى ألا يميل بكم مميل في ذلك عن نصرة وإخلاص، ونصح وموالاة، وعلى ألا تبدلوا، ولا يرجع منكم راجع عن نيته، وانطوائه إلى غير علانيته، وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتم بها ألسنتكم وعهودكم بيعة يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتقادها، وعلى الوفاء بذمته بها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها، لا يشوب ذلك منكم دغل ولا إدهان ولا احتيال ولا تأول، حتى تلقوا الله، موفين بعهده، ومؤدين حقه عليكم، غير مستشرفين ولا ناكثين، إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10]
عليكم بذلك وبما أكدت هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم بها من وفاء ونصر، وموالاة واجتهاد ونصح، وعليكم عهد الله، إن عهده كان مسئولا، وذمة الله وذمة رسوله وأشد ما أخذ على أنبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من متأكد وثائقه، أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا، وأن تطيعوا ولا تعصوا، وأن تخلصوا ولا ترتابوا، وأن تتمسكوا بما عاهدتم عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم وذوي العهد والوفاء بوفائهم وحقهم، لا يلفتكم عن ذلك هوى ولا مميل، ولا يزيغ بكم فيه ضلال عن هدى، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة بما جعلتم على أنفسكم، لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلا الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممن بايع أمير المؤمنين هذه البيعة عما أكد عليه مسرا أو معلنا، أو مصرحا أو محتالا، فأدهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذت به مواثيق أمير المؤمنين، وعهود الله عليه، مستعملا في ذلك الهوينى دون الجد، والركون إلى الباطل دون نصرة الحق، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الوفاء منهم بعهودهم، فكل ما يملك كل واحد ممن خان في ذلك بشيء نقض عهده من مال أو عقار أو سائمة، أو زرع أو ضرع صدقة على المساكين في وجوه سبيل الله، محرم عليه أن يرجع شيء من ذلك إلى ماله عن حيلة يقدمها لنفسه أو يحتال بها وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقل خطرها أو يجل قدرها، فتلك سبيله إلى أن توافيه منيته، ويأتي عليه أجله، وكل مملوك يملكه اليوم إلى ثلاثين سنة من ذكر أو أنثى أحرار لوجه الله، ونساؤه في يوم يلزمه الحنث، ومن يتزوجه بعدهن إلى ثلاثين سنة طوالق البتة طلاق الحرج والسنة، لا مثنوية فيه ولا رجعة وعليه المشي إلى بيت الله الحرام ثلاثين حجة، لا يقبل الله منه إلا الوفاء بها، وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان، ولا قبل الله منه صرفا ولا عدلا، والله عليكم بذلك شهيد، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
وذكر أنه لما كانت صبيحة اليوم الذي بويع فيه المنتصر شاع الخبر في الماحوزة- وهي المدينة التي كان جعفر بناها في أهل سامرا- بقتل جعفر، وتوافى الجند والشاكرية بباب العامة بالجعفري وغيرهم من الغوغاء والعوام، وكثر الناس وتسامعوا، وركب بعضهم بعضا، وتكلموا في أمر البيعة، فخرج إليهم عتاب بن عتاب- وقيل: إن الذي خرج إليهم زرافة- فأبلغهم عن المنتصر ما يحبون، فاسمعوه، فدخل إلى المنتصر فأخبره، فخرج وبين يديه جماعة من المغاربة، فصاح بهم: يا كلاب! خذوهم، فحملوا على الناس فدفعوهم إلى الثلاثة الأبواب، فازدحم الناس ووقع بعضهم على بعض، ثم تفرقوا عن عدة قد ماتوا من الزحمة والدوس، فمنهم من ذكر أنهم كانوا ستة نفر، ومنهم من قال: كانوا ما بين الثلاثة إلى الستة.
وفيها ولي المنتصر أبا عمرة أحمد بن سعيد- مولى بني هاشم، بعد البيعة له بيوم- المظالم، فقال قائل:

يا ضيعة الإسلام لما ولي *** مظالم الناس أبو عمره
صير مأمونا على أمة *** وليس مأمونا على بعره

وفي ذي الحجة من هذه السنة أخرج المنتصر علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد ووكل به.
وحج بالناس فيها محمد بن سليمان الزينبي.