147 هـ
764 م
سنة سبع وأربعين ومائة (ذكر الأخبار عن الأحداث الَّتِي كَانَتْ فِيهَا)

فِمِمَّا كَانَ فِيهَا من ذلك اغاره استر خان الخوارزمي في جمع من الترك  على المسلمين بناحية أرمينية وسبيه من المسلمين وأهل الذمة …

خلقا كثيرا، ودخولهم تفليس، وقتلهم حرب بْن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد وكان حرب هذا- فيما ذكر- مقيما بالموصل في ألفين من الجند، لمكان الخوارج الذين بالجزيرة وكان أبو جعفر حين بلغه نحزب الترك فيما هناك وجه إليهم لحربهم جبرئيل بْن يحيى، وكتب إلى حرب يأمره بالمسير معه، فسار معه حرب، فقتل حرب وهزم جبرئيل، واصيب من المسلمين من ذكرت.

ذكر الخبر عن مهلك عبد الله بن على بن عباس
وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن على بْن عباس واختلفوا في سبب هلاكه، فقال بعضهم ما ذكره علي بْن محمد النوفلي عن أبيه أن أبا جعفر حج سنة سبع وأربعين ومائة بعد تقدمته المهدي على عيسى بْن موسى بأشهر، وقد كان عزل عيسى بْن موسى عن الكوفة وأرضها، وولى مكانه محمد بن سليمان ابن علي، وأوفده إلى مدينة السلام، فدعا به، فدفع إليه عبد الله بْن علي سرا في جوف الليل، ثم قَالَ له: يا عيسى، إن هذا أراد أن يزيل النعمة عني وعنك، وأنت ولي عهدي بعد المهدي، والخلافة صائرة إليك، فخذه إليك فاضرب عنقه، وإياك أن تخور أو تضعف، فتنقض علي أمري الذي دبرت ثم مضى لوجهه، وكتب إليه من طريقه ثلاث مرات يسأله: ما فعل في الأمر الذي أوعز إليه فيه؟ فكتب إليه: قد أنفذت ما أمرت به، فلم يشك أبو جعفر في أنه قد فعل ما أمره به، وأنه قد قتل عبد الله بْن على، وكان عيسى حين دفعه إليه ستره، ودعا كاتبه يونس بْن فروة، فقال له: إن هذا الرجل دفع إلي عمه، وأمرني فيه بكذا وكذا فقال له: أراد أن يقتلك ويقتله، أمرك بقتله سرا، ثم يدعيه عليك علانية ثم يقيدك به قَالَ: فما الرأي؟ قَالَ: الرأي ان تستره في منزلك، فلا نطلع على أمره أحدا، فإن طلبه منك علانية دفعته إليه علانية، ولا تدفعه إليه سرا أبدا، فإنه وإن كان أسره إليك، فإن أمره سيظهر ففعل ذلك عيسى.
وقدم المنصور ودس إلى عمومته من يحركهم على مسألته هبة عبد الله بْن علي لهم، ويطمعهم في أنه سيفعل فجاءوا إليه وكلموه ورققوه، وذكروا له الرحم، وأظهروا له رقة، فقال: نعم، علي بعيسى بْن موسى، فأتاه فقال له: يا عيسى، قد علمت أني دفعت إليك عمي وعمك عبد الله بْن علي قبل خروجي إلى الحج، وأمرتك أن يكون في منزلك، قَالَ: قد فعلت ذلك يا أمير المؤمنين، قَالَ: فقد كلمني عمومتك فيه، فرأيت الصفح عنه وتخلية سبيله، فأتنا به فقال: يا أمير المؤمنين، ألم تأمرني بقتله فقتلته! قَالَ: ما أمرتك بقتله، إنما أمرتك بحبسه في منزلك قَالَ: قد أمرتني بقتله، قَالَ له المنصور: كذبت، ما أمرتك بقتله ثم قَالَ لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، وادعى أني أمرته بذلك، وقد كذب، قالوا: فادفعه إلينا نقتله به، قَالَ: شأنكم به، فأخرجوه إلى الرحبة، واجتمع الناس، وشهر الأمر، فقام أحدهم فشهر سيفه، وتقدم إلى عيسى ليضربه، فقال له عيسى:
أفاعل أنت؟ قَالَ: أي والله، قَالَ: لا تعجلوا، ردوني إلى أمير المؤمنين، فردوه إليه، فقال: إنما أردت بقتله أن تقتلني، هذا عمك حي سوي، إن أمرتني بدفعه إليك دفعته قَالَ: ائتنا به، فأتاه به، فقال له عيسى: دبرت علي أمرا فخشيته، فكان كما خشيت، شأنك وعمك قَالَ: يدخل حتى أرى رأيي ثم انصرفوا ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح، وأجرى في أساسه الماء، فسقط عليه فمات، فكان من أمره ما كان وتوفي عبد الله بْن علي في هذه السنة ودفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها.
وذكر عن إبراهيم بْن عيسى بْن المنصور بْن بريه أنه قَالَ: كانت وفاة عبد الله بْن علي في الحبس سنة سبع وأربعين ومائة، وهو ابن اثنتين وخمسين سنة.
قَالَ إبراهيم بْن عيسى: لما توفي عبد الله بْن علي ركب المنصور يوما ومعه عبد الله بْن عياش، فقال له وهو يجاريه: اتعرف ثلاثة خلفاء، اسماؤهم على العين مبدؤها، قتلوا ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم العين؟ قَالَ: لا أعرف إلا ما تقول العامة، إن عليا قتل عثمان- وكذبوا- وعبد الملك بْن مروان قتل عبد الرحمن بْن محمد بْن الأشعث، وعبد الله بْن الزبير وعمرو بْن سعيد وعبد الله بْن علي سقط عليه البيت، فقال له المنصور: فسقط على عبد الله بْن علي البيت، فأنا ما ذنبي؟ قال: ما قلت ان لك ذنبا

ذكر خبر البيعه للمهدي وخلع عيسى بن موسى
وفي هذه السنة خلع المنصور عيسى بْن موسى وبايع لابنه المهدي، وجعله ولي عهد من بعده وقال بعضهم: ثم من بعده عيسى بْن موسى.
ذكر الخبر عن سبب خلعه إياه وكيف كان الأمر في ذلك: اختلف في الذي وصل به أبو جعفر إلى خلعه، فقال بعضهم: السبب الذي وصل به أبو جعفر إلى ذلك هو أن أبا جعفر أقر عيسى بْن موسى بعد وفاة أبي العباس على ما كان أبو العباس ولاه من ولاية الكوفة وسوادها، وكان له مكرما مجلا، وكان إذا دخل عليه أجلسه عن يمينه، وأجلس المهدي عن يساره، فكان ذلك فعله به، حتى عزم المنصور على تقديم المهدي في الخلافة عليه وكان أبو العباس جعل الأمر من بعده لأبي جعفر، ثم من بعد أبي جعفر لعيسى بْن موسى، فلما عزم المنصور على ذلك كلم عيسى بْن موسى في تقديم ابنه عليه برفيق من الكلام، فقال عيسى: يا أمير المؤمنين،   فكيف بالأيمان والمواثيق التي علي وعلى المسلمين لي من العتق والطلاق وغير ذلك من مؤكد الإيمان! ليس إلى ذلك سبيل يا أمير المؤمنين فلما رأى أبو جعفر امتناعه، تغير لونه وباعده بعض المباعدة، وأمر بالإذن للمهدي قبله، فكان يدخل فيجلس عن يمين المنصور في مجلس عيسى، ثم يؤذن العيسى فيدخل فيجلس دون مجلس المهدي عن يمين المنصور أيضا، ولا يجلس عن يساره في المجلس الذي كان يجلس فيه المهدي، فيغتاظ من ذلك المنصور، ويبلغ منه، فيأمر بالإذن للمهدي ثم يأمر بعده بالإذن لعيسى بْن علي، فيلبث هنيهة، ثم عبد الصمد بْن علي، ثم يلبث هنيهة، ثم عيسى بْن موسى.
فإذا كان بعد ذلك قدم في الإذن للمهدي على كل حال، ثم يخلط في الآخرين، فيقدم بعض من أخر ويؤخر بعض من قدم ويوهم عيسى ابن موسى أنه إنما يبدأ بهم لحاجة تعرض ولمذاكرتهم بالشيء من أمره، ثم يؤذن لعيسى بْن موسى من بعدهم، وهو في ذلك كله صامت لا يشكو منه شيئا، ولا يستعتب ثم صار إلى أغلظ من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده، فيسمع الحفر في أصل الحائط فيخاف أن يخر عليه الحائط، وينتثر عليه التراب، وينظر إلى الخشبة من سقف المجلس قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه، فيأمر من معه من ولده بالتحويل، ويقوم هو فيصلي، ثم يأتيه الإذن فيقوم فيدخل بهيئته والتراب عليه لا ينفضه، فإذا رآه المنصور قَالَ له: يا عيسى، ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار عليك والتراب! أفكل هذا من الشارع؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، وانما يكلمه المنصور بذلك ليستطمعه أن يشكو إليه شيئا فلا يشكو، وكان المنصور قد أرسل إليه في الأمر الذي اراد منه عيسى بْن علي، فكان عيسى بْن موسى لا يحمد منه مدخله فيه، كأنه كان يغري به فقيل: إنه دس لعيسى بْن موسى بعض ما يتلفه، فنهض من المجلس، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا موسى؟ قَالَ: أجد غمزا يا أمير المؤمنين، قَالَ: ففي الدار إذا! قَالَ: الذي أجده أشد مما أقيم معه في الدار، قَالَ: فإلى أين؟ قَالَ: إلى المنزل، ونهض فصار إلى حراقته، ونهض المنصور في أثره إلى الحراقة متفزعا له، فاستأذنه عيسى في المسير الى الكوفه، فقال: بل تقيم فتعالج هاهنا، فأبى وألح عليه، فأذن له وكان الذي جرأه على ذلك طبيبه بختيشوع أبو جبرئيل، قال: إني والله ما أجترئ على معالجتك بالحضرة، وما آمن على نفسي فأذن له المنصور، وقال له: أنا على الحج في سنتي هذه، فأنا مقيم عليك بالكوفة حتى تفيق إن شاء الله.
وتقارب وقت الحج، فشخص المنصور حتى صار بظهر الكوفة في موضع يدعى الرصافة، فأقام بها أياما، فأجرى هناك الخيل، وعاد عيسى غير مرة، ثم رجع إلى مدينة السلام ولم يحج، واعتل بقلة الماء في الطريق.
وبلغت العلة من عيسى بْن موسى كل مبلغ، حتى تمعط شعره، ثم أفاق من علته تلك فقال فيه يحيى بْن زياد بْن أبي حزابة البرجمي أبو زياد:

أفلت من شربة الطبيب كما *** افلت ظبى الصريم من قتره
من قانص ينفذ الفريص إذا *** ركب سهم الحتوف في وتره
دافع عنك المليك صولة ليث *** يريد الأسد في ذرى خمره
حتى أتانا وفيه داخلة *** تعرف في سمعه وفي بصره
أزعر قد طار عن مفارقه *** وحف أثيث النبات من شعره

وذكر أن عيسى بْن علي كان يقول للمنصور: إن عيسى بْن موسى إنما يمتنع من البيعة للمهدي لأنه يربص هذا الأمر لابنه موسى، فموسى الذي يمنعه فقال المنصور لعيسى بْن علي: كلم موسى بْن عيسى وخوفه على أبيه وعلى ابنه، فكلم عيسى بْن علي موسى في ذلك، فأيأسه، فتهدده وحذره غضب المنصور فلما وجل موسى وأشفق وخاف أن يقع به المكروه، أتى العباس بْن محمد، فقال: أي عم، إني مكلمك بكلام، لا والله ما سمعه مني أحد قط، ولا يسمعه أحد أبدا، وإنما أخرجه مني إليك موضع الثقة بك والطمأنينة إليك، وهو أمانة عندك، فإنما هي نفسي أنثلها في يدك قَالَ: قل يا بن أخي، فلك عندي ما تحبه، قَالَ: أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر من عنقه وتصييره للمهدي، فهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فيتهدد مرة ويؤخر إذنه مرة، وتهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة فأبي لا يعطى على هذا شيئا، لا يكون ذلك ابدا، ولكن هاهنا وجها، فلعله يعطى عليه إن أعطى وإلا فلا، قال: فما هو يا بن أخي؟ فإنك قد اصبت ووفقت، قَالَ: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: يا عيسى، إني أعلم أنك لست تضن بهذا الأمر على المهدي لنفسك، لتعالي سنك وقرب أجلك، فإنك تعلم أنه لا مدة لك تطول فيه، وإنما تضن به لمكان ابنك موسى، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك ويبقى ابني معه فيلي عليه! كلا والله لا يكون ذلك أبدا، ولأثبن على ابنك وأنت تنظر حتى تيأس منه، وآمن أن يلي على ابني أترى ابنك آثر عندي من ابني! ثم يأمر بي، فإما خنقت وإما شهر علي سيف فإن أجاب إلى شيء فعسى أن يفعل بهذا السبب، فأما بغيره فلا فقال العباس: جزاك الله يا بن أخي خيرا، فقد فديت أباك بنفسك، وآثرت بقاءه على حظك، نعم الرأي رأيت، ونعم المسلك سلكت!
ثم أتى أبا جعفر فأخبره الخبر، فجزى المنصور موسى خيرا، وقال: قد أحسن وأجمل، وسأفعل ما أشار به إن شاء الله، فلما اجتمعوا وعيسى ابن علي حاضر، أقبل المنصور على عيسى بْن موسى، فقال: يا عيسى، إني لا أجهل مذهبك الذي تضمره، ولا مداك الذي تجري إليه في الأمر الذي سألتك، انما تريد هذا الأمر لابنك هذا المشئوم عليك وعلى نفسه، فقال عيسى بْن علي: يا أمير المؤمنين، غمزني البول، قَالَ: فندعو لك بإناء تبول فيه، قَالَ: أفي مجلسك يا أمير المؤمنين! ذاك ما لا يكون، ولكن أقرب البلاليع مني أدل عليها فآتيها فامر من يدله، فانطلق فقال عيسى ابن موسى لابنه موسى: قم مع عمك، فاجمع عليه ثيابه من ورائه، وأعطه منديلا إن كان معك ينشف به، فلما جلس عيسى يبول جمع موسى عليه ثيابه من ورائه وهو لا يراه، فقال: من هذا؟ فقال: موسى بْن عيسى، فقال: بأبي أنت وبأبي أب ولدك! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرى بما تعجل، فقال موسى في نفسه: أمكنني والله هذا من مقاتله، وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه بما قَالَ لي، ثم لا أبالي أن يقتلني أمير المؤمنين بعده، بل يكون في قتله عزاء لأبي وسلو عني إن قتلت فلما رجعا إلى موضعهما قَالَ موسى: يا أمير المؤمنين، أذكر لأبي أمرا؟ فسره ذلك، وظن أنه يريد أن يذاكره بعض أمرهم، فقال: قم، فقام إليه، فقال: يا أبت، إن عيسى بْن علي قد قتلك وإياي قتلات بما يبلغ عنا، وقد أمكنني من مقاتله، قَالَ: وكيف؟ قَالَ: قَالَ لي كيت وكيت، فأخبر أمير المؤمنين فيقتله، فتكون قد شفيت نفسك وقتلته قبل أن يقتلك وإياي ثم لا نبالي ما كان بعد فقال: أف لهذا رأيا ومذهبا! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها، فجعلتها سببا لمكروهه وتلفه! لا يسمعن هذا منك أحد، وعد إلى مجلسك فقام فعاد، وانتظر أبو جعفر أن يرى لقيامه إلى أبيه وكلامه أثرا فلم يره، فعاد إلى وعيده الأول وتهدده، فقال: أما والله لاعجلن لك فيه ما يسوءك ويوئسك من بقائه بعدك، أيا ربيع، قم إلى موسى فاخنقه بحمائله، فقام الربيع فضم حمائله عليه، فجعل يخنقه بها خنقا رويدا، وموسى يصيح: الله الله يا أمير المؤمنين في وفي دمي! فإني لبعيد مما تظن بي، وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر نفرا ذكرا- كلهم عنده مثلي- أو يتقدمني، وهو يقول: اشدد يا ربيع، ائت على نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه، وهو يراخي خناقه، وموسى يصيح، فلما راى ذاك عيسى قَالَ: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الأمر يبلغ منك هذا كله فمر بالكف عنه، فإني لم أكن لأرجع إلى أهلي، وقد قتل بسبب هذا الأمر عبد من عبيدي، فكيف بابني! فها أنا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار، وما أملك في سبيل الله، تصرف ذلك فيمن رأيت يا أمير المؤمنين، وهذه يدي بالبيعة للمهدي فأخذ بيعته له على ما أحب ثم قَالَ: يا أبا موسى، إنك قد قضيت حاجتي هذه كارها، ولي حاجة أحب أن تقضيها طائعا، فتغسل بها ما في نفسي من الحاجة الأولى، قَالَ: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: تجعل هذا الأمر من بعد المهدي لك، قَالَ: ما كنت لأدخل فيها بعد إذ خرجت منها فلم يدعه هو ومن حضره من أهل بيته حتى قَالَ: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم.
فقال بعض أهل الكوفة- ومر عليه عيسى في موكبه: هذا هذا الذي كان غدا، فصار بعد غد وهذه القصة- فيما قيل- منسوبة إلى آل عيسى أنهم يقولونها.
وأما الذي يحكى عن غيرهم في ذلك، فهو أن المنصور أراد البيعة للمهدي، فكلم الجند في ذلك، فكانوا إذا رأوا عيسى راكبا أسمعوه ما كره، فشكا ذلك إلى المنصور، فقال للجند: لا تؤذوا ابن أخي، فإنه جلدة بين عيني، ولو كنت تقدمت إليكم لضربت أعناقكم، فكانوا يكفون ثم يعودون، فمكث بذلك زمانا، ثم كتب إلى عيسى:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم من عبد اللَّه عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلى عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هُوَ.
أَمَّا بَعْدُ، فالحمد لله ذي المن القديم، والفضل العظيم، والبلاء الحسن الجميل، الذي ابتدأ الخلق بعلمه، وأنفذ القضاء بأمره، فلا يبلغ مخلوق كنه حقه، ولا ينال في عظمته كنه ذكره، يدبر ما أراد من الأمور بقدرته، ويصدرها عن مشيئته، لا قاضي فيها غيره، ولا نفاذ لها إلا به، يجريها على أذلالها، لا يستأمر فيها وزيرا، ولا يشاور فيها معينا، ولا يلتبس عليه شيء أراده، يمضي قضاؤه فيما أحب العباد وكرهوا، لا يستطيعون منه امتناعا، ولا عن أنفسهم دفاعا، رب الأرض ومن عليها، له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين.
ثم إنك قد علمت الحال التي كنا عليها في ولاية الظلمة، كيف كانت قوتنا وحيلتنا، لما اجترأ عليه أهل بيت اللعنه فيما أحببنا وكرهنا، فصبرنا أنفسنا على ما دعونا إليه من تسليم الأمور إلى من أسندوها إليه، واجتمع رأيهم عليه، نسام الخسف، ونوطأ بالعسف، لا ندفع ظلما، ولا نمنع ضيما، ولا نعطي حقا، ولا ننكر منكرا، ولا نستطيع لها ولا لأنفسنا نفعا، حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وانتهى الأمر إلى مدته، وأذن الله في هلاك عدوه، وارتاح بالرحمه لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم، فابتعث الله لهم أنصارا يطلبون بثأرهم، ويجاهدون عدوهم، ويدعون إلى حبهم، وينصرون دولتهم، من أرضين متفرقة، وأسباب مختلفة، وأهواء مؤتلفة، فجمعهم الله على طاعتنا، وألف بين قلوبهم بمودتنا على نصرتنا، وأعزهم بنصرنا، لم نلق منهم رجلا، ولم نشهر معهم إلا ما قذف الله في قلوبهم، حتى ابتعثهم لنا من بلادهم، ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، يلقون الظفر، ويعودون بالنصر، وينصرون بالرعب، لا يلقون أحدا إلا هزموه، ولا واترا إلا قتلوه، حتى بلغ الله بنا بذلك أقصى مدانا وغاية منانا ومنتهى آمالنا وإظهار حقنا، وإهلاك عدونا، كرامة من الله جل وعز لنا، وفضلا منه علينا، بغير حول منا ولا قوة، ثم لم نزل من ذلك في نعمة الله وفضله علينا، حتى نشأ هذا الغلام، فقذف الله له في قلوب انصار الدين الذين ابتعثهم لنا مثل ابتدائه لنا أول أمرنا، وأشرب قلوبهم مودته، وقسم في صدورهم محبته، فصاروا لا يذكرون إلا فضله، ولا ينوهون إلا باسمه، ولا يعرفون إلا حقه، فلما رأى أمير المؤمنين ما قذف الله في قلوبهم من مودته، وأجرى على ألسنتهم من ذكره، ومعرفتهم إياه بعلاماته واسمه، ودعاء العامة إلى طاعته، أيقنت نفس أمير المؤمنين أن ذلك أمر تولاه الله وصنعه، لم يكن للعباد فيه أمر ولا قدرة، ولا مؤامرة ولا مذاكرة، للذي رأى أمير المؤمنين من اجتماع الكلمة، وتتابع العامة، حتى ظن أمير المؤمنين انه لولا معرفه المهدى بحق الأبوة، لأفضت الأمور إليه وكان أمير المؤمنين لا يمنع مما اجتمعت عليه العامة، ولا يجد مناصا عن خلاص ما دعوا إليه، وكان أشد الناس على أمير المؤمنين في ذلك الأقرب فالأقرب من خاصته وثقاته من حرسه وشرطه، فلم يجد أمير المؤمنين بدا من استصلاحهم ومتابعتهم، وكان أمير المؤمنين وأهل بيته أحق من سارع إلى ذلك وحرص عليه، ورغب فيه وعرف فضله، ورجا بركته، وصدق الرواية فيه، وحمد الله إذ جعل في ذريته مثل ما سألت الأنبياء قبله، إذ قَالَ العبد الصالح: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 5-6] فوهب الله لأمير المؤمنين وليا، ثم جعله تقيا مباركا مهديا، وللنبي صلى الله عليه وسلم سميا، وسلب من انتحل هذا الاسم، ودعا إلى تلك الشبهة التي تحير فيها أهل تلك النية، وافتتن بها أهل تلك الشقوة، فانتزع ذلك منهم، وجعل دائرة السوء عليهم، وأقر الحق قراره، وأعلن للمهدي مناره، وللدين أنصاره، فأحب أمير المؤمنين أن يعلمك الذي اجتمع عليه رأي رعيته، وكنت في نفسه بمنزلة ولده، يحب من سترك ورشدك وزينك ما يحب لنفسه وولده، ويرى لك إذا بلغك من حال ابن عمك ما ترى من اجتماع الناس عليه أن يكون ابتداء ذلك من قبلك، ليعلم أنصارنا من أهل خراسان وغيرهم أنك أسرع إلى ما أحبوا مما عليه رأيهم في صلاحهم منهم إلى ذلك من أنفسهم، وإن ما كان عليه من فضل عرفوه للمهدي، أو أملوه فيه، كنت أحظى الناس بذلك، وأسرهم به لمكانه وقرابته، فاقبل نصح أمير المؤمنين لك، تصلح وترشد والسلام عليك ورحمة الله.
فكتب إليه عيسى بْن موسى جوابها:
بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عبد الله أمير المؤمنين من عيسى بْن موسى سلام عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ورحمة اللَّه، فإني أحمد إليك اللَّه الَّذِي لا إله إلا هو، أَمَّا بَعْدُ فقد بلغني كتابك تذكر فِيهِ ما أجمعت عليه من خلاف الحق وركوب الإثم في قطيعة الرحم، ونقض ما أخذ الله عليه من الميثاق من العامة بالوفاء للخلافة والعهد لي من بعدك، لتقطع بذلك ما وصل الله من حبله، وتفرق بين ما ألف الله جمعه، وتجمع بين ما فرق الله أمره، مكابرة لله في سمائه، وحولا على الله في قضائه، ومتابعة للشيطان في هواه، ومن كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ما كره عن شيء خدعه، ومن توكل على الله منعه، ومن تواضع لله رفعه.
إن الذي أسس عليه البناء، وخط عليه الحذاء من الخليفة الماضي عهد لي من الله، وأمر نحن فيه سواء، ليس لأحد من المسلمين فيه رخصة دون أحد، فإن وجب وفاء فيه فما الأول بأحق به من الآخر، وإن حل من الآخر شيء فما حرم ذلك من الأول، بل الأول الذي تلا خبره وعرف أثره، وكشف عما ظن به وأمل فيه أسرع، وكان الحق أولى بالذي اراد ان يصنع أولا، فلا يدعوك إلى الأمن من البلاء اغترار بالله، وترخيص للناس في ترك الوفاء، فإن من أجابك إلى ترك شيء وجب لي واستحل ذلك مني، لم يحرج إذا أمكنته الفرصة وأفتنته الرخصه أن يكون إلى مثل ذاك منك أسرع، ويكون بالذي اسست من ذلك ابخع.
فاقبل العاقبة وارض من الله بما صنع، وخذ ما أوتيت بقوة، وكن من الشاكرين.
فإن الله جل وعز زائد من شكره، وعدا منه حقا لا خلف فيه، فمن راقب الله حفظه، ومن أضمر خلافه خذله، والله {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ} [غافر: 19] ولسنا مع ذلك نأمن من حوادث الأمور وبغتات الموت قبل ما ابتدأت به من قطيعتي، فإن تعجل بي أمر كنت قد كفيت مئونة ما اغتممت له، وسترت قبح ما أردت إظهاره، وإن بقيت بعدك لم تكن اوغرت صدري، وقطعت رحمي، ولا أظهرت أعدائي في اتباع أثرك، وقبول أدبك، وعمل بمثالك.
وذكرت أن الأمور كلها بيد الله، هو مدبرها ومقدرها ومصدرها عن مشيئته، فقد صدقت، إن الأمور بيد الله، وقد حق على من عرف ذلك ووصفه العمل به والانتهاء إليه واعلم أنا لسنا جررنا إلى أنفسنا نفعا، ولا دفعنا عنها ضرا، ولا نلنا الذي عرفته بحولنا ولا قوتنا، ولو وكلنا في ذلك إلى أنفسنا وأهوائنا لضعفت قوتنا، وعجزت قدرتنا في طلب ما بلغ الله بنا، ولكن الله إذا أراد عزما لإنفاذ أمره، وإنجاز وعده، وإتمام عهده، وتأكيد عقده، أحكم إبرامه، وأبرم أحكامه، ونور إعلانه، وثبت أركانه، حين أسس بنيانه، فلا يستطيع العباد تأخير ما عجل، ولا تعجيل ما أخر، غير أن الشيطان عدو مضل مبين، قد حذر الله طاعته، وبين عداوته، ينزع بين ولاة الحق وأهل طاعته، ليفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويوقع العداوة والبغضاء بينهم، ويتبرأ منهم عند حقائق الأمور، ومضايق البلايا، وقد قَالَ الله عز وجل في كتابه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحج: 52] ووصف الذين اتقوا فقال: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، فأعيذ أمير المؤمنين بالله من أن يكون نيته وضمير سريرته خلاف ما زين الله به جل وعز من كان قبله، فإنه قد سألتهم أبناؤهم، ونازعتهم أهواؤهم، إلى مثل الذي هم به أمير المؤمنين، فآثروا الحق على ما سواه، وعرفوا أن الله لا غالب لقضائه، ولا مانع لعطائه، ولم يأمنوا مع ذلك تغيير النعم وتعجيل النقم، فآثروا الآجلة، وقبلوا العاقبة، وكرهوا التغيير، وخافوا التبديل، فأظهروا الجميل، فتمم الله لهم أمورهم، وكفاهم ما أهمهم، ومنع سلطانهم، وأعز أنصارهم، وكرم أعوانهم، وشرف بنيانهم، فتمت النعم، وتظاهرت المنن، فاستوجبوا الشكر، فتم أمر الله وهم كارهون.
والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله.
فلما بلغ أبا جعفر المنصور كتابه أمسك عنه، وغضب غضبا شديدا، وعاد الجند لأشد ما كانوا يصنعون، منهم أسد بْن المرزبان وعقبة بْن سلم ونصر بْن حرب بْن عبد الله، في جماعة، فكانوا يأتون باب عيسى، فيمنعون من يدخل إليه، فإذا ركب مشوا خلفه وقالوا: أنت البقره التي قال الله:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] ، فعاد فشكاهم، فقال له المنصور: يا بن أخي، أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، قد أشربوا حب هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك فيكون بيني وبينك لكفوا فأجاب عيسى إلى أن يفعل.
وذكر عن إسحاق الموصلي، عن الربيع، أن المنصور لما رجع إليه من عند عيسى جواب كتابه الذي ذكرنا، وقع في كتابه: اسل عنها تنل منها عوضا في الدنيا، وتأمن تبعتها في الآخرة.
وقد ذكر في وجه خلع المنصور عيسى بْن موسى قول غير هذين القولين، وذلك ما ذكره أبو محمد المعروف بالأسواري بْن عيسى الكاتب، قَالَ: أراد أبو جعفر أن يخلع عيسى بْن موسى من ولاية العهد، ويقدم المهدي عليه، فأبى أن يجيبه إلى ذلك، وأعيا الأمر أبا جعفر فيه، فبعث إلى خالد بْن برمك، فقال له: كلمه يا خالد، فقد ترى امتناعه من البيعه للمهدي، وما قد تقدمنا به في أمره، فهل عندك حيلة فيه، فقد أعيتنا وجوه الحيل، وضل عنا الرأي! فقال: نعم يا أمير المؤمنين، تضم إلي ثلاثين رجلا من كبار الشيعة، ممن تختاره قَالَ: فركب خالد بْن برمك، وركبوا معه، فساروا إلى عيسى بْن موسى، فأبلغوه رسالة أبي جعفر المنصور، فقال: ما كنت لأخلع نفسي وقد جعل الله عز وجل الأمر لي، فأداره خالد بكل وجه من وجوه الحذر والطمع، فأبى عليه، فخرج خالد عنه وخرجت الشيعة بعده، فقال لهم خالد: ما عندكم في أمره؟ قالوا: نبلغ أمير المؤمنين رسالته ونخبره بما كان منا ومنه، قَالَ: لا، ولكنا نخبر أمير المؤمنين أنه قد أجاب، ونشهد عليه أن أنكره، قالوا له: افعل، فإنا نفعل، فقال لهم: هذا هو الصواب، وأبلغ أمير المؤمنين فيما حاول وأراد.
قَالَ: فساروا إلى أبي جعفر وخالد معهم، فأعلموه أنه قد أجاب، فأخرج التوقيع بالبيعة للمهدي، وكتب بذلك الى الافاق، قال: واتى عيسى ابن موسى لما بلغه الخبر أبا جعفر منكرا لما ادعي عليه من الإجابة إلى تقديم المهدي على نفسه، وذكره الله فيما قد هم به فدعاهم أبو جعفر، فسألهم فقالوا: نشهد عليه أنه قد أجاب، وليس له أن يرجع، فأمضى أبو جعفر الأمر، وشكر لخالد ما كان منه، وكان المهدي يعرف ذلك له، ويصف جزالة الرأي منه فيه.
وذكر عن علي بْن محمد بْن سليمان، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي سليم مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: إني لأسير مع سليمان بْن عبد الله بْن الحارث بْن نوفل، وقد عزم أبو جعفر على أن يقدم المهدي على عيسى بْن موسى في البيعة، فإذا نحن بأبي نخيلة الشاعر، ومعه ابناه وعبداه، وكل واحد منهما يحمل شيئا من متاع، فوقف عليهم سليمان بْن عبد الله، فقال: أبا نخيلة، ما هذا الذي أرى؟ وما هذه الحال التي أنت فيها؟ قَالَ: كنت نازلا على القعقاع- وهو رجل من آل زرارة، وكان يتولى لعيسى بْن موسى الشرطة- فقال لي: اخرج عني، فإن هذا الرجل قد اصطنعني، وقد بلغني أنك قلت شعرا في هذه البيعة للمهدي، فأخاف أن يبلغه ذلك أن يلزمني لائمة لنزولك علي، فأزعجني حتى خرجت قَالَ: فقال لي: يا عبد الله، انطلق بأبي نخيلة فبوئه في منزلي موضعا صالحا، واستوص به وبمن معه خيرا ثم خبر سليمان بْن عبد الله أبا جعفر بشعر أبي نخيلة الذي يقول فيه:

عيسى فزحلفها إلى محمد *** حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغني وهي في تزيد *** فقد رضينا بالغلام الأمرد

قَالَ: فلما كان في اليوم الذي بايع فيه أبو جعفر لابنه المهدي وقدمه على عيسى، دعا بأبي نخيلة، فأمره فأنشد الشعر، فكلمه سليمان بْن عبد الله، وأشار عليه في كلامه أن يجزل له العطية، وقال: إنه شيء يبقى لك في الكتب، ويتحدث الناس به على الدهر، ويخلد على الأيام، ولم يزل به حتى أمر له بعشرة آلاف درهم.
وذكر عن حيان بْن عبد الله بْن حبران الحماني، قَالَ: حدثني أبو نخيلة، قَالَ: قدمت على أبي جعفر، فأقمت ببابه شهرا لا أصل إليه، حتى قَالَ لي ذات يوم عبد الله بْن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة، إن أمير المؤمنين يرشح ابنه للخلافه والعهد، وهو على تقدمته بين يدي عيسى بْن موسى، فلو قلت شيئا تحثه على ذلك، وتذكر فضل المهدي، كنت بالحري أن تصيب منه خيرا ومن ابنه، فقلت:

دونك عبد الله أهل ذاكا *** خلافة الله التي أعطاكا
أصفاك أصفاك بها أصفاكا *** فقد نظرنا زمنا أباكا
ثم نظرناك لها إياكا *** ونحن فيهم والهوى هواكا
نعم، فنستذري إلى ذراكا *** أسند إلى محمد عصاكا
فابنك ما استرعيته كفاكا *** فأحفظ الناس لها أدناكا
فقد جفلت الرجل والأوراكا *** وحكت حتى لم أجد محاكا
ودرت في هذا وذا وذاكا *** وكل قول قلت في سواكا
زور وقد كفر هذا ذاكا.

وقلت أيضا كلمتي التي أقول فيها:

إلى أمير المؤمنين فاعمدي *** سيري إلى بحر البحور المزبد
أنت الذى يا بن سمى احمد *** ويا بن بيت العرب المشيد
بل يا أمين الواحد المؤبد *** إن الذي ولاك رب المسجد
أمسى ولي عهدها بالأسعد *** عيسى فزحلفها إلى محمد
من قبل عيسى معهدا عن معهد *** حتى تؤدي من يد إلى يد
فيكم وتغني وهي في تزيد *** فقد رضينا بالغلام الأمرد
بل قد فرغنا غير أن لم نشهد *** وغير أن العقد لم يؤكد
فلو سمعنا قولك امدد امدد *** كانت لنا كدعقة الورد الصدي
فبادر البيعة ورد الحشد *** تبين من يومك هذا أو غد
فهو الذي تم فما من عند *** وزاد ما شئت فزده يزدد
ورده منك رداء يرتد *** فهو رداء السابق المقلد
قد كان يروى أنها كأن قد *** عادت ولو قد فعلت لم تردد
فهي ترامى فدفدا عن فدفد *** حينا، فلو قد حان ورد الورد
وحان تحويل الغوي المفسد *** قَالَ لها الله هلمي وارشدي
فأصبحت نازلة بالمعهد *** والمحتد المحتد خير المحتد
لم يرم تذمار النفوس الحسد *** بمثل قرم ثابت مؤيد
لما انتحوا قدحا بزند مصلد *** بلوا بمشزور القوى المستحصد
يزداد إيقاظا على التهدد *** فداولوا باللين والتعبد
صمصامة تأكل كل مبرد.

قَالَ: فرويت وصارت في أفواه الخدم، وبلغت أبا جعفر، فسأل عن قائلها، فأخبر أنها لرجل من بني سعد بْن زيد مناة، فأعجبه، فدعاني فأدخلت عليه، وإن عيسى بْن موسى لعن يمينه، والناس عنده، ورءوس القواد والجند، فلما كنت بحيث يراني، ناديت: يا أمير المؤمنين، أدنني منك حتى أفهمك وتسمع مقالتي فأومأ بيده، فأدنيت حتى كنت قريبا منه، فلما صرت بين يديه قلت- ورفعت صوتي- أنشده من هذا الموضع، ثم رجعت إلى أول الأرجوزه، فأنشدتها من أولها إلى هذا الموضع أيضا، فأعدت عليه حتى أتيت على آخرها، والناس منصتون، وهو يتسار بما أنشده، مستمعا له، فلما خرجنا من عنده إذا رجل واضع يده على منكبي، فالتفت فإذا عقال بْن شبة يقول: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، فإن التأم الأمر على ما تحب وقلت، فلعمري لتصيبن منه خيرا وإن يك غير ذلك، فابتغ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ قَالَ: فكتب له المنصور بصلة إلى الري، فوجه عيسى في طلبه، فلحق في طريقه، فذبح وسلخ وجهه.
وقيل: قتل بعد ما انصرف من الري، وقد أخذ الجائزة.
وذكر عن الوليد بْن محمد العنبري أن سبب إجابة عيسى أبا جعفر إلى تقديم المهدي عليه كان أن سلم بْن قتيبة قَالَ له: أيها الرجل بايع، وقدمه على نفسك، فإنك لن تخرج من الأمر، قد جعل لك الأمر من بعده وترضي أمير المؤمنين قَالَ: أو ترى ذلك؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فإني أفعل، فأتى سلم المنصور فأعلمه إجابة عيسى، فسر بذلك وعظم قدر سلم عنده.
وبايع الناس للمهدي ولعيسى بْن موسى من بعده وخطب المنصور خطبته التي كان فيها تقديم المهدي على عيسى، وخطب عيسى بعد ذلك فقدم المهدي على نفسه، ووفى له المنصور بما كان ضمن له.
وقد ذكر عن بعض صحابة أبي جعفر أنه قَالَ: تذاكرنا أمر أبي جعفر المنصور وأمر عيسى بْن موسى في البيعة وخلعه إياها من عنقه وتقديمه المهدي، فقال لي رجل من القواد سماه: والله الذي لا إله غيره، ما كان خلعه إياها منه إلا برضا من عيسى وركون منه إلى الدراهم، وقلة علمه بقدر الخلافة، وطلبا للخروج منها، أتى يوم خرج للخلع فخلع نفسه، وإني لفي مقصورة مدينة السلام، إذ خرج علينا أبو عبيد الله كاتب المهدي، في جماعة من أهل خراسان، فتكلم عيسى، فقال: إني قد سلمت ولاية العهد لمحمد بْن أمير المؤمنين، وقدمته على نفسي، فقال أبو عبيد الله: ليس هكذا أعز الله الأمير، ولكن قل ذلك بحقه وصدقه، وأخبر بما رغبت فيه، فأعطيت، قَالَ: نعم، قد بعت نصيبي من تقدمة ولاية العهد من عبد الله أمير المؤمنين لابنه محمد المهدى بعشره آلاف الف درهم وثلاثمائه ألف بين ولدي فلان وفلان وفلان- سماهم- وسبعمائة ألف لفلانة امرأة من نسائه- سماها- بطيب نفس مني وحب، لتصييرها إليه، لأنه أولى بها وأحق، وأقوى عليها وعلى القيام بها، وليس لي فيها حق لتقدمته، قليل ولا كثير، فما ادعيته بعد يومي هذا فأنا فيه مبطل لا حق لي فيه ولا دعوى ولا طلبة قَالَ: والله وهو في ذلك، ربما نسي الشيء بعد الشيء فيوقفه عليه أبو عبيد الله، حتى فرغ، حبا للاستيثاق منه وختم الكتاب وشهد عليه الشهود وأنا حاضر، حتى وضع عليه عيسى خطه وخاتمه، والقوم جميعا، ثم دخلوا من باب المقصورة إلى القصر.
قَالَ: وكسا أمير المؤمنين عيسى وابنه موسى وغيره من ولده كسوة بقيمة ألف ألف درهم ونيف ومائتي ألف درهم وكانت ولاية عيسى بْن موسى الكوفة وسوادها وما حولها ثلاث عشرة سنة، حتى عزله المنصور، واستعمل محمد بْن سليمان بْن علي حين امتنع من تقديم المهدي على نفسه.
وقيل: إن المنصور إنما ولى محمد بْن سليمان الكوفة حين ولاه إياها ليستخف بعيسى، فلم يفعل ذلك محمد، ولم يزل معظما له مبجلا.
وفي هذه السنة ولى أبو جعفر محمد بْن أبي العباس- ابن أخيه- البصرة فاستعفى منها فأعفاه، فانصرف عنها إلى مدينة السلام، فمات بها، فصرخت امرأته البغوم بنت على بن الربيع: وا قتيلاه! فضربها رجل من الحرس بجلويز على عجيزتها، فتعاوره خدم لمحمد بْن أبي العباس فقتلوه، فطل دمه.
وكان محمد بْن أبي العباس حين شخص عن البصرة استخلف بها عقبة ابن سلم، فأقره عليها أبو جعفر إلى سنة إحدى وخمسين ومائة.
وحج بالناس في هذه السنة المنصور.
وكان عامله فيها على مكة والطائف عمه عبد الصمد بْن علي وعلى المدينة جعفر بْن سليمان وعلى الكوفة وأرضها محمد بن سليمان وعلى البصره عقبه ابن سلم وعلى قضائها سوار بْن عبد الله وعلى مصر يزيد بْن حاتم.