75 هـ
695 م
سنة خمس وسبعين (ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)

فمن ذلك غزوة مُحَمَّد بن مروان الصائفة حين خرجت الروم من قبل مرعش وفي هذه السنة ولى عبد الملك يحيى بن الحكم بن أبي العاص المدينة …

وفي هذه السنة ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف العراق دون خراسان وسجستان. سنه 75

ولايه الحجاج على الكوفه وخطبته في أهلها
وفيها قدم الحجاج الكوفة فحدثني أبو زيد، قال: حدثنى محمد ابن يحيى أبو غسان، عن عبد الله بْن أبي عبيدة بْن محمد بن عمار ابن ياسر، قال: خرج الحجاج بن يوسف من المدينة حين أتاه كتاب عبد الملك بن مروان بولاية العراق بعد وفاة بشر بن مروان في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار فجاءة، وقد كان بشر بعث المهلب إلى الحرورية، فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صعد المنبر وهو متلثم بعمامة خر حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خارجة، فهموا به، حتى إذا اجتمع إليه الناس قام فكشف عن وجهه وقال:

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامه تعرفوني

اما والله انى لأحمل الشر محمله، واخذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى.

قد شمرت عن ساقها تشميرا. *** هذا أوان الشد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم *** ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم *** قد لفها الليل بعصلبي
أروع خراج من الدوي *** مهاجر ليس بأعرابي.
ليس أوان يكره الخلاط *** جاءت به والقلص الأعلاط
تهوي هوي سابق الغطاط.

وإني والله يا أهل العراق ما أغمز كتغماز التين، ولا يقعقع لي بالشنان ولقد فررت عن ذكاء، وجريت إلى الغاية القصوى إن أمير المؤمنين، عبد الملك نشر كنانته ثم عجم عيدانها فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، فوجهني إليكم، فإنكم طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي أما والله لألحونكم لحو العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني والله لا أعد إلا وفيت، ولا أخلق إلا فريت فإياي وهذه الجماعات وقيلا وقالا، وما يقول، وفيم أنتم وذاك؟ والله لتسقيمن على سبل الحق اولاد عن لكل رجل منكم شغلا في جسده من وجدت بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه، وأنهبت ماله.
ثم دخل منزله ولم يزد على ذلك.
قال: ويقال: إنه لما طال سكوته تناول مُحَمَّد بن عمير حصى فأراد أن يحصبه بها، وقال: قاتله الله! ما أعياه وأدمه! والله إني لأحسب خبره كروائه فلما تكلم الحجاج جعل الحصى ينتثر من يده ولا يعقل به، وأن الحجاج قال في خطبته:
شاهت الوجوه! إن الله ضرب {مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ وَٱلْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} [النحل: 112] ، وأنتم أولئك واشباه أولئك، فاستوثقوا واستقيموا فو الله لأذيقنكم الهوان حتى تدروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تنقادوا، أقسم بالله لتقبلن على الإنصاف، ولتدعن الأرجاف، وكان وكان، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر وما الهبر! أو لأهبرنكم؟ بالسيف هبرا يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السُّمَّهَى، وتقلعوا عن هاوها إياي وهذه الزرافات، لا يركبن الرجل منكم إلا وحده الا انه لوساغ لأهل المعصية معصيتهم ما جبي فيء ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، ولولا أنهم يغزون كرها ما غزوا طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب، وإقبالكم على مصركم عصاة مخالفين، وإني أقسم لكم بالله لا أجد أحدا بعد ثالثة إلا ضربت عنقه ثم دعا العرفاء فقال: ألحقوا الناس بالمهلب، وأتوني بالبراءات بموافاتهم ولا تغلقن أبواب الجسر ليلا ولا نهارا حتى تنقضي هذه المدة.
تفسير الخطبة: قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا الصبح لأنه يجلو الظلمة والثنايا: ما صغر من الجبال ونتأ وأينع الثمر: بلغ إدراكه.
وقوله: فاشتدي زيم، فهي اسم للحرب والحطم: الذي يحطم كل شيء يمر به والوضم: ما وقي به اللحم من الأرض والعصلبي:
الشديد والدوية: الأرض الفضاء التي يسمع فيها دوي أخفاف الإبل.
والأعلاط: الإبل التي لا أرسان عليها، أنشد أبو زيد الأصمعي:

واعرورت العلط العرضي تركضه *** أم الفوارس بالديداء والربعه

والشنان، جمع شنة: القربة البالية اليابسة، قال الشاعر:

كأنك من جمال بني أقيش *** يقعقع خلف رجليه بشن

وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها، والعجم بفتح الجيم: حب الزبيب، قال الأعشى:
وملفوظها كلقيط العجم.
وقوله: أمرها عودا، أي أصلبها، يقال: حبل ممر، إذا كان شديد الفتل وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلمة، شجرة من العضاه وقوله: لا أخلق إلا فريت، فالخلق:
التقدير، قال الله تعالى: {مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] ، أي مقدرة وغير مقدرة، يعني ما يتم وما يكون سقطا، قال الكميت يصف قربة:

لم تجشم الخالقات فريتها *** ولم يفض من نطاقها السرب

وإنما وصف حواصل الطير، يقول: ليست كهذه وصخرة خلقاء، أي ملساء، قال الشاعر:

وبهو هواء فوق مور كأنه *** من الصخرة الخلقاء زحلوق ملعب

ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته، وأفريت، بالألف إذا أنت أفسدته والسمهى: الباطل، قال أبو عمرو الشيباني: وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان، وهو لعاب الشمس عند الظهيرة، قال أبو النجم العجلي:

وذاب للشمس لعاب فنزل *** وقام ميزان الزمان فاعتدل

والزرافات: الجماعات تم التفسير.
قال أبو جعفر: قال عمر: فحدثني مُحَمَّد بن يحيى، عن عبد الله بن أبي عبيدة، قال: فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيرا في السوق، فخرج حتى جلس على المنبر، فقال:
يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد الله به في الترغيب، ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، ألا يربع رجل منكم على ظلعه، ويحسن حقن دمه، ويبصر موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالا لما قبلها، وأدبا لما بعدها.
قوله: تحتها قصف، فهو شدة الريح واللكعاء: الورهاء، وهي الحمقاء من الإماء والظلع: الضعف والوهن من شدة السير وقوله:
تهوى هوي سابق الغطاط، فالغطاط بضم الغين: ضرب من الطير.
قال الأصمعي: الغطاط بفتح الغين: ضرب من الطير، وانشد الحسان ابن ثابت:

يغشون حتى ما تهر كلابهم *** لا يسألون عن الغطاط المقبل

بفتح الغين قال: والغطاط بضم الغين: اختلاط الضوء بالظلمة من آخر الليل، قال الراجز:

قام إلى أدماء في الغطاط *** يمشي بمثل قائم الفسطاط

تم التفسير.
قال: فقام إليه عمير بن ضابئ التميمي ثم الحنظلي فقال: أصلح الله الأمير! أنا في هذا البعث، وأنا شيخ كبير عليل، وهذا ابنى، وهو أشب مني، قال: ومن أنت؟ قال: عمير بن ضابئ التميمي، قال:
أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم، قال: ألست الذي غزا أمير المؤمنين عثمان؟ قال: بلى، قال: وما حملك على ذلك؟ قال: كان حبس أبي، وكان شيخا كبيرا، قال: او ليس يقول:

هممت ولم أفعل وكدت وليتني *** تركت على عثمان تبكي حلائله

إني لأحسب في قتلك صلاح المصرين، قم إليه يا حرسي فاضرب عنقه، فقام إليه رجل فضرب عنقه، وأنهب ماله.
ويقال: إن عنبسة بن سعيد قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال:
لا، قال: هذا أحد قتلة أمير المؤمنين عثمان، فقال الحجاج: يا عدو الله، أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلا! ثم أمر بضرب عنقه، وأمر مناديا فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثالثة، وقد كان سمع النداء، فأمرنا بقتله ألا فإن ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرجت العرفاء إلى المهلب وهو برامهرمز فأخذوا كتبه بالموافاة، فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر: اليوم قوتل العدو.
قال ابن أبي عبيدة في حديثه: فعبر الجسر تلك الليلة أربعة آلاف من مذحج، فقال المهلب: قدم العراق رجل ذكر قال عمر عن أبي الحسن، قال: لما قرأ عليهم كتاب عبد الملك قال القارئ: أما بعد، سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله فقال له:
اقطع، يا عبيد العصا، أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا يرد راد منكم السلام! هذا أدب ابن نهية، أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، ابدأ بالكتاب، فلما بلغ إلى قوله: أما بعد، سلام عليكم، لم يبق منهم أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله قال عمر: حدثني عبد الملك بن شيبان بن عبد الملك بن مسمع، قال: حدثني عمرو بن سعيد، قال: لما قدم الحجاج الكوفة خطبهم فقال: إنكم قد أخللتم بعسكر المهلب، فلا يصبحن بعد ثالثة من جنده أحد، فلما كان بعد ثالثة أتى رجل يستدمي، فقال: من بك؟ قال: عمير بن ضابئ البرجمي، أمرته بالخروج إلى معسكره فضربني- وكذب عليه فأرسل الحجاج إلى عمير بن ضابئ، فأتي به شيخا كبيرا، فقال له:
ما خلفك عن معسكرك؟ قال: أنا شيخ كبير لا حراك بي، فأرسلت ابني بديلا فهو أجلد مني جلدا، وأحدث مني سنا، فسل عما أقول لك، فإن كنت صادقا وإلا فعاقبني قال: فقال عنبسة بن سعيد: هذا الذي أتى عثمان قتيلا، فلطم وجهه ووثب عليه فكسر ضلعين من أضلاعه، فأمر به الحجاج فضربت عنقه، قال عمرو بن سعيد: فو الله.
إني لأسير بين الكوفة والحيرة إذ سمعت رجزا مضريا، فعدلت إليهم فقلت: ما الخبر؟
فقالوا: قدم علينا رجل من شر أحياء العرب من هذا الحي من ثمود، أسقف الساقين، ممسوح الجاعرتين أخفش العينين، فقدم سيد الحي عمير بن ضابئ فضرب عنقه ولما قتل الحجاج عمير بن ضابئ لقي إبراهيم بن عامر أحد بني غاضرة من بني أسد عبد الله بن الزبير في السوق فسأله عن الخبر، فقال ابن الزبير:

أقول لإبراهيم لما لقيته *** أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا
تجهز وأسرع والحق الجيش لا أرى *** سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابن ضابئ *** عميرا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا كره نجاؤك منهما *** ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فحال ولو كانت خراسان دونه *** رآها مكان السوق او هي اقربا
فكائن ترى من مكره العدو مسمن *** تحمم حنو السرج حتى تحنبا

وكان قدوم الحجاج الكوفة- فيما قيل- في شهر رمضان من هذه السنة، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي، على البصرة أميرا، وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فلما بلغ خالدا الخبر خرج من البصرة قبل أن يدخلها الحكم، فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة، فلم يبرح مصلاه حتى قسم فيهم ألف ألف وحج بالناس في هذه السنة عبد الملك بن مروان، حدثنى بذلك احمد ابن ثَابِت عمن حدثه، عن إِسْحَاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر ووفد يحيى بن الحكم في هذه السنة على عبد الملك بن مروان، واستخلف على عمله بالمدينة أبان بن عثمان، وأمر عبد الملك يحيى بن الحكم أن يقر على عمله على ما كان عليه بالمدينة وعلى الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف وعلى خراسان أمية بن عبد الله وعلى قضاء الْكُوفَة شريح، وعلى قضاء الْبَصْرَة زراره ابن أوفى.
وفي هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة أبا يعفور عروة بن المغيرة بن شعبة، فلم يزل عليها حتى رجع إليها بعد وقعة رستقباذ.

ذكر الخبر عن ثوره الناس بالحجاج بالبصرة
وفي هذه السنة ثار الناس بالحجاج بالبصرة.
ذكر الخبر عن سبب وثوبهم به:
ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: خرج الحجاج بن يوسف من الكوفة بعد ما قدمها، وقتل ابن ضابئ من فوره ذلك حتى قدم البصرة، فقام فيها بخطبة مثل الذي قام بها في أهل الكوفة، وتوعدهم مثل وعيده إياهم، فأتي برجل من بني يشكر فقيل:
هذا عاص، فقال: إن بي فتقا، وقد رآه بشر فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال، فلم يقبل منه وقتله، ففزع لذلك أهل البصره، فخرجوا حتى تداكئوا على العارض بقنطرة رامهرمز، فقال المهلب:
جاء الناس رجل ذكر.
وخرج الحجاج حتى نزل رستقباذ في أول شعبان سنة خمس وسبعين فثار الناس بالحجاج، عليهم عبد الله بن الجارود، فقتل عبد الله بن الجارود، وبعث بثمانية عشر رأسا فنصبت برامهرمز للناس، فاشتدت ظهور المسلمين، وساء ذلك الخوارج، وقد كانوا رجوا أن يكون من الناس فرقة واختلاف، فانصرف الحجاج إلى البصرة.
وكان سبب أمر عبد الله بن الجارود أن الحجاج لما ندب الناس إلى اللحاق بالمهلب بالبصرة فشخصوا سار الحجاج حتى نزل رستقباذ قريبا من دستوى في آخر شعبان ومعه وجوه أهل البصرة، وكان بينه وبين المهلب ثمانية عشر فرسخا، فقام في الناس، فقال: إن الزيادة التي زادكم ابن الزبير في أعطياتكم زيادة فاسق منافق، ولست أجيزها فقام إليه عبد الله بن الجارود العبدي فقال: إنها ليست بزيادة فاسق منافق، ولكنها زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أثبتها لنا فكذبه وتوعده، فخرج ابن الجارود على الحجاج وتابعه وجوه الناس، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل ابن الجارود وجماعة من أصحابه، وبعث برأسه ورءوس عشرة من أصحابه إلى المهلب، وانصرف إلى البصرة، وكتب الى المهلب والى عبد الرحمن ابن مخنف: أما بعد، إذا أتاكم كتابي هذا فناهضوا الخوارج، والسلام

نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز
وفي هذه السنة نفى المهلب وابن مخنف الأزارقة عن رامهرمز.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهم في هذه السنة: ذكر هشام عن أبي مخنف، عن أبي زهير العبسي، قال: ناهض المهلب وابن مخنف الأزارقة برامهرمز بكتاب الحجاج إليهما لعشر بقين من شعبان يوم الاثنين سنة خمس وسبعين، فأجلوهم عن رامهرمز من غير قتال شديد، ولكنهم زحفوا اليهم حتى أزالوهم، وخرج القوم كأنهم على حامية، حتى نزلوا سابور بأرض منها يقال لها كازرون، وسار المهلب وعبد الرحمن بن مخنف حتى نزلوا بهم في أول رمضان، فخندق المهلب عليه، فذكر أهل البصرة أن المهلب قال لعبد الرحمن بن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل، وإن أصحاب عبد الرحمن أبوا عليه وقالوا: إنما خندقنا سيوفنا وإن الخوارج زحفوا إلى المهلب ليلا ليبيتوه، فوجدوه قد أخذ حذره، فمالوا نحو عبد الرحمن بن مخنف فوجدوه لم يخندق، فقاتلوه، فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل، وقتلوا حوله، فقال شاعرهم:

لمن العسكر المكلل بالصرعى *** فهم بين ميت وقتيل
فتراهم تسفي الرياح عليهم *** حاصب الرمل بعد جر الذيول

وأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أن كتاب الحجاج بن يوسف أتى المهلب وعبد الرحمن بن مخنف، أن ناهضا الخوارج حين يأتيكما كتابي فناهضاهم يوم الأربعاء لعشر بقين من رمضان سنة خمس وسبعين واقتتلوا قتالا شديدا لم يكن بينهم فيما مضى قتال كان أشد منه، وذلك بعد الظهر، فمالت الخوارج بحدها على المهلب بن أبي صفرة فاضطروه إلى عسكره، فسرح إلى عبد الرحمن رجالا من صلحاء الناس، فأتوه، فقالوا: إن المهلب يقول لك: إنما عدونا واحد، وقد ترى ما قد لقي المسلمون، فأمد إخوانك يرحمك الله فأخذ يمده بالخيل بعد الخيل، والرجال بعد الرجال، فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الخيل والرجال إلى عسكر المهلب ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا خمس كتائب أو ستا تجاه عسكر المهلب، وانصرفوا بحدهم وجمعهم إلى عبد الرحمن بن مخنف، فلما رآهم قد صمدوا له نزل ونزل معه القراء، عليهم أبو الأحوص صاحب عبد الله بن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر ابن خزيمة العبسي الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من خاصة قومه أحد وسبعون رجلا، وحملت عليهم الخوارج فقاتلتهم قتالا شديدا ثم إن الناس انكشفوا عنه، فبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى إذا دنا من أبيه حالت الخوارج بينه وبين أبيه، فقاتل حتى ارتثته الخوارج، وقاتل عبد الرحمن بن مخنف ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب حتى أتاه، فدفنه وصلى عليه، وكتب بمصابه إلى الحجاج، فكتب بذلك الحجاج إلى عبد الملك بن مروان، فنعى عبد الرحمن بمنى، وذم أهل الكوفة، وبعث الحجاج على عسكر عبد الرحمن بن مخنف عتاب بن ورقاء، وأمره إذا ضمتهما الحرب أن يسمع للمهلب ويطيع، فساءه ذلك، فلم يجد بدا من طاعة الحجاج ولم يقدر على مراجعته، فجاء حتى أقام في ذلك العسكر، وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب، وهو في ذلك يقضي أموره، ولا يكاد يستشير المهلب في شيء فلما رأى ذلك المهلب اصطنع رجالا من أهل الكوفة فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة، فأغراهم بعتاب.
قال أبو مخنف عن يوسف بن يزيد: إن عتابا أتى المهلب يسأله أن يرزق أصحابه، فأجلسه المهلب معه على مجلسه، قال: فسأله أن يرزق أصحابه سؤالا فيه غلظه وتجهم، قال: فقال له المهلب: وانك لها هنا بابن اللخناء! فبنو تميم يزعمون أنه رد عليه، وأما يوسف بن يزيد وغيره فيزعمون أنه قال: والله إنها لمعمة مخولة، ولوددت أن الله فرق بيني وبينك قال: فجرى بينهما الكلام حتى ذهب المهلب ليرفع القضيب عليه، فوثب عليه ابنه المغيرة، فقبض على القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب، وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكرهه فاحتمله له، فإنه لذلك منك أهل، ففعل وقام عتاب فرجع من عنده، واستقبله بسطام بن مصقلة يشتمه، ويقع فيه.
فلما رأى ذلك كتب إلى الحجاج يشكو إليه المهلب ويخبره أنه قد أغرى به سفهاء أهل المصر، ويسأله أن يضمه إليه، فوافق ذلك من الحجاج حاجة إليه فيما لقي أشراف الكوفة من شبيب، فبعث إليه أن أقدم واترك أمر ذلك الجيش إلى المهلب، فبعث المهلب عليه حبيب بن المهلب.
وقال حميد بن مسلم يرثي عبد الرحمن بن مخنف:

إن يقتلوك أبا حكيم غدوة *** فلقد تشد وتقتل الأبطالا
أو يثكلونا سيدا لمسود *** سمح الخليقة ماجدا مفضالا
فلمثل قتلك هد قومك كلهم *** من كان يحمل عنهمُ الأثقالا
من كان يكشف غرمهم وقتالهم *** يوما إذا كان القتال نزالا!
أقسمت ما نيلت مقاتل نفسه *** حتى تدرع من دم سربالا
وتناجز الأبطال تحت لوائه *** بالمشرفية في الأكف نصالا
يوما طويلا ثم آخر ليلهم *** حين استبانوا في السماء هلالا
وتكشفت عنه الصفوف وخيله *** فهناك نالته الرماح فمالا

وقال سراقة بن مرداس البارقي:

أعيني جودا بالدموع السواكب *** وكونا كواهي شنة مع راكب
على الأزد لما أن أصيب سراتهم *** فنوحا لعيش بعد ذلك خائب
نرجى الخلود بعدهم وتعوقنا *** عوائق موت أو قراع الكتائب
وكنا بخير قبل قتل ابن مخنف *** وكل امرئ يوما لبعض المذاهب
أمار دموع الشيب من أهل مصره *** وعجل في الشبان شيب الذوائب
وقاتل حتى مات أكرم ميتة *** وخر على خد كريم وحاجب
وضارب عنه المارقين عصابة *** من الأزد تمشي بالسيوف القواضب
فلا ولدت أنثى ولا آب غائب *** إلى أهله إن كان ليس بآيب
فيا عين بكي مخنفا وابن مخنف *** وفرسان قومي قصرة وأقاربي

وقال سراقة أيضا يرثي عبد الرحمن بن مخنف:

ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة *** وأزد عمان رهن رمس بكازر
وضارب حتى مات اكرم ميته *** بابيض صاف كالعقيقة باتر
وصرع حول التل تحت لوائه *** كرام المساعي من كرام المعاشر
قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنف *** وأدبر عنه كل ألوث داثر
أمد فلم يمدد فراح مشمرا *** إلى الله لم يذهب بأثواب غادر

وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحوا من سنة.
وفي هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس، وكان يرى رأي الصفرية وقيل: إنه أول من خرج من الصفرية

ذكر الخبر عن تحرك صالح للخروج وما كان منه في هذه السنة
ذكر أن صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس حج سنة خمس وسبعين ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب بالفتك به، وبلغه ذرء من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان صالح يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ليعدهم، فنبت بصالح الكوفة لما طلبه الحجاج، فتنكبها.