85 هـ
704 م
سنة خمس وثمانين (ذكر ما كان فيها من الاحداث)

خبر هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث، ففيها كان هلاك عبد الرحمن بن مُحَمَّد بن الأشعث ذكر السبب الذي به هلك، وكيف كان: …


ذكر هِشَام بن مُحَمَّدٍ، عن أبي مخنف، قال: لما انصرف ابن الأشعث من هراة راجعا إلى رتبيل كان معه رجل من أود يقال له علقمة بن عمرو، فقال له: ما أريد أن أدخل معك، فقال له عبد الرحمن: لم؟ قال:
لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بكتاب الحجاج قد جاء، فوقع إلى رتبيل يرغبه ويرهبه، فإذا هو قد بعث بك سلما او قتلكم.
ولكن هاهنا خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة فنتحصن فيها، ونقاتل حتى نعطي أمانا أو نموت كراما، فقال له عبد الرحمن: أما لو دخلت معي لآسيتك وأكرمتك، فأبى عليه علقمة، ودخل عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى رتبيل وخرج هؤلاء الخمسمائة فبعثوا عليهم مودودا النضري، وأقاموا حتى قدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فقاتلوه وامتنعوا منه حتى آمنهم، فخرجوا إليه فوفي لهم.
قال: وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن بن مُحَمَّد أن ابعث به إلي، وإلا فو الذى لا إله إلا هو لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان عند رتبيل رجل من بني تميم ثم من بني يربوع يقال له عبيد بن أبي سبيع، فقال لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج عهدا ليكفن الخراج عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن بن مُحَمَّد، قال رتبيل لعبيد: فإن فعلت فإن لك عندي ما سألت.
فكتب إلى الحجاج يخبره أن رتبيل لا يعصيه، وأنه لن يدع رتبيل حتى يبعث إليه بعبد الرحمن بن مُحَمَّد، فأعطاه الحجاج على ذلك مالا وأخذ من رتبيل عليه مالا، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن بن مُحَمَّد إلى الحجاج، وترك له الصلح الذي كان يأخذه منه سبع سنين وكان الحجاج يقول: بعث إلى رتبيل بعدو الله فألقى نفسه من فوق إجار فمات.
قال أبو مخنف: وحدثني سُلَيْمَان بن أبي راشد أنه سمع مليكة ابنة يزيد تقول: والله لمات عبد الرحمن وإن رأسه لعلى فخذي، كان السل قد أصابه فلما مات وأرادوا دفنه بعث إليه رتبيل فحز رأسه، فبعث به إلى الحجاج، وأخذ ثمانية عشر رجلا من آل الأشعث فحبسهم عنده، وترك جميع من كان معه من أصحابه وكتب إلى الحجاج بأخذه الثمانية عشر رجلا من أهل بيت عبد الرحمن، فكتب إليه: أن اضرب رقابهم، وابعث إلي برءوسهم وكره أن يؤتى بهم إليه أحياء فيطلب فيهم إلى عبد الملك، فيترك منهم أحدا.
وقد قيل في امر بن أبي سبيع وابن الأشعث غير ما ذكرت عن أبي مخنف، وذلك ما ذكر عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يقول:
زعم أن عمارة بن تميم خرج من كرمان فأتى سجستان وعليها رجل من بني العنبر يدعى مودودا، فحصره ثم آمنه، ثم استولى على سجستان، وأرسل إلى رتبيل وكتب إليه الحجاج: أما بعد، فإني قد بعثت إليك عمارة بن تميم في ثلاثين ألفا من أهل الشام لم يخالفوا طاعة، ولم يخلعوا خليفة، ولم يتبعوا إمام ضلالة يجرى على كل رجل منهم في كل شهر مائة درهم، يستطعمون الحرب استطعاما، يطلبون ابن الأشعث فأبى رتبيل أن يسلمه وكان مع ابن الأشعث عبيد بن أبي سبيع التميمي قد خص به، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل أيضا، وخف عليه فقال القاسم ابن مُحَمَّد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر التميمي، فاقتله، فهم به، وبلغ ابن أبي سبيع، فخافه فوشى به إلى رتبيل، وخوفه الحجاج، ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث فأجابه، فخرج سرا إلى عمارة بن تميم، فاستعجل في ابن الأشعث، فجعل له ألف ألف، فأقام عنده، وكتب بذلك عمارة إلى الحجاج، فكتب إليه أن أعط عبيدا ورتبيل ما سالاك واشترط، فاشترط رتبيل الا تغزى بلاده عشر سنين، وأن يؤدي بعد العشر سنين في كل سنه تسعمائة ألف، فأعطى رتبيل وعبيدا ما سألا، وأرسل رتبيل إلى ابن الأشعث فأحضره وثلاثين من أهل بيته، وقد أعد لهم الجوامع والقيود، فألقى في عنقه جامعة، وفي عنق القاسم جامعة، وأرسل بهم جميعا إلى أدنى مسالح عمارة منه، وقال لجماعة من كان مع ابن الأشعث من الناس: تفرقوا إلى حيث شئتم، ولما قرب ابن الأشعث من عمارة ألقى نفسه من فوق قصر فمات، فاحتز رأسه، فأتى به وبالأسرى عمارة، فضرب أعناقهم، وأرسل برأس ابن الأشعث وبرءوس أهله وبامرأته إلى الحجاج، فقال في ذلك بعض الشعراء:

هيهات موضع جثة من رأسها *** رأس بمصر وجثة بالرخج

وكان الحجاج أرسل به إلى عبد الملك، فأرسل به عبد الملك إلى عبد العزيز وهو يومئذ على مصر.
وذكر عمر بن شبة أن ابن عائشة حدثه قال: أخبرني سعد بن عبيد الله قال: لما أتي عبد الملك برأس ابن الأشعث أرسل به مع خصي إلى امرأة منهم كانت تحت رجل من قريش، فلما وضع بين يديها قالت: مرحبا بزائر لا يتكلم، ملك من الملوك طلب ما هو أهله فأبت المقادير فذهب الخصي يأخذ الرأس فاجتذبته من يده، قالت: لا والله حتى أبلغ حاجتي، ثم دعت بخطمي فغسلته وغلفته ثم قالت: شأنك به الآن.
فأخذه، ثم أخبر عبد الملك، فلما دخل عليه زوجها، قال: إن استطعت أن تصيب منها سخلة.
وذكر أن ابن الأشعث نظر إلى رجل من أصحابه وهو هارب إلى بلاد رتبيل فتمثل:

يطرده الخوف فهو تائه *** كذاك من يكره حر الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوجا *** تنكبه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة *** والموت حتم في رقاب العباد

فالتفت إليه فقال: يا لحية، هلا ثبت في موطن من المواطن فنموت بين يديك، فكان خيرا لك مما صرت إليه! قال هشام: قال أبو مخنف: خرج الحجاج في أيامه تلك يسير ومعه حميد الأرقط وهو يقول:

ما زال يبني خندقا ويهدمه *** عن عسكر يقوده فيسلمه
حتى يصير في يديك مقسمه *** هيهات من مصفه منهزمه

إن أخا الكظاظ من لا يسأمه.
فقال الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان:

نبئت أن بني يوسف *** خر من زلق فتبا

قد تبين له من زلق وتب ودحض فانكب، وخاف وخاب، وشك وارتاب، ورفع صوته فما بقي أحد إلا فزع لغضبه، وسكت الأريقط، فقال له الحجاج: عد فيما كنت فيه، ما لك يا أرقط! قال: إني جعلت فداك أيها الأمير وسلطان الله عزيز، ما هو إلا أن رأيتك غضبت فأرعدت خصائلي، واحزألت مفاصلي، وأظلم بصري، ودارت بي الأرض قال له الحجاج: أجل، إن سلطان الله عزيز، عد فيما كنت فيه، ففعل وقال الحجاج وهو ذات يوم يسير ومعه زياد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو أعور، فقال الحجاج للأريقط: كيف قلت لابن سمرة؟ قال: قلت:

يا أعور العين فديت العورا *** كنت حسبت الخندق المحفورا
يرد عنك القدر المقدورا *** ودائرات السوء أن تدورا

وقد قيل: إن مهلك عبد الرحمن بن مُحَمَّد كان في سنة أربع وثمانين

عزل يزيد بن المهلب عن خراسان
وفي هذه السنة عزل الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها المفضل بن المهلب أخا يزيد.
ذكر السبب الذي من أجله عزله الحجاج عن خراسان واستعمل المفضل:
ذكر علي بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، أن الحجاج وفد إلى عبد الملك، فمر في منصرفه بدير فنزله، فقيل له: إن في هذا الدير شيخا من أهل الكتب عالما، فدعا به فقال: يا شيخ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم، نجد ما مضى من أمركم وما أنتم فيه وما هو كائن، قال: أفمسمى أم موصوفا؟ قال: كل ذلك، موصوف بغير اسم، واسم بغير صفة، قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا الذي نحن فيه، ملك أقرع، من يقم لسبيله يصرع، قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، قال: ثم ماذا؟ قال: رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس، قال: أفتعرفني؟ قال: قد أخبرت بك.
قال: أفتعلم ما ألي؟ قال: نعم، قال: فمن يليه بعدي؟ قال: رجل يقال له يزيد، قال: في حياتي أم بعد موتي؟ قال: لا أدري، قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا قال: فوقع في نفسه يزيد بن المهلب، وارتحل فسار سبعا وهو وجل من قول الشيخ، وقدم فكتب إلى عبد الملك يستعفيه من العراق، فكتب اليه: يا بن أم الحجاج، قد علمت الذي تغزو، وأنك تريد أن تعلم رأيي فيك، ولعمري إني لأرى مكان نافع بن علقمة، فاله عن هذا حتى يأتي الله بما هو آت، فقال الفرزدق يذكر مسيره:

لو أن طيرا كلفت مثل سيره *** إلى واسط من إيلياء لملت
سرى بالمهاري من فلسطين بعد ما *** دنا الليل من شمس النهار فولت
فما عاد ذاك اليوم حتى أناخها *** بميسان قد ملت سراها وكلت
كأن قطاميا على الرحل طاويا *** إذا غمرة الظلماء عنه تجلت

قال فبينا الحجاج يوما خال إذ دعا عبيد بن موهب، فدخل وهو ينكت في الأرض، فرفع رأسه فقال: ويحك يا عبيد! إن أهل الكتب يذكرون أن ما تحت يدي يليه رجل يقال له يزيد، وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة، ويزيد بن حصين بن نمير، ويزيد بن دينار، فليسوا هناك، وما هو إن كان إلا يزيد بن المهلب، فقال عبيد: لقد شرفتهم وأعظمت ولايتهم، وإن لهم لعددا وجلدا، وطاعة وحظا، فأخلق به، فأجمع على عزل يزيد فلم يجد له شيئا حتى قدم الخيار بن أبي سبرة بن ذؤيب بن عرفجة بن مُحَمَّد بن سفيان بن مجاشع- وكان من فرسان المهلب- وكان مع يزيد- فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، قال: حسن الطاعة، لين السيرة، قال: كذبت، أصدقني عنه، قال: الله أجل وأعظم، قد أسرج ولم يلجم، قال: صدقت، واستعمل الخيار على عمان بعد ذلك قال: ثم كتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب بالزبيرية، فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى نقصا بآل المهلب طاعتهم لآل الزبير، بل أراه وفاء منهم لهم، وإن وفاءهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجاج يخوفه غدرهم لما أخبره به الشيخ فكتب إليه عبد الملك: قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلا يصلح لخراسان، فسمى له مجاعة بن سعر السعدي، فكتب إليه عبد الملك: إن رأيك الذي دعاك إلى استفساد آل المهلب هو الذي دعاك إلى مجاعة بن سعر، فانظر لي رجلا صارما، ماضيا لأمرك، فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه: ولّه وبلغ يزيد ان الحجاج نزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلا من ثقيف، قال: كلا، ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلا من قيس، وأخلق بقتيبة! قال: فلما أذن عبد الملك للحجاج في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه أن استخلف المفضل وأقبل فاستشار يزيد حضين بن المنذر، فقال له: أقم واعتل، فإن أمير المؤمنين حسن الرأي فيك، وإنما أتيت من الحجاج، فإن أقمت ولم تعجل رجوت أن يكتب إليه أن يقر يزيد، قال: إنا أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره المعصية والخلاف، فأخذ في الجهاز، وأبطأ ذلك على الحجاج، فكتب إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان، فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن أمتنع عليه، قال: بل حسدتني، قال يزيد: يا بن بهلة، أنا أحسدك! ستعلم وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين.
فعزل الحجاج المفضل، فقال الشاعر للمفضل وعبد الملك وهو اخوه لامه:

يا بنى بهلة إنما أخزاكما *** ربي غداة غدا الهمام الأزهر
أحفرتمُ لأخيكمُ فوقعتمُ *** في قعر مظلمة أخوها المعور
جودوا بتوبة مخلصين فإنما *** يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر

وقال حضين ليزيد:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابة *** وما أنا بالداعي لترجع سالما

فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: كيف قلت ليزيد؟ قال: قلت:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني *** فنفسك أول اللوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته *** فإنك تلقى أمره متفاقما

قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته الا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير، فقال رجل لعياض بن حضين: أما أبوك فوجده قتيبة حين فره قارحا بقوله: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير.
قال علي: وحدثنا كليب بن خلف، قال: كتب الحجاج إلى يزيد أن اغز خوارزم، فكتب إليه: أيها الأمير، إنها قليلة السلب، شديدة الكلب فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم، فكتب إليه: إني أريد أن أغزو خوارزم فكتب إليه: لا تغزها فإنها كما وصفت، فغزا ولم يطعه، فصالحه أهل خوارزم، وأصاب سبيا مما صالحوه، وقفل في الشتاء، فاشتد عليهم البرد، فأخذ الناس ثياب الأسرى فلبسوها، فمات ذلك السبي من البرد قال: ونزل يزيد بلستانة، وأصاب أهل مرو الروذ طاعون ذلك العام، فكتب إليه الحجاج: أن أقدم فقدم، فلم يمر ببلد إلا فرشوا له الرياحين وكان يزيد ولي سنة اثنتين وثمانين، وعزل سنة خمس وثمانين، وخرج من خراسان في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وولي قتيبة.
وأما هشام بن محمد، فإنه ذكر عن أبي مخنف في عزل الحجاج يزيد عن خراسان سببا غير الذي ذكره علي بن مُحَمَّد، والذي ذكر من ذلك عن أبي مخنف أن أبا المخارق الراسبي وغيره حدثوه أن الحجاج لم يكن له حين فرغ من عبد الرحمن بن مُحَمَّد هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته- وقد كان الحجاج أذل أهل العراق كلهم إلا يزيد وأهل بيته ومن معهم من أهل المصرين بخراسان، ولم يكن يتخوف بعد عبد الرحمن بن مُحَمَّد بالعراق غير يزيد بن المهلب- فاخذ الحجاج في مواربه يزيد ليستخرجه من خراسان، فكان يبعث إليه ليأتيه، فيعتل عليه بالعدو وحرب خراسان، فمكث بذلك حتى كان آخر سلطان عبد الملك ثم إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد بن المهلب، ويخبره بطاعة آل المهلب لابن الزبير، وأنه لا وفاء لهم، فكتب إليه عبد الملك: أني لا أرى تقصيرا بولد المهلب طاعتهم لآل الزبير ووفاءهم لهم، فإن طاعتهم ووفاءهم لهم، هو دعاهم إلى طاعتي والوفاء لي ثم ذكر بقية الخبر نحو الذي ذكره علي.
بن محمد

غزو المفضل باذغيس واخرون
وفي هذه السنة غزا المفضل باذغيس ففتحها.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ:
ذكر عَلِيّ بن مُحَمَّد، عن المفضل بن مُحَمَّد، قال: عزل الحجاج يزيد، وكتب إلى المفضل بولايته على خراسان سنة خمس وثمانين، فوليها تسعة أشهر، فغزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنما، فقسمه بين الناس، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائه درهم، ثم غزا أخرون وشومان، فظفر وغنم، وقسم ما أصاب بين الناس، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاءه شيء، وإن غنم شيئا قسمه بينهم، فقال كعب الأشقري يمدح المفضل:

ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر *** عصائب شتى ينتوون المفضلا
فمن زائر يرجو فواضل سيبه *** وآخر يقضي حاجة قد ترحلا
إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد *** بها منتوى خيرا ولا متعللا
إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهى *** وقد قدموا من صالح كنت أولا
لعمري لقد صال المفضل صولة *** أباحت بشومان المناهل والكلا
ويوم ابن عباس تناولت مثلها *** فكانت لنا بين الفريقين فيصلا
صفت لك أخلاق المهلب كلها *** وسربلت من مسعاته ما تسربلا
أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه *** فأورث مجدا لم يكن متنحلا

خبر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ
وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم السلمي بالترمذ.
ذكر سبب قتله ومصيره إلى الترمذ حتى قتل بها:
ذكر أن سبب مصيره إلى الترمذ كان أن أباه عبد الله بن خازم لما قتل من قتل من بني تميم بفرتنا- وقد مضى ذكرى خبر قتله إياهم- تفرق عنه عظم من كان بقي معه منهم، فخرج إلى نيسابور وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: حول ثقلي عن مرو، واقطع نهر بلخ حتى تلجأ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه فشخص موسى من مرو في عشرين ومائتي فارس، فأتى آمل وقد ضوى إليه قوم من الصعاليك، فصار في أربعمائة، وانضم إليه رجال من بني سليم، منهم زرعة بن علقمة، فأتى زم فقاتلوه، فظفر بهم وأصاب مالا، وقطع النهر، فأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه، فأبى وخافه، وقال: رجل فاتك، وأصحابه مثله أصحاب حرب وشر، فلا آمنه وبعث إليه بصلة عين ودواب وكسوة، ونزل على عظيم من عظماء أهل بخارى في نوقان، فقال له: إنه لا خير في المقام في هذه البلاد، وقد هابك القوم وهم لا يأمنونك فأقام عند دهقان نوقان أشهرا، ثم خرج يلتمس ملكا يلجأ إليه أو حصنا، فلم يأت بلدا إلا كرهوا مقامه فيهم، وسألوه أن يخرج عنهم.
قال علي بن مُحَمَّد: فأتى سمرقند فأقام بها، وأكرمه طرخون ملكها، وأذن له في المقام، فأقام ما شاء الله، ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم ودك وخبز وإبريق شراب، وذلك في كل عام يوما، يجعل ذلك لفارس الصغد فلا يقربه أحد غيره، هو طعامه في ذلك اليوم، فإن أكل منه أحد غيره بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له، فقال رجل من أصحاب موسى:
ما هذه المائدة؟ فأخبر عنها، فسكت، فقال صاحب موسى: لآكلن ما على هذه المائدة، ولأبارزن فارس الصغد، فإن قتلته كنت فارسهم فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة، فجاء مغضبا، فقال:
يا عربي، بارزني، قال: نعم، وهل أريد إلا المبارزة! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارس الصغد! لولا أني أعطيتك وأصحابك الأمان لقتلتكم اخرجوا عن بلدي، ووصله فخرج موسى فأتى كس فكتب صاحب كس إلى طرخون يستنصره، فأتاه، فخرج إليه موسى في سبعمائة فقاتلهم حتى امسوا، وتحاجزوا باصحاب موسى جراح كثيرة، فلما أصبحوا أمرهم موسى فحلقوا رءوسهم كما يصنع الخوارج، وقطعوا صفنات أخبيتهم كما يصنع العجم إذا استماتوا.
وقال موسى لزرعة بن علقمة: انطلق إلى طرخون فاحتل له فأتاه، فقال له طرخون: لم صنع أصحابك ما صنعوا؟ قال: استقتلوا فما حاجتك إلى أن تقتل أيها الملك موسى وتقتل! فإنك لا تصل إليه حتى يقتل مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعا ما نلت حظا، لأن له قدرا في العرب، فلا يلي أحد خراسان إلا طالبك بدمه، فإن سلمت من واحد لم تسلم من آخر، قال: ليس إلى ترك كس في يده سبيل، قال: فكف عنه حتى يرتحل، فكف وأتى موسى الترمذ وبها حصن يشرف على النهر إلى جانب منه، فنزل موسى على بعض دهاقين الترمذ خارجا من الحصن والدهقان مجانب لترمذ شاه، فقال لموسى: إن صاحب الترمذ متكرم شديد الحياء، فإن ألطفته وأهديت إليه أدخلك حصنه، فإنه ضعيف، قال: كلا، ولكني أسأله أن يدخلني حصنه، فسأله فأبى، فما كره موسى وأهدى له وألطفه، حتى لطف الذي بينهما، وخرج فتصيد معه، وكثر إلطاف موسى له، فصنع صاحب الترمذ طعاما وأرسل إليه: أني أحب اكرمك، فتغد عندي، وائتني في مائة من أصحابك فانتخب موسى من أصحابه مائة، فدخلوا على خيولهم، فلما صارت في المدينة تصاهلت، فتطير أهل الترمذ وقالوا لهم: انزلوا، فنزلوا، فأدخلوا بيتا، خمسين في خمسين، وغدوهم.
فلما فرغوا من الغداء اضطجع موسى، فقالوا له: اخرج، قال:
لا أصيب منزلا مثل هذا، فلست بخارج منه حتى يكون بيتي أو قبري.
وقاتلوهم في المدينة، فقتل من أهل الترمذ عدة، وهرب الآخرون فدخلوا منازلهم، وغلب موسى على المدينة، وقال لترمذ شاه: اخرج، فإني لست أعرض لك ولا لأحد من أصحابك فخرج الملك وأهل المدينة فأتوا الترك يستنصرونهم، فقالوا: دخل إليكم مائة رجل فاخرجوكم عن بلادكم، وقد قاتلناهم بكس، نحن لا نقاتل هؤلاء فأقام ابن خازم بالترمذ، ودخل اليه اصحابه، وكانوا سبعمائة، فأقام، فلما قتل أبوه انضم إليه من اصحاب ابيه أربعمائة فارس، فقوي، فكان يخرج فيغير على من حوله قال: فأرسل الترك قوما إلى أصحاب موسى ليعلموا علمه، فلما قدموا قال موسى لأصحابه:
لا بد من مكيدة لهؤلاء- قال: وذلك في أشد الحر- فأمر بنار فأججت، وأمر أصحابه فلبسوا ثياب الشتاء، ولبسوا فوقها لبودا، ومدوا أيديهم إلى النار كأنهم يصطلون وأذن موسى للترك فدخلوا، ففزعوا مما رأوا، وقالوا:
لم صنعتم هذا؟ قالوا: نجد البرد في هذا الوقت، ونجد الحر في الشتاء، فرجعوا وقالوا: جن لا نقاتلهم قال: وأراد صاحب الترك أن يغزو موسى، فوجه إليه رسلا، وبعث بسم ونشاب في مسك، وإنما أراد بالسم أن حربهم شديدة، والنشاب الحرب، والمسك السلم، فاختر الحرب او السلم، فاخرق السم، وكسر النشاب، ونثر المسك، فقال القوم: لم يريدوا الصلح، وأخبر أن حربهم مثل النار، وأنه يكسرنا، فلم يغزهم.
قال: فولي بكير بن وشاح خراسان فلم يعرض له، ولم يوجه إليه أحدا، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريده، فخالفه بكير، وخلع، فرجع إلى مرو، فلما صالح أمية بكيرا أقام عامه ذلك، فلما كان في قابل وجه إلى موسى رجلا من خزاعة في جمع كثير، فعاد أهل الترمذ إلى الترك فاستنصروهم فأبوا، فقالوا لهم: قد غزاهم قوم منهم وحصروهم، فإن أعناهم عليهم ظفرنا بهم فسارت الترك مع أهل الترمذ في جمع كثير، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة، فقال موسى لعمرو بن خالد بن حصين الكلابي- وكان فارسا: قد طال أمرنا وأمر هؤلاء، وقد أجمعت أن أبيت عسكر الخزاعي، فإنهم للبيات آمنون، فما ترى؟ قال: البيات نعما هو، وليكن ذلك بالعجم، فإن العرب أشد حذرا، وأسرع فزعا، وأجرأ على الليل من العجم، فبيتهم فإني أرجو أن ينصرنا الله عليهم، ثم ننفرد لقتال الخزاعي فنحن في حصن وهم بالعراء، وليسوا باولى بالصبر، ولا أعلم بالحرب منا قال: فأجمع موسى على بيات الترك، فلما ذهب من الليل ثلثه خرج في أربعمائة، وقال لعمرو بن خالد: اخرجوا بعدنا وكونوا منا قريبا، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأخذ على شاطئ النهر حتى ارتفع فوق العسكر، ثم أخذ من ناحية كفتان، فلما قرب من عسكرهم جعل أصحابه أرباعا، ثم قال: أطيفوا بعسكرهم، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا، وأقبل وقدم عمرا بين يديه ومشوا خلفه، فلما رأته أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابري سبيل.
قال: فلما جازوا الرصد تفرقوا وأطافوا بالعسكر وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف، فثاروا يقتل بعضهم بعضا وولوا، وأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا ومالا، وأصبح الخزاعي وأصحابه قد كسرهم ذلك، وخافوا مثلها من البيات، فتحذروا.
فقال لموسى عمرو بن خالد: إنك لا تظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم يكثرون، فدعني آتهم لعلي أصيب من صاحبهم فرصة، إني إن خلوت به قتلته، فتناولني بضرب، قال: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل! قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد فتناوله بضرب، ضربه خمسين سوطا، فخرج من عسكر موسى فأتى عسكر الخزاعي مستأمنا وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فلم أزل معه، وكنت أول من أتاه، فلما قدمت اتهمني، وتعصب علي، وتنكر لي وقال لي: قد تعصبت لعدونا، فأنت عين له، فضربني، ولم آمن القتل، وقلت: ليس بعد الضرب إلا القتل، فهربت منه، فآمنه الخزاعي وأقام معه قال: فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا، فقال كأنه ينصح له: أصلحك الله! إن مثلك في مثل حالك لا ينبغي أن يكون في حال من أحواله بغير سلاح، فقال: إن معي سلاحا، فرفع صدر فراشه فإذا سيف منتضى، فتناوله عمرو فضربه فقتله، وخرج فركب فرسه، ونذروا به بعد ما أمعن، فطلبوه ففاتهم، فأتى موسى وتفرق ذلك الجيش، فقطع بعضهم النهر، وأتى بعضهم موسى مستأمنا، فآمنه، فلم يوجه إليه أمية أحدا قال: وعزل أمية، وقدم المهلب أميرا، فلم يعرض لابن خازم، وقال لبنيه: إياكم وموسى، فإنكم لا تزالون ولاة هذا الثغر ما أقام هذا الثط بمكانه، فإن قتل كان أول طالع عليكم أميرا على خراسان رجل من قيس فمات المهلب ولم يوجه إليه أحدا، ثم تولى يزيد بن المهلب فلم يعرض له وكان المهلب ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما، الحارث بن منقذ، وقتل صهرا لهما كانت عنده أم حفص ابنة ثابت، فبلغهما ما صنع يزيد قال: فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به- وكان ثابت محببا في العجم، بعيد الصوت، يعظمونه ويثقون به، فكان الرجل منهم إذا أعطى عهدا يريد الوفاء به حلف بحياة ثابت فلا يغدر- فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان، فقدموا مع ثابت إلى موسى بن عبد الله، وقد سقط إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة، وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، وقوم من بني تميم ممن كان يقاتل ابن خازم في الفتنة من أهل خراسان، فاجتمع إلى موسى ثمانية آلاف من تميم وقيس وربيعة واليمن، فقال له ثابت وحريث: سر تقطع النهر فتخرج يزيد بن المهلب عن خراسان، ونوليك، فإن طرخون ونيزك والسبل وأهل بخارى معك، فهم أن يفعل، فقال له أصحابه:
إن ثابتا وأخاه خائفان ليزيد، وإن أخرجت يزيد عن خراسان وأمنا توليا الأمر وغلباك على خراسان، فأقم مكانك فقبل رأيهم، وأقام بالترمذ وقال لثابت: إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر مما يلينا، وتكون هذه الناحية لنا نأكلها فرضي ثابت بذلك، وأخرج من كان من عمال يزيد من وراء النهر، وحملت إليهم الأموال، وقوي أمرهم وأمر موسى، وانصرف طرخون ونيزك وأهل بخارى والسبل إلى بلادهم، وتدبير الأمر لحريث وثابت، والأمير موسى ليس له غير الاسم، فقال لموسى أصحابه: لسنا نرى من الأمر في يديك شيئا أكثر من اسم الإمارة، فأما التدبير فلحريث وثابت، فاقتلهما وتول الأمر فأبى وقال:
ما كنت لأغدر بهما وقد قويا أمري، فحسدوهما وألحوا على موسى في أمرهما حتى أفسدوا قلبه، وخوفوه غدرهما، وهم بمتابعتهم على الوثوب بثابت وحريث واضطرب أمرهم، فإنهم لفي ذلك إذ خرجت عليهم الهياطلة والتبت والترك، فأقبلوا في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ولا صاحب بيضة جماء، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس قال: فخرج ابن خازم إلى ربض المدينة في ثلاثمائة راجل وثلاثين مجففا، وألقي له كرسي فقعد عليه قال: فأمر طرخون أن يثلم حائط الربض، فقال موسى:
دعوهم، فهدموا ودخل أوائلهم، فقال: دعوهم يكثرون، وجعل يقلب طبرزينا بيده، فلما كثروا قال: الآن امنعوهم، فركب وحمل عليهم فقاتلهم حتى أخرجهم عن الثلمة، ثم رجع فجلس على الكرسي وذمر الملك أصحابه ليعودوا، فأبوا، فقال لفرسانه: هذا الشيطان، من سره أن ينظر إلى رستم فلينظر إلى صاحب الكرسي، فمن أبى فليقدم عليه ثم تحولت الأعاجم إلى رستاق كفتان قال: فأغاروا على سرح موسى، فاغتم ولم يطعم، وجعل يعبث بلحيته، فسار ليلا على نهر في حافتيه نبات لم يكن فيه ماء، وهو يفضى الى خندقهم، في سبعمائة، فأصبحوا عند عسكرهم، وخرج السرح فأغار عليه فاستاقه، وأتبعه قوم منهم، فعطف عليه سوار، مولى لموسى، فطعن رجلا منهم فصرعه، فرجعوا عنهم وَسَلَّمَ موسى بالسرح قال: وغاداهم العجم القتال، فوقف ملكهم على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم صدر النهار، وألح عليهم حتى أزالوهم عن التل، ورمي يومئذ حريث بنشابة في جبهته، فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة.
ملكهم، فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه، فطعن فرسه، فاحتمله فألقاه في نهر بلخ فغرق، وعليه درعان، فقتل العجم قتلا ذريعا، ونجا منهم من نجا بشر، ومات حريث بن قطبة بعد يومين، فدفن في قبته قال: وارتحل موسى، وحملوا الرءوس إلى الترمذ، فبنوا من تلك الرءوس جوسقين، وجعلوا الرءوس يقابل بعضها بعضا وبلغ الحجاج خبر الوقعة، فقال: الحمد لله الذي نصر المنافقين على الكافرين، فقال أصحاب موسى:
قد كفينا أمر حريث، فأرحنا من ثابت، فأبى وقال: لا وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه، فدس مُحَمَّد بن عبد الله بن مرثد الخزاعي، عم نصر بن عبد الحميد عامل أبي مسلم على الري- وكان في خدمة موسى بن عبد الله- وقال له: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك من أين أنت! فقل: من سبي الباميان، فكان يخدم موسى وينقل إلى ثابت خبرهم، فقال له:
تحفظ ما يقولون وحذر ثابت فكان لا ينام حتى يرجع الغلام، وأمر قوما من شاكريته يحرسونه ويبيتون عنده في داره، ومعهم قوم من العرب، وألح القوم على موسى فأضجروه، فقال لهم ليلة: قد أكثرتم علي، وفيم تريدون هلاككم، وقد أبرمتموني! فعلى أي وجه تفتكون به، وأنا لا أغدر به! فقال نوح بن عبد الله أخو موسى: خلنا وإياه، فإذا غدا إليك غدوة عدلنا به إلى بعض الدور، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك، قال: أما والله إنه لهلاككم، وأنتم أعلم- والغلام يسمع- فأتى ثابتا فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارسا فمضى وأصبحوا وقد ذهب فلم يدروا من أين أوتوا، وفقدوا الغلام، فعلموا أنه كان عينا له عليهم، ولحق ثابت بحشورا فنزل المدينة، وخرج إليه قوم كثير من العرب والعجم، فقال موسى لأصحابه:
قد فتحتم على أنفسكم بابا فسدوه، وسار اليه موسى، فخرج إليه ثابت في جمع كثير فقاتلهم، فأمر موسى بإحراق السور، وقاتلهم حتى ألجئوا ثابتا وأصحابه إلى المدينة، وقاتلوهم عن المدينة فأقبل رقبة بن الحر العنبري حتى اقتحم النار، فانتهى إلى باب المدينة ورجل من أصحاب ثابت واقف يحمي أصحابه، فقتله، ثم رجع فخاض النار وهي تلتهب، وقد أخذت بجوانب نمط عليه، فرمى به عنه ووقف، وتحصن ثابت في المدينة، وأقام موسى في الربض، وكان ثابت حين شخص إلى حشورا أرسل إلى طرخون، فأقبل طرخون معينا له، وبلغ موسى مجيء طرخون، فرجع إلى الترمذ، وأعانه أهل كس ونسف وبخارى، فصار ثابت في ثمانين ألفا، فحصروا موسى وقطعوا عنه المادة حتى جهدوا.
قال: وكان أصحاب ثابت يعبرون نهرا إلى موسى بالنهار- ثم يرجعون بالليل إلى عسكرهم، فخرج يوما رقبة- وكان صديقا لثابت، وقد كان ينهى أصحاب موسى عما صنعوا- فنادى ثابتا، فبرز له- وعلى رقبة قباء خز- فقال له: كيف حالك يا رقبة؟ فقال: ما تسأل عن رجل عليه جبة خز في حمارة القيظ! وشكا إليه حالهم، فقال: أنتم صنعتم هذا بأنفسكم، فقال: أما والله ما دخلت في أمرهم، ولقد كرهت ما أرادوا، فقال ثابت: أين تكون حتى يأتيك ما قدر لك؟ قال: أنا عند المحل الطفاوي- رجل من قيس من يعصر- وكان المحل شيخا صاحب شراب- فنزل رقبة عنده.
قال: فبعث ثابت إلى رقبه بخمسمائة درهم مع علي بن المهاجر الخزاعي، وقال: إن لنا تجارا قد خرجوا من بلخ، فإذا بلغك أنهم قد قدموا فأرسل إلي تأتك حاجتك فأتى على باب المحل، فدخل فإذا رقبة والمحل جالسان بينهما جفنة فيها شراب، وخوان عليه دجاج وأرغفة، ورقبة شعث الرأس، متوشح بملحفة حمراء، فدفع إليه الكيس، وأبلغه الرسالة وما كلمه، وتناول الكيس وقال له بيده، اخرج، ولم يكلمه قال: وكان رقبة جسيما كبيرا، غائر العينين، ناتئ الوجنتين، مفلج، بين كل سنين له موضع سن، كان وجهه ترس قال: فلما أضاق أصحاب موسى واشتد عليهم الحصار قال يزيد بن هزيل: إنما مقام هؤلاء مع ثابت والقتل أحسن من الموت جوعا، والله لأفتكن بثابت أو لأموتن فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، إن هذا لم يأتك رغبة فيك ولا جزعا لك، ولقد جاءك بغدرة، فاحذره وخلني وإياه، فقال: ما كنت لأقدم على رجل أتاني، لا أدري أكذلك هو أم لا قال: فدعني أرتهن منه رهنا، فأرسل ثابت إلى يزيد فقال: أما أنا فلم أكن أظن رجلا يغدر بعد ما يسأل الأمان، وابن عمك أعلم بك مني، فانظر ما يعاملك عليه، فقال يزيد لظهير: أبيت يا أبا سعيد إلا حسدا! قال: أما يكفيك ما ترى من الذل! تشردت عن العراق وعن أهلي، وصرت بخراسان فيما ترى، أفما تعطفك الرحم! فقال له ظهير: أما والله لو تركت ورأيي فيك لما كان هذا، ولكن أرهنا ابنيك قدامة والضحاك فدفعهما إليهم، فكانا في يدي ظهير.
قال: وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت، لا يقدر منه على ما يريد، حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، أتى أباه نعيه من مرو، فخرج متفضلا إلى زياد ليعزيه، ومعه ظهير ورهط من أصحابه، وفيهم يزيد بن هزيل، وقد غابت الشمس، فلما صار على نهر الصغانيان تأخر يزيد بن هزيل ورجلان معه، وقد تقدم ظهير وأصحابه، فدنا يزيد من ثابت فضربه فعض السيف برأسه، فوصل إلى الدماغ قال: ورمى يزيد وصاحباه بأنفسهم في نهر الصغانيان، فرموهم، فنجا يزيد سباحة وقتل صاحباه، وحمل ثابت إلى منزله، فلما أصبح طرخون أرسل إلى ظهير: ائتني بابني يزيد، فأتاه بهما، فقدم ظهير الضحاك بن يزيد فقتله، ورمى به وبرأسه في النهر، وقدم قدامة ليقتله، فالتفت فوقع السيف في صدره، ولم يبن، فألقاه في النهر حيا فغرق، فقال طرخون: أبوهما قتلهما وغدره فقال يزيد بن هزيل: لأقتلن يا بني كل خزاعي بالمدينة، فقال له عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء- وكان ممن أتى موسى من فل ابن الأشعث: لو رمت ذاك من خزاعة لصعب عليك وعاش ثابت سبعة أيام ثم مات وكان يزيد بن هزيل سخيا شجاعا شاعرا، ولي أيام ابن زياد جزيرة ابن كاوان، فقال:

قد كنت أدعو الله في السر مخلصا *** ليمكنني من جزية ورجال
فأترك فيها ذكر طلحة خاملا *** ويحمد فيها نائلي وفعالي

قال: فقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياما ضعيفا، وانتشر أمرهم، فأجمع موسى على بياتهم، فجاء رجل فأخبر طرخون، فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه، فكيف يبيتنا! لقد طار قلبك، لا يحرسن الليلة أحد العسكر.
فلما ذهب من الليل ثلثه خرج موسى في ثمانمائه قد عباهم من النهار، وصيرهم أرباعا قال: فصير على ربع رقبة بن الحر وعلى ربع أخاه نوح بن عبد الله بن خازم، وعلى ربع يزيد بن هزيل، وصار هو في ربع، وقال لهم: إذا دخلتم عسكرهم فتفرقوا، ولا يمرن أحد منكم بشيء إلا ضربه، فدخلوا عسكرهم من أربع نواح لا يمرون بدابة ولا رجل ولا خباء ولا جوالق إلا ضربوه وسمع الوجبة نيزك فلبس سلاحه، ووقف في ليلة مظلمة، وقال لعلي بن المهاجر الخزاعي: انطلق إلى طرخون فأعلمه موقفي، وقل له: ما ترى أعمل به، فأتى طرخون، فإذا هو في فازة قاعد على كرسي وشاكريته قد أوقدوا النيران بين يديه، فأبلغه رسالة نيزك، فقال: اجلس، وهو طامح ببصره نحو العسكر والصوت، إذا أقبل محمية السلمي وهو يقول: حم لا ينصرون، فتفرق في الشاكرية، ودخل محمية الفازة، وقام إليه طرخون فبدره فضربه، فلم يغن شيئا، قال: وطعنه طرخون بذباب السيف في صدره فصرعه، ورجع إلى الكرسي فجلس عليه، وخرج محمية يعدو قال: ورجعت الشاكرية، فقال لهم طرخون: فررتم من رجل! أرأيتم لو كان نارا هل كانت تحرق منكم أكثر من واحد! فما فرغ من كلامه حتى دخل جوارية الفازة، وخرج الشاكرية هرابا، فقال للجواري:
اجلسن، وقال لعلي بن المهاجر: قم، قال: فخرجا فإذا نوح بن عبد الله ابن خازم في السرادق، فتجاولا ساعة، واختلفا ضربتين، فلم يصنعا شيئا، وولى نوح وأتبعه طرخون، فطعن فرس نوح في خاصرته فشب، فسقط نوح والفرس في نهر الصغانيان، ورجع طرخون وسيفه يقطر دما، حتى دخل السرادق وعلي بن المهاجر معه، ثم دخلا الفازة.
وقال طرخون للجواري: ارجعن، فرجعن إلى السرادق، وأرسل طرخون إلى موسى: كف أصحابك؟ فإنا نرتحل إذا أصبحنا، فرجع موسى إلى عسكره، فلما أصبحوا ارتحل طرخون والعجم جميعا، فأتى كل قوم بلادهم قال: وكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ابن عبد الله بن خازم، ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين، ثم خرج يسير في بلاد خراسان حتى أتى ملكا فغلبه على مدينته وأخرجه منها، ثم سارت إليه الجنود من العرب والترك فكان يقاتل العرب أول النهار والعجم آخر النهار، وأقام في حصنه خمس عشره سنه، وصار ما وراء النهر لموسى، لا يعازه فيه أحد.
قال: وكان بقومس رجل يقال له عبد الله، يجتمع إليه فتيان يتنادمون عنده في مؤونته ونفقته، فلزمه دين، فأتى موسى بن عبد الله، فأعطاه أربعة آلاف، فأتى بها أصحابه، فقال الشاعر يعاتب رجلا يقال له موسى:

فما أنت موسى إذ يناجي إلهه *** ولا واهب القينات موسى بن خازم

قال: فلما عزل يزيد وولي المفضل خراسان أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فأخرج عثمان بن مسعود- وكان يزيد حبسه- فقال: إني أريد أن أوجهك إلى موسى بن عبد الله، فقال: والله لقد وترني، وإني لثائر بابن عمتي ثابت وبالخزاعي، وما يد أبيك وأخيك عندي وعند أهل بيتي بالحسنة، لقد حبستموني وشردتم بني عمي، واصطفيتم أموالهم فقال له المفضل: دع هذا عنك، وسر فأدرك بثأرك، فوجهه في ثلاثة آلاف، وقال له: مر مناديا فليناد: من لحق بنا فله ديوان، فنادى بذلك في السوق، فسارع إليه الناس وكتب المفضل إلى مدرك وهو ببلخ أن يسير معه، فخرج، فلما كان ببلخ خرج ليلة يطوف في العسكر، فسمع رجلا يقول: قتلته والله، فرجع إلى أصحابه، فقال:
قتلت موسى ورب الكعبة! قال: فأصبح فسار من بلخ وخرج مدرك معه متثاقلا، فقطع النهر فنزل جزيرة بالترمذ يقال لها اليوم جزيرة عثمان- لنزول عثمان بها في خمسة عشر ألفا- وكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى، فضيقوا عليه وعلى أصحابه، فخرج موسى ليلا فأتى كفتان، فامتار منها، ثم رجع فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان وحذر البيات، فلم يقدر موسى منه على غرة، فقال لأصحابه: حتى متى! اخرجوا بنا فاجعلوا يومكم، إما ظفرتم وإما قتلتم وقال لهم: اقصدوا للصغد والترك، فخرج وخلف النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له:
إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان، وادفعها إلى مدرك بن المهلب.
وخرج فصير ثلث أصحابه بإزاء عثمان وقال: لا تهايجوه إلا أن يقاتلكم، وقصد لطرخون وأصحابه، فصدقوهم، فانهزم طرخون والترك، وأخذوا عسكرهم فجعلوا ينقلونه، ونظر معاوية بن خالد بن أبي برزة إلى عثمان وهو على برذون لخالد بن أبي برزة الأسلمي، فقال: انزل أيها الأمير، فقال خالد: لا تنزل فإن معاوية مشئوم وكرت الصغد والترك راجعة، فحالوا بين موسى وبين الحصن، فقاتلهم، فعقر به فسقط، فقال لمولى له: احملني، فقال: الموت كريه، ولكن ارتدف، فإن نجونا نجونا جميعا، وإن هلكنا هلكنا جميعا قال: فارتدف، فنظر إليه عثمان حين وثب فقال: وثبة موسى ورب الكعبة! وعليه مغفر له موشى بخز أحمر في أعلاه، ياقوتة أسمانجونية، فخرج من الخندق فكشفوا أصحاب موسى.
فقصد لموسى، وعثرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فابتدروه فانطووا عليه فقتلوه، ونادى منادي عثمان: لا تقتلوا أحدا، من لقيتموه فخذوه أسيرا قال: فتفرق أصحاب موسى، وأسر منهم قوم، فعرضوا على عثمان، فكان إذا أتي بأسير من العرب قال: دماؤنا لكم حلال، ودماؤكم علينا حرام! ويأمر بقتله، وإذا أتي بأسير من الموالي شتمه، وقال: هذه العرب تقاتلني، فهلا غضبت لي! فيأمر به فيشدخ وكان فظا غليظا، فلم يسلم عليه يومئذ أسير إلا عبد الله بن بديل بن عبد الله بن بديل بن ورقاء، فإنه كان مولاه، فلما نظر إليه أعرض عنه وأشار بيده أن خلوا عنه، ورقبة بن الحر لما أتي به نظر إليه وقال: ما كان من هذا إلينا كبير ذنب، وكان صديقا لثابت، وكان مع قوم فوفى لهم، والعجب كيف أسرتموه! قالوا: طعن فرسه فسقط عنه في وهدة فأسر، فأطلقه وحمله، وقال لخالد بن أبي برزة: ليكن عندك قال: وكان الذي أجهز على موسى ابن عبد الله واصل بن طيسلة العنبري ونظر يومئذ عثمان إلى زرعة بن علقمة السلمي والحجاج بن مروان وسنان الأعرابي ناحية فقال: لكم الأمان، فظن الناس أنه لم يؤمنهم حتى كاتبوه.
قال: وبقيت المدينة في يدي النضر بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن خازم، فقال:
لا أدفعها إلى عثمان، ولكني أدفعها إلى مدرك، فدفعها إليه وآمنه، فدفعها مدرك إلى عثمان وكتب المفضل بالفتح إلى الحجاج، فقال الحجاج: العجب من ابن بهلة! آمره بقتل ابن سمرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي: أنه قتل موسى بن عبد الله بن خازم، قال: وقتل موسى سنة خمس وثمانين، فذكر البحتري أن مغراء بن المغيرة بن أبي صفرة قتل موسى فقال:

وقد عركت بالترمذ الخيل خازما *** ونوحا وموسى عركة بالكلاكل

قال: فضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة أخبر عنه فقال:
ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته! قال: كان قتل أخي، فأمر به قتيبة فقتل بين يديه

عزم عبد الملك بن مروان على خلع أخيه عبد العزيز
وفي هذه السنة أراد عبد الملك بن مروان خلع أخيه عبد العزيز بن مروان.
ذكر الخبر عن ذَلِكَ وما كَانَ من أمرهما فيه:
ذكر الواقدي أن عبد الملك هم بذلك، فنهاه عنه قبيصة بن ذؤيب، وقال: لا تفعل هذا، فإنك باعث على نفسك صوت نعار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه! فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه إلى أن يخلعه.
ودخل عليه روح بن زنباع الجذامي- وكان أجل الناس عند عبد الملك- فقال: يا أمير المؤمنين، لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، فقال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: إي والله، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال:
نصيح إن شاء الله قال: فبينا هو على ذلك وقد نام عبد الملك وروح ابن زنباع إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب طروقا، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه فقال: لا يجب عني قبيصة أي ساعة جاء من ليل أو نهار، إذا كنت خاليا أو عندي رجل واحد، وإن كنت عند النساء أدخل المجلس وأعلمت بمكانه فدخل، وكان الخاتم إليه، وكانت السكة إليه، تأتيه الأخبار قبل عبد الملك، ويقرأ الكتب قبله، ويأتي بالكتاب إلى عبد الملك منشورا فيقرؤه، إعظاما لقبيصة- فدخل عليه فسلم عليه وقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك عبد العزيز! قال: وهل توفي؟ قال: نعم، فاسترجع عبد الملك، ثم أقبل على روح فقال: كفانا الله أبا زرعة ما كنا نريد وما أجمعنا عليه، وكان ذلك مخالفا لك يا أبا إسحاق، فقال قبيصة:
ما هو؟ فأخبره بما كان، فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين، إن الرأي كله في الأناة، والعجلة فيها ما فيها، فقال عبد الملك: ربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجله فيه خيرا من التانى!

خبر موت عبد العزيز بن مروان
وفي هذه السنة توفي عبد العزيز بن مروان بمصر في جمادى الأولى، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك، وولاه مصر.
وأما المدائني فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ أبو زيد عنه، أن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد، وأوفد وفدا في ذلك عليهم عمران ابن عصام العنزي، فقام عمران خطيبا، فتكلم وتكلم الوفد وحثوا عبد الملك، وسألوه ذلك، فقال عمران بن عصام:

أمير المؤمنين إليك نهدي *** على النأي التحية والسلاما
أجبني في بنيك يكن جوابي *** لهم عادية ولنا قواما
فلو أن الوليد أطاع فيه *** جعلت له الخلافة والذماما
شبيهك حول قبته قريش *** به يستمطر الناس الغماما
ومثلك في التقى لم يصب يوما *** لدن خلع القلائد والتماما
فإن تؤثر أخاك بها فإنا *** وجدك لا نطيق لها اتهاما
ولكنا نحاذر من بنيه *** بني العلات مأثرة سماما
ونخشى إن جعلت الملك فيهم *** سحابا ان تعود لهم جهاما
فلايك ما حلبت غدا لقوم *** وبعد غد بنوك هم العياما
فأقسم لو تخطأني عصام *** بذلك ما عذرت به عصاما
ولو أني حبوت أخا بفضل *** أريد به المقالة والمقاما
لعقب في بني على بنيه *** كذلك أو لرمت له مراما
فمن يك في أقاربه صدوع *** فصدع الملك أبطؤه التئاما

فقال عبد الملك: يا عمران، إنه عبد العزيز، قال: احتل له يا أمير المؤمنين.
قال علي: أراد عبد الملك بيعة الوليد قبل أمر ابن الأشعث، لأن الحجاج بعث في ذلك عمران بن عصام، فلما أبى عبد العزيز أعرض عبد الملك عما أراد حتى مات عبد العزيز، ولما أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز ويبايع لابنه الوليد كتب إلى أخيه: إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك! فأبى، فكتب إليه: فاجعلها له من بعدك، فإنه أعز الخلق على أمير المؤمنين فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في أبي بكر بن عبد العزيز ما ترى في الوليد، فقال عبد الملك: اللهم إن عبد العزيز قطعني فاقطعه فكتب إليه عبد الملك: احمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إني وإياك قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلا، وإني لا ادرى ولا تدرى أينا يأتيه الموت أولا! فإن رأيت إلا تغثث علي بقية عمري فافعل.
فرق له عبد الملك وقال: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، قال لابنيه: إن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك.
وقال لابنيه: الوليد وسُلَيْمَان: هل قارفتما حراما قط؟ قالا: لا والله، قال: الله أكبر، نلتماها ورب الكعبة! قال: فلما أبى عبد العزيز أن يجيب عبد الملك إلى ما أراد، قال عبد الملك: اللهم قد قطعني فاقطعه، فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره، فدعا عليه، فاستجيب له.
قال: وكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه أن يستكتب مُحَمَّد بن يزيد الأنصاري، وكتب إليه: إن أردت رجلا مأمونا فاضلا عاقلا وديعا مسلما كتوما تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر، فاتخذ مُحَمَّد بن يزيد فكتب إليه عبد الملك: احمله إلي فحمله، فاتخذه عبد الملك كاتبا قال مُحَمَّد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، ولا يستر شيئا إلا أخبرني به وكتمه الناس، ولا يكتب إلى عامل من عماله إلا أعلمنيه، فإني لجالس يوما نصف النهار إذا ببريد قد قدم من مصر، فقال: الإذن على أمير المؤمنين قلت: ليست هذه ساعة اذن، فأعلمني ما قد قدمت له، قال: لا قلت: فإن كان معك كتاب فادفعه إلي قال: لا، قال: فأبلغ بعض من حضرني أمير المؤمنين، فخرج فقال: ما هذا؟ قلت: رسول قدم من مصر، قال: فخذ الكتاب، قلت: زعم أنه ليس معه كتاب، قال: فسله عما قدم له، قلت: قد سألته فلم يخبرني، قال أدخله، فأدخلته، فقال: أجرك الله يا أمير المؤمنين في عبد العزيز! فاسترجع وبكى ووجم ساعة ثم قال: يرحم الله عبد العزيز! مضى والله عبد العزيز لشأنه، وتركنا وما نحن فيه، ثم بكى النساء وأهل الدار، ثم دعاني من غد، فقال: إن عبد العزيز رحمه الله قد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فمن ترى؟ قلت: يا أمير المؤمنين، سيد الناس وأرضاهم وأفضلهم الوليد بن عبد الملك، قال: صدقت وفقك الله! فمن ترى أن يكون بعده؟
قلت: يا أمير المؤمنين، أين تعدلها عن سُلَيْمَان فتى العرب! قال: وفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها لجعلها لبنيه، اكتب عهدا للوليد وسُلَيْمَان من بعده، فكتبت بيعة الوليد ثم سُلَيْمَان من بعده فغضب علي الوليد فلم يولني شيئا حين أشرت بسُلَيْمَان من بعده.
قال علي، عن ابن جعدبة: كتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل المخزومي أن يدعو الناس لبيعة الوليد وسُلَيْمَان، فبايعوا غير سعيد بن المسيب، فإنه أبى، وقال: لا أبايع وعبد الملك حتى، فضربه هشام ضربا مبرحا وألبسه المسوح، وسرحه إلى ذباب- ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا به إلى ذلك الموضع ردوه، فقال: لو ظننت أنهم لا يصلبوني ما لبست سراويل مسوح، ولكن قلت: يصلبونني فيسترني وبلغ عبد الملك الخبر، فقال: قبح الله هشاما! إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى يضرب عنقه، او يكف عنه

بيعه عبد الملك لابنيه: الوليد ثم سليمان
وفي هذه السنة بايع عبد الملك لابنيه: الوليد، ثم من بعده لسُلَيْمَان، وجعلهما وليي عهد المسلمين، وكتب ببيعته لهما إلى البلدان، فبايع الناس، وامتنع من ذلك سعيد بن المسيب، فضربه هشام بن إسماعيل- وهو عامل عبد الملك على المدينة- وطاف به وحبسه، فكتب عبد الملك إلى هشام يلومه على ما فعل من ذلك، وكان ضربه ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية.
وأما الحارث فإنه قَالَ: حَدَّثَنِي ابن سعد، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عمر الواقدي، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا قالوا: استعمل عبد الله ابن الزبير جابر بن الأسود بن عوف الزهري على المدينة، فدعا الناس إلى البيعة لابن الزبير، فقال سعيد بن المسيب: لا، حتى يجتمع الناس، فضربه ستين سوطا، فبلغ ذلك ابن الزبير، فكتب إلى جابر يلومه، وقال: ما لنا ولسعيد، دعه! وحدثني الحارث، عن ابن سعد، أن مُحَمَّد بن عمر أخبره، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر وغيره من أصحابنا أن عبد العزيز بن مروان توفي بمصر في جمادى سنة أربع وثمانين، فعقد عبد الملك لابنيه الوليد وسُلَيْمَان العهد، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان، وعامله يومئذ هشام بن إسماعيل المخزومي، فدعا الناس إلى البيعة، فبايع الناس، ودعا سعيد بن المسيب أن يبايع لهما، فأبى وقال: لا حتى أنظر، فضربه هشام بن إسماعيل ستين سوطا، وطاف به في تبان شعر حتى بلغ به رأس الثنية، فلما كروا به قال: أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: والله لولا أني، ظننت أنه الصلب لما لبست هذا التبان أبدا فرده إلى السجن، وحبسه وكتب إلى عبد الملك يخبره بخلافه، وما كان من أمره، فكتب إليه عبد الملك يلومه فيما صنع ويقول: سعيد والله كان أحوج أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عنده من شقاق ولا خلاف.

[أخبار متفرقة]
وحج بالناس في هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي، كذلك حدثنا أحمد بْن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بْن عِيسَى، عن أبي معشر.
وكذلك قَالَ الواقدي.
وكان العامل على المشرق في هذه السنة مع العراق الحجاج بن يوسف.